المماليك ومبارك: السلطة والمجتمع والتاريخ

07:12 صباحًا الثلاثاء 20 نوفمبر 2012
د.خالد عزب

د.خالد عزب

مدير المشروعات الخاصة، مكتبة الإسكندرية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

التحدي الحقيقي في أعقاب كل حرب هو اكتساب شرعية جديدة من المجتمع غير شرعية الحرب، فبانتهاء هذه الحرب وشرعية الحكم باسمها، لا يقبل المجتمع استمرار الحكم بنفس الأساليب والأدوات، بل يطلب أن يصبح فاعلاً في الحكم مشاركاً في اتخاذ القرار، فالأشرف خليل الذي حرر عكا وأنهى الوجود الصليبي في بلاد الشام، أنهى فترة من الحكم المملوكي كان الانتصار العسكري فيها هو مبرر السلطة للاستمرارية، وبحرب أكتوبر ومعاهدة السلام ثم مقتل السادات كما قتل السلطان المملوكي الأشرف خليل، بدا وكأن مصر في حاجة جديدة لشرعية بعيداً عن شرعية 23 يوليو، فحسني مبارك لم يكن هو الأب المؤسس لدولة 23 يوليو على غرار جمال عبد الناصر ذا الشعبية الواسعة، وكذلك الناصر محمد بن قلاوون لم يكن هو الأب المؤسس بل امتداد لحكم أبيه العسكري المنصور قلاوون صاحب الشعبية الكبيرة لدى المماليك والشعب المصري والأب الحقيقي المؤسس لدولة المماليك البحرية في مصر.

حكم الناصر محمد بن قلاوون مصر في أعقاب مقتل أخيه الأشرف أربعين عاماً، لم يستطع أن يستوعب التغيرات الاجتماعية في مصر، كما حكم حسني مبارك مصر ثلاثين عاماً، وكلاهما استمر في السلطة لتوازنات ما يسمى بالاستقرار، فقاد حسني مبارك نهايته بيده، وأدى الناصر محمد دوراً دفع مصر نحو احتلالها من قبل الأتراك.
هنا قراءة التاريخ تقودنا إلى أوجه شبه كبيرة، سيطر الناصر محمد والمماليك على الحياة السياسية في مصر، وساهم الأعيان (العائلات ورجال الأعمال) في حكم مصر المملوكية والسيطرة المشتركة على المجتمع، فأدى الأعيان خدمات جليلة للحكم المملوكي، ونسقوا حكم المجتمع في المستويات الأكثر تعقيداً، ووظفت ثروات التجار في أداء خدمات مجتمعية تكسب نظام المماليك شعبية واستقراراً، فكان التجار يبنون هم وأمراء المماليك منشآت خيرية لخدمة المجتمع (لاحظ تبرعات رجال الأعمال لمشروعات سوزان مبارك كمشروع مدارس الفقراء والمستشفيات) لم يكن المماليك أهل سلطة وسياسة فحسب بل شاركوا الجار في التجارة، فكان التجار يعقدون الصفقات نيابة عنهم خاصة في تجارة التوابل القادمة من الهند لأوربا، وساعدت سلطة المماليك بعض التجار في عمليات احتكار واسعة (جمال مبارك – أحمد عز) ووصل الأمر بالتجار إلى بيع الخنازير والخمور من مصر لتجار أوربيين منتهكين المحظورات الدينية الشديدة في العصور الوسطى.
قادت العلاقات الوطيدة بين الصيارفة في مصر المملوكية إلى ما هو أكثر، أدى الصيارفة خدمات جليلة للمماليك كالتحكم في سعر الصرف للعملات، وجباية الضرائب والمبادلات النقدية فضلاً عن تثمير النقود أي استثمارها، وأكثر الحالات لفتاً للانتباه هي حالة تاج الدين الأرمني الذي أصبح حاكم قطيا، وهي المركز المصري للجمارك على الحدود السورية. كان والده أرمينياً مسيحياً اعتنق الإسلام في القاهرة، فصار من كبار الصيارفة، وتابع تاج الدين عمل أبيه، وتولى وظائف منها حاكم قطيا، (لاحظ توزير رجال الأعمال في حكم مبارك). ظهر في عصر المماليك وظيفة جديرة بالتأمل هي تاجر ثروة السلطان السرية، ذلك المركز الذي شغله إسماعيل بن محمد الذي حظي بلقب خواجة، وهو لقب تشريف يطلق عادة التجار الذين هم في الخدمة الرسمية.
كان للعلماء ذراع كبير في توازنات القوى في الدولة المملوكية، فهم من يحفظون هدوء العامة، ويلعبون دور الوسيط في أثناء الثورات، فكما منحوا المجتمع درجة من التماسك، ساعدوا على منح السلطة درجة من الشرعية، وظف المماليك العلماء لديهم، فقد أنشأ المماليك مدارس ومساجد كانوا يمنحوا العلماء العاملين فيها رواتب كبيرة، فأصبح هؤلاء في خدمة السلطة بصورة غير مباشرة، وساعد نظام الأوقاف على هذا، ولم ينجوا من ذلك غير الأزهر بأوقافه الأهلية فصار للعلماء العاملين فيه درجة من الاستقلالية عن السلطة، لذا فإن قيام المماليك بإحاطة الأزهر بمنشآت تعليمية كالمدرسة الطيبرسية والأقبغاوية ووقف وقفيات على الأزهر، كان الهدف منها السيطرة على هذه المؤسسة الدينية، وهو نفس ما حدث من محمد علي حين صادر أوقاف الأزهر، أو حينما أحكم جمال عبد الناصر قبضته على المؤسسة الأزهرية، أو حينما أحكم جمال عبد الناصر قبضته على المؤسسة الأزهرية، أو حينما اختار مبارك طنطاوي غير المشاكس شيخاً للأزهر في أعقاب الشيخ جاد الحق علي جاد الحق القوي الشخصية.

كان تدخل العلماء لدى السلطة حاسماً في بعض الأحيان لرد مظالم كثيرة، غير أن الشائع لدى أهل مصر في العصر المملوكي هو براءة السلطان من الفساد والظلم، وكان غالباً ما يذهب أحد كبار موظفي الدولة ضحية أمام الرأي العام الثائر ليبرأ السلطة من فساد شائع، غير أن السلطة المملوكية كانت تضج من كثرة شكوى الجماهير من الفساد، فقد جاء فريق من الحائكين يشكو إلى السلطان شراء النطرون بالإكراه، فجرت معاقبتهم وطوفوا في شوارع القاهرة للتشهير بهم وليكونوا عبرة لغيرهم، فما كان من عامة الجماهير إلا أن قذفوا المماليك وحرروا الحائكين من يدهم، لكن في أحيان كثيرة كانت سلطة المماليك تضطر للتضحية بأحد أعضائها، أو حتى بقطع رقبته ومصادرة أملاكه، المهم في هذه اللحظة هو تبرئة السلطة من تصرفاته.
في العام 770 هجرية / 1368 ميلادية تجمهر أهل القاهرة خارج قلعة صلاح الدين في ميدان القلعة (يوازي ميدان التحرير اليوم) مطالبين بأن يسلم لهم حاكم القاهرة وغيره من الفسده، ففرقتهم فرق المماليك من غير شفقة ولا رحمة، وحاصروا الناس في مدرسة السلطان حسن المواجهة للقلعة، ومع تأزم الموقف أرسل السلطان أحد أمرائه ليتفهم مطالب المحاصرين في مدرسة السلطان حسن، لكنهم رشقوه بالحجارة، ومع تأزم الموقف اضطرت السلطة لعزل حاكم القاهرة. هكذا نقرأ فصول من تاريخ مصر.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات