مجاذيب أم كلثوم

11:02 صباحًا الإثنين 8 أبريل 2013
جوردي إستيفا Jordi Esteva

جوردي إستيفا Jordi Esteva

كاتب وصحافي ومصور ومخرج إسباني

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

هذا الفصل جزء من كتاب “عرب البحر” (Los árabes del mar ) للكاتب والصحافي والمصور والمخرج الاسباني “جوردي استيفا” (Jordi Esteva)الذي يسجل فيه رحلته في منتصف السبعينيات، وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين، بين مصر والسودان ومن اليمن إلى سلطنة عمان وزنجبار بحثا عن إرث السندباد وآثاره، وقد ترجمه إلى اللغة العربية عن الإسبانية الدكتور طلعت شاهين، وأهداه للنشر في (آسيا إن). ينشر النص مع ثلاثة أعمال تشكيلية للفنان جورج البهجوري، من معرضه في قاعة مشربية (أم كلثوم)، الذي يفتتح في السابعة مساء الأحد 14 أبريل، بجاليري مشربية، القاهرة.

أم كلثوم بريشة جورج بهجوري، جاليري مشربية، 2013

 لم أستطع مواصلة حلمي، ولكن لم أعد إلى بيتي، فقد كان هذا العالم قد أمسك بتلابيبي، لم أتوقف كثيرا في بورسودان لأن ديمتري كان قد سافر ولم يعد شيء يبقيني هناك. ولكن في طريقي إلى الخرطوم وأثناء مروري بمدينة واد مدني السودانية حدث شيء غير اتجاهي مرة أخرى.

كانت واد مدني عاصمة إقليم الجزيرة، أرض منبسطة بين النيل الأزرق الذي يهبط من هضبة الحبشة والنيل الأبيض الذي ينبع من وسط أفريقيا، الحرارة وطمي النهر المقدس والمياه الفائضة تجعل الفاكهة والخضروات تنبت بشكل مبالغ فيه، إنه الرخاء: كوسة بحجم شبرين والجزر الضخم والبطيخ والشمام التي تشبع العمالقة.

عدت إلى السقوط مرة أخرى في تلك المدينة فريسة لمرض الملاريا، وإن كان هذه المرة المرض معروفا لي فسرعان ما اتخذت احتياطياتي، وقضيت نقاهتي في بنسيون مُطل على ساحة بها نخيل حقيقي، كان البنسيون رطبا ونظيفا وغرفتي مدهونة بالأخضر الفاتح، وتمكنت من التعافي في أسبوعين بفضل “النوفيكينا” وتلك الخضروات المدهشة. في إحدى الأمسيات، خلال نزهتي الاعتيادية حتى شاطئ النيل الأزرق، حيث يدخل السائقون بشاحناتهم البدفورد في النهر حتى تغطي المياه الإطارات، لغسلها بالصابون بنفس الحنان الذي يقوم به رعاة الفيلة في أنهار ديكان، اكتشفت أنني الساكن الوحيد في البنسيون.

حضور حديثي السكن سرعان ما ظهر للعيان، وكيف؟ لقد كانوا من فناني سيرك مصري جاء عبر النيل وكان في طريق عودته متخذا الطريق نفسه- الطريق الممكن الوحيد- القافزون على الزانة كما لو كانوا قد أُخرجوا من فيلم كوميدي قديم من أفلام ما بعد الحرب العالمية اتخذوا مكانهم هناك، وهناك كان الساحر، متأنقا كما لو دوجلاس فايربانكس القاهري، والراقصتان الشرقيتان جميله وسميرة، المكتظتان باللحم كما يحب المصريون، بأروابهن المزركشة بالأخضر والوردي وشعرهن المدهون بالزيوت. كن يتأملن المجموعة، والقزم فؤاد المتزوج من سميرة، وثلاثة من لاعبي الأكروبات لا أذكر أسماءهم، وثلاثة فتيان ملتصقون معا دائما ويقومون بدور الأسد، نعم، الأسد لأن هذا السيرك كان من تلك الأماكن شحيحة المال، والفنانون يتولون بيع التذاكر بأنفسهم، وتحميل وتفريغ أدواتهم ورعاية ملابسهم الباهتة الألوان، ولهذا السبب لم يكن هناك مال لشراء حيوانات حقيقية. وسميرة قبل أن تؤدي نمرتها من الرقص الشرقي، كانت تخرج إلى خشبة المسرح بطوق كبير يمر من خلاله الفتيان الثلاثة. الأسد، بعد أداء بعض الحركات الأكروباتيه يرتفع الرأس الكرتوني ليبرز منه رأس الفتى الأول، الذي ينحني تحية للجمهور، ونحمد الله، أنهم لا يقذفونهم بخضروات تلك الأرض، ولكنهم كانوا يوجهون إليهم الشتائم لأنهم كانوا يرغبون أكثر في مشاهدة اهتزازات لحم سميرة- ولا يجب أن ننسى إننا في أرض تدين بالإسلام- وأخيرا ينتهي الأسد إلى الانقسام إلى نصفين، والفتى الذي يحتل المؤخرة يكاد لا يجذب غير القليل من التصفيق بعد أداء دورة مدهشة، وإن كانت مؤداة بشكل متخلف.

في البنسيون، بعيدا عن ضجيج المجموعة، كما لو كان أرستقراطيا عفا عليه الزمن ولا علاقة له بمن حوله، كان الساحر المتأنق يدخن نارجيلته بشراهة، تحت مروحة الصالون الكبيرة. اقتربت سميرة من الكرسي الذي أجلس عليه لتحكي لي أنها عندما كانت في القاهرة كانت ترقص في كازينو رمسيس، أحد كابريهات شارع الهرم الشهيرة. وبعدها بزمن، عندما عشت لفترة طويلة في تلك المدينة، سألت عنها في ذلك المحل، الذي يؤمه عرب الخليج الذين يغطونه بأوراق البترودولار، وبالطبع لم يعرفها أحد، لا أحد على الإطلاق، ولم أسمع عنها ولا حتى عن قزمها، سميرة، التي لم تكن تترك للحظة واحدة علبة أدوات زينتها السمسونايت المتعددة الأدراج، والتي أحضروها لها من دبي، حدثتني عن نجاحاتها في طوكيو، وكإثبات على ذلك، قالت: “س، ن، ي، و، ر، ه”، الكلمة الوحيدة التي يبدو أنها تتذكرها. زوجها، القزم فؤاد، المزعج القلق كطفل، مؤكد أنه يُفقدها أعصابها، بلغته الإنجليزية الرديئة، تقول أنها ترفعه من ذراعيه وتتركه لبعض الوقت فوق أي دولاب إلى أن تهدأ. بقي المصريون في المدينة لبضعة أيام، وكنت أنا ضيف الشرف الرسمي في كل حفلاتهم. وسميرة لا تتوقف عن قول:

-هؤلاء الفلاحون، يعجبهم جدا رؤية خواجة بين الجمهور.

بعد كل حفلة في كل ليلة، يتجمعون حول جهاز راديو كاسيت ضخم ويستمعون إلى أم كلثوم، في صمت، كما لو كانوا يؤدون طقسا، ينسيهم مشاحناتهم نهارا، ويتوقف فؤاد القزم عن الإزعاج، وسميرة وجميلة تتنهدان مع كل آهة للمطربة الكبيرة، والساحر… الساحر يحشو حجر نارجيلته بنتف من الحشيش المعطر. بالنسبة للأقزام، دائما ما يكون واحد فوق الآخر، كما لو كانت الحياة غير ممكنة إلا بالتصاقهم، يتجمعان وتتلامس أكفهما كما لو كانا جنودا باكستانيين.

عندما كانت تغني أم كلثوم، يغمض المصريون أعينهم ويتركون أنفسهم تسبح معها.

لقد أدهشوني، إنهم يهتزون للموسيقى، جربت معهم لأول مرة حالة الوجد الجماعي لسماع أم كلثوم، عندما كانت، بصوتها الأرضي، تنطق البحر، فإن موجة عارمة من العاطفة تأخذنا معها بلا مقاومة، بينما البيت التالي من ذلك البحر نفسه يتحول إلى بحر جامد كالزئبق، عارم الحزن، بحر ظلمات. عندما كانت تكرر أم كلثوم الليل، تخيم علينا ستارة من الظلام، يكون ليل النسيان، ليل السنوات الذي لا نهاية له في انتظار الحبيب الذي لا يصل أبدا، ليل المعاناة في صمت، ليل معاناة العربي الطويل. لكن كان يكفي انبساط صوتها ليتحول ذلك الليل الحالك إلى سماء مضيئة بالنجوم والذي يجب أن يحفظ سر اللقاء.

بعد الحفلة، كان الساحر يحكي لي حكايات عن المطربة المصرية، وأنها كانت قبل أن تخرج إلى خشبة المسرح تأمر بحرق كمية كبيرة من البخور المكون من مختلف الروائح ومن بينها زيت الحشيش، أو أنها كانت تخبئ كرة من الأفيون في المنديل الذي كانت دائما ما تمسكه في يدها اليسرى فيتداخل في أعصابها عبر العرق، أو أنها كانت تجمع الجن لجذب أفضل الشعراء والموسيقيين وتحتفظ بهم في حالة عشق لها دون أمل في أي وصال، حتى لا يكتبوا أو يلحنوا سوى لها فقط أفضل الألحان وأروع الأشعار، ويُقال أنه بعد عزف منفرد من أحد الموسيقيين نشر الإعجاب بين المستمعين منعت ذلك العازف من العزف بهذه الطريقة مرة أخرى، والموسيقار الجريح وقف وانصرف ولم يعد للعزف أبدا أمام الجمهور…

في إحدى الليالي، حدثني الساحر عن المنافسة الوحيدة لأم كلثوم، الأميرة الدرزية أسمهان، شقيقة المطرب والممثل أيضا فريد الأطرش، وأنها الوحيدة التي كانت على وشك أن تنافسها لبضع سنوات. يُقال انه خلال الحرب العالمية الثانية، حاولت قوات المحور كما قوات الحلفاء تجنيدها كجاسوسة لهم، وأنها اغتيلت على أيدي مخابرات قوة أجنبية، وإن كان هناك من قال أن أم كلثوم نفسها هي التي أمرت بقطع أسلاك الفرامل نتيجة الحسد، وربما كانت قد قطعت بيديها أسلاك فرامل سيارة أسمهان.

-حدث كل هذا خلال تصوير أحد الأفلام- نظر إليّ الساحر في عيني بينما كان يشد الدخان من النارجيلة- كانت أسمهان تعيش حالة عشق رهيبة على الشاشة، وطبقا للعادات والأخلاق، كان يجب الانتقام منها. فراحت ضحية حادث سيارة على شاطئ النيل، ولكن السيارة لم تتوقف بسرعة أثناء التصوير حتى تهبط المطربة ويتم وضع تمثال مكانها. الفرامل لم تعمل وغرقت الأميرة التعسة في النهر. بعض الصيادين الذين شهدوا الحادث قالوا أن طائرا أبيض اللون طار على السيارة التي كانت لا تزال تعوم لبضع ثوان، قبل أن ينطلق طائرا نحو الأفق. شهود الحادث، أكدوا أنها روح، التعسة أسمهان، التي ماتت قبل أن تعرف لا الحب ولا الهدوء في حياتها والتي أصبحت أخيرا حرة، تطير إلى الأعالي.

وضع الساحر بعض قطع الأفيون على حجر النارجيلة.

-أرجو ألا  تفكر أنني مدمن أفيون. فأنا أستخدمه فقط عندما أشعر أن الحشيش يعشش بسرعة في رأسي، عندها أتعاطى بعض الأفيون فيعود كل شيء إلى مكانه.

سحب نفسا قويا وبعد كركرة مركزة، كتم الدخان في رئتيه إلى أن انفجر في نوبة طويلة من الكحة. مرر إليّ النارجيلة ورشف جرعة ماء كبيرة.

-عندما تأتي إلى القاهرة، وأنا متأكد أنك سوف تأتي- ضحك- سوف آخذك إلى الغرز، حيث يوجد حشاشو بتانيا ومصر القديمة. وسوف ترى. هناك نعم أنه حشيش معتبر.

الغرز الشهيرة، اكتشفتها فيما بعد، كان مسموحا بوجودها خلال عهد السادات- الحشاش الأكبر- كانت أماكن عجيبة، تشبه عشش المقاهي الفقيرة في الأحياء المصرية ولكنها بعيدة عن أعين الفضوليين. تكون عادة موزعة في غرف مغلقة أو تكون مختبئة خلف كومة من علب الكارتون الفارغة كما شاهدتها في حارة في بورسعيد، وفي الغرز دائما ما تكون هناك أشكال وألوان من الوجوه القادمة من الدرك الأسفل من المجتمع، والذين يجيبون تحيتك بـ”عليكم السلام” في صوت خفيض. وأحيانا تجد اثنين من رجال الشرطة ينحشرون إلى داخلها ويحششون كام حجر مجانا، ما أن وصلت، كان العامل يمسك الجوزة المائية في يده وفي الأخرى مصفاة بها الجمر ويضع الحشيش، والذي يجب سحبه في أنفاس طويلة. كانت تبدو كمسابقة لمعرفة من يسحب كمية أكبر من الدخان وفي أطول فترة ممكنة. بعد التحشيش يجب مغادرة المكان، وعند مغادرة الغرزة تواجه أضواء الليل، التي تدور في جنون كما لو كانت ساقية الألعاب، وحينها لا بد من البحث عن مقهى للجلوس فيه لبعض الوقت أمام فنجان من القهوة التركي القوية وتأمل ازدحام القاهرة، أم الدنيا.

في إحدى الليالي، اسمعنا الساحر إحدى أغنيات أم كلثوم. كانت عن آهات حب كتبها أمير، وكانت تتغنى بالهجر بين حبيبين فرّق بينهما القدر. الحبيب يعد الحبيبة بأنه سوف يعود بحثا عنها حتى لو في آخر العمر، بينما هي تفكر فيه ليل نهار، ولم تنساه ولا يوم واحد في حياتها. وعندما عاد حبيبها بعد زمن طويل، واجهته هي بصوت قوي ومبحوح، رغم أنها في قرارة نفسها كانت تحبه ولا تزال تبكيه، تظاهرت أنها لا تعرفه، لأن الزمن، الذي مر على الجميع ترك آثاره على الحبيبة، وأنها لم تحتمل ملامح الدهشة على وجهه. وهكذا يكون الحب العذري، الحب المستحيل، أعلى درجات التعبير عن الحب الحقيقي.

وبعد أن انتهت الأغنية المأساوية، قطع الساحر الصمت.

-بينما كانت أسمهان تمثل نظام فاروق القديم، الملك المعتد بنفسه والذي كان يبدو مشغولا بحاشيته أكثر من انشغاله بشعبه، كانت أم كلثوم تمثل مصر الحديثة- أوضح لي- لقد كانت هي مرتبطة جدا بشخصية عبد الناصر، كانت تستعرض الحرس مع الريس، وصدحت بأغنيات وطنية عندما كانت مصر في خطر، وبعد موت عبد الناصر، بدأت صورتها تهتز، يقولون أن جيهان السادات، زوجة الرئيس، كانت تخشى شهرتها والأعمال الخيرية للمطربة الكبيرة، والتي كان المصريون يطلقون عليها لقب “الست” (السيدة)، ففعلت المستحيل حتى لا تُبث أغنياتها في الراديو كثيرا، لأنها قررت أن تكون هي، جيهان السادات، “السيدة” الوحيدة لمصر.

أطلق الساحر حلقتين من الدخان باتجاه مروحة سقف الحجرة.

-يحكون أنه في إحدى الليالي، وخلال حفل استقبال، أن أم كلثوم التي كانت تعرف السادات منذ أن كان مجرد مساعدا لعبد الناصر، توجهت إليه بشكل حميمي كما كانت عادتها معه، فحذرتها جيهان غاضبة أنه منذ تلك اللحظة، يجب أن تتحدث مع زوجها حسب قواعد البروتوكول. بلعت أم كلثوم لسانها وغادرت الحفل غاضبة لتعتزل في فيلتها بالزمالك، على شاطئ النيل، صلت، ثم تمددت في السرير ولم تستيقظ مرة أخرى. لم تكن لديها رغبة في أن تعيش زمنا تعيسا: زمنها انتهى مع زمن عبد الناصر.

 آخر ليلة لي في واد مدني، كانت المجموعة تستمع إلى أغنية “الأوله في الغرام”، من تلحين زكريا أحمد، وعندما وصلت إلى  أوجها. كانت أم كلثوم تغني للحب المستحيل- الحب العذري مرة أخرى- عن فتاة تهرب للقاء الحبيب وتكتشف أن العائلة انتبهت لخطة هروبها فغادرت الأسرة المكان. وهبت عاصفة في الصحراء فأزالت آثارهم، لدرجة أن الحبيب لم يكن يعرف في أي اتجاه يسير. ومع ذلك، فإن بقايا النار- تماما كحبه- كانت لا تزال متقدة.

-غدا نغادر هذا المكان- قال الساحر عندما عاد إلى هذا العالم بعد سماع المطربة المصرية- وبعد ذلك سوف نعمل في الخرطوم وكريمه ودنقله ووادي حلفا، وندخل مصر ونواصل عبر أسوان والأقصر وقنا وسوهاج وأسيوط والمنيا وبني سويف…

وعندما لاحظ أن توالي سماع أسماء تلك المدن والمحافظات لا يثيرني، أضاف:

-القاهرة والإسكندرية ولندن وسان فرانثيسكو- كما لو كانت تلك المدن الأخيرة توجد على شاطئ النيل!

-تعال معانا- عرض عليّ الساحر وفي تلك الليلة نفسها قررت أن أنضم إلى المجموعة. كنت أريد أن أبقى في القاهرة التي كانت لا تزال قلب العالم العربي. عالم كنت أشعر به قريبا مني وكنت أود أن أعرفه. كنت لا أزال في بداية العشرينات من عمري، وجاء أهل السيرك المصريون ليختطفوا روحي كما فعل غجر رومانيا في طفولتي، ولكن الآن، في واد مدني لم أعد أخشى على نفسي من الاختطاف.

ذهبت معهم إلى القاهرة، وكان هذا واحدا من أهم قرارات حياتي، عشت خمس سنوات رائعة في مدينة المتناقضات، والتي كان من الممكن الانتقال فيها من قرن إلى آخر طبقا لخط الأتوبيس الذي تركبه، وحيث المشاعر المتناقضة كالحب والكراهية، يلتقيان في اليوم نفسه، إن عرب البحر أخذوني إلى الصحراء، وفي مصر وجدت نفسي ألتقط صورا للحياة اليومية في واحات مصر، إنه عالم آخر يختفي في صمت، شيئا فشيئا، كما لو كان يختنق تحت ضغط كثيب رملي هائل. ومشروعي الأثير عن عرب البحر تركته إلى زمن آخر إلى أن طواه النسيان.

في أحد الأيام، وجدت نفسي غارقا في مؤامرة سياسية مزعومة، أُتهمت بأنني كنت حلقة الوصل الخارجية لخلية تروتسكية. واعتقلوني لفترة في سجن القناطر وطردوني من المكان الذي كنت قد اخترته لأعيش فيه. ذلك الحدث التعس أبعدني عن عالم أحلامي طوال عشرين عاما. كنت أشعر كما لو كنت في المنفى، وفي بعض الليالي كنت أحلم. أحلم بالعودة إلى القاهرة، كنت أطير، في الحلم بقدر ما أستطيع، كنت أطير على نهر النيل، إلى جوار مبنى التليفزيون المصري الحديث حيث عملت لعدة سنوات، وبعدها إلى ميدان التحرير، لأواصل عبر شارع سليمان باشا، قريبا، قريبا جدا من الشقة التي كنت أقيم فيها. كم أفتقد المصعد الباريسي القديم، وتلك الأرضيات الخشبية المتآكلة والكراسي القطيفية الناحلة ذات اللون الكريمي التي كنت أتمدد عليها لأقرأ صحية “جورنال دي ايجيبت”، وأرتشف القهوة التركية، وأشارك في مناقشات أصدقائي القاهريين. ولكن، آه، إنه حلم متبخر، فأنا كنت شخصا غير مرغوب به في مصر، ولو أنني عدت إلى الحلم في إحدى الليالي فإنني لن أستطيع أن أصل أبدا إلى ذلك المقهى. فقط في فجر أحد الأيام، استيقظت غارقا في عرقي، والقلب ينبض بسرعة، تمكنت من أن ألمح، قبل أن تختفي، المظلة الخضراء التي كانت تحمي تراس مقهى ريش من شمس مصر.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات