نصف ساعة بالممر

11:29 صباحًا السبت 17 نوفمبر 2012
أميمة عز الدين

أميمة عز الدين

أم وكاتبة مصرية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الفصل الثانى من رواية

نصف ساعة بالممر

2 حديث البنت

إلى الآن لم أشعر أن أبى سيد أمى ولا حتى تاج رأسها كما تزعم، فأسيادها كثيرون وهى تقول أنها خادمة للقمة العيش، لم تخجل يوما من عملها بالبيوت بل على العكس كانت تفتخر أنها تعرق كثيرا وتكسب رزقها مثل أجدعها رجل دون أن تبيع روحها لجنس مخلوق. لم أكن أفهم معظم ما تنطق به لذلك اعتبرتنى أمى أننى متخلفة عقليا، وعندى لطف فى عقلى خاصة أننى تأخرت فى الكلام والمشى وأنا صغيرة والسبب الصفرا التى أصبت بها، ولم تفطن أمى لإصابتى بها إلا متأخرًا بفضل مدام إحسان التى تسكن الطابق الأول العلوى وتمد أمى بالقديم من ملابسها وملابس زوجها سيادة اللواء المحال إلى المعاش والذى ينحنى أبى كثيرا عندما يراه من بعيد أو عندما يهبط من سيارته السوداء، يظل ينحنى مرددا فى أدب شديد:

– سعادة الباشا.

ولا يجرؤ على النظر إلى أعلى إلا عندما ينصرف تماما. أما أنا فأظل أحدق النظر فيه، أتملى من ملامحه التى زحفت عليها السنون وملأ اللون الأبيض كل شعره الخفيف وبانت صلعته على استحياء، يحاول إخفاءها بمكر عجوز وقد لمع شعره من فرط كريم الشعر الذى يثبت به شعره على تلك البقعة من رأسه الخالية من الشعر، غير أن دوام الحال من المحال إذ تأتى بعض الرياح ويتطاير الشعر الذى يشبه زغب الكتاكيت الصفراء التى أعشق منظرها وأم سعدية تحاول إغواء أمى بشرائها وتربيتها أسفل السرير النحاسى حتى تكبر ويشتد عودها وتبيعها لعم ضيا بسعر مرتفع، لكن أمى ترفض وتبعد فى تأفف التقفيصة الخشب خوفا من أن تكون الكتاكيت مريضة بإنفلونزا الطيور.

غير أن أم سعدية تقسم بالله العلى العظيم أن كتاكيتها سليمة وعمرها ما تساقط زغبها أو انزوت فى ركن بالتقفيصة أو عافت الطعام والشراب يوما، ثم إنها قد قامت بتطعيمها عند الدكتور حسانين بالوحدة البيطرية القريبة من أبو الريش. ورغم كل المحايلات والتوسلات وهدة الحيل تصر أمى على رفضها، وأم سعدية تنهض فى حسرة، فهى تعلم تماما أن عم ضيا لن يشترى منها كتكوتا واحدا، فالدجاج والبط يأتى بهما من مزرعة من الفيوم، فلا تجد غير جملتها التى حفظتها أمى عن ظهر قلب وهى تنصرف:

– حرام على أرميهم للقطة وهم يصوصوا، ذنبهم إيه؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.

على الفور وقبل أن تكمل أم سعدية جملتها تكون أمى قد دست فى يدها جنيها واحدا ملفوفا على بعضه ويبدو رطبا قديما بعض الشىء، تقسم عليها وتحلفها بأغلظ الأيمان ألا تبتليها بالكتاكيت مرة أخرى وأن اليد قصيرة والعين بصيرة، والجنيه الذى أعطته لها ولم تبخل عليها به، كانت ستشترى به ساندوتش فول من الخبز البلدى لى حتى يهبط الليل ويأتى أبى من عمله وتطبخ لنا حساء العدس الذى يعشقه أبى خصوصا فى ليالى الشتاء الباردة، وقد عصر عليه ليمونة أضاليا كبيرة ومستديرة بعض الشىء.

أحسم التردد الذى بداخلى وأتخلى عن هاجس البحث بالمطبخ عن أى شىء غريب، أشغل به نفسى فى وقت فراغى الإجبارى، وأشعر بالاختناق وأننى لا أستطيع التنفس رغم صاروخ الهواء البارد اللاسع الذى ينطلق من الشباك العالى بالمطبخ، وأظل أتأمل مربعات القيشانى اللامع على الحيطان وعلى الأرضية، وما بينهما من تناسق فى الألوان، وأظل أحصى المربعات الكبيرة وما يجاورها من مستطيلات صغيرة حتى تزوغ عيناى وأخطىء فى العد، فأبدأ من جديد حتى أزهق وأرتمى على الأرض الناعمة وعندها يتحول نزقى إلى محاولة جديدة للعبث واعتبار نفسى أميرة الثلج، غير أنه ينقصنى فستان منفوش وحذاءان للتزلج على الجليد، فنعومة القيشانى توحى لى بمشهد خاص لأميرة فقيرة محرومة من التزلج فى أيام العطلات والأعياد، فأقوم من فورى وأدور حول نفسى وأغمض عينىَّ حتى لا يصيبنى الدوار وأظل أدور وأدور حول نفسى، وجعلت من ساقى اليسرى نقطة ارتكاز قوية حتى أصطدم بالثلاجة وأشعر بالغثيان وأن رأسى ليست فى مكانها، بيدى الاثنتين أمسكها حتى لا يتطاير مخى وتتناثر أجزاؤه. ورغم أن أمى تعتبرنى صبية تسد عين الشمس ويغار منى القمر، وأنى فاكهة طازجة قد طلبت الأكيلة، إلا أنها تعتبر أن رأسى فارغة، لذلك لم تحاول أن تشركنى فى عملها، حتى عبثى بالدلو البلاستيك ومحاولاتى المتكررة فى نفض الغبار والتراب من على الأثاث، كل هذا يقابل برفض قاطع من أمى وتوبيخ وأحيانا تسبنى وتلعن اليوم الذي ولدتني فيه وتجدها فرصة وتدعو على نفسها، ثم تبدأ بالبكاء وأنها لا تريد أن تمرمطنى مثلها فى خدمة البيوت والشقا وذل النفس لكل واحد معه فلوس كثيرة. الغريب أنها على النقيض من ذلك عند عودتنا للحجرة، تأمرني بكنس الحجرة وملأ القلل وتوضيب الغرفة، لكنها لا تسمح لى بالابتعاد عن الحجرة أكثر من نصف متر.

كنت أشعر أن أبى يحبنى لكن ليس مثل حب أمى لى، كنت أرى فى عينيه حنينًا للولد المحروم من إنجابه، ومن العزوة واللمة، كان فقيرا بل مسكينا هو وأمى، لم أشهد شجارهما أبدا، فقط كان أبى يتحدث ويأمر وأمى تهز رأسها بالإيجاب، على طرف لسانها كلمة نعم، لم تعترض أبدا على أى قرار يتخذه، كنت أشعر أنها تحاول إرضاءه بشتى الطرق بعد أن عجزت عن الإنجاب أصلا بسبب حمى النفاس التى أثرت عليها وأنهار الدم الذى ضخه رحمها أثناء ولادتى مما جعل الطبيب يستأصله إنقاذا لحياتها.

أحس بالغصة والمرارة فى كلامها وهى تتذكر ذلك اليوم الذى استقبلتنى فيه الدنيا، كان الثمن غاليا دفعته أمى من جزء أصيل بأنوثتها، وأمومتها، لذلك لم أغضب من أبى كثيرا بسبب قلة كلامه معى، دائما يقول:

– لا أفهم كلام فاتيما، فهى تقول كلمة من هنا وكلمة من هناك.

بصراحة أنا أتحدث على سجيتى ولا أستطيع أن أفعل شيئا أنا غير راضية عليه تماما، رغم القيود التى تفرضها أمى على حركتى إلا أننى لا أعتبرها قيودا بل على العكس يزداد التصاقى وحبى لأمى، فهناك من يخاف على ويهتم بى ويحوطنى برعايته، حتى لعب الاستغماية والحجلى منعتنى أمى من ممارستها، وقالت فى حدة:

– لقد كبرتى يا فاتيما وخراط الصبايا خرطك.

وفى فرح طفولى ألمحه وميضا بعينيها أجدها تشترى لى حمالات للصدر وبعض القمصان الحريرية، كانت قد اشترتها من قسط الجمعية التى تقوم بها وتجمع فلوسها الست بهية زوجة عم ضيا، وكان ترتيب أمى فى قبض الجمعية العاشر قبل الأخير بنفر واحد، تلك كانت رغبتها، حتى تستطيع الاستمتاع بمبلغ الجمعية المائة جنية والذى كان بالنسبة لنا ثروة تظل أمى ممسكة به مدة طويلة وهى تفكر فى النواقص بالحجرة، وتشترى لأبى مترا وربعا من صوف العسكرى كما تطلق عليه أمى، بسبب لونه الكاكى الغامق والذى يلبسه أيام خدمته العسكرية سعادة اللواء صفوان، تصنع له بنطلونا وتشترى له بنفسها قميصا لونه بيج فاتح، ما أن يرتدى أبى القميص والبنطلون وينتعل حذاء مستعملا كانت أمى قد أوصت بائع الروبابكيا منذ أسبوع أن يحضر لها جوز جزمة بانسية سوداء لميع نصف عمر حتى تقدر على ثمنه.

حينئذ يظهر أبى كأنه موظف كبير فى الحكومة ويصبح وجود أمى بجواره وهى ترش عليه بعض العطر الرخيص، كأنها خادمة لديه، وهو من علية القوم، عندها يتنحنح أبى بصوته الأجش ويعلمها من باب العلم فقط أنه سيزور أهله بقنا، فتسرع على الفور وتحضر له عشرين جنيها آخر ما تبقى معها من الجمعية وتوصيه أن يعود سالما غانما ولا يركب قطار الصعيد، عليه بالأتوبيس، ثم تخرج من صرة صغيرة مصنوعة من قماش الدمور عشرة جنيهات أخرى وتمسح بكف يدها على القميص وتنفض العالق من الشوائب فى الجو، وتدعو له جهرا أن يسلم من شر الطريق ومن لسان أخيه صالح الذى يزن عليه كلما راح لزيارتهم بترك مصر التى تبلع أبناءها فى بطنها من شدة الغلا وكثرة المشاحنات على الفاضية والمليانة، فالناس طقت من الغلا والكوا بنار الأسعار، ولم يعد هناك وفا ولا حتى خشا أو حرمات، لذلك فإن عمى صالح – أصلح الله له زوجته العقيم – يقترح على أبى أن يتخلى عن قلة القيمة والبهدلة وكفاية تعلق بعصا المكنسة الخشبية فى شوارع مصر المحروسة كناسا يتبع البلدية، ومرتبه بضعة جنيهات لا تكفيه الخبز الحاف.

أمى كان يصيبها الرعب من فكرة الرحيل من مصر والاستقرار بالكفر، تخدم بلقمتها وهدمتها كل من هب ودب بالدار، بدون أجر. أما أبى فيعود للفأس الذى نسى كيف يمسكه ويعزق الأرض ويشتغل أجيرًا عند كبارات الكفر أو يشتغل كلافا للبهائم، وربما يفلح ويستطيع ذات يوم أن يوفر بعض القرشينات ويشترى نصف فدان يعيش علي ريعه ولا بأس أن يزوجنى عمى من أى نفر والسلام، المهم أن أستر واتكن فى بيت رجل صعيدى حمش ويكفيه أنه واخدنى على عيبى وخبلى.

كل ذلك فضفضت به أمى أمامى بعد أن سافر أبى والدموع تهطل من عينيها بغزارة، فجذورها رغم ضعفها مثبتة بذلك المكان الذى تتحرك فيه بحريتها ويجعلها تعمل وتشعر بقيمتها. كما أن أبى يحترمها لذلك فكتفها بكتفه وقبل أن ينطق الكلمة تكون أحست به واستجابت له، وغالبا يكون احتياجه لها ماديا، فالمرتب ضئيل وهو يعشق سجائر الكليوباترة مع كوب شاى ثقيل، يجعله فى حالة رائقة، ينفث همه وعجزه مع دخان السجائر وينظر على خلق الله من الشباك الواطى بحجرة البدروم، يتعلق بأسياخه الحديد ويدق عليها بقوة وغيظ ثم سرعان ما يتوارى خلفها ويغلق الشباك ويظل صامتا طوال الليل. يدفع بيده طبق الفول المهروس بحبات الثوم وزيت الطعام الرخيص ويقضم قضمة واحدة من الرغيف ويزهد فى بقيته. تنظر أمى إليه وهى تشعر به، يتبادلان النظرات على عجل وتحاول أمى أن تفتح موضوعا لفض الصمت الذى يضفى علينا المزيد من الحزن والسواد والعتمة، لكنه يصدها بحزم ويدلف إلى فرشته النظيفة ويتكوم على نفسه. وتنتابنى هواجس أن أبى سيظل مستيقظا يفكر ويفكر وربما أصحو ذات يوم ولا أجده، ربما يذهب إلى مكان ما أجهله، لكنه غالبا سيكون مكانا مخيفا به حيات وثعابين لن يستطيع أبى بمفرده القضاء عليها وعندها سيصرخ وينادى على أمى وعشيرته أن تأتى لإنقاذه لكن لا أحد سيسمعه، سيكون عليه أن يواجه مصيره بمفرده وربما ينفعه الخير الذى صنعه ذات يوم ويشفع له عند ربنا، لأننى أوقن أن ربنا رحمته وسعت كل شىء، دائما أسمع من أمى أنها تحب الله كثيرا وتتمنى لو تموت وهى تصنع معروفًا أو خيرًا لوجه الله حتى يتقبلها الله بقبول حسن. كانت تمرر لى إيمانها بطريقة غير مباشرة وكانت تعظ أبى وتنصحه أن ينتظم فى الصلاة حتى ينور وجهه بنور الإيمان ويزداد رزقنا وتنفك عقدة لسانى ويفقه الناس قولى ولا يسخر منى أحدهم وينعتنى باللطف وقلة المخ.

الوحيدة التى كانت تشعرنى أنى إنسان كامل هى أمى، كانت تقول لى وهى ترفع رأسها للسماء:

– الحمد لله على عطاؤه ومنعه، كله خير يارب، المهم رضاك علينا يا أرحم الراحمين.

ثم تعقبها بقراءة الفاتحة لكل الأموات، وتترحم على أمها وأبيها وتضمنى إلى صدرها وتدعو لى بالستر وعدم الفضيحة أبدا.

معظم كلماتها لم أكن أفهمها، لكن الذى وصل إلى عقلى وأدركته أنها تحبنى، ولم أفهم معنى الستر إلا عندما قابلته، وحاول أن يقول لى كلمات غريبة لم آلف سماعها من قبل، وتمنى أن أفهمه أنا الأخرى وأهرب من أمى وأبى وأترك العالم كله وأعيش معه ولو بدون مأذون، المهم أن نتلاقى وهو غنى ولديه شقة أخرى بعيدا عن أعين أهله الذين يتمتعون بالثروة والجاه والسلطان.

فى ذلك اليوم عندما أخذتنى أمى من يدى كعادتها إلى شقته الموجودة بالزمالك، لم تكن تعرف أنه وحيد وأن والديه فى سفر خارج مصر وأخته الكبيرة قد تزوجت من رجل أعمال وتركت البيت، لحظتها توقفت أمى فى منتصف الصالة وهى توزع نظراتها على الأثاث وعليه وعلى، أحكمت يدها على ووجدت العرق ينز من جبينها الأسمر اللامع، وهو يقول لها ضاحكا غير مصدق:

– معقولة، البنت الحلوة دى بنتك يا سيدة!

ازداد خفقان قلب أمى وتراجعت للوراء، وحاولت الابتسام قسرا لكن مازالت ملامحها متخشبة، لا تلين، وقالت وقد لمحت المكر والشر فى عينيه تجاهى:

– لقد نسيت شيئا بالبيت، ساعة زمن وأكون جاهزة لتنضيف الشقة يا عمر بيه.

لكن يبدو أنه هو – عمر بيه – لم تنطلِ عليه تلك الحيلة وأخرج مائة جنيه وقال لأمى:

– يمكنك شرا أى شىء من السوبر ماركت القريب من الشقة.

عاودت أمى لعبة القط والفأر بذكاء قائلة:

– بنتى تعبانة، بالله عليك اتركنى أوصلها للبيت حتى لا يغمى عليها وتلبخنى وأنا بانضف.

ضحك هو – عمر بيه – فى استخفاف، وبان فى عينيه تهديد خفى من استعمال سلطة أبيه وجاه أمه وأردف قائلا:

– لا داعى للخبث واللؤم يا سيدة، إلا صحيح البنوتة دى بنتك والا أنت سارقاها من أهلها.

أقسمت أمى بالله مرارا وتكرارا وأن النبى خصيمها يوم الدين إن هى كانت كاذبة فيما تقول، فى الواقع أن من يرانا أنا وأمى لا يمكن أن يصدق أننى ابنتها، فأمى شديدة السواد ذات أنف كبير مفلطح وشفتين عريضتين وهى قصيرة مكتنزة الجسم، تدارى شعرها الخشن بإيشارب من القطن الأبيض. أما أبى فكان أبيض الوجه مليحا يميل لون عينيه للون العسلى الغامق، شعره ناعم ودائما مصفف، أحب فى أمى شهامة الأنثى ووقوفها إلى جواره فى بداية حياته عندما أعطته تحويشة عمرها كى يسكنا فى بدروم العمارة ويصبحا من سكان الزمالك.

لكن رغم سمار بشرتها إلا أن وجهها يطفر بنور يشع من عينيها، يضفى عليها مسحة من التقوى يجعل أصحاب أى بيت تدخله. يشعرون بالأمان على ما خف وزنه وغلا ثمنه المتناثر بغرف البيت وفى الدواليب المفتوحة نصف فتحة لأن أصحابها دائما فى عجلة من أمرهم، وعلى التسريحات المطعم خشبها الأبنوس بماء الذهب الثقيل. أمى هي الخادمة الوحيدة التى يحق لها أن تنظف البيت في غياب أصحابه، لذلك فوجئت بوجود عمر بيه بالشقة ولم تحسب حسابا لوجوده وأنا معها.

بدأت أمى بالتنظيف بينما عمر بيه فرد ساقيه أمامه وهو يشاهد التليفزيون، ثم انشغل بمكالمة جانبية من تليفونه المحمول، وجدتها أمى فرصة كي تقرصني من ذراعي وتقول لي في حدة:

– إياكى يغيب طرف جلابيتك عن عيني لحظة واحدة.

ثم أمرتنى كأنني شغالة صغيرة عندها وهى المعلمة الكبيرة، أن أساعدها في كل شيء.. يدي بيدها.

استنكرت ما أمرتنى به أمى، فهي لم تعودني على الخدمة فى البيوت مثلها وحاولت أن أعترض بحجة أننى لا أعرف في شغل البيوت الراقية، فتلك البيوت ليست مثل حجرتنا الواطئة التى تنشع الرطوبة فى كل أركانها الأربعة، والفرش والبسط المتناثرة بكل ركن ليست مثل الحصير البلاستيك الذي نفرشه بالصيف أو الكليم الأسيوطى المهلهل من أطرافه والمفروش أيام الشتاء، كما أننى لم أتعود أن أنحنى وأمسح البلاط القرميدى الفاخر، فالحمام عندهم ليس مجرد مكان لقضاء الحاجة والسلام بل يوجد به أشياء كثيرة لا أعرف اسمها، لكن أشاهدها بالتليفزيون 14 بوصة الملون القديم، ولولا عم ضيا الذي أقنع أبى بالوصلة إياها لما أمكننى مشاهدة الأفلام والمسلسلات والأغانى التى تتلوى فيها البنات مثل الأفاعى وقد تعرت أجزاء كثيرة من بطونهن.

كان كل شيء يلمع بالشقة الوسيعة جدا والتي تكاد تكون قصرا صغيرا، إذن فما الحاجة إلى أمى، لكن يبدو أنه روتين معمول به وتقليد أصيل فى النظافة عند أصحاب الشقق الغالية جدا، فأمي توزع يومها بين بيوت معينة تذهب للتنظيف يوما بعد يوم، حتى يوم الجمعة تكون مشغولة جدا، بالكاد تجهز طعام الغداء لأبى قبل صلاة الجمعة وتعود مهدود حيلها، تلتقط أنفاسها بالعافية، لم يحاول أبى أن يقول لها ذات يوم – ولو على سبيل المجاملة – أن تكف عن الخدمة فى البيوت، بل على العكس عندما تمرض ويمر أسبوع كامل يزداد أبى عصبية ويبدأ بالبحث فى جيوبه عن أعقاب سجائر قديمة، ولما لم يجد يلتفت لأمى بنظرات لها مغزى تفهمها على الفور وتنهض من عقال المرض، تطرد أحاسيس الألم والتوجع وتعض على شفتيها وهى تجرجر قدميها كأنهما جوالان من الرمل الصحراوى الخام، ومن السحارة تدخل يدها اليسرى كالحاوى المدرب وتخرج خمسة جنيهات، وبابتسامة شاحبة تخبره فى تقريرية أنها ستنزل إلى العمل من باكر، المهم ألا يغضب أو يعكر صفو مزاجه الذى لا ينعدل إلا بصعوبة.

فيما بعد عرفت من أمى وهى تسرسب ذكرياتها دفقات متقطعة، أن لولا قرش الحشيش على أبى لكان طلقها منذ زمن، فهو كان يحلم أن يكون رجلا ذات شأن إلى أن أصبح كناسا بالشوارع، يرى بأم عينيه السيارات على اختلاف أنواعها وموديلاتها وهى تمرق وتهرول وهو هو فى مكانه، لا يتغير وضعه ولا مكانته أمام نفسه أو الآخرين، ورغم احتياجه الشديد لكل جنيه حتى لو كان مخروما من الوسط ومعدنا، إلا أن نفسه كانت تعافى مد يده والتقاط الجنيه، وكثيرا ما كانت تصله ردود الأفعال غاضبة مستنكرة من فعله غير الطبيعى، لأن ببساطة الذى فى مكانه يقبل الجنيه ويقبل ظهر يده أيضا ولا مانع فى الانحناء مصحوبا ببعض الدعوات والامتنان لمن هم أعلى منه مقاما ووجاهة، ولأجل كل هذا كان من المغضوب عليهم عند رؤسائه فهو صعيدى قح، كرامته على طرف أنفه، شاربه الكث يفتخر به، ويعتنى بتشذيبه وتسريحه بين الحين والآخر، لم يحاول أن يمسح جوخ أحدهم حتى يرضى عنه ويكتبه فى كشوف الأوفرتايم، بل على العكس كان مرتبه أغلب الأحيان ناقصا وغير كامل.

انتهى عمر بيه من الحديث فى هاتفه المحمول، وطلب من أمى إحضار كوب ماء بارد ورجاها أن تعد له النسكافيه، وحاول دعوتى للجلوس معه ومشاهدة التليفزيون إلا أن أمى رفضت فى لباقة قائلة:

– العين عمرها ما تعلو على الحاجب يا سيدى.

أشعل سيجارته وضحك فى نشوة ولوح بيده وأنا أسير وراء أمى كالأسيرة، أتلفت ورائى فأجده أجمل رجل رأيته فى حياتى، كما أن رائحة ملابسه تختلف عن رائحة ملابس أبى وعمى بالصعيد وعم ضيا وعم جاد، حتى سعادة الباشا اللواء، كان أجمل من كل هؤلاء، الشباب يضفى عليه حيوية وجاذبية كأنه عمر الشريف زمان، الغريب أن اسمه عمر على اسم عمر الشريف، حتى أننى بدون أن أشعر هتفت بصوت مسموع:

– شبه عمر الشريف والله العظيم!

زغدتنى أمى بكوعها فى جنبى، وحذرتنى من الاقتراب من المكان الذى يتواجد به عمر بيه، لم تسترح أمى لفكرة وجود عمر بيه بالشقة، فوجدتها على غير العادة تصرخ وتقبض بكلتا يديها على بطنها وهى تفركه ويتدلى لسانها أمامها، حتى وجدت عمر بيه قافزا فى وسط المطبخ وقد اصطبغ وجهه الأبيض المشرب بحمرة خفيفة بلون أحمر قاتم وتصبب جبينه عرقا، ولم يدر ماذا يفعل بتلك الكارثة التى حلت عليه، وتعالت صرخات أمى أكثر وأكثر وخرجت الكلمات متحشرجة بصعوبة بالغة:

– المصران هينفجر واموت يا عمر بيه. . . . الحقنى ووصلنى لاقرب إسباتاليا ينوبك الثواب.

لم أدرك أن أمى تمثل الدور جيدا، فما أن خرجنا من الشقة وهى تتساند على حتى قالت له:

– ينوبك ثواب وصلنى لللإسبتاليا الأميرى، أنت عارف إن الإيد قصيرة والعـ. . . . .

لم يدعها تكمل جملتها، بل قال فى حماسة كنت أحسبها شهامة:

– مصاريف العملية والمستشفى عندى أنا يا سيدة، دى إصابة عمل، وأحسن مستشفى تدخليها، أمال ده انتى غالية علينا يا ست سيدة.

لم تسترح أمى لتلك المجاملة، فالسنين علمتها أنها حتما ولابد ستدفع الثمن إن عاجلا أو آجلا، وهى لا ترغب أن أكون أنا الثمن، فهى تضحى بكل شىء فى سبيل المحافظة على وتعتبرنى أمانة ووديعة فى عنقها إلى أن يأذن الله ويرزقنى بابن الحلال الذى يصون عرضى وأنجب منه الصبيان والبنات.

كانت السيارة من الداخل واسعة ينساب فيها هواء بارد يرد الروح، كما أن مقاعدها وثيرة مريحة للغاية، شعرت بجسمى وهو يغوص بالمقعد بينما أمى لا تبدو سعيدة أو ممتنة، فقط كانت تتوجع وترجو عمر بيه أن يوصلها للبيت وهى تستطيع أن تتصرف، فحبايبها وجيرانها كثر ولن يتركوها، لكن نوبة الكرم أخذت منحنى عميقا من إثبات الذات والعنجهية والقدرة على فعل المستحيل وفتح كل الأبواب المغلقة وتحقيق الأمنيات البعيدة والتصرف كما لو كان ولى النعم وسيد الناس بإخلاص شديد.

وفى المستشفى التى تشبه القلعة المستديرة والمحصنة برجال الأمن فى كل المداخل والمخارج، وقف عمر فى ردهة الاستقبال ما إن نطق باسمه حتى اعتدلت الموظفة فى وقفتها وأمسكت بالهاتف تطلب الدكتور الكبير وفى لحظات كان واقفا بين يديه يستمع إلى حديثه كأنه أوامر، والغريب أنه لم تحن منه التفاتة إلى أمى صاحبة هذا المولد الاستعراضى، بل على العكس انتحى جانبا بعمر بيه قائلا:

– لو وصل الخبر إلى الصحافة سيكون هذا فى ميزان حسنات الوالد سعادة الباشا.

– أرجوك يا دكتور مش عايز ضجة إعلامية، الحاجة دى أنا باعملها لوجه الله.

– عظيم، تماما مثل سعادة الباشا.

ثم سار به بعيدا عن أعين الفضوليين، ولمحت ملامحه وقد غاصت فى قناع من الرهبة والخوف وقد لوح بيده كى يؤكد صدق ما يقول، بينما شخص عمر بيه بناظريه إلى اللاشىء ومط شفتيه فى ثقة والتفت إلى وحانت منه ابتسامة مشرقة وبدا كأنه صم أذنيه وأغلق عينيه على، وشعرت بقلبى وقتها وقد رفرف من النشوة الغامضة المجهولة، لكن على أية حال هناك من التفت إلى وجودى وآمن به أخيرا ولم أعد كتلة اللحم التى تتكوم كل ليلة على الكنبة البلدى تحملق فى سقف الغرفة وترى خيولا غريبة الشكل تجر عربات على شكل باذنجانة كبيرة تقطعها أمى فيما بعد جزلاً طولية وتقليها بالزيت ويتناوله أبى ليلة الجمعة، كما يحلو لى أن أحلم وعيناى مفتوحتان عن آخرهما، تتراص أمامى الفساتين والتنورات الملونة والأحذية ذات الكعب العالى والمدبب من الأمام وقد رصعت أصابعى بخواتم من الماس والذهب، لذلك لم أمانع إطلاقا أن ألتقط ورق السليوفان الذهبى الذى يبطن علبة سجائر أبى وأصنع منه خواتم من الورق وألف بها معظم أصابعى، وعندما تضبطنى أمى تضحك على وتهز رأسها فى حسرة وتقول لى فى حنان:

– اكبرى!

وأسأل روحى، لماذا على أن أكبر؟ ماذا ينتظرنى هناك فى الضفة الأخرى حيث يجلس الكبار وقد أمسكوا عقولهم المكدودة يحاولون تفريغها من كل شىء؟ وينظرون والأمنيات تتسع فى حدقاتهم الغائرة فى المقل المتعبة حيث الضفة الأخرى، حيث يتسابق الصغار وتتعالى ضحكاتهم صافية ويعلو شجارهم من أجل بالون ملون يخاتلهم ويخدعهم ويتطاير لفوق فوق حتى تتعب أعناقهم من التطاول ويشتبكون فى لعبة أخرى، يثيرون التراب بين أقدامهم ويتبادلون الحلوى الرخيصة فيما بينهم ويضحكون من القلب.

لذلك أخذت على نفسى عهدا صارما ألا أكبر وأتحدى منطق الجسد الذى يتطور ويرتقى ويتدور ويتشكل بالتدريج، تلحظه أمى وتشفق على من مواجهته وحدى، أما أبى فهو لاه عنى، كـأننى ذرات متناثرة تضايقه أحيانا بهواء الغرفة.

أخيرا جاء عمر بيه وبصحبته ممرضة راقية جدا تتحدث بلغة غير مفهومة، فهم عمر بيه المراد وهمس فى أذنى قائلا:

– ماما تعبانة ولازم تعمل عملية الزايدة حالا.

انتفضت أمى فى مكانها وقد سمعت همسه جيدًا:

– زايدة إيه يا عمر بيه.. أنت صدقت.. أنا زى الفل.. كان شوية تعب وراحوا لحالهم.. ينوبك ثواب توصلنا بيتنا.

– لأ يا سيدة.. أنت كدة بتنتحرى.. يا ستى أنا متكفل بمصاريف العملية وحساب المستشفى عندى.

وفى لحظات انشقت الأرض عن طابور من الأطباء والممرضات وقد أحاطوا بأمى التى غابت فيما بينهم وتلاشى صوتها الذى يشبة استغاثة قطة محشورة بين لوحين خشب، حتى غابت عن الأنظار وشعرت وقتها أننى ضائعة بدونها.

قال فى حنان لم أرتح له فى البداية:

– إيه يا قمر.. مش ناوية ترد لى الجميل.. قصدى يعنى الشقة اللى تضرب تقلب هناك ممكن تنضفيها، أصل عندنا ضيوف بالليل.

وانتظر أن أتكلم أو أتجاوب معه لكن هذا لم يحدث، فقام بجذبى من يدى كالبهيمة وركبت معه السيارة، وظللت أحملق فى الشوارع التى تجرى أمامى حتى أخرجت رأسى ولوحت بالإيشارب وانطلق صوتى بالغناء الساذج حتى ضحك وقال:

– عمرك أد إيه.. إلا بالحق اسمك إيه؟ عموما مش مهم.

– اسمى فاتيما.

– فاتيما.. ده اسم يجنن زى صاحبته.. تيجى نبقى صحاب يا فاتيما.

– زيى أنا ورضوى بنت عم ضيا.

– بالظبط يا قمر.. أصل أنا وحيد… يعنى تشكى لى وأشكى لك.. نحكى لبعضنا عن كل حاجة.

هززت كتفى وأنا لا أفهم ما يقصده، بالطبع هو لن يعرف يلعب الحجلى أو الأستغماية مثل نسمة ولا يعرف يلعب السيجا على مربعات البلاط بمدخل العمارة.

أتخيل أمى الآن وهى ممددة فى غرفة العمليات، حتى وهى غائبة عن الوعى بفعل البنج ستظل تفكر فى ويقتلها القلق على، يجب أن أكبر فى تلك اللحظة وأبرهن لها أننى لم أعد تلك الفتاة الساذجة الغافلة، والتى تغفل عن العجين كما تصفنى أحيانا مع أننا لا نملك عجينا ولا فرنا ولا حتى مرقا.

تملصت من يدى عمر بيه بقوة أذهلته وهو يحاول تقبيلى، ضحك وقال لى:

– إحنا مش صحاب يا فاتيما دلوقتى.

– بس الصحاب مش بيعملوا كده فى بعض.

– إحنا غيركم يا حبيبتى.. إحنا بنقدر الصحبية والحب والجمال.

لا أدرى لماذا هو يفعل ذلك ولماذا أغلق الباب بمزاليج متعددة أعلى الباب وأسفله، ثم أدار المفتاح فى الكالون واحتفظ به فى جيب سترته، لا أعرف ماذا على فعله فى ذلك الموقف، ولم تعلمنى أمى شيئا لكنها الفطرة والفرجة على الأفلام، يجب أن أقاوم وألا أسلم له جسدى.

قلت له:

– أنت عاوزنا نعمل عريس وعروسة.

– أخيرا فهم الحجر ونطق.. أيوه يا ستى وهاحلى لك بقك يا قمر.

سرت قشعريرة شملت كل جسدى وعجزت عن الحركة فى مكانى، ولم يرمش لى جفن وهو قد هم بتقبيلى فدفعته بيدى وقلت له فى شجن وحزن ورجاء:

– حرام.. حرام علينا نعمل عريس وعروسة واحنا مش متجوزين على سنة الله ورسوله.. أنا سمعت كده فى الفيلم اللى فيه الست فاتن حمامة و. . .

– بسيطة.. أكتب لك ورقة حالا أنك مراتى على سنة الله ورسوله.. مبسوطة يا ستى.

– طب وفستان الفرح والمعازيم والزينة وفرقة حسب الله.

– بعدين يا حبيبتى… المهم إنى هاكتب عليكى دلوقتى.

ثم أحضر ورقة، يبدو أنه شدها على عجل فتمزقت حوافها، وشرع يكتب ويقرأ بصوت مرتفع:

– أشهد الله أننى قد تزوجت فاتيما.. صحيح انتى اسمك إيه بالكامل؟

– فاتيما حامد عبد الفتاح وساكنة فى. . .

– كفاية عليا الاسم.. ده جواز مش رقم قومى.

– فاتيما حامد عبد الفتاح البكر الرشيد.. إلا صحيح أنتى بكر.. قصدى مادخلتيش دنيا قبل كده.

– يعنى إيه؟

– يعنى عمرك ما لعبتى عريس وعروسة مع حد غيرى.

– لأ والختمة الشريفة.. أمى تقطع رقبتى وأبويا يشرب من دمى.

– طب بكر وممكن أتأكد منها بنفسى.. بس حكاية رشيد دى واسعة عليكى شوية.

– قصدك إيه يا عمر بيه؟

– ولا حاجة.. وبعدين أنا خلاص كتبت كتابك وبقيت جوزك أمام ربنا، مافيش داعى تقول لى يا عمر بيه.

– طب مش لازم المأذون ييجى وأبويا يحط إيده فى إيدك.

– دى كلها شكليات يا روحى.

– وأمى.. دى حتما هتزعل مننا.. كان نفسها تعملى فرح كبير وتعلق الكهربا والزينة وتدعى عم صالح ومراته صبيحة.

– يوووه!

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات