يبدو الحس الساخر لصيقا بالكتابة والكتاب في مصر، مهما تعددت روافد النصوص وتنوعت مصباتها، فقد عرفنا السخرية في الزجل؛ أقرب فنون القول إليه، وخبرناها في الرواية، حتى لدى أعتى مفكريها وفلاسفتها، وقرأناها في الشعر الحلمنتيشي، وهي كذلك في المقال، دون شك. وإذا كان السفر بحثا عن الغريب والمفارق وغير المعتاد، لذا تكون الكتابة الساخرة في أدب الرحلة مرعى بلا حدود تبرطع فيه خيول المفردات الساخرة، وهو ما رأيناه لدى سابقين، مثل محمود السعدني، ونجربه اليوم مع كتابات الرحالة إيهاب فاروق في كتابه (عجائب البلاد والعباد)، الذي ألحقه بعنوان فرعي يحيل قارئه إلى عناوين موحية معتمدة في أدب الرحلة: جولة ساخرة حول العالم في 3000 يوم، الذي صدر عن دار ليلى للنشر والتوزيع ويناقشه الليلة اتحاد كتاب مصر في مقره بالزمالك.
على ظهر الكتاب تبدو لك الأسئلة المستفزة وكأنها كتالوج الرحلة وعناوينها: هل أكلت أغلى شيبسي في دبي؟ هل شربت الحلابسة بالشطة في سنغافورة؟ هل انتظرت المانجو حتى يستوي في إندونيسيا؟ هل تذوقت القهوة بالبارفان في أستراليا؟ إن الإجابة بالنفي لأنك لم تقرأ كتاب إيهاب فاروق!
لكن الأسئئة التي ظنها الكاتب الأكثر تشويقا في إعلانه على ظهر مؤلفه، تخفي أسئلة ومحطات أخرى نشرها على مساحة نحو 240 صفحة، فهو يكتشف أنه أجنبي في دبي، التي صنفت الدتخلين إليها بين مواطنين لها، وخليجيين، وقادمين من بقاع أخرى، لذا سيترحم على أناشيد الوحدة العربية وأمجاد يا عرب أمجاد، وهي السخرية الممزوجة بالمرارة، خاصة بعد أن يتكرك تكييف صالات المطار المشع بالعطور، لتلفحه نار الهولوكوست المتأججة في طقس حولت دبي إلى مبان مكيفة تشبه الكهوف التي لا يخرج قاطنوها إلا ليلا!
ولا يصحب الرحالة سخريته، بل انتماءه المصري، لذلك تكافئه الرحلة السنغافورية بعرض سحري عن الفراعنة في مول تجاري، تقف فيه مساعدة الساحر مرتدية أزياء تجعلها شبيهة بالملكة نفرتاري جميلة الجميلات، بينما الساحر البارع نفسه ينتحل اسم توت عنخ آمون، ومثلما جاء إليه الجو الفرعوني وجد كذلك خيالاته في محلات عصير القصب ومحامص اللب والسوداني بمحطة رمسيس القاهرية تتحقق بمحلات سنغافورية تقدم عصائر بألوان الطيف كأفضل ما تكون الفخفخينة!
في كل صفحات الرحلة سنجد دائما كاتبنا يعقد المقارنة، بين محطة رمسيس ومترو سنغافورة، وبين ما يجده في المنصورة والقاهرة والإسكندرية، وما يصادفه من مدن في قارات العالم، ولا يفوته أن يلتقي بمن يفتي:
“كان صوت أذان المغرب ينادي من مئذنة مسجد قريب منا، فنوينا الدخول للصلاة فيه، حتى سمعنا صوت مناد آخر ينادي من بيننا، وهو يقول عبارة غريبة على مسامعنا، فقد قال ـ فض فوه ـ لا تصلوا في مساجد إندونيسيا؛ فالصلاة فيهاربما تكون حراما!! وكانت هذه هي الفتوى التي أفتى بها أحد المفتين من الذين كانوا معنا، والذي كانت كل مؤهلاته الافتائية تتلخص في لحيته الطويلة التي لم يحلقها منذ عشر سنوات، ربما توفيرا لأمواس الحلاقة، لكن الأهم أنه كان عائدا لتوه من رحلة إلى العراق، التي لم يكن يعرف قبل زيارتها أن المسلمين في العالم فريقان كبيران: فريق أهل السنة والجماعة، وهو الأكبر، وفريق آخر كونفيدرالي يتكون من فرق أخرى من الشيعة بطوائفها المتعددة وما يستجد من فرق سياسية ميزت نفسها حسب المذاهب التي لم تكون موجودة في الأساس على عهد النبوة الأولىن فكانت هذه أولى بوادر خلط الدين بالسياسة التي تنسى دائما أن الكل في النهاية مسلمون يصلون لرب واحد لكن الصلاة يجب الا تكون في مسجد واحد كما افتى صاحبنا الشيخ بأقدمية الذقن الطويل.”
وإنما استطردت لأن المؤلف نفسه لا يترك مكانا للشرح إلا وانتهزه، سواء كان شرحه مجتمعيا أو دينيا أو تقنيا، ليفسر أمرا، بأسلوبه الفكه، مما يجعل من الكتاب مرآة صادقة لعصره ورحلته، وزادا معرفيا، يستمتع به المتصفح له، من أين فتح أجزاءه ليقرأه.
إن سعادتي الكبيرة بهذا الكتاب الذي أهداه لي مؤلفه، يأتي من أمنيتي أن يصبح أدب الرحلة بأساليبه على رفوف مكتبات عشاق القراءة، لما فيه من جماع لفنون القول والفن. ومن لم يسافر بجواز السفر، فليسافر عبر الحروف، وهذا أضعف الإيمان.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.