يحيى الطاهر عبدالله.. الاشتراكى

08:40 صباحًا الإثنين 13 مايو 2013
حسن عبد الموجود

حسن عبد الموجود

قاص وكاتب صحفي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يحيى الطاهر عبد الله

فى ليلة عرسه وزواجه من السيدة مديحة شقيقة الدكتور عبدالمنعم تليمة وضع الجميع يدهم على قلوبهم، فالعريس يحيى الطاهر عبدالله لم يأت فى موعده واختفى تماماً. جلس أصدقاؤه يضعون أيديهم على قلوبهم، خشية أن يكون حدث له مكروه، أو عاد فى كلامه بخصوص الزواج. عبدالرحمن الأبنودى جلس على كرسى العريس وكان يتحدث ليشغل الجميع فى انتظار الأمل ومجيئ يحيى، وهو ما حدث فعلاً. جاء يحيى فى آخر الليل يصطحب طفلاً فقيراً وجده ملقى مشرداً، كما يحكى الأبنودى، تحت أحد الكبارى التى ذهب إليها ليشرب بعض زجاجات البيرة، وبصعوبة وضعه أصدقاؤه على كرسى العريس وأتمّوا الليلة بسرعة شديدة خوفاً من أن يرجع فى كلامه.
يحيى بالتأكيد رأى نفسه فى ذلك الطفل المشرّد، يحيى بالتأكيد استدعى صوراً من حياة الشقاء فى الكرنك. الشمس الحارقة هناك صنعت ملامحه، أكسبته سمرته وفتحتى أنف كبيرتين، وقسوة تبدو كأنها هالة تحيط به دائماً لمن لا يعرفونه جيداً، ولمن لم يستطيعوا اختراق متاريسه وحواجزه، ليسمعوا كلامه المعسول الذى جعله الفتى المدلل لأمهات أصدقائه. الطفل الفقير كان يجد مثل كثيرين من أقرانه مجالاً للتسلية، بخلاف اللعبات الشهيرة فى أعماق الصعيد، كان يتسلق النخل، ويسير حافياً أحياناً، ويعبّر عن فرحته بفيضان النيل بالتخلص من ملابسه، والسباحة عارياً. ربما كان ينتظر مثلما كنا نفعل أيضاً هطول الأمطار لنبدأ متعة التزلّج على الطين. متعة ملامسة الأمّ فى أكثر صورها نقاء. العودة إلى الجذور وملامسة الأرض الحنونة المنتشية باختلاط الماء والتراب. كان هذا هو الصبى المجنون يحيى الطاهر عبدالله الهارب طوال الوقت، كما أتخيله، من جحيم زوجة أبيه. يحكى فى أجندة وجدتها عطيات الأبنودى “فى الكرنك القديم، مركز الأقصر، ولدتُ ورقصت بالقدمين وسبحت فى الترع واللجج التى كان يصنعها النيل لما يفيض أيام التحاريق وكنت أخرج عارياً كما ولدتنى أمى: أسماء بنت عبدالسميع عبدالقادر، ألبس ثوبى أمام عيونكم يا أعمامى ويا أخوالى الأكثرين، وأطلع نخلة عبدالله التى لا يملكها أيّكم، وآكل من ثمرها الملوّن الطيّب”.
كان يكره الشتاء كما يكرهه عامة الفقراء فى الصعيد. البرد هناك سكاكين تخترق العظام وتحيلها إلى رماد. تشعر أن الموجة القارسة المقبلة ناحيتك ستحمل ذرّاتك وتلقيها بعيداً فى أرض الله الواسعة، بحيث لا يمكن لأحد أن يجمعها مرة أخرى. البرد يعضُّ روحك كما كان يعضّ روح صاحب “حكايات للأمير حتى ينام”. يقول فى نفس الورقة “فى ليلة مثل هذه شديدة البرد، وفى أيام مثل تلك التى نحياها يتعذّر على فرد مثلى أن يغادر بيته ثم يعود سليم البدن سليم الروح”.
بالتأكيد يهرب معظمنا من الصعيد بحثاً عن فرصة جيدة للانتشار. هذا هو ما ستسمعه من معظم الأدباء الذين يحملون ملابسهم البسيطة فى حقيبة، ويشعرون حتى لحظة الاقتراب من القبر بأنهم لا ينتمون إليها. ولكن ما لن تسمعه منهم أنهم فى الأغلب هاربون من عذاب الفقر. ظل هاجس الفقر بالنسبة لصاحب “ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً” يسيطر على دماغه، هو الذى لا تعنيه أموال الدنيا، ولا يقيم لها وزناً، كان يبحث عن كفايته خلال اليوم. لم يفكّر أبداً، هو المهموم بالكتابة، كنزه الأول، أن يسلك مجال الأعمال التى توفر له المال، لم يفكر أبداً فى ثروة يمكن أن يتركها لابنته أسماء. تحكى لمحمد شعير بمتعة عن الفستان “أبو أربعين جنيه”، هى كل ما يملك يحيى فى ذلك الوقت، الذى اشتراه لها، لأنه لا يجوز أن ترتدى شيئاً غير ذى قيمة.
الفقر بالطبع وجّهه للإيمان بفكرة بسيطة عن الاشتراكية. كانت فكرته تتماس بكل تأكيد مع أفكار السذج. تقول عطيات الأبنودى “كان مؤمناً إيماناً حقيقياً بالاشتراكية، ولكن بمعنى ساذج وغير علمى. عندما يستلف منك مالاً فقد أعطاك الشرف بذلك، وعندما تحتاج أنت هذا المال تبقى حاجة غريبة جداً، وهو لا يفعل ذلك على سبيل (الاستعباط) وإنما كان إيمانه بذلك حقيقياً. اللى معاه يصرف على اللى مامعهوش. وهو دايما ماكنش معاه. كان يرى كل الفقراء أغنياء، كان حلمه هكذا ولذلك كان متعاطفاً مع الطبقات الفقيرة، وحلمه أن يرى كل الناس أغنياء”.
وهكذا عاش يحيى فى إطار تلك الفكرة الغريبة عن الاشتراكية. يستلف من أصدقائه، ويمنحهم المال لو كان بحوزته. كان عليه أن يصرف ما يكسبه حتى آخر قرش، كأنه يعمل بمبدأ “وجود أموال فى جيبك يعنى أنك تكره الإنسانية”، أو “كما جاءك المال فعليه أن يذهب بأقصى سرعة”. يقول محمود الوردانى “يحيى ذلك الفقير دائماً لم يكن محتاجاً لأحد، وكل ما يريده يحصل عليه ببساطة من أصدقائه (فى زماننا كان هذا طبيعياً ومتكرراً وعادياً للغاية) أتذكر الآن أن يحيى تسلم 60 جنيهاً ثمن مجموعته القصصية الأولى (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً) من الهيئة المصرية العامة. بالطبع كان عليه أن يشترى ملابس ويسدد بعض الديون المتناثرة ويبقى معه أى مبلغ لتمشية الحال فالـ60 جنيهاً فى ذلك الزمان كانت مبلغاً ضخماً بالنسبة ليحيى. ولأنه لم يملك بطاقة، فقد أعطى الشيك لصرّاف الهيئة وتسلم المبلغ ومضينا، يحيى وصديق آخر وأنا، إلى مكان فخم فى وسط البلد وشربنا وأكلنا حتى الليل ولم يتبق مع يحيى سوى نصف جنيه فقط لنستقل تاكسياً استكمالاً لمتعة أن تنفق كل ما معك حتى آخر قرش”.
ويضيف “عاش يحيى معنا فى شقتنا الصغيرة بالعمرانية قرابة ثلاث سنوات. لا أذكر أنه استأذن مثلا أو أبرم اتفاقاً ما، أو حتى أخبرنا، كل ما فى الأمر أنه فى صباح أحد الأيام، بدلاً من أن يُسلّم علينا ويمضى، استقر فى الحجرة التى كانت تضمّنا نحن الثلاثة، يحيى وشقيقى الأكبر عبدالعظيم وأنا، بينما كانت أمى وشقيقى الأصغر فؤاد فى الحجرة الثانية والأخيرة. لم يكن لباب شقتنا مفتاح تقريباً، كل ما عليك هو أن تردّ الباب خلفك وأنت خارج، أو تدفعه وأنت داخل، وعلى مدى السنوات الثلاث التالية عرفت يحيى جيداً، على الرغم من أنه لم يكن شخصاً سهلاً ولا أقول مُعقداً، لم يكن يحيى يملك شيئاً سوى ملابسه التى يرتديها، لم يكن يملك كتباً أو أوراقاً فقصصه يحفظها والكتاب الذى يريد قراءته يحصل عليه بالمصادفة ولا يعيده مطلقاً بل يعطيه لمن يرغب، أما النقود فلم يكن يحتاج منها إلا ما يشترى به سجائره، وإذا رغب فى الذهاب إلى أى مكان، يمشى إليه، فلماذا يحتاج إلى النقود إذن؟. كان يحيى قادراً أيضاً على إقامة صداقات وعلاقات وثيقة مع مئات من البشر، مع الجيران وعلى المقاهى وفى البارات ومكاتب استقبال الصحف والتليفزيون، وهى ليست مجرد علاقات عابرة بل صداقات وثيقة حيث يستقبلونه بالأحضان ويتحدث معهم بالتفصيل حول آخر مباراة كرة فى الدورى وعدوان إسرائيل وبطولة المقاومة وأسعار الخضراوات وتدهور مستوى التعليم والأتوبيسات الخانقة. كان فى أحيان كثيرة يصطحبنى مثلاً لزيارة أصدقائه من الجيران الذين سكن معهم فى السيدة عائشة أو الهرم أو مصر القديمة وغادرهم قبل سنوات. منحه كل هذا خبرات لا يستهان بها، وفى نفس الوقت كان قادراً على أن يكون وحده، على الرغم من وجوده وسط الآخرين. قد يعتقد البعض أن يحيى كان منتهكاً دائماً من الآخرين لأنه بلا بيت أو أوراق أو مكان خاص، لكن يحيى، ذلك النسيج الخاص، كان قادراً على أن يكون مع يحيى ومع الآخرين أيضاً”.
هاجر الأبنودى إلى القاهرة 1962، بعد أن استقال من عمله بمحكمة قنا، واستقال أمل دنقل وسفره أيضاً إلى العاصمة، واستمر يحيى مقيماً فى بيت الشيخ الأبنودى عاماً آخر بدون عبدالرحمن. يحكى الأخير “توثقت علاقته بأهل البيت واعتُبر ابناً سابعاً للشيخ الأبنودى وفاطمة قنديل التى كانت تحبه حباً شديداً وتعطف عليه ويُخيل لها يومياً أنه سيموت فى اليوم المقبل، فقد كان يحيى يجبد التمارض واستحلاب عواطف الآخرين وكان بارعاً فى ذلك ومعظم ممارساته فى ذلك الشأن كانت مقصودة”. بعد عام جاء يحيى إلى القاهرة ومعه شقيق الأبنودى الأصغر كمال. يواصل الأبنودى الحكى “اضطررت أن أغيّر سكنى بجوار سينما أوديون لأسكن معهما فى شقة حقيرة مليئة بالأسرّة فى بولاق الدكرور وهى الشقة التى كانت أشبه بالملكية العامة والتى كان يتردد عليها أصدقاؤه من أمثال طارق عبد الحكيم، وأحمد فؤاد نجم فى ذلك الوقت إلى كمال الطويل. كانت هذه الشقة أشبه بالمقهى الشعبى وحولها يحيى الطاهر إلى ما يشبه سوق الثلاثاء، فكانت الأسرّة تزدحم بالمشرّدين والغرباء من المثقفين والمبدعين، وكان علىّ أنا أن أطعم كل هذا الجيش من الجنيهات التى أتكسّبها من الأغنيات التى كنت أكتبها فى ذلك الوقت، حيث كان من النادر أن تجد أحداً من أبناء جيلى قادراً على الكسب. كان يحيى مدخناً بطريقة مفرطة وكنت رغم أنى كنت أدخن أيضاً لا أطيق الدخول إلى غرفته المعبأة بالدخان، والتى كان ينام فيها كأنه لن يقوم أبداً”.
إذن هل دفعه الفقر للكتابة بطريقة معينة؟ هل جعل أدبه دعائياً؟ الإجابة الذكية كانت لمحمد بدوى “لفرط حديثه عن الفقراء والعدل والمعاناة تظن أنه سينتج أدباً مثقلاً بالدعاوى، لكنه حين يكتب يهزم الكاتب فيه المواطن الصالح، فلم يتحوّل إلى مغن ساذج لنبل الفقراء، ولم يجعل من كتابته برهنة على صحة أيديولوجيا. كتب الفقراء لكنهم ليسوا أنبياء، بل بشر يقترفون كل شىء، بدءاً من الرغبة فى زنا المحارم وانتهاء بالقتل”. حسنٌ.. فى حياة يحيى الطاهر عبدالله المقبلة أين ستحلّ روحه؟ هذا ما يشغلنى دائماً فيما يتعلّق بمن أحبّهم، أو بمن أشبههم أو يشبهوننى، أنا الذى كنت أحفظ قصصى على طريقته، وأكتب كما كان يكتب، لدرجة أننى نسخت قصته “أنا وهى وزهور العالم” فى قصة من تأليفى. هل ستحلّ روحه فى أحد الأثرياء؟ والإجابة: سيقتل نفسه برصاصة بكل تأكيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور فى العدد الجديد من مجلة الثقافة الجديدة ، شهر مايو

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات