مأمون فندي يكشف خدعة القرن ومزمار قطر

09:03 صباحًا الأربعاء 14 أغسطس 2013
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

د. مأمون فندي

المحرر: حين يحكي د. مأمون فندي عن السياسة، فهي ملعبه، وعندما يتناول قضايا الشرق الأوسط، فهي مجاله، وإذا داعبنا لغويا في رسائله القصيرة والماكرة على شبكة التواصل الإجتماعي فهو يستدعي حسه المصري الفكاهي، الذي لم يتركه، وهو  أستاذ للعلوم السياسية  في جامعة جورج تاون، أو مدير برنامج الشرق الآوسط وأمن الخليج بالمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن. تأتي أهمية كتابات المحلل السياسي الكبير من أنها خبرات شخصية، وقدرات معرفية، فهو لم يطلع علينا فجأة كما عهدنا اليوم من وجوه كثيرة تقفز على الشاشات أمامنا. لذلك جاء مقاله الأخير يحمل تلك السمات معًا: التحليل الشامل والإحاطة المعرفية والسخرية المرة التي تدعونا للاستيقاظ، خاصة حين يحكي في مقاله بجريدة (الشرق الأوسط) عن مأساة ملهاة نعيشها ليل نهار:

 

 

 

هذه قصة تطاردني منذ صغري، كلما تذكرتها تملكني خليط من الضحك والبكاء معا، بعدها احس بذنب وخجل شديدين، هذه هي اول مرة احكيها لما فيها من كشف لاسرار عالمي في مجاهل صعيد مصر، كنت اخشى ان يكرس الصورة النمطية التي تتبناها الافلام عنا.

القصة ببساطة تتلخص، في اننا ـ في قريتي ـ قوم نحب الطرب، وما من اسبوع مرّ الا وفي القرية «طبل بلدي» او مزمار، ينصب له التخت او خشبة مسرح مفتوح، تتراص عليه عشر من بنات الحلب والنور اللاتي نسميهن بالغوازي، ويطلق عليهن اهل الشمال مسمى الراقصات، بنات باسقات نحيفات الخصر وطويلات مهوى القرط، اذا ما اهتزت اجسادهن حركن في القرية كل رغبة مكنونة وجموح دفين محرم.

حفلات زفافنا وطهورنا لا تتم الا بعشر من الغوازي وبالطبل البلدي، تلك ليال تعلق فيها التقاليد لليلة، يسمح فيها بالمحظور من شراب وتدخين، ليلة من الطرب المتفلت تلفظها عادات القوم في الايام العادية.

واذا ما مر اسبوع او اسبوعان دونما طرب او حفل زفاف او طهور، كانت هناك جماعة تتبرع باقامة حفل عام وتأتي بالراقصات والمزمار وكذلك بالشراب، وكان يطلق على هذه الليلة «طبل الجمهورية»، ولم نعرف لماذا يطلق على ليلة الحفل هذه ليلة الجمهورية، لكنها ليلة معروفة انها بلا صاحب، تشرب خلالها ما اردت دونما ان تغرم شيئا، ويمر اعضاء المجموعة هذه بين الصفوف ليعطوا من لم يطرب بعد اما سيجارة او مشروبا، وما ان تصل الحفلة الى منتصف الليل حتى تجد معظم القرية في حالة طرب وانشراح، ليلة ترتخي فيها صرامة العادات والتقاليد.

يخلد الناس ليلة طبل الجمهورية الى النوم مع شروق شمس اليوم التالي، ومتى ما اصبحوا عم القرية الصراخ وعلت صيحات الجميع معلنة «اتسرقنا».. منهم من سرقت منه الماشية ومنهم من سرقت حلي زوجته من داره، وكانت دائما اصابع اتهامهم تشير الى رجال القرى المجاورة، لم يشكّوا ابدا في ان من قام بهذه الخدعة الكبرى نفر منهم.

تذكرت تلك الحادثة السنوية وانا اشاهد عملية الخداع الكبرى التي تمارسها قناة «الجزيرة» (مزمار قطر)، وهي «ترقع بالصوت الحياني» ضد الامريكان على الشاشة في الوقت الذي تبنى فيه اكبر قاعدة امريكية في الشرق من خلف مبنى القناة، ولن يسمح احد بأن تتهم «الجزيرة» بالخداع طالما انها تبيع للجمهور مخدرات السكرة الكلامية.

اذكر ان رجلا متعلما في قريتي تجرأ ذات مرة وقال لكبير القوم انه يشك في تلك المجموعة التي نظمت الحفل وشاركت في عرض الطبل البلدي على انها وراء السرقة وعملية التضليل التي سبقتها، فهم الذين كانوا حريصين على تضليل الكل، اما رقصا على التخت او بمنح الناس شرابا مجانيا، اضافة الى ذلك، كانت تلك المجموعة تدفع اجور الراقصات والطبالين ونافخي المزمار. ما ان تفوه الرجل باتهام هذه المجموعة بالخداع والتضليل والسرقة والنصب حتى هب كبير القرية في وجهه:

«هو ده آخرة علامك، تشكك في اهلك، وتتهم الاخ بسرقة مال اخيه؟!».

ورغم ان ما قاله الرجل المتعلم كان هو الحق، الا ان احدا من اهل القرية لم يصدقه واتهموه بأنه يزيح الجريمة عن اصدقائه من البلدان المجاورة، ولكن كانت بالقرى المجاورة ايضا عروض اخرى على طريقتهم وربما نظمت للتضليل والسرقة ايضا، كانوا يتهموننا وكنا نتهمهم، ولم يجرؤ احد منا على الاعتراف بان اللصوص والنصابين كانوا منا، لاننا نفضل الطرب على الحقيقة.

وليتها حدثت مرة واحدة، فما من عام يمر الا ونصب «طبل الجمهورية»، وبعد ليلة من الطرب تصرخ نساء القرية «اتسرقنا» ويتكرر الاتهام دون ان يخالجهم ادنى شك في منظمي الحفل، لأن قومي كان يستخفهم الطرب وتستفزهم شهوة الغوازي، فينطفئ سراج بصيرتهم، وكانوا في ضلال وتضليل مبينين. المهم عندهم هو انهم طربوا وكانوا في نشوة تملأها السذاجة والغفلة، غير مدركين بما يحاك لهم وهم سكارى.

تسيطر عليّ قصة الصبا هذه كلما شاهدت ما تبثه قناة الجزيرة مقابل ما تفعله دولة قطر.

مزمار قطر المسمى «الجزيرة» يقدم لنا عرضا للطبل البلدي بالضبط مثل الذي كان يحدث في قريتي، فتخرج علينا الغوازي سافرات يستثرن فينا شهوة الكلام لتلهينا عن سرقة القرية (الوطن العربي هنا)، اذ بدأ مشروع سرقة القرية مع اول دقة مزمار، فليس مصادفة ان اول ضربة فأس لبناء قاعدة العديد الحربية التي بها اطول ممر للطائرات في الشرق، ليس صدفة ان بداية الحفر والبناء في القاعدة، كانت في اول نوفمبر عام 1996، وهو نفس اليوم الذي خصصت فيه ميزانية اطلاق قناة «الجزيرة»، التي اصبحت تكاليف عملية التضليل، والالهاء والسكرة الكلامية، ليبدأ الفيلم الهابط او الطبل البلدي، ومزمار قطر، وتصعد الغوازي على المسرح «لزغللة» عيون الشارع العربي وابعادها عن رؤية ما يحدث خلف الجزيرة في قاعدتي العديد والصالحية، حيث تتم في هاتين القاعدتين اليوم، وانت تقرأ هذا المقال عزيزي القارئ، اول مناورة تحت اشراف الجنرال تومي فرانكس لاسقاط نظام صدام حسين بطائرات تنطلق من القاعدتين ذاتهما.

ولن تخبرنا «الجزيرة» بما يحدث تحت اقدام مذيعيها وخلف مبنى المحطة، فقط ستقدم لنا وصلة تحض على التطرف، ووصلة اخرى تربط اهالي غزة بالقاعدة وخطابا للملا عمر. ستبيع «الجزيرة» للعرب مزيدا من الوهم، ليتعرض اهل القرية الواسعة المسماة بالعالم العربي الى اكبر عملية نصب في بداية القرن. ستمتعنا «الجزيرة» بوصلة لاحدث اشرطة البرنو السياسي المخلة بالآداب «للشيخ اسامة»، وتظهر راقصات من مصر والمغرب وبلاد الشام، كل يقدم وصلته في العرض المضحك المبكي الذي يهدف اولا واخيرا الى خلط فلسطين بكينيا ببلاد الافغان، وكله بدعوى الدفاع عن العرض والارض. والكل يؤدي دوره في اكبر حملة تضليل لسحب الغشاوة على العيون.

رقص على مسرح «الجزيرة» يذود عن الارض والعرض على الشاشة ويتوسل خلف مبنى «الجزيرة» حيث تبنى القاعدة العملاقة. يقدمون عرضا يلهي الجمهور عن بناء القواعد وتدشين المعدات، وبينما جمهور «الجزيرة» المتحمس فضائيا في سكرته الكلامية ونضاله من وضع الارتكاز على المؤخرة، تمر البوارج ويمر الاسطول الخامس كله، وبينما الطبل البلدي في قمة الطرب، تباع القرية كلها.

ولن يختلف عرب «الجزيرة» عن اهل قريتي، فلن تشير اصابع اتهامهم الى الغوازي والقائمين على الحفل، وزمرة «رقصني يا جدع» ستشير باصابع الاتهام الى الدول المجاورة. واذا ما تلفظ احدنا وقال ان ما نشاهده هو اكبر عملية تضليل في هذا القرن، خرجت علينا راقصات التخت والغوازي «بعشرة ردح» من كل مكاتبها في واشنطن والدوحة والقاهرة وحتى الارض المحتلة وباكستان، خرجت علينا الغوازي واعضاء فرقة العرض اما لتتهمنا نحن بالغباء او تشير بالاتهام الى المؤامرات من الدول الاخرى، المهم بالنسبة للغوازي في افراح قريتنا هو حصولهن على اجورهن ولتحرق القرية بمن فيها.

طائرة إف ـ 15

وبينما يقدم الاتجاه المعاكس للجمهور وصلة الهاء تمر من خلف «الجزيرة» طائرة إف ـ 15 مقلعة من قاعدة العديد، ليس هذا وحسب، فهو لن يرى الطائرة فقط، بل يستطيع من نافذة حجرته ان يقرأ رقمها المسلسل.

بالطبع لن يعني قولي هذا شيئا بالنسبة لجماهير العرب الهائجة والمنتشية بسكرتها الكلامية، فهم في حالة طرب لان العرض الذي امامهم هو عرض ساخن، تتدافع فيه الراقصات والغوازي على تقديم وصلاتهن، وتنهمر السجائر غير القانونية على المشاهدين، ويتبع ذلك بفيلم من نوع البرنو السياسي «للشيخ أسامة»، ومزمار قطر ناصب منذ اول ضربة فأس في بناء قاعدة العديد، وبدلا من ان نشاهد عملية اكبر بناء لأهم قاعدة في الشرق الاوسط وجنوب آسيا، يشد انتباهنا بعيدا نحو وصلة رقص في «الاتجاه المعاكس» ويستمر العرض «بلا حدود».

مثل اهل قريتي سيستيقظ العرب من سباتهم بعد ان غطوا في النوم ليعلنوا بصوت عال «اتسرقنا»! وتشير اصابع اتهامهم الى القرى المجاورة.

ومثلما شاهدت سرقة القرية واهلي في سكرة الطبل البلدي، اشاهد الآن عرضا على اوسع يشمل المنطقة العربية بأسرها، وسيظل موقفي هو نفس الموقف الذي تبناه الرجل الناصح الذي لا يصدقه أهله، ذلك لأنه يشير باصابع الاتهام الى اهل القرية انفسهم، ويبقى شعوري هو نفس الشعور، ضحك مخلوط بالبكاء وكثير من الخجل، لان ما يحدث خلف جدران الجزيرة «سري للغاية».

(نقلا عن جريدة الشرق الأوسط)

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات