نداهة عمر طاهر

09:13 صباحًا الأربعاء 24 أبريل 2013
حسن عبد الموجود

حسن عبد الموجود

قاص وكاتب صحفي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عمر طاهر: قهوة الصباح

حتى وهو مريض فإنه لا يعدم المواقف الساخرة. كان أحد ضروسه يسبب له ألماً رهيباً، وبالصدفة كان معنا رسام الكاريكاتير، أشرف حمدى، وهو بالمناسبة طبيب أسنان، وبدا أن الله ساق له مُخلّصاً، ونظر أشرف فى فمه، وبدت عليه ملامح التأثر الشديد والألم، وهتف “يااااه، ده أكيد بيألمك جداً يا أستاذ”، وهكذا نسى عمر طاهر الألم ضاحكاً من أعماق قلبه، ضحكته الطفولية الشهيرة.

لا يشبه عمر شخصاً آخر، شخصيته الساخرة هى جزء من كتابته. إنه قادر على مفاجأتك بكلام أو بتصرفات لا تتوقعها. مرّة حينما ضاق بالزحام أخرج رأسه من السيارة هاتفاً “آه يا كوكب”، كنت أضحك بينما يرمقه الآخرون فى الشارع بنوع من الدهشة، وأخيراً وبعد أن وصلنا، لم يكن هناك مكان لسيارته، لكنه أوقفها فى منتصف الشارع الجانبى وهبط.

لفترة طويلة جمعنا مكتب صغير فى جريدة “اضحك للدنيا”، وأتاح لى القرب منه معرفته بشكل قوي. أحببت صراحته. كتب مرة عنى “حينما شاهدته لأول مرة شعرت بأننى أريد أن أسدد له روسيّة”، ضحكت متسائلاً “إلى تلك الدرجة كنت متضايقاً منى؟”، ورد “إلى تلك الدرجة”. حينما أكون مُستغرقاً، تنطلق فجأة ضحكته المجلجلة الصافية، وحينما أنظر إليه يقول لى “اسمع”، ويقرأ شيئاً ساخراً انتهى للتوّ من كتابته، فنضحك سوياً. لا يمكن أبداً توقّع رد فعله، ولا يمكن الإمساك به. يهلّ فى اللحظة التى لا تتوقعه أبداً، ويغادر أيضاً حينما تتوقع منه الاستمرار. الفارق بين حضوره وحماسه الشديد، ومغادرته، قد لا يستغرق خمس دقائق. ما الذى فكر فيه؟ ما الهاجس الذى سيطر عليه؟ ما النداء العاجل الذى تعرض له؟ لن تعرف أبداً. سينهض ململماً أوراقه وحقيبته ومتمتماً “أنا مشيت”، ولو كنت تعرفه جيداً فلن تحاول إثناءه، لأنه لن يلتفت إليك. الطفل الضخم المبتسم قد يسيطر عليه العبوس فجأة، كأنما انكسرت لعبته. يضحك وأنا أذكّره “المبدع لا يقاوم الندّاهة. يغلق على نفسه، ويصبح كالجنين فى بطن أمه. لو أن الندّاهة طلبته ليوم كامل سيستجيب”، ويضيف “هذا أجمل وأصعب شىء يمكن أن يحدث للشخص الممسوس بالفن، حيث لا تكون له سيطرة حقيقية على مزاجه. الأفكار تكون أقوى منه”.

الأفكار قد تكون وساوس خاصة بأمراض “هذا جزء من حياة المبدعين. الأفكار هنا تدفع إلى الاكتئاب، وربما تدفعك للابتعاد عن الناس لفترة”، وأيضاً ربما تمثل أشياء إيجابية . يعلق “كأن تكتب قصيدة مثلاً”، ويضيف “الوساوس عموماً نعمة، لو أنك لا تسرح أو تشطح فلن تخرج بقطعة المجوهرات التى نعرفها باسم الفن. لو أنك شخص ثابت ووقور ورزين فأنت تصلح لأن تكون محاسباً ناجحاً، أو رئيس مجلس إدارة مكسّر الدنيا، لكن لطشة الفن شىء آخر. الفنان لا يسير وفق كتالوج، وهذا ينطبق على الفنانين فى جميع المجالات، من صلاح جاهين إلى شيكابالا”.

بمناسبة شيكابالا، عمر طاهر زملكاوى، لم يفكر أبداً أن يتخلى عن تشجيع الفريق الذى لا يعرف الفوز إلا فى مناسبات معدودة، وكتب يوماً بسخرية “الهزيمة بتجرى فى دمى”. اختياره للزمالك يُمثل نوعاً من المغامرة التى يهواها. يقول ساخراً “فى انتخابات البرلمان منحت صوتى للثورة مستمرة، مع أننى أعلم جيداً أنها ربما لن تنجح، أنا أختار الطرف الأقل حظوظاً، ولكنّ هذا لا يعنى أبداً أنها مغامرة على الفاضي، أو من دون اقتناع بما أو بمن أختاره”.

أتاحت له الكتابة الساخرة، التى يبرع فيها، نوعاً من الانتشار لا يحظى به كثيرون فى الوسط الأدبى، فهل هذا له مردود إيجابى على الشعر؟ يقول “ليس كما تتخيل. كنت أكسب خمسة قرّاء جدد للشعر سنوياً، الآن أصبحوا عشرة، ولكن مع كل مقال أو كتاب جديد تكسب قرّاء كثيرين”، يصمت قبل أن يضيف “الناس يجرون على أى كتاب فيه شىء يشبه حياتهم اليومية. فيه شيء من سخريتهم. (يضحك) قارئ أخبرنى أنه قرأ ديوانى (قهوة وشيكولاتة) وسألته بحماس: وما رأيك؟ فأجابني: موّتنى على نفسى من الضحك”!!.

“كارثة”، هكذا يعلق على الموقف السابق مضيفاً “الناس يستقبلون الشعر باعتباره كتابة ساخرة. القارئ هنا يستقبل قصائد أجهدتك، قصائد من نزيف روحك ومشاعرك باعتبارها شيئاً ساخراً، ولكننى أتفهم هذا. المسألة تشبه، مع الفارق طبعاً، أن تستقبل قصيدة من محمود السعدني. ستُقبل عليها وفى ذهنك أن صاحبها كاتب ساخر”. يرى عمر أن قارئ الشعر الحقيقى هو الوحيد الذى يتذوقه. هذا القارئ يعرف ما الذى تعنيه القصيدة “خلاص فهمت اللى فيها. النص الشعرى سيأخذ وقته حتى يصل إلى الناس. المقالة ابنة اليوم، ولكن القصيدة ابنة المستقبل، وهكذا قد أقرأ فؤاد حداد وأكتشف أشياء جديدة فيه. عُمْرُ الشعر، باختصار، أطول، وهو أصل الأشياء”. حينما يغيب عن كتابة الشعر لفترة يسأله أحد الأصدقاء “انت بطلت الشعر؟!” فيجيب “لا.. الشعر هو اللى مبطلني!”، يضحك “لا ألوى رقبة الأمور حتى أكتب قصيدة، وحينما يأتى الشعر كل شىء يتنحى جانباً، تشعر بالعكننة، مناخيرك تتضخم، صوتك يصبح غليظاً، تتحول إلى كائن عدوانى، هذه هى لحظة كتابة القصيدة”!

إعلامى له مشاهدوه وكاتب مقالات وكتب ساخرة له جماهيره. خرج عمر طاهر من الإطار الضيق للحياة الثقافية، إلى مرحلة “النجومية”، التى يتمتع بها مشاهير المجالات الأخرى، يقول “النجومية أسوأ شىء فى العالم. المبدع الحقيقة يجب ألا يكون مشهوراً، أو مشغولاً بالأمور الجماهيرية الضاغطة. لو عمرى الأدبى الافتراضى 100 قصيدة، سيصبح 50 بعد شغلى فى الصحافة والأعمال الساخرة”، ويضيف “الجماهيرية تُورطك أيضاً فى الكتابة الاستهلاكية، وتضغط عليك لتتابع أحداثاً سياسية ووقائع يومية سائلة، ما يعنى أنك تحرق نفسك هكذا، ولكن لو أنك تكتب رواية، فلا بد أن تنعزل عن العالم لمدة سنة على الأقل، حتى تمسك بخميرتها”. لا ينفى عمر أن النجومية قد تضيف لروائى لا لشاعر “الرواية فيها حدوتة موضوعة فى إطار فنى، لكن الشعر يغلب عليه الفنى 100٪. إما تصل إليك القصيدة أو لا تصل، ولهذا أقول إننى لم أسهم فى زيادة عدد قراء الشعر، وهم يتلقونه من كل الأسماء بدون تمييز، سواء كانت هذه الأسماء مشهورة أم لا”!.

الكتابة الساخر شىء صعب. يُفسّر “صعوبتها أنك تريد أن تكون ساخراً وسط شعب ساخر فى الأساس، أى أنك تريد بيع الماء فى حارة السقّايين، كما أن هذا الشعب غِلس، بمعنى أنه ليس أى شيء قادر على إضحاكه. أنت، بتعبير أدق، تريد أن تأكل عيش فى المجتمع ببلاش، وهذا ما يجعل الأمر صعباً جداً، ويحتاج إلى مجهود، خصوصاً حينما تريد أن تقول كلاماً جاداً داخل الإطار الساخر، أن تستحضر بيت شعر للنابغة الذبياني، أو مقولة لبرنارد شو، أو أن تربط بين ثورتى عرابى ويناير، أن تستلهم الأدب والتاريخ والجغرافيا والسينما”. يعترف عمر أنه كان يكتب فى البدايات ما يصفه بـ”مجرد ملاحظات ذكية دمها خفيف”، لكن “هذه مرحلة وانتهت”. يعلق “هذه المنطقة تم هرسها، وتحولت إلى سكة يقلدها كثيرون. أصبح الأمر الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى أن تحمل كتابتى أفكاراً أكثر ثقلاً، بحيث لا تكون السخرية هدفاً فى حد ذاتها. أنا أريد أن أدفع القارئ للتفكير فيما أرغب بالطريقة التى يُحبها”. لم يعد عمر يشعر بالضيق لأنّ هناك كثيرين يحاولون تقليده “أن تفتح الباب لمائة ويتبقى منهم خمسة جيدون فهذا أفضل من أن تغلقه وتخسر الخمسة. هناك موضة فى كل المجالات، فى الإعلام، والطرب، وغيرهما، وهذه الموضة تأخذ وقتها وتنتهى، ولا يتبقى سوى الأشخاص الذين لديهم شىء حقيقي”. لم يكن طاهر يعرف عم جلال عامر قبل انتشار الكتابة الساخرة بهذا الشكل، يقول ويضيف “وهذا من مميزات أن يصبح للكتابة الساخرة سوق”.

ترجم عمر رواية باولو كويلهو “بالقرب من نهر بيدرا جلست وبكيت” فهل سيُقدِمُ على تجربة الترجمة مجدداً؟ يجيب “قابلت باولو فى البرازيل، وأحببت روايته، فقد وجدتها تتماس مع حياتى الشخصية، وتغنينى عن كتابة رواية، ببساطة وجدت شخصاً كتب رواية بشكل أجمل مما كنت سأكتبه، ويمكن أن تُسمى ما قمت به إعادة كتابة، وهذا لا يعنى أننى مترجم خائن. لا. كنت فقط أريد أن أوصل رسالة باولو بطريقتي، وأتمنى أن أجد رواية تكون متماسة مع حياتى لأعطيها تركيزى”.

تغيرت نظرة عمر إلى المرأة بشكل كبير، خصوصاً بعد زواجه وإنجابه. كان هناك من يعتبره العدو الجديد لها بعد أنيس منصور. يعلّق “كنت متأثراً ببرنارد شو أكثر من أنيس منصور. فبرنارد كان يكتب بسخرية لاذعة، أما منصور فكان لديه ميل نحو الحكمة أكثر من السخرية، وعموماً جاء الوقت الذى اعترفت فيه لنفسى بأن الأنثى محطة مهمة فى تطور البشر ذهنياً ونفسياً وروحياً. تجربة الزواج والإنجاب مثل كل التجارب التى فيها معاناة، لكنها مهمة لتطوير روحك. أشعرتنى أنّ لى جذوراً فى المكان، بعد أن كان يسيطر على إحساس المغترب، وأشعر بالحنين إلى والدىّ. كنت أشعر باللوعة طوال الوقت، ولكن حصل لى ما يمكن أن أسميه بالتهذيب النفسى بعد وجود الزوجة والابنة”. خفتت حدة السخرية فى كتابات صاحب “شكلها باظت”، و”عرفوه بالحزن”، و”لا بد من خيانة”، و”مشوار لحد الحيطة”، و”كابتن مصر”. يقول “أصبحت هناك محاولات لفهم ذلك الكائن، وأعترف أننى كنت مبالغاً فيما يخصه.”!

الثورة منحت لعمر “عيناً ثالثة” بتعبيره. يضيف “الواحد أصبح أكثر تركيزاً مع نفسه، أصبحت (مصحصح) وأفكر فيما أومن به حقاً، أصبحت هناك أمور تخاف عليها، مستقبل البلد هو مستقبل بنتك. لم يعد هذا من قبيل الإنشاء، كان الإيمان بالوطن رومانسياً، ولكنه أصبح حقيقياً. وأنا ذاهب إلى الانتخابات هناك أشياء كثيرة فى رأسي، الشارع والثورة، والشهداء، وبنتي”، يضحك “حتى الفلول لا بد أن يعترفوا أن الثورة غيّرت فيهم شيئاً”!

One Response to نداهة عمر طاهر

  1. maillot manchester united 2014 رد

    27 مارس, 2014 at 12:55 م

    this is great blog, I will certainly be back.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات