محاولة في نقد الماركسية بالاستناد إلى مفهوم الاغتراب

07:27 صباحًا الثلاثاء 20 نوفمبر 2012
أمير الغندور

أمير الغندور

كاتب من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مفهوم الاغتراب هو الجسر الذي مكن ماركس من مد تفكيره الفلسفي من المجال الأنطولوجي إلى المجال الاجتماعي التاريخي . ولذا يمكن درس مآلات الماركسية وتطوراتها .. بفهم مآلات مفهوم الاغتراب داخل الماركسية ..

 فمفهوم الاغتراب .. يحتوي على أبعاد أنطولوجية هامة لدى فيورباخ .. تعني أكثر مما قصره ماركس عليه فيما بعد .. فالاغتراب يعني أكثر من مجرد اغتراب العامل في بيئة العمل .. ويعني أكثر من مجرد ما يتعرض له العامل المنتج من مظالم في بيئة السوق .. ويعني أكثر من اغتراب المواطن وذوبان حقوقه الفردية داخل جماعية الدولة .. وهي “الاغترابات” التي اقتصر ماركس عليها .. بأن ضيق مفهوم الاغتراب فيها .. بعد أن كان واسعا لدى فيورباخ.

فقد كان مفهوم الاغتراب لدى فيورباخ أوسع كثيرا مما هو لدى ماركس .. وهنا يبرز السؤال: لماذا “ضيق” ماركس مفهوم الاغتراب .. إلى أن انتهى بأن سكت عنه تماما في أعماله الأخيرة (وفقما يلاحظ ألتوسير بحق) ؟؟

 الاغتراب .. كما في أصله الفلسفي .. هو “حالة” تنتمي إلى أصل الوجود نفسه .. أي أنه يتعلق بمجال الأنطولوجيا .. التي لا يؤثر فيها التاريخ .. بل فقط تتنوع أشكالها بحيث تمثل “حالة” أو وضع لاتاريخي مستمر .. لكنه غيرقابل للإلغاء لكونه لا يتعلق بالشروط الاجتماعية والتاريخية .. التي يطالها التغيير بحركة التاريخ .. بل يتعلق بالشروط الوجودية الأنطولوجية نفسها.

 إن تضييق ماركس الشاب لمفهوم الاغتراب .. ثم تخلي ماركس المتأخر عن مفهوم الاغتراب .. إنما يأتي نتيجة لإحساسه بأن مفهوم الاغتراب (بمدلولاته الأنطولوجية الأصلية) .. أصبح لا يخدم بالمرة فلسفة الثورة (التي يدعو إليها ماركس) .. والتي يجب أن تتم وتتحقق (الآن وهنا) داخل مجال البراكسيس التاريخي .. وتحديدا في اللحظة الرأسمالية المعاصرة له ..

 وهنا ظهر التناقض الخطير داخل الماركسية .. بين الفرضيات الأنطولوجية الفوق تاريخية .. وبين متطلبات العمل الثوري داخل لحظة محددة في التاريخ ..

 ذلك أن مفهوم الاغتراب .. هو مفهوم ينتمي إلى مجال الوجود الأنطولوجي الذي لا يتأثر بالتاريخ .. بينما ينتمي مفهوم الفعل الثوري .. إلى مجال البراكسيس العملي التاريخي ..

 وبهذا .. فإن أي محاولة لإلغاء أو “تجاوز” أو تحييد حالة الاغتراب .. لابد لها أن تتطلب إجراء تغيير على الشروط الأنطولوجية ذاتها .. وليس فقط إجراء تغيير على الشروط التاريخية والاجتماعية ..

وبذلك فإن محاولة تجاوز الاغتراب وإلغاؤه .. هي مسألة تستدعي إلغاء وتجاوز أحد شروط الوجود الأنطولوجي اللاتاريخي ذاته .. وهذا يعد لدى أغلب الفلاسفة .. في عداد المستحيل ..

 الأكثر من هذا هو .. إن محاولات إلغاء وتجاوز مفهوم الاغتراب .. انحصرت في الفلسفة الماركسية المتأخرة .. على إحداث التغيير في مجال البراكسيس التاريخي تحديدا ..

 وهنا تظهر عبثية الفعل الثوري الماركسي .. لأن كافة النشاطات أو حتى الطفرات التي يمكن أن تتم داخل مجال البراكسيس التاريخي .. لا يمكنها بالمرة إحداث أي تأثير فعال .. على حالة الاغتراب التي تنتمي إلى مجال الوجود الأنطولوجي .. الذي هو فوق تاريخي وفوق اجتماعي بالأساس ..

 لذا فالظن الماركسي .. بأن إحداث الثورة أو التغيير داخل مجال البراكسيس التاريخي .. قد يمتد أثره إلى إنتاج أو إحداث أي تغيير مواز في مجال الأنطولوجيا اللاتاريخية .. أو أنه قد يؤدي إلى إنهاء وإلغاء حالة الاغتراب الإنساني (التي بدأ ماركس بالاتكاء عليها) .. هو بالضرورة ظن خاطئ .. بل يكاد يكون محاولة عبثية .. ناجمة عن عجز عن فهم علاقة التبعية الهيكيلية بين المجال الأنطولوجي ذي الأولوية التحتية .. وبين البراكسيس ذي التبعية الفوقية ..

 ولهذا السبب .. كان لابد لماركس أن يتخلى سريعا عن مفهوم الاغتراب .. لأنه أصبح يحيل إلى مجال أنطولوجي .. هو بالأساس وبالتعريف .. خارج قدرة ومجال وتأثير أي فعل ثوري يتم على مستوى البراكسيس التاريخي ..

 وبذلك أصبح مفهوم الاغتراب .. بالنسبة لماركس بمثابة جسر يتوجب إحراقه .. بين الأنطولوجيا وبين التاريخ .. وذلك حتى يتسنى لماركس التفرغ لتصعيد الفعل الثوري اللحظي داخل مجال البراكسيس التاريخي (هنا والآن) .. متوهما أن هذا الفعل البراكسيسي .. قد يؤدي إلى إحداث أي تغيير حقيقي مواز داخل المجال الأنطولوجي .. بحيث يلغي أو يتجاوز حالة الاغتراب .. وهو ما ثبت خطأه .. بل واستحالته ..

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات