نساء نجيب محفوظ وتعددية علاقاتهن مع الرجال

04:23 مساءً الإثنين 9 سبتمبر 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يبدو عالم نجيب محفوظ من الخارج ابعتباره عالما رجوليا فى المقام الأول، يسيطر عليه الرجل بعنفوانه وثروته وسطوته، فى الوقت نفسه الذى تتوارى فيه مكانة المرأة، الا أن المتأمل للعالم المتسع فى روايات نجيب محفوظ فسوف يلاحظ بسهولة  أنا مثلما تعددت صورة الرجل، ووجوده فإن المرأة أيضاً موجودة بنفس الدرجات والتعدديات، فإذا كان الرجل حاضرا، أيا كان شكل الحضور، فإنه حيث ينزرع الرجل، تتواجد المرأة فى المقابل، بصور أخرى، ولكنها من ناحية المكانة والعدد، قد تكون أكثر حضوراً، وعددا من الرجال، وهذه السمة موجودة فى أغلب روايات محفوظ، التى كتبها منذ عام 1945، وهى “فضيحة فى القاهرة” وحتى أعماله الأخيرة.

وبشكل عام فإن كلا الطرفين لا يعيشان بمعزل عن بعضهما، فحيث يوجد الرجل، فإن المرأة تبقى حاضرة فى المكان نفسه، وايضا الزمن، وفى هذه الروايات فإن الاثنين يشكلان كيانا وسوف نلاحظ أن الطرفين موجودا فى اطار أسرة، أو علاقات اجتماعية أخرى.. وسوف نتوقف هناك عند الصورة المتعددة التى ظهرت بها المرأة فى هذا الابداع، ابتداء من سيدة الدار، إلى المرأة العاملة والصحفية، والخادمة، والفنانة، والعشيقة، والزوجة، والابنة.

أولاً: الرجل فى أعمال نجيب محفوظ، من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات، وهو الكائن الأول المتميز فى هذا الكون.. موجود فى كل الابداعات بقوة ملحوظة، تتعدد أشكاله، من خلال تجربة الكاتب وسعة عالمه، فهو الرجل المرتبط بالمكان الذى جعله المؤلف يعيش فيه، حوارى الجمالية وأزقتها، والمناطق المحيطة بها غالبا، وهو قليلا ما يبتعد عنها، ونادرا ما يفكر فى الخروج منها، حتى اذا فعل، وحاول التمرد، ومعرفة أماكن أخرى، فإنه سرعان ما سوف يعود، والا حلت عليه لعنة المغادرة، وذلك فى كل من “زقاق المدق” و”خان الخليلى”، و”الثلاثية”، و”الحرافيش”، وقد حدث ذلك ايضا لأبطال رواياته الأخيرة، ومنها “عصر الحب”، و”الحرافيش” و”قلب الليل”.

وسوف يتبع هؤلاء الرجال، من خلال تعددهم، وسماتهم، ورغبتهم فى مغادرة المكان، المؤلف الذى صار يقضى بضعة اسابيع من الصيف فى الاسكندرية فانتقل الرجال فى رواياته إلى هذا الشريط المحدود من الثغر، الذى لم يتعرف محفوظ فى الحياة على سواه، وهو الكورنيش الذى دارت عنده أحداث روايات منها “السمان والخريف” على سبيل المثال.

وقد تعامل هؤلاء الرجال مع المكان، حسب علاقاتهم به، ولأن الرجل هو كل شىء، فإنهحيث يذهب تكون هناك امرأة ما، أو أكثر.. تربطه بالمكان، وتتواجد معه.. وهذه المرأة ليست بينهن تقريبا واحدة تشبه الأخرى.. لكل منهن هويتها، وسماتها، وهى تتواجد فى حياة الرجل حسب قوة علاقتها به، تبتعد عنه، وتلتصق به، كل حسب مشاعرها، أو مصالحها، وقد بدت هذه المرأة متعددة الوجوه.. حسب الزمن الذى تعيش فيه، والمكان الذى تتواجد فيه، وأيضاً حسب قوة علاقتها بالرجل.

فإذا كان الرجل كل شىء فى روايات، وابداع الكاتب، وإذا كان للرجل وجوه متعددة وكثيرة داخل كل رواية.. فإن المرأة ايضاً هى كل شىء.. لا يمكن للرجل أن يستغنى عنها، بل قد تبدو محور حياته كلها، مثلما قرأنا فى “السراب” ، و”زقاق المدق”، و”الطريق”، “السمان والخريف” وبالطبع “خان الخليلى”، والاستثناءات قليلة للغاية لا تكاد تذكر.

حينما حل أبطال هذه الروايات بزغت المرأة من نافذة، أو فى شارع، أو فى الطريق، فشدت انتباه الرجل، وتجسدت فى مخيلته، وأمامنا من أعمال الكاتب نموذجان لامرأة واحدة، هى فتاة فى مقتبل العمر، كانت سببا لهوس الشخصية الرئيسية، وملكت عليه حياته، وفى هاتين الروايتين، رأينا مصير الرجل يتغير بقوة بعد أن تظهر المرأة فى حياته.. الأولى هى نوال فى “خان الخليلى” تسكن فى منطقة الأزهر، حيث ستأتى أسرة عاكف بولديها، والأب والأم، للسكن هربا من غارات القوات الألمانية فوق القاهرة فى سبتمبر 1941.

ونوال هذه هى محور الأحداث، هى تلميذة فى المدرسة، تسكن فى الشقة المقابلة، ورغم أن الكاتب يؤكد على بطله أحمد عاكف ويتتبع مسيرته، فإن نوال موجودة، كأنه عاش كل هذه الحياة التى يسردها علينا نجيب محفوظ من أجل أن يلتقى بها، ويحبها، دون أن تحس أبداً بمشاعره نحوها.. ارجل الذى يبلغ الأربعين، حصل على البكالوريا عام 1921، وأدمن القراءة ادمانا قاتلا، ولم يكمل تعليمه، لكنه استوعب نيوتن، واينشتاين، هو رجل تقليدى، يعيش مع والديه، وأخيه رشدى الذى يختلف تماما عنه.

وعلاقة أحمد عاكف بالمرأة واهية للغاية، هى قصص حب من طرف واحد، فنحن نعرف أنه قد أحب فتاة يهودية حسناء، دون أن تحس به، خطبها شاب من بنى جنسها.. هى اذن علاقات مقطوعة الاتصال بالطرف الآخر.. الذى لا يكاد يحس به، ويكاد هذا النموذج يذكرنا بآستنباخ فى رواية “الموت فى فينسيا” لتوماس من.

سوف يظل المؤلف يحكى لنا الرجلين، حتى يلتقيا، أو يصطدما دون قصد، عند نفس التلميذة فالرجل الذى تجاوز الاربعين يعتبر أن مقهى الزهرة هى منتهى المكان الذى يذهب إليه.. كما يعرف المزيد من المعلومات حول نوال، التى تعيش مع أخيها ووالديها، أما أختها احسان فقد تزوجت، وبالتالى فإننا لم نتعرف عليها، لقد سبق لأحمد أن رآها فى النافذة وهى تطرز، ولفتت نظره ما إن ظهرت نوال فى محيطه، حتى تغير، فهو يرتدى الجلباب النظيف، ويضع طاقية على رأسه لاخفاء الصلعة، ويقررأن يحلق ذقنه كل يوم، ويبدى اهتماماً بنوال، وكما أشرنا فإنه اذا كان الرجل موجودا فالمرأة أيضاً حاضرة.

فيما بعد، وبعد أن يظهر أخوه الشاب رشدى، فإنه لن يعرف قط، أن الاخ قد وقع ايضا فى هوى التلميذة، وبحكم علاقاته النسائية فإنه تتبعها، وكان أخوها بصحبتها، وركب معهما الترام، وبدأ يلقى شباكه عليها.

وفى الرواية، سلط محفوظ الضوء على بطلته من خلال فصلين، وذلك بعد أن صارت المحور لمشاعر كل من أحمد ورشدى عاكف نحوها، لقد صور الكاتب علاقتين متناقضتين ازائها، الأخ الأكبر يرقب، ثم يفكر فى كتابة رسالة، أما الأصغر فهو يغازل، ويتقرب فتنشغل به، مما يصدم الرجل تماما، أما رشدى فيقول لها “النظرة الأولى تكفى لاكتشاف من تربطهم بنا صلة روحية عسى أن تصير الحب نفسه.

ويكفى هذا الجزء من الرواية لنكتشف أن الرجل هو الموجود الأول فى روايات الكاتب، لكن المرأة أيضاً موجودة، حتى وإن كانت أداة.. أى أنها مطلوبة كى تكون محبوبة، ونحن نعيش فى عالم صغير محدود، فلا نكاد نعرف صديقات لنوال، أو هوايات، هى فتاة قابلة أن تكون محبوبة الشقيقين.

أما الرواية الثانية، فهى “السراب” التى تدور على لسان كامل رؤبة، هو أقرب إلىأحمدى عاكف فى أنه “يبص” اكثر مما يتكلم، هو بالغ الخجل والحياء.. كأنه استنباخ آخر.. نحن هنا غالبا أمام بطل واحد، يحب، ويتأمل، ويتزوج، إلى أن يظهر الطبيب مثلما ظهر رشدى.. انه عالم صغير تماما، لقد ترك كامل الجامعة إلى لا عودة، حيث هرب من الأستاذ الذى طرح عليه سؤالا لم يستطع معرفة جوابه، كما أن الطلبة ضحكوا ساخرين عندما سمعوه يردد اسمه كامل لاظ رؤوبة، هو أيضاً شاب مثقف، يلجأ إلى الكتابة مضطرا. لعبت أمه دورها فى أن تعزله عن العالم من حوله، هو عالم غير متعدد بالمرة.

وفى حياة كامل ثلاثة نساء، أمه، ورباب، والمعلمة، الأم مصابة فى صميم أمومتها، وهى التى مات زوجها، يشكو الابن منها انها شديدة الالتصاق به كرست حياتها جميعا له، ينام فى حضنها مهما كبر فى السن، يقضى نهاره على كتفيها أو بين يديها، “أأظل الدهر فى حجرها كأننى عضو من أعضاء جسدها.. لذا فإن الأم تحبسه داخل عواطفها، لا تريد به أن يتزوج، ورغم أن كامل يعيش فى صومعة أمه، فإنه يلتقى أباه، بين فترات بعيدة، وأيضاً أخاه كامل.

أما المرأة الثانية رباب، فقد رآها فى ترام المنيل الذى يتجبه به إلى الجامعة المصرية، كانت فى الشرفة، يصفها بدقة بعد أن خلبت لبه، انه الحب من النظرة الأولى، مثلما حدث لبطلى “خان الخليلى” لذا، فإن كامل قد وقع فى غرامها من طرف واحد، وظل يتتبعها لعدة أيام، وصارت جزءا من حياته.

هذا هو ما حاولنا التأكيد عليه فى هذه النقطة، انه حيث يوجد الرجل.. تتواجد ايضا المرأة أو العكس، وان المرأة هنا أداة للحب.. خصوصا أن الحب فى أغلبه من طرف واحد، ثم يمكن أن تصير وجودا له أهميته لا يمكن الاستغناء عنه.

ثانيا: لكل رجل من الشخصيات الأساسية فى روايات نجيب محفوظ.. امرأة، أوجدها الكاتب له، كى تكون أساسيا فى حياته، وفى الكثير من الأحيان هناك أكثر من امرأة فى حياة بعض الشخصيات فى روايات مثل “اللص والكلاب” و”السمان والخريف” و”بين القصرين” و”الطريق” هذه الملحوظة سوف نتناولها بالتفصيل فى الملحوظة السادسة.

لكننا سوف نتوقف هنا عند وجود امرأة فى مقابل وجود كل رجل فى هذه الروايات، وجود هذه المرأة بالغ الأهمية، وكما رأينا فى أولا، فإن كلا من أحمد ورشدى عاكف لم يغرما الا بامرأة واحدة، هى التلميذة نوال لا غير، اى انه لم يكن سواها فى حياة كل منهما، كما أن كامل رؤوبة لم يقع فى غرام امرأة أخرى سوى زوجته رباب.. رغم انه مارس الجنس مع المعلمة التى ازالت عند حاجز الخوف.

فى رواية “بداية ونهاية” كانت هناك امرأة فى حياة حسنين، وهى ايضا نفس الفتاة التى تقدم أخوه الاكبر حسين لخطبتها، بعد ان فسخ حسنين علاقته بجارته بهية، أما ابنة الباشا، فإن الأمر لم يكن حبا، أو وجودا لامرأة بالمعنى المتعارف عليه.. كما سنرى أما الأخ الأكبر حسن فكانت هناك أيضاً خليلته التى يعيش فى بيتها، لا يكاد يعرف من النساء غيرها.

أى أنه فى مقابل وجود كل رجل فإن الكاتب قد أعد لهذا الرجل امرأة واحدة تناسبه، او فى طريقه، كى تصبح المرأة الاوحد تقريبا فى حياته.. فقد هام التلميذ حسنين بالجارة بهية وشغلته كثيرا، وهو يقوم بالتدريس لأخيها الصغير، وراح يتقرب إليها، وهام بهاشوقا، وضغط على أمه أن تخطبها له، كى تكون العلاقة رسمية، حتى إذا صار طالبا فى الكلية الحربية سخر منه زملاؤه، عندما شاهدوهما معا فى دار السينما مما دفعه إلى أن يفسخ الخطبة، وأن يتجرأ للتقدم لخطبة ابنة الباشا، ليس حبا فيها، وانما حسب اعترافه، انه يريد أن يركب طبقة اجتماعية أعلى من طبقته.

وفى مقابل هذه العلاقات المتقابلة للرجال مع النساء، فإن الكاتب يفرد مساحة مساوية لنفيسة، التى يخصص لها محفوظ فصولا بأكملها ليتحدث عن علاقتها مع سلمان، الذى سوف يمنحها من البقالة مقابل القبلات، ثم هو الذى سوف يصحبها برغبته إلى شقتها، كى يفقدها عذريتها تمهيدا لها أن تصير ابنة ليل.. وهنا لم يعد هناك رجل واحد فقط فى حياة نفيسة بل “تعدد” الرجال، وتعددت أهوائهم، لكنهم كانوا رجالاً بلا ملامح، باعتبار أن وجه سلمان هو الوحيد الذى تعرفه جيدا.

اذا كان رجال الكاتب، فى هذه الرواية، بكامل أعدادهم يعيشون فى عالم النور، فإن نفيسة موجودة دوما فى دائرة الظلام، لا تكاد تلفت أنظار أحد، فهى مجرد شىء موجود فى المنزل لم نعرف لها صديقات، وقد صدمت فى تجربتها العاطفية الوحيدة، بسبب قلة خبرتها، وعزلتها كما أنها سيئة الحظ، فحين تعمل عاهرة سرعان ما يتم القبض عليها، وهى تمارس هذه المهنة بشكل فردى، وليس من خلال شبكة ويكون سوء حظها الجديد أن أخاها ضابط الجيش الذى يتم استدعاؤه ليشاهد فضيحة أخته.

هذه العلاقات المتقابلة للعديد من الرجال، فى مقابل العديد من النساء، تصنع علاقات متعددة متشابكة فيدفع البعض أخطاء ارتكبها آخرون وتتداخل المصائر، وتبدو معقدة، أما العلاقة الثانية بين رجل وامرأة، كرس كل منهما حياته من أجل الآخر، فقد بدت واضحة فى رواية “الكرنك” المنشورة عام 1974، وهى العلاقة بين زينب واسمااعيل، كما أن هناك علاقة أخرى قائمة على التقابل، بين صاحبة المقهى قرنفلة، والطالب حلمى، الذى تم القبض عليه أكثر من مرة، لقد صارت قرنفلة الراقصة امرأة عجوزا تجاوزت سن الأربعين، لقد انطفأ سحر الأنوثة وجف رونق الشباب، إلا أنها لا تزال تتمتع بخفة الروح، وهذه المرأة تهب هذا الجزء من حياتها إلى حلمى، الذى تولدت بينهما صداقة حين جاء إلى المقهى لأول مرة، انه فتى رشيق يبدو عصبيا أثناء النقاش، بادرته قرنفلة بالغزل، هى راقصة تعاملت مع الرقص كمهنة شريفة، كان الرقص الشرقى هز للبطن والصدر والعجز، فجعلته تصويريا، لذا فإنها عندما تقع فى الحب، تختار حلمى صاحب الاهتمامات السياسية الذى سرعان ما سيتم اعتقاله أكثر من مرة، مما يزيد الاحزان والهموم لدى قرنفلة التى يخصص الكاتب فصلا بأكمله باسمها، فهى أثناء غياب حبيبها ترفض العواطف التى يحاول أن يفرضها عليها رجل فى منتصف العمر يدعى زين العابدين انها تصده، رغم غياب حبيبها، وزملائه.. المقهى بلا شباب لا يحتمل.

ومثلما هناك امرأة واحدة عاشقة فى مقابل رجل واحد، لا يعرفان عشقا الا الطرف الثانى متمثلا فى فلة، فإن العلاقة التى تربط بين زينب واسماعيل، تتسم بالسمة نفسها والأحداث تدور على لسان خمسة من شخصيات الرواية، ويحكى اسماعيل عن نفسه انه مولود عام 1949، تخرج فى كلية الحقوق كان انتماؤه الأول إلى ثورة يوليو، آمن بالاشتراكية المصرية، ثم يكتشف أنه لم تكن فى حياتنا اشتراكية حقيقية، ويتحدث اسماعيل عن طرفه الآخر، عن زينب التى تقيم فى الحى نفسه، وهى صبية منذ الطفولة، إلى أن التحقت بالجامعة معه، اتفقا على الزواج، والموضوع الرئيسى فى الرواية هو الاعتقالات المتوالية التى تتم لاسماعيل، ولا شك أن جسامة الأمر تتمثل فى أن زينب هى الأخرى تعتقلها الاستخبارات، ويغتصبونها، وعلى أثر ذلك تصاب المرأة بكآبة شديدة، ولا أثر فيها للشعور باالنجاة لقد هزتها الأحداث، وعقب الاعتقال الثالث، ومموت حلمى من شدة التعذيب، واكتشاف إسماعيل أن فتاته قد اغتصبها رجال الاستخبارات فإنه يشعر أن الحب انكسر فيما بينهما، “أنا مريض واعرف أسباب مرضى وهى مريضة، وقد ينتعش الحب يوما”.

وقد ساوى الكاتب بين إسماعيل وزينب هنا، عن طريق الحكى، ففى الفصل الثالث يحكى لارواية عن زينب بمساحة مساوية لما حكاه عن اسماعيل، وهذا الراوية يكاد يكون مجهولا، لا نعرف شيئا عنه، لكنه يحكى ان وجه زينب عندمار آها كان خمريا رائقا، ذا قسمات نامية فى حرية وعذوبة، وجسمها القوى الرشيق، هى من البيئة نفسها، ابوه يبيع لحمة الرأس، وأمها صارت دلالة بعد طول كفاح، نجحت فى المدرسة، تقدم لخطبتها وهى تلميذة، رجل فى الاربعين، متزوج، لكن الفتاة رفضت، هى تحب اسماعيل.. انه الرجل الوحيد فى حياتها.

زينب تختلف كثيرا عن النساء الأخريات المتعددات فى روايات الكاتب، هى فتاة عصرية ذات موقف سياسى، تحكى عن لقائها بخالد صفوان فى مكتبه، وتتكرر الزيارة إلى أن تثبت براءتها، وتصبح مرشدة لرجال الاستخبارات، ويعرضون عليها امتيازات لكنها لا تفيدهم بشىء، فيتم القبض عليها مجددا، وفيما بعد تعترف بأنها السبب فى قتل حلمى انقاذا لاسماعيل.

ثالثا: تعددت الروايات التى كتبها نجيب محفوظ التى تصبح فيها المرأة هى الشخصية المحورية، المركزية، أما الرجل، أو الرجال فيدورون فى فلك هذه المرأة، مهما كانت أهميتها، أو قيمتهفا، وقد بدت هذه السمة بارزة فى كافة مراحل الكتابة عند المؤلف، ومن أبرز هذه الروايات رواية “سمارة الأمير” وفى “زقاق المدق” على سبيل المثال، فإنه رغم هذا العدد الكبير من البشر، وحكاياتهم، وتعددهم، فإن الشخصية المحورية هى حميدة، التى يتطلع إليها بعض الرجال من الزقاق الضيق، الصخب بالأحداث، على رأسهم عباس الحلو، وسليم علوان، ثم سوف يأتى فرح الذى سيأخذها من الزقاق، إلى حيث الملهى الليلى الذى تديره وقد بدت هذه المرأة اشبه ايضا بشهد الملكة، فهى تذهب وراء ذكر واحد، وتترك كل الآخرين خلفها كى تحقق حلمها، لكنه هنا حلم فاشل، لن يلبث أن يسقطها فى الوحل، وقد بدت حميدة، من وراء مشربية النافذة، وهى تطل على الزقاق، كأنها تسجل ما يقع فيه من أحداث وكأن ما يدور معروف لديها، خاصة هذا العدد الكبير من الأشخاص ابتداء من الشيخ درويش، وحسين كرشة، وعم كامل، وعباس الحلو، والدكتور برشتى، وآخرين، وقد تحدث المؤلف مطولا عن هؤلاء الأشخاص الذين تعرفهم حميدة، قبل أن يتفرغ للحديث عنها وعن أمانيها، وسماتها فى الفصل الخامس.

والغريب أن عدد الرجال فى الزقاق يزيدون كثيرا، حسبما قدمهم الكاتب، عن النساء، حيث يعملون أو يسكنون، أو يترددون على المقهى، أما النساء فيتمثلن فى حميدة، وأمها، والمعلمة حسنية، وأم حسين،وفى هذا العالم تبدأ العلاقة العاطفية، الواهية بين حميدةوعباس الحلو، انه يتبعها عندما تخرج من الزقاق، ويتحدث إليها عن الزواج، وتطلب منه أن يعمل فى اورنس الجيش البريطانى، وفيما بعد يذهب الحلو مع المعلم كامل لخطبة حميدة، التى لا تكاد تحس به، فهى تستغل فرصة ابتعاده عن الزقاق، كى تذهب وراء فرج.. كى تعمل لديه.

وبالخروج الأول لحميدة من الزقاق، خرجت الرواية من المكان، الضيق إلى اتساع وتغير اسمها إلى تيتى، فارتدت ملابس مختلفة وخالطت الرجال، وتعلمت الانجليزية من جنود الاحتلال.. إلى أن عثر عليها عباس الحلو، الذى لقى مصرعه فى معركة من أجل اخراجها من هذا العالم.

فى نفس الرواية، هناك امرأة أخرى أعطاها المؤلف الكثير من الاهتمام، انها أم حسين، زوجة المعلم كرشة، التى تذهب إلى السيد رضوان الحسينى، لتشكو له مجون زوجها، المصاب باللواط، فالمرأة تصر أن يبتعد زوجها عن الشاب، وهى تذهب إليه، وتضرب وتصرخ فيه “أنا ضرتك” وعلى ذلك فإن زوجها يضربها وفى الفصل الرابع عشر، تظهر أم حسين مجددا، انها المرأة الوحيدة فى حياة زوجها، هذه المرأة لديها مشكلة مع ابنها الذى يرغب فى مغادرة الزقاق، بحثا عن وظيفة، وتدور خناقة كلامية بين الزجة، وابنها، وابيه، وهى المرأة نفسها التى استقبلت ابنها حين عودته إلى الزقاق، فى صحبة زوجته، وتضغط على المعلم كرشة ان يأوى ابنهما فى كنفه.

رابعا: لكل امرأة مكانها فى هذه الروايات، والاماكن تختلف، ورغم تشابه الامكنة فى الروايات، فإن هناك تعددية ملحوظة فى الأماكن، فالبيت الكبير الذى تسكنه الست أمينة فى بين القصرين يختلف تماما عن البيتين اللذين سكنت فيهما كل من ابنتيها فى “قصر الشوق” و”السكرية” ولا شك أن الشقة القديمة الضيقة التى تسكنها حميدة وأمها تختلف أيضا رغم أن هذه المساكن موجودة فى مناطق متشابهة، وينطبق الأمر نفسه على الشقةالضيقة التى تؤدرها نور فى “اللص والكلاب” وهناك تباين ملحوظ بين الفندق الذى تقيم فيه كريمة مع زوجها فى “الطريق” وبين البنسيون الذى تقيم فيه، وتعمل زهرة، فى رواية “ميرامار”.

اذن، تتعدد الأماكن التى تتواجد فيها النساء فى هذه الروايات بتعدد المرأة، التى لا تميل كثيرا إلى تغيير المكان، فالست أمينة عوقبت لأنها خرجت مرة من البيت دون اذن من زوجها، وقد ظلت النسوة فى نفس المساكن لا يغادرونها فى ملحمة الحرافيش، والمرأة التى فكرت فى التمرد على المكان، فعلت ذلك بغية السقوط وهى حميدة.

فى رواية “ميرامار” لم يكن هناك أى شىء ثابت بالنسبة للفتاة زهرة، التى هربت من أسرتها فى محافظة البحيرة حتى لا تتزوج العجوز الذى فرضه عليها اهلها، لا شىء ثابت بالنسبة لاقامتها فعند أول متاعب حقيقية فى وظيفتها اختفت إلى حيث لا يعلم أحد شيئا، كما أن النزلاء ايضا يتغيرون من وقت لآخر، وكلهم من الرجال، أى أن النزلاء هم من الرجال، لكل منهم حكاياته، ورغباته، ابتداء من حسنى، وسرحان البحيرى، والعجوزان عامر وجدى، وطلبة مرزوق.

فى هذه الرواية، يقوم المؤلف لأول مرة بالانتقال الى الاسكندرية، من خلال بنسيون، أى أن علاقة المؤلف بالمكان هنا، أشبه بعلاقات أبطاله، حتى سيغادرون، وسيعودون، إلى القاهرة التى جاءوا منها، ويبدو هذا الاعجاب من خلال ما يردده عامر وجدى فى السطور الأولى من الرواية “الاسكندرية أخيرا”، الاسكندرية قطر الندى، مهبط الشعاع المغستول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع.. والرواية تدور علسان لسان نزلاء البنسيون، وعلى رأسهم الصحفى القديم عامر وجدى، الذى يبدو أقدم النزلاء، فهو الذى استقبل الخادمة زهرة حين جاءت لأول مرة.. ويستطرد الرجل فى وصف الكان، فهو الشاهد الأطول مساحة على كل ما حدث حتى بعد مصرع سرحان البحيرى، ورحيل زهرة المأساوى.

والبنسيون هنا شقة واسعة، فى عمارة تطل مباشرة على البحر، عند محطة الرمل، والفلاحة زهرة، هى السبب فى جلب سرحان إلى البنسيون.. فعندما رآها فى البقالة اليونانية، خلب بها، وراح يردد طوبى للأرض التى غذت وجنتيك ونهديك.. وراح يسكن لبعض الوقت فى أرضها، فى البنسيون، هذا المكان الذى التقى فيه عدد محدود من الاشخاص، متباينى الأفكار منهم عضو اللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكى، وابن الطبقة الموسرة، وأيضاً منصور باهى، ومن خلال كل هذه الشخصيات صار البنسيون بؤرة لاقامات متعددة الأزمنة، وجذب لزوار مؤقتين أو دائمين، فقد جاءت إلى هذا المكان الراقصة صفية التىكان يقيم عندها سرحان البحيرى، ودرية زميلة منصور وحبيبته.

ترى هل هى زهرة أم البنسيون؟ فلا شك أن أحدا لم يكن ينتبه إلى بنسيون دون أن تصبح زهرة بؤرة انظار عددا من الرجال، منهما رجلان يتنافسان عليها: سرحان وحسنى، والثالث حاول اغوائها، والرابع يعاملها كأب، أما الخامس فهو يروق له أن يحكى لها بعضا من مشاكله، رغم المسافة بين الاثنين.

هذا المكان تتعدد العلاقات بداخله، وتختلف علاقات النزلاء به، فعامر وجدى مقيم أكثر الوقت هناك، أما طلبة فينزل إلى محل تريانون، ومنصور نراه فى محطة القطار، أما حسنى فهو فى اغلب الأوقات خارج المكان، وهو اما أن يحاول مغازلة زهرة أو يشارك النزلاء سهرة أم كلثوم، التى يحب الجميع سماعها فى الحفل الشهرى.

المرأة الوحيدة هنا زهرة، تصد حسنى، وطلبة، وترفض أن يخطبها بائع الصحف، وتعطى قلبها إلى رجل وحيد، هو سرحان الذى لن يلبث أن يتلاعب به.. وفى نهاية الأحداث، فإن زهرة تغادر البنسيون، وقد صارت أكثر وعى، وتعلمت، ولم يضع وقتها سدى مثلما نصحها عامر وجدى “أن من يعرف من لا يصلحون له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود”.

كما أن المكان المحدود الضيق لعب دوره فى التضييق على خناق نفيسة فى “بداية ونهاية” انه القبو.. البدروم الذى أدى اليه اربعة اشخا ص بالغين عقب وفاة الأب، واضطرت الاسرة بناء على ذلك أن غادرت الى هذا المكان السفلى، الضيق، وقد عاشت نفيسة هناك دون أن تتمرد.. كان فى امكانها أن تخرج من المكان، وان تعمل فى ميدان الحياكة، فلما خرجت، تعددت علاقاتها بالآخرين، فى البداية أحبت ابن البقال، وأسلمت له جسدها، ثم صارت تلتقط زبائها، وتركب معهم إلى حيث يأخذونها، من أجل أن يقدمون لها المقابل.. مقابل المتعة.

وقد كانت نفيسة تعود دوما إلى هذا القبو المظلم، راضية بما فعلت، وكان كل ما عليها أن تساعد أخاها فى تدبير مصاريفه، حين يقرر الخروج مع بهية، ورغم المال الذى لديها، فإن أحدا من الاسرة، لم يشعر به، وعندما انتقل الجميع للسكن فى مكان افضل، بعد أن صار حسنين ضابطا، فإن الأمر قد انكشف ولم تهنأ كثيرا بالمكان الجديد، الاكثر اتساعا، حيث انكشف أمرها، ودفعها أخوها كى تلقى بنفسها فى قاع النهر.

خامسا: مثلما يلعب المكان دوره فى حياة المرأة عند نجيب محفوظ فإن المرأة أيضا تتعرض للعديد من التغيرات تبعا للزمن، فباعتبار أن هناك تعددية فى الأزمنة، فى حياة شخصيات نجيب محفوظ، فإن الزمن يمر على النساء مثلما يمر على الرجال.. وتتحول المرأة من حال إلى آخر حسب ضربات الزمن، او عطاءاته، وذلك مثلما حدث فى الثلاثية وخاصة فى “السكرية” كما حدث من خلال تعاقب الزمن على اسرة الناجى، من جيل إلى آخر.

واغلب روايات نجيب محفوظ تدور فى زمن قصير نسبيا، مثل “خان الخليلى”، و”زقاق المدق”، و”اللص والكلاب”، و”الطريق” و”الشحاذ” و”ثرثرة فوق النيل” وهناك روايتان تدوران فى أزمنة طويلة بشكل ملحوظ، الأولى هى الثلاثية التى استمرت أحداثها لأكثر من عشرين عاما، ثم “عصر الحب” التى استمرت حتى أصابت الشيخوخة أبطالها الذين ملأهم الشباب بالحيوية والاندفاع ذات يوم.

وفى رواية “السكرية” يبدو إلى أى حد قد مر الزمن بالشخوص.. ابتداء من الست أمينة وزوجها، وايضا ياسين الذى صار جدا، وكمال الذى أحب الشقيقة الصغرى لحبيبته التى لم تشعر قط بحبه لها، وايضا احفاد أحمد عبدالجواد الذين صاروا بالغين، يعملون فى مناصب حساسة فى الصحافة، والحياة السياسية.

الصفحات الأولى من لارواية، تجلس أمينة، وقد أحاطتها ثلاث نسوة اجتمعن حول المجمرة، هن أم حنفى، وعائشة الابنة الصغرى، ثم ابنتها نعيمة، ويصف الكاتب ما حالت اليه عائشة ذات الاربعة وثلاثين عاما، كما تحدث عن ام حنفى، واعطاها اكبر مساحة من الحديث فى الروايات الثلاث، عائشة هنا تبدو مختلفة عن امها فى شبابها، فهى تدخن السجائر وهى تخاف على نعيمة فلا تجعلها تقوم بأعمال المنزل، ونعرف أن الجد لم يسمح لنعيمة بالاستمرار فى الدراسة، وقد رددت امينة لحفيدتها تصف عائشة، انها كانت زين ايامها، ثم صارت عبرة الأيام.

هذا هو ما فعله الزمن بأبناء الجيل الثانى من عائلة عبدالجواد، تبدأ الرواية فى زمن الراديو، أى بعد عام 1934، وقد صار الاحفاد شبابا، أى بعد سبعة أعوام على الأقل من احداث “قصر الشوق” حين كان رضوان ابن ياسين صبيا فى الثانية عشر من العمر.

فى هذه الرواية تتضح التعددية الكمية، بما يخص الاشخاص ربما اكثر من أى رواية أخرى، فهاهم الاحفاد، يشق كل منهم طريقة، وفى حياة كل منهم دائرة متعددة الأشخاص، الآن، لقد مر الزمن، وصار كمال مدرسا، يجادل اباه فى السياسة، وهوالرجل الذى لا يكف عن القراءة والكتابة.

فى حياة عبدالجواد، ما يثبت أن الزمن قد مر، وأتى بتعدديته، سواء من حيث الأشخاص، أو الأحداث، فجميل الحمزاوى الذى يعمل فى متجر عبدالجواد، يبدى رغبته فى اعتزال العمل، فقد تم تعيين ابنه فؤاد فى النيابة بإحدى مدن الصعيد، وامامه سنة للعودة إلى القاهرة وفى الفصل الثانى من الرواية، سوف تأتى زبيدة لزيارة عبدالجواد فى دكانه، وقد ترهل جسمها وبدت عليها ملامح تعددية الزمن، هى ترهقه بالمطالب، ما أنها تطللب منه أن يجد شاريا لمنزلها، لقد تغيرت صورة عشيقات الأمس، ابتداء من السلطانة زبيدة، ثم اختها جليلة التى سوف تستقبل كمال فى بيتها، وتمنحه احدى البنات لليلة.

فى الفصل الثالث من الرواية يقوم المؤلف بعمل لمة لأسرة عبدالجواد، فى بين القصرين، ويتم استعراض أفراد الأسرة، وهم أحمد ابراهيم شوكت الاشتراكى، الذى سيعمل صحفيا، والذى سيقابل امرأة حياته فى الصحيفة، وهناك أخوه عبدالمنعم، الذى سينضم إلى الاخوان المسلمين، والذى سيتزوج من كريمة ابنة ياسين، وهناك رضوان ابن ياسين من زينب، وكريمة ابنته من زنوبة، ونعيمة ابنة عائشة التى مات زوجها، ويبلغنا الكاتب أن زنوبة بلغت الآن السادسة والثلاثين وانها تلقى الاحترام من بقية الاسرة رغم ماضيها.

انه عدد غير قليل من أفراد أسرة واحدة، يتقابلون ثم يتناثرون فى الحياة، يستعرض لنا الكاتب قصة كل منهم مع الوظيفة، والحياة والنساء، بالاضافة إلى كمال الذى يتعرف على بدور الشقيقة الصغرى لحبيبته التى تزوجت وسافرت إلى باريس.

عدد النساء فى هذه الرواية وفى كل الثلاثية اكثر من الرجال، ليس فقط فى دار عبدالجواد، الذى صار هرما، ثم سيلحق بربه، بل أيضاً من خلال بيت الهوى الذى كان ياسين يتردد عليه، ثم بدأ كمال يتردد عليه، انه بيت النساء، صانعات الهوى.

فى هذه الرواية تنازل الرجال عن كبريائهم أمام النساء، فعبدالجواد الذى عاتب الست أمينة يوما لأنها خرجت من البيت الى المسجد الحسينى بدون اذنه هو الذى يطلب من ابتنه عائشة فى عام 1938 أن تخرج لزيارة الاضرحة المباركة، وهنا نفهم أن حال النساء قد تغير، فأمينة تقوم بجولة يومية فى المنطقة، لقد صارت فى الثانية والستين وتبدو أكبر من سنها بعشرة أعوام على الأقل، وبكل اذلال يسألها الزوج “أيصح أن تتركينى وحدى كل هذا الوقت”.

تعتبر هذه الرواية من أكثر الأعمال التى زخمت بكل هذا العدد من الرجال والنساء، لكل طرف وليفه، أو الآخر الذى يعيش معه قصة ما، كما أن أبطال الرواية يعيشون بين ثلاثة بيوت، ويكبر الأحفاد الذين حصلوا على الشهادات وبدا كمال ضيق الأفق فى علاقاته، وانحصرت أماكن تواجده بين السكرية والمقهى، وتزداد علاقة سوسن بأحمد، وهى فتاة صاحبة موقف، تختلف عن كل نساء الثلاثية، فهى تعمل وصاحبة رأى ومجادلة عن معرفة وثقافة، أما كمال فإنه يتردد على صالة جليلة بكل ما بها من نساء، ويناديها “عمتى”.

 

وقد تشابكت علاقات المرأة بالرجل فى هذه البيوت الثلاثة، وبعيدا عن الدار، فإن كمال يرى بدور فى الشارع فتلفت أنظاره، وسرعان ما يعرف أنها شقيقة حبيبته القديمة عايدة، وهو يهتم بها فقط باعتبار قرابتها من عايدة، وفى الفصول الأخيرة من الرواية ازداد النشاط الشخصى للشقيقين أحمد وعبدالمنعم، سواء على مستوى العمل العام، أو العاطفى، وقد صارا بطلى الأحداث، وتحدث زيجات عديدة فى أسرة خديجة، ويعترف ياسين أنه تزوج ثلاث مرات لكنه لم يزف مرة واحدة، فضلا عن العديد من النساء اللاتى غازلهن فى الشوارع، ووراء جدران الصالات والعوامات، وقد انتهت أحداث الرواية من خلال رحيل أمينة التى أصابها التهاب رئوى قبل أن تروح فى شلل وغيبوبة، لذا يمكن اعتبار أن الثلاثية بأكملها سيرة زمنية لأمينة التى بدأت بها الرواية وقد صارت أما لكل هؤلاء الصغار، وانتهت برحيلها، بعد أن شاهدت أحفادها يتزوجون.
سادسا: فى هذا العالم المتعدد الأشخاص، خاصة العلاقات بين الرجال والنساء، فإن هناك رجالا عديدين فى حياة كل منهم نساء متعددات، أى أنه لا يوجد الرجل الذى استقر به المقام عند امرأة واحدة، كأنما من الطبيعى أن يحدث ذلك، والأمثلة كثيرة أمامنا، منها فرج فى “زقاق المدق” فهو الرجل صاحب الصالة الذى يستجلب النساء إليها، ويقدم لهن الحب الكاذب من أجل أن يجد بنات ليل يعملن فى الصالة، وقد تعددت علاقات الرجال فى الثلاثية ابتداء من الأب الذى كان يذهب إلى بيوت الليل، وتعددت علاقاته النسائية عبر العديد من الأجيال، لدرجة أنه وقع فى عشق زنوبة التى صارت زوجة لابنة ياسين، وهذا بدوره ورث عشق النساء عن ابيه، فتردد على الاماكن نفسها، وعشق نفس النساء، وهو رجل ذو فضائح فى الاجزاء الثلاثة من الرواية، فزوجته الأولى تضبطه مع الخادمة، فوق السطح، وتطلب الطلاق، وفيما بعد تصبح زنوبة عشيقته، دون أن يعلم أنها كانت فى فراش أبيه، ثم يتزوج منها، وينجب البنات، وكما أشرنا ففى الثلاثية ايضا فإن كمال يفشل فى التواصل العاطفى الحقيقى مع عايدة، شقيقة زميله، ثم يفشل ايضا فى علاقته مع اختها بعد مرور خمسة عشر عاما، وهو يمشى فى خطا أبيه، وأخيه، حين يتردد على الصالة وتصبح له خليلة مخصصة له، تنتظره.. دون أن ينجح فى علاقة بعينها، ويبدو عاجزا تماماً فى التواصل مع النساء.. وقد أدركنا كم العلاقات النسائية المتعددة التى تتسم بها شخصيات عديدة فى روايات نجيب محفوظ، مثل عيسى الدباغ فى “السمان والخريف” و”حمزاوى فى “الشحاذ”، وصابر الرحيمى فى “الطريق” وأيضاً ابطال روايات مثل “حضرة المحترم”، و”قلب الليل” و”السرب” و”ميرامار”.

 

وسوف نتوقف عند الحمزاوى كنموذج فى رواية “الشحاذ” فهو محامى، رجل مجتمع، اصابته حالة نفسية خاصة دفعته للذهاب إلى طبيب نفسى، انه الآن فى سن الخامسة والأربعين مصاب بمرض برجوازى، هو الخمور.. فى حياته زوجة لا يكاد يحس بجسدها، وفى مقابل ذلك تتعدد علاقاته النسائية، والزوجة امرأة عاقلة، قادرة على محاورته، صاحبة رأى، غير منكسرة يردد فى أعماقه أن اجابات امرأته العاقلة تخنقه، وتستفزه، تكتشف زينب أن تغيرا أصاب زوجها، فتواجهه: ما أحوج الرطوبة اللزجة إلى عاصفة هوجاء..

زينب هى النقيض لامينة، قوية الشخصية يحكى لها زوجها عن سبب تغيره، ما قاله أحد موكليه: ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها.. وفى موقع آخر يتحدث الحمزاوى “تزوجت قلبا نابضا لا حدود لحيويته، وشخصية فاتنة حقا” ثم يقول “ان الداء الذى زهده فى العمل هو الذى يزهده فى زينب.

المرأة الأولى غير زوجته هى مارجريت، مطربة الملهى الليلى، انجليزية التكوين، وسرعان ما يشعر الفارق بين المطربة، وبين زوجته التى انتظرت عودته لليلة الثالثة على التوالى، حتى ساعة متأخرة، وفى البداية، يبدأ فى البحث عن المغنية مع شعور بتأنيب الضمير تجاه زوجته، ثم تعود المطربة إلى بلادها، فتدخل وردة حياته، ويمر عمر بحالة من التبرم بكل ما حوله، ابتداء بالمكتب، تبدأ الحالة بعد عشاء للعشق كلفه الكثير، وعاش أياما سعيدة مع وردة، يتحدث إلى ابنه “قتل الضجر كل شىء. وانهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة، وسرعان ما تختفى وردة من حياته بعد زيارة من السيد يزبك، صاحب الملهى الليلى الذى كانت تعمل فيه وردة، متمنيا أن تنتهى العلاقة كى تعود وردة إلى الملهى.

لقد تغيرت نبرات الحوار بين زينب وزوجها، بعد أن هجرها إلى امرأة أخرى، لكن دون انكسار تذكره بأن ابنته فى سن الزواج، وقد بدا عمر محبا للحياة من خلال علاقته بالراقصة وردة، فهو يسعى إلى أن يبهرها بالشقة التى أعدها لها، وصرف عليها الكثير، ويصف الكاتب الحرارة التى دبت فى دسده وهو يدخل تحت الدش مع المرأة، لقد علمته علاقاته المتعددة أن يكون ماجنا، يدرك أنه لا معنى للحياة بدون الحب “دعينى أكون جملة لم يسبق ذكرها على لسان”.

سابعا: مثل حال العديد من رجال الكاتب، متعددى العلاقات النسائية فإن الكثيرات من نساء روايات الكاتب فعلن الشىء نفسه، اى عرفن فى فراشهن الكثير من الرجال، ويكفى ان نلاحظ ان الكثيرات من هؤلاء النسوة من العاهرات وبنات الليل، يكتسبن حيواتهن من هذه المهنة، وقد ملأت النساء صفحات روايات نجيب محفوظ، ابتداء من جليلة، وزنوبة، وغيرهن فى الثلاثية، والصالة التى عملت بها حميدة فى “زقاق المدق” والمرأة المعلمة فى “السراب” ونور فى “اللص والكلاب” ونفيسة فى “بداية ونهاية” والنماذج التى أشرنا إليها فى “الشحاذ” وريرى فى “السمان والخريف” ونماذج من نساء “ثرثرة فوق النيل” إلا أن نموذج بسيمة عمران فى رواية الطريق يبدو مثاليا فى هذه الحالة، فهو اسم شخصية مستمدة من الواقع، لامرأة أدارت الأوكار وكسبت الكثير، أى أن اموالها جاءت من علاقاتها المتعددة، ليس فى حياتها رجل بعينه، وتبدأ الرواية بموت بسيمة عمران، وتتم مراسيم دفنها، وتترك ابنها الوحيد صابر فى سن الخامسة والعشرين، يعود الشاب بعد ذلك إلى مسكنه فى “النبى دانيال” الذى شهد فترة بهيجة من حياته، ويتذكر أمه التى وهنت وهزلت وكبرت ثلاثين عاما فوق عمرها الحقيقى الذى لم يتجاوز الخمسين.

الفلاشباك الروائى يتحدث عن بسيمة عمران التى خرجت من السجن مريضة معدمة، كتبت لابنها بعض ممتلكاتها، ثم باعتها الواحد وراء الآخر، انه ابن بلا مستقبل، وهى تريد له حياة أفضلن فهى العاهرة سابقاً التى لا تود لابنها أن يدخل سجنا: “بسيمة أيام زمان لن تعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحة تسمح بذلك ولا البوليس.. الحوار الذى يتذكره صابر طويلا، يبدو أنه تم فى جلسة واحدة، أخبرته أنه يجب أن يبحث عن أبيه الذى تصوره ميتاً، ولعله حآن لعله كان عشيقاً لها أو زوجا، اسمه مسجل فى شهادة ميلاده، سيد سيد الرحيمى، احبنى منذ ثلاثين عاما، وكان ذلك فى القاهرة، فصابر اذن ابن سفاح، رغم أن الأمر تخبر ابنها أن سيد الرحيمى تزوجها، وكان لايزال طالبا، وانها هربتمنه بعد معاشرة أعوام وهى حبلى الى الاسكندرية، مع رجل آخر اذن فبسيمة عمران دخل فى حياتها رجال متعددون.. وها هى الأم قبل وفاتها تضع أمام ابنها العديد من الالغاز، وما لديها من معلومات، كى ينتهى الفصل الأول بتساؤلات: أين الحقيقة وأين الحلم؟

اذن فهناك عددا كبيرا من بطلات نجيب محفوظ عاشرن الكثير من الرجال، سواء بشكل شرعى أو غير ذلك، وهنا يخلو عالم الكتاب، إلى حد كبير، من الفتيات الرومانسيات البريئات، والغريب أنه أمام بعض هؤلاء النساء الفرص المتاحة للاقلاع على الرجال، والتوبة، والفوز بزوج ميسور، قادر أن يمنحها الأمان، والمال، مثلما حدث مع ريرى فى رواية “السمان والخريف”.

والغريب أن هذه المهنة هى الغالبة على نساء الكاتب، وهى الأسهل فى الدرب الذى سلكته نفيسة، وزنوبة، وحميدة، ونور، وريرى، وبسيمة عمران، وعلى جانب آخر، فاننا قليلا ما نجد النموذج النسائى الناجح، الذى ينجح فى الدراسة والوظيفة، ويتزوج بشكل شرعى، وقد بدت هذه المرأة غالبا فى دور الابنة مثلما رأينا ابنتى عمر الحمزاوى فى “الشحاذ” وايضا الموظفة التى تتزوج من زميلها “على” لاشغال الوقت فى “الحب فوق هضبة الهرم”.

وعلى نحو آخر فإن النساء اللاتى لا يعملن بهذه المهنة، قد يتعدد الرجال فى حياة كل منهن بشكل شرعى، مثلما فعلت أم ياسين، التى تزوجت أكثر من مرة، ومثلما فعلت سمارة الامير التى كانت فى سراى عصمت باشا منذ ان كانت فى سن الثامنة، مات أبوها ثم امها تباعا، التصقت بالسرايا باعتبارها دنياها الوحيدة، السراى موجودة بالاسكندرية، لها مكانة لدى الباشا، اسمها شلبية، وقد آلفت الحياة الأنيقة التى يعيشها الباشا وحرمه.. وقد تعرفت شلبية على أكثر من رجل، أولهم على جلال الذى صار عشيقا وقوادا لها، أخبرها أن من الخير أن تترك السراى، فهربت معه، وبدأ يعرضها على الرجال لتصبح راقصة، ويدخل الرجال إلى فراشها، بشكل متتابع أسوة بحياة العاهرات مثل العجوزان فاولز، وأمين، اللذان يتناطحان من أجلها، يتبادلان اللطمات، وعقب المشاحنة، تعانق سمارة صديقها العجوز، وتصير له وحده، ثم تنتقل بين أكثر من رجل من خلال علاقات شرعية، أو غير ذلك.

ثامنا: رغم أننا أمام روايات رجولية، الشخصية الرئيسية فىأغلبها هو الرجل، ولا أحد غير الرجل، ورغم ذلك، فإن عدد النساء، اللاتى يتواجدن فى محيط حياة هذا الرجل أكثر بشكل ملحوظ من عدد الرجال.

انه عالم ملىء بالتعدد، ولعل أبرز نموذج على ذلك هو سيد سيد الرحيمى فى “الطريق” فهو محاط دوما بعالم أمه من العاهرات، عاش وسطهن طفلا، وشابا، ثم ان حياته تبدأ بالأم بسيمة عمران، وتنتهى بكريمة، زوجة صاحب الفندق القاهرى التى تخون زوجها العجوز معه، والتى يصفها الكاتب على غرار “صاحبة السمرة النقية والعينين اللوزتين الدنداويين”، وهو يقرر البقاء فى الفندق شهراً من أجل هاتين العينين، خاصة بعد أن تقول له: اذن، فأنت من النوع المقتحم، لم أفطن إلى طبعك بسبب دهائك الجميل.. يشعل لها سيجارة، وتبدو متأهبة له، “عندما رأيتك قادما منذ عشرة أيام قلت لنفسى هذا هو”.

وعندما تزداد علاقته، تبدأ رحلة سيد فى البحث عن أبيه فى الخفوت، ويعرف بديلا آخر، هو حضورها إليها، قال انه يشعر لأول مرة بأنه يحتمل أن يستغنى عن أبيه وتذوب الرحلة قليلا وهو يعمق علاقته بالهام، وكأنما الرحلة المجهولة هى مفتاح العلاقتين متناقضتين، الاولى حسية، والثانية راقية، على الاقل من طرف الفتاة التى تعمل فى الاعلانات.

كريمة تطمع فى أن يخلصها عشيقها سيد سيد الرحيمى من زوجها العجوز، تلح عليه فى أن ينفذ ما تفكر فيه، تسوق اليه التبريرات، وتحوطه بالاغراءات، ولا شك أن علاقته بكريمة أشد رابطة من علاقته بالهام.. ومن أجل ان تدفعه لتنفيذ ما تريد، فإنها تنقطع عن الحضور إلى فراشه، كى تحطم تردده فى أن يقتل العجوز، وأمام هذا الالحاح فأنها تدخل غرفتها، وتخفيه تحت سريرها، ثم خرج وهوى عليه بالقضيب بقوة واحكام، باعتبار أنه ينام وحده فى تلك الليلة.

سيد الرحيمى، لم يختلف كثيرا عن والديه، أبيه، وأمه، يعشق الجنس الآخر، ومتعطش له، ويشبع المرأة التى تخون زوجها، ولم يشرح لنا المؤلف قط، كيف كانت علاقاته النسائية فى الاسكندرية، لكنه كان يعيش وسط عاهرات أمه، وهن اللاتى أصابهن الحزن عندما تم ايداع أمه إلى السجن.

نحن أمام رجل لم يعقد أى صداقة مع رجال، أو مع أشخاص من جنسه، وفى حياته ثلاث نساء أمه، وامرأتان اخريتان، حبس نفسه داخل مثلث تشكله كل واحدة منهن ضلعا، ماتت الأولى فترك المدينة التى كان يعيش فيها ويذهب إلى العاصمة بحثا عن أبيه، ويتوه مع هذا البحث وسط علاقاته النسائية، خاصة مع كريمة، اذن، حسب هذا المنظور، فإن هناك علاقات نسائية متعددة فى حياة رجل واحد.. ويبدو سيد الرحيمى، الابن كأنه محبوس داخل جدران من النساء.

ومن ناحية أخرى فإن أنجال، وأحفاد الناجى فى رواية الحرافيش يبدون وقد عاشوا أسرى لعلاقات عديدة، كما أن هناك أما تطارد ابنائها بماضيها، على غرار ما حدث فى “الطريق” ففى “الجوع” فإن الأم تلعب دوراً أساسيا فى علاقات ابنها بالنساء، وهو يختار امرأة غير زوجته، ويتزوجها، مثلما حدث ايضا فى “الحب والقضبان” كما أن مثل هذه العلاقة تتكرر بشكل آخر فى “عصر الحب” فالشخصية الرئيسية عزت، متزوج من سيدة، فى الوقت نفسه فانه فى حالة عشق مع الفنانة بدرية، التى يغرم بها ايضا زميلهما فى الفرقة الفنية حمدون والذى يبلغ عن عزت ويدخله السجن.

الجدير بالاشارة قبل أن نتوقف عند هذه العلاقات المتقابلة، ان نشير ان “عصر الحب” هى إحدى الروايات القليلة عند الكاتب التى تصير فيها المرأة الشخصية المحورية فى الرواية، بينما الآخرون، الرجل بالطبع، يصيرون شخصيات هامشية، قياسا إلى دورها، وهى “ست عين” هى أرملة يتكلم عنها الكاتب انها امرأة قوية عجيبة الأطوار، مثيرة الأوصاف، انها كائن فريد لا يتكرر، ووقد أخذ المؤلف فى وصفها باعتبارها ستكون الشخصية الرئيسة وذلك طوال فقرة واحدة طويلة، استغرقت عدة صفحات فى الفصل الأول، حيث وصف جمالها، وسمائها، واملاكها، كما تحدث عن اختها امونة التى ستكون أما لسيدة، التى ستتزوج من عزت، ويصل اعجاب المؤلف بها، ان تسألها اختها ام سيدة ذات يوم: كيف صرت أشرف خلق الله، فترد: ما هى الا رحمة الله بعابدة مخلصة، ويقول الكاتب فى مكان آخر ان هذه المرأة كانت مجنونة بالرحمة والاحسان.

فى بيت الست عين، فإن الرجال أقل عددا من النساء، والرجل نافر دائما من البيت، اما الى المسرح او الى امرأة أخرى، وتعيش المرأة المجنونة بالرحمة والاحسان مع زوجة ابنها، وحين يصدم الابن حين تتزوج بدرية من حمدى، فإنها تحدث ابنها: لا تستسلمللحزن الحياة أقوى من كل شىء، سيجيبك السلوان بأسرع مما تقدر، وستجد من هى خير منها.

وسرعان ما ظهرت سيده، انها غير احسان ابنة الاخت، عندما يشاهدها عزت يشعر بالاثارة، وبلا ادنى تفكير، يعبث فى الظلام وحده بلا شريك، وفى الفصل الثامن صارت سيده بسبب الخطأ مع عزت كل شىء، وقد حكى الكاتب تاريخها فى جمل قصيرة، فأمها هى الخاطبة، وأبوها مات، من دهر.. وهناك اشارة أن هذه الزيجة قطعت بين عين واختها امونة الى الابد.

نحن هنا فى رواية تزداد فيها عدد النساء من الرجال، ليس فقط من ناحية العدو، بل كذلك من ناحية المساحة الروائية، خاصة الأم عين، التى وجدت فى حفيدها عوضا عن ابيه، كما  تزداد مساحة الزوجة التى تشعر ببرود زوجها نحوها فتعامله بالمثل، ويمكن أيضا ملاحظة أن عدد النساء كان أكثر من الرجال فى رواية من طراز “السمان والخريف”، جميع هؤلاء النسوة يدرن فى فلك رجل واحد هو عيسى الدباغ، ابتداء بخطيبته التى تتركه الى ابن عمه بعد ان فقد وظيفته، ثم هناك يرى العاهرة التى يطردها من المنزل بعد أن تبلغه أنها حامل منه، هناك ايضا عنايات هانم التى يتزوجها، ويعاملها بشكل سيىء وهو يتركها بدون سبب عندنا تظهر ريرى مرة أخرى، ويذهب وراءها كى يعرف اسرار غيابها وظهورها، وهنا تدخل امرأة جديدة فى حياته متمثلة فى الطفلة الذى يتحرى عنها، ويعرف أنها ابنته.

تاسعا: فى أغلب روايات نجيب محفوظ كانت المرأة الشعبية الفقيرة، الجاهلة، الخانعة، موجودة إلى جوار الرجل، باعتبار أنها تؤمن أن الرجل هو الذى يدبر لها كل شىء، وتتعامل معه على أنه سي السيد، تطيعه بشكل أعمى، كما امتلأت هذه الروايات ببنات الهوى، ولم تكن هناك أى فرصة لأى منهن الى أن تعلم نفسها، او تثقف ذاتها، ولا يرجع ذلك بالطبع الى اختيار الكاتب لكن هذه هى صور النساء فى تلك المجتمعات، وعليه، فقد قل عدد النساء العصريات بشكل ملحوظ فى هذه الأعمال حتى فى رواياته القصيرة، وايضا فى الأقاصيص وسوف نرى أن هذه الظاهرة قد ظلت فى أدب الكاتب حتى رواياته الأخيرة، ومنها “حضرة المتهم” و”قلب الليل” وقد بدت رواية “الحرافيش” كأنها تؤصل لهذا النوع من النساء.

لكن وسط هذه الصورة النمطية كانت هناك نساء عصريات، يرتدين الملابس العصرية، ويخرجن إلى الوظائف، لا يمكن أن تقول انهم عصريات بما فيه الكفاية، لكن بالصورة التى من خلال مقارنتها بنساء اللاتى ذكرهن، فان هناك فارقا كبيرا بين هذين النوعين من المرأة، هذه المرأة تخرج إلى العمل وتختلط بالرجال الأغراب، وتقع فى قصص حب سببها الأساسى أنها خرجت من الدار، كما أن وجودها فى هذه البيئة يتطلب أيضا أن يكون الرجل الذى تقابله عصريا مثلهان فى حدودها، يرتدى الزى الأوروبى المألوف، ويعمل فى وظيفة مدنية، ومن صور هذه المرأة التلميذة التى تذهب إلى المدرسة، نوال فى “خان الخليلى”، وايضا المدرسة رباب فى “السراب” والهام فى “الطريق” و”عايدة” فى “قصر الشوق” وسلوى فى “السمان والخريف” والمدرسة علية، ودرية حبيبة رضا الباهى فى “ميرامار” والصحفية سمارة والطالبة سناء الرشيدى فى “ثرثرة فوق النيل” والابنتان فى “الشحاذة” احداهما شاعرة، والممثلة فى “حب تحت المطر” وزينب دياب فى “الكرنك”، الفقيرة التى تدرس فى كلية الطب، لها موقف اجتماعى، وسهام فى “أهل القمة”.

وتعد سلوى فى “السكرية” هى من أبرز النساء الأوائل فى هذا المضمار، وذلك باعتبار تاريخ كتابة الرواية فى الخمسينات، وتاريخ حوادثها فى نهاية الثلاثينيات، ورغم أنها شخصية ثانوية فإنها تمثل النموذج النقيض تماما لكل نساء الرواية بمن فيهن الشابات الأخريات، فى مثل سنها الموجودات فى الرواية هى تعمل فى مجلة قطاع خاص صغيرة تحمل اسم “الانسان الجديد” كأنها تعبر عن أفكارها ومواقفها، ابوها يعمل ساعيا فى المكان، وهو عبارة عن شقة واحدة، صغيرة، يأتى اليها أحمد الحمزاوى، للسؤال عن مقال أرسله تستقبله، وتخبره أن مقاله سوف ينشر مختصرا فى العدد القادم، يذهب احمد فى البداية للقاء رئيس التحرير، ثم يدخل فى حوار مع سوس، الى مثل هذه الجريدة يأتى ايضا كمال عبدالجواد لنشر مقال عن برجسون، اما ابن اخته احمد الحمزاوى فهو معجب كثيرا بجوستاف لوبون، مما يعكس ثقافة الفتاة التى تعجب بالكاتب الشاب، الذى ينتهج الفكر الشيوعى، وكما أشرنا، فإن هذا النموذج المثقف من المرأة الذى ظهر مبكرا فى أدب الكاتب، ولعلنا رأينا مثيلا له فى شخصية الزوجة هدى هانم التى تعجب جعفر الراوى فى “قلب الليل” وتراه فيلسوف عصره، حيث يقول الزوج عنها انها مثقفة عاقلة رصينة، واعدة معاشرة سعيدة، صار بينها بعد الزواج مزارا لمشاهير ذلك العصر، طه حسين، وكامل الشناوى، وبيرم التونسى، هذه المرأة تختلف عن هدى، فهى ابنة الطبقة الراقية، المثقفة، وهى التى تدفع زوجها أن يندمج فى المنهج العلمى الذى يتحقق به أكبر قدر، الدقة والموضوعية، وصارت تساعد زوجها وقالت له ان الشهادة لا تهم فى ذاتها لكنها الوسيلة الوحيدة المعترف بها للعمل، لقد انتقلت من الفوضى الى حياة زوجية نقية وتحصيل للمعرفة بلا حدود.

من خلال تسعة مداخل حاولنا التعرف على تعددية العلاقات المتقاربية والمتباينة بين الرجل والمرأة فى روايات نجيب محفوظ كما هو واضح فإن هذه العلاقات تعد نموذجا فقط من كم هائل من التعددية التى تتمثل فى هذا الابداع الغزير، خاصة الروايات فهناك كما هو ملحوظ، روايات لم نتوقف عندها، منها “حضرة المحترم”،  “أولاد حارتنا”، “الحرافيش”، وهى ايضا مزدحمة بالأمثلة من التعددية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات