مراكب الليل ـ الفصل الأول من رواية الكاتب محمد العون

08:10 صباحًا الخميس 7 نوفمبر 2013
محمد العون

محمد العون

كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

غلاف الرواية

البحر يبدو فى الظلام مخيفاً .. مرعباً ، لا ضوء مطلقاً فى هذه المنطقة البرية المهجورة ، صوت الهدير المزمجر والرياح القوية وهى تندفع بوحشية نحو اليابسة يخلع القلب ، ويجعل من فكرة وضع القدم فى الماء فكرة مجنونة تؤدى للهلاك المحقق ، لا توجد خلجان أو شواطئ مقوسة نصف دائرية تهدأ عندها الأمواج وتنكسر حدتها ، لتداعب الرمال برفق وهى تدخل بين طرفى القوس اللذين يرسما الشاطئ على الخريطة ويحددا مساحته ، بل يصطدم البحر مباشرة بالأرض الممتدة كخط مستقيم بكل عنفوانه وبجبروت المياه العميقة بما فيها من تيارات لا تكف عن التصارع حتى خط الصدام باليابسة ، فى هذه المنطقة لا تسمح حركة البحر العنيفة بتكوين مساحة منبسطة من الرمال تمتد داخله لمسافة كتلك التى توجد فى الشواطئ ، بالكاد مترين أو ثلاثة ثم تجد المياه العميقة والأمواج العالية وتيار السحب الشديد الذى يُغيب الإنسان فى جوفه خلال ثوان قد لا يظهر له أثر بعدها.

على مبعدة عدة كيلومترات وعند سفح تل رملى تتناثر عليه بقع عشبية خضراء باهتة وبعض النباتات الصحراوية المائلة للاصفرار ، ترقد عدة بيوت واطئة لها طابع بدوى ، مبنية بالطوب الأسمنتى وسقوفها من ألواح الصاج وعروق الخشب.

المطر يهطل بشدة والهواء يأتى من البحر فى هذه المنطقة البرية بارداً كالصقيع ، فى غرفة بأحد هذه البيوت التى لم تدخلها الكهرباء ولا الماء بالطبع ، يجلس جلال الغرباوى القرفصاء ويغطى نفسه ببطانية متهرئة وحوله أربعة عشر شاباً يرتجفون من البرد ، دفع عشرة آلاف جنيهاً ووقع أبوه شيكات وإيصالات أمانة بعشرة أخرى ليصل إلى هذا المكان البائس الذى سيعبر منه البحر ، خرج منذ أسبوعين من عزبة عبد الواحد مصمماً على الهجرة ، المسافة بين الفقر والموت ليست كبيرة ! إذا لم نعش هذه الحياة كما يجب أن تُعاش فلا داعى لها من الأصل والموت أفضل منها ، نعم الموت أفضل من الحياة التى نعيشها ! منذ أن كان طفلاً وهو يسمع عن جمال عبد الواحد وسعد حسين عبد المعطى والحياة الرغدة التى يعيشانها فى أوروبا وما فعله كل منهما لأسرته ، فى المرات القليلة التى زارا فيها البلدة رآهما من بعيد وحسدهما من كل قلبه وتمنى أن يصبح مثلهما عندما يكبر ، سار فى التعليم حتى حصل على دبلوم التجارة ثم .. لا شىء ، لم يجد أمامه سوى العدم ، بين الحين والآخر يعمل لعدة أيام فى الحقول ثم يجد نفسه بلا حول ولا قوة فى البيت لا يجد ما يفعله ، أبوه نفسه عامل أجير لا يملك شيئاً ، جده عاش طوال عمره فقيراً منذ ليلة هروبه وهو شاب بامرأته وعياله من بيته تاركاً خلفه أهله وعائلته ، هذا الهروب الذى لم يعرف جلال أبداً السبب فيه ، لكن جده فتحى كثيراً ما كان يذكر أن حياته تغيرت بعد تلك الليلة التى ترك فيها بيته وبهائمه والأرض التى كان يستأجرها بما فيها من زرع ، دون أن يحدد إن كان هذا التغيير للأحسن أم للأسوأ ..!

لكن حتى فى أحلك الظروف هناك شعاع نور مهما كان بسيطاً قد يكفى لو سار الإنسان على هداه.

سافر خاله منذ سنوات قليلة إلى إيطاليا ، يعمل فى أحد المطاعم التى يمتلكها جمال عبد الواحد ، لم ينزل لزيارة مصر خلال هذه السنوات لأنه لم يستطع الحصول على الإقامة حتى الآن ، لكنه يرسل لهم خطابات بين الحين والآخر ويبعث لهم هدايا وبعض المبالغ المالية مع أبناء العزبة الذين يعملون فى روما.

****

بعد أذان الفجر بساعة جلس عبد الواحد على الدكة أمام بيته ليحلق ذقنه ويسوى شاربه ، بينما شمس الصبح بالكاد تبعث أشعتها الواهنة لتضىء الحقول الممتدة حتى نهاية الأفق ، لم يستطع النوم ظل يتقلب فى فراشه طوال الليل وأعصابه المشدودة لا تدع له فرصة ليغفو ولو للحظات ، كان يشعر بامرأته وهى تحاول النوم دون جدوى ، لكنه لم يكلمها أو يفتح معها باباً للحوار ، ظلا كلاهما يمثل النوم الذى كانا بحاجة إليه فأمامهما فى الغد يوم طويل ، كانا قد شبعا من الكلام البارحة ولم يعد هناك المزيد ، أحاديث طويلة تتشعب إلى فروع لا نهاية لها ثم تعود لتصب فى المنبع الذى بدأت منه ، وأولادهما يتقافزون حولهما وهم يشاركون بتعليقاتهم المرحة فى الكلام الكثير الذى يدور بين أبيهم وأمهم ، ويتداخلون فيما يعنيهم ومالا يعنيهم ، والدار تغص بالزوار من الأقارب والجيران والجميع تشملهم حالة من البهجة فى أحد لحظات الفرح التى لم يجد عليهم الزمن بمثلها منذ أجيال.

قفز عبد الواحد من فراشه بمجرد أن سمع أذان الفجر ينطلق من جامع القرية ، وجد جميع الرجال قد توافدوا لأداء الصلاة كأنهم فى ليلة عيد.

بينما امرأته تعد له طعام الإفطار ألقى نظرة على أبنائه فاروق وعامر وصابر وملكة وأحلام وفتحيه ، وهم يغطون فى نوم عميق من أثر السهر والمجهود الذى بذلوه بالأمس ، له الآن أن يطمئن عليهم وعلى المستقبل السعيد الذى ينتظرهم فى ظل الثورة المباركة ورجالها الذين حولوا مصر إلى جنة الله على الأرض، كما قال عبد المعطى جارهم الذى زارهم بالأمس مهنئاً وقال كلاماً كثيراً لم يفهموا منه إلا القليل ، أتت امرأته تحمل صينية الإفطار وهى تتمايل تحت تأثير الحمل ، نظر عبد الواحد بسعادة إلى بطن زوجته وتفاءل بمولوده الجديد الذى جاء الخير فى ركابه ، وقرر أن يسميه جمالاً لو ولد ذكراً.

قام إلى حجرته ليرتدى ملابسه ، أخرجت امرأته جلباب المناسبات الذى يحضر به الأفراح ومأتم العزاء صيفاً وشتاءً وفردته على السرير ، كان قد استحم بالصابونة بعد رجوعه من صلاة الفجر كما يفعل أيام الجمع والأعياد ، وارتدى طاقم ملابس داخلية نظيف.

لف عمامته البيضاء الجديدة بعناية وتأكد من هندامه ثم خرج تسابقه قدماه على الطريق إلى خارج البلد حيث تنتظره هو ورفاقه من الفلاحين الأجراء الحافلة التى ستقلهم إلى المركز.

ألقى نظرة طويلة وهو يمشى على الأراضى الشاسعة التى تمثل زمام البلد ، آلاف من الأفدنة تزرع بالفاكهة والمحاصيل ، حقول القمح تم حصادها منذ أيام وظهرت الأرض الطينية السوداء وقد تناثرت عليها أكوام التبن وبقايا الحصاد بعد أن امتلأت المخازن بالحبوب ، كان العمل يسير على ما يرام برغم ما حدث وجادت الأرض بمحصول وفير كعادتها ، على مبعدة لاحت المساحات الخضراء لحقول البرسيم والفول وخضراوات الصيف ، كاد عبد الواحد يقفز على الأرض مغتبطاً وهو يقترب من القطعة التى تضم الثلاثة أفدنة ، أكمل طريقه كالحالم وود أن يجرى إلى أرضه ليشم رائحة ترابها وزرعها  كما فعل من قبل ، يوم التقسيم وتحديد المساحات لفلاحى قريته.

نشأ فى هذه الأرض وعمل منذ صغره فى جميع أنحائها ويعرفها كما يعرف كف يده ، ويحفظ تضاريسها وقنوات ريها وجسورها ومصارفها ، بمجرد أن سمع من مسئول لجنة التوزيع بحدود أفدنته الثلاثة المقسمة إلى ثلاث قطع حتى جرى نحو القطعة الأكبر ، لم يكن بحاجة لمن يقوده إليها ، لم ينتظر رجال اللجنة الذين حضروا من مصر بملابسهم الرسمية ورتبهم العسكرية وبصحبتهم عساكر الجيش والبوليس حتى يمروا ويضعوا علامات الحدود على الأرض ، بل ذهب جرياً لينتظرهم هناك فى أرضه والدموع تتساقط من عينيه

وصل إلى الطريق الرئيسى المجاور للترعة وبقيت أمامه مسافة بسيطة ليصل إلى مكان انتظار الحافلة ، وجد عدة رجال من أبناء العزب المجاورة يسيرون على الطريق فانضم إليهم ، كانوا جميعهم يرتدون ثياباً نظيفة وقد تهيأوا للمقابلة بأقصى ما يستطيعون ، وبرغم ما كان يموج فى نفوسهم من فرح ساروا صامتين تنتابهم حالة من الهيبة لما هم مقبلون عليه ، فقد وقع عليهم الاختيار لمقابلة الرئيس وتسلم  حجة الأرض منه شخصياً.

****

هناك ما يزيد على السبعمائة رجل وشاب من أبناء القرية وعزبها يعملون فى إيطاليا وفرنسا بالإضافة إلى عدد قليل سافروا منذ سنوات قليلة إلى اليونان ، التى فتح الطريق إليها أحد أبناء عائلة عبد الواحد أيضاً ، فما أن استقر هناك حتى سافر إليه أصدقائه وزملاء طفولته وبعض أقاربه ، من كثرة الحكايات التى تتناقلها الألسنة وتروى عن هذه الدول فى بلدتهم والتى سمع بعضها من أصحابها أنفسهم ، أصبح يعرف الكثير عن المدن الأوروبية وأسماء أحيائها وميادينها ، بل وبعض شوارعها ومحلاتها المشهورة أيضاً وكذلك أساليب الحياة هناك وطرق المعاملة بين الناس بأكثر مما يعرف عن القاهرة والإسكندرية اللتين لم يزرهما مطلقاً ، فى هذه الجلسات التى كانت تمتد لساعات متأخرة من الليل يقضونها على المقاهى أو عند الترعة بجوار الساقية القديمة ، تعلم الكثير من الكلمات الإيطالية ، حفظها وعرف معناها استعداداً لليوم الذى يحتاجها فيه ، والأهم أنه عرف منهم الطريق إلى سماسرة السفر.

رحلة طويلة بدأها جلال من العزبة حتى وصل إلى هذا المكان ، مر بالإسكندرية ، بعدها قطع الطريق الساحلى حتى وصل إلى مرسى مطروح ومنها إلى السلوم التى مكث بها عدة أيام مع مجموعة من الشبان القادمين من مختلف أقاليم القطر المصرى ، ما يقرب من المائة شاب جاءوا من قرى ومدن الصعيد والدلتا ليتجمعوا عند آخر نقطة من خط الحدود لكى يخرجوا من بلدهم متسللين كأنهم هاربين من جرم  ارتكبوه ، هناك تسلمتهم عصابات المهربين من البدو ، شحنوهم فى سيارات ميكروباص وعبروا بهم الحدود متوغلين فى الصحراء القاحلة ، ساروا فى طرق جبلية وعرة ليومين متتابعين حتى وصلوا إلى المكان الذى سيمكثون فيه لأسبوعين أو ثلاثة حتى يدبر لهم المهربون المراكب لعبور البحر.

برغم المبالغ الكبيرة التى دفعها كل منهم والشيكات التى وقع عليها الآباء والأخوة فإن المعاملة كانت قاسية وتتسم بالغلظة وتصل إلى حد الإهانة ، رجال عصابات التهريب فى حالة توتر دائم لا يقبلون معها أى نقاش بشأن ما يلقونه من أوامر ، يرفعون مسدساتهم وأسلحتهم النارية مهددين بقتل من يعارضهم أو يتسبب فى أى مشكلة لهم ، قالوا بعبارات صريحة إنه لا دية لأى مصرى يُقتل أو يموت فى هذا المكان ، يتعاملون مع جمع الشبان كأنهم قطيع بشرى لا حق لهم فى أى مطلب ، بعد أن وزعوهم على الغرف المغلقة النوافذ ، أخبروهم أن فتح أى نافذة ممنوع تماماً وأن هذه البيوت لابد أن تبدو لأى عابر على الطريق مهجورة بلا سكان ، وأن أى مظهر من مظاهر الحياة يُرى أو يدل على وجودهم فى هذه البيوت سيعرض الجميع بمن فيهم المهربين للقبض عليهم ودخولهم السجن ، هاجس السجن والخوف من رجال الشرطة كان يمثل رعباً حقيقياً لرجال عصابة المهربين ، ويدفعهم للعنف والعصبية للسيطرة على مائة شاب لابد أن يظلوا لأيام طويلة فى حالة سكون تام داخل البيوت البدائية المغلقة عليهم.

****

استغرقت الرحلة إلى المركز ما يقرب من الساعة ، توقفت الحافلة بهم فى الثامنة صباحاً عند ساحة واسعة أقيم فيها سرادق كبير ، غص المكان بالناس وعربات الشرطة العسكرية التى كان أفرادها يقفون فى صفوف منتظمة بينما يشرف الضباط على تنظيم الدخول إلى السرادق وتوجيه سائقى السيارات التى تصل تباعاً إلى أماكن الانتظار ، شخصيات هامة من رجال الدولة ينزلون من الباب الخلفى ، يؤدى الضباط والعساكر التحية لهم بقوة كان ينخلع لها قلب عبد الواحد ورفاقه ، برغم الابتسامة التى تعلو الوجوه والسلام الحار والعناق المتبادل والفرحة التى تبدو أنها تغمر الجميع ، كانت تسود الجو حالة من التوتر التى يسببها حضور الرئيس ، فترة الانتظار التى تسبق قدومه الطاغى تهز الأعصاب ، كل رجل يريد أن يظهر فى أحسن صورة ، وأن يترك الانطباع الأفضل لديه.

قبع عبد الواحد ورفاقه على الكراسى التى أجلسوهم عليها ، أخبرهم أحد الضباط أنه ممنوع القيام أو الحركة أو التدخين ، من يسمع اسمه فى الميكروفون يتجه بالخطوة السريعة إلى المنصة ليسلم على السيد الرئيس باليمين ويمد الشمال ليتسلم الحُجة منه وبسرعة وبعدين يرجع يقعد مكانه.

بعد أن استقر على كرسيه والتقط أنفاسه المبهورة أخذ يتطلع بفضول إلى ما يدور حوله ، لم يكن يعرف إلا القليل عن الأحداث التى تلاحقت فى السنوات الأخيرة ، فالأخبار تصلهم باهتة قد تناثرت أشلاؤها وضاعت ملامحها واختلطت بكم هائل من الأكاذيب والإشاعات ، حتى أنه وجد صعوبة فى تصديق أن عزب قريته لم تعد ملك الخواجات ، لوسيان وأنطون وميشيل وأنهم رحلوا وغادروا مصر كلها بلا رجعة ، القرية الصغيرة التى نشأ فيها هى كل عالمه ، لم يخرج منها سوى مرات معدودة ، حتى أنه زار المركز مرة واحدة من قبل وهذه رحلته الثانية إليه ، لكنه استغرب مع ذلك من هؤلاء الشبان الصغار الذين وجدهم يدخلون السرادق وسط الحفاوة ، والجميع ينحنون لهم ويوسعون لهم الطريق إلى الصف الأمامى حيث يتخذون مجلسهم بكل عظمة ، برغم ما يشعر به من الغبطة والامتنان فإنه أحس بالخوف ، بشكل ما فهم أن مصيره بيد هؤلاء الشبان وهو ما جعله بالفطرة التى توارثها عبر أجيال عديدة يخشاهم ولا يطمئن إليهم ، فعبر سنوات عمره التى لا يعرف بالضبط كم عددها ثلاثة وأربعين ، خمسة وأربعين .. لا يدرى ؟ شاهد قسوة أبناء السادة من الشبان إلا فيما ندر على أمثاله ، تعلم من خبرة السنين أن الشبان عندما يملكون المال والسلطة فإنهم يصبحون قساة غلاظ القلوب ، لا يقبلون أعذاراً ويحبون إصدار الأوامر كيفما أتفق ، معتقدين أنهم بهذا يؤكدون رجولتهم وأحقيتهم فى التصرف برغم أنهم فى معظم الأحيان لا يمتلكون الخبرة ولا يعرفون تحديداً كيف تدار الأمور لكنهم يندفعون بحماس الشباب وطيشه ويخوضون فيما لا يعنيهم أو فيما لا يفهمونه ، عادة ما يتعامل معهم الرجال الأكبر سناً كعبد الواحد وأمثاله من مزارعيهم بالصبر والحيلة ، حتى يبت الكبار ومن بيدهم اتخاذ القرار فى الأمر ويحسمون الموقف الذى غالباً ما ينتهى على خير طالما أن الكبار موجودون.

مر الوقت بطيئاً حتى بلغت الساعة العاشرة موعد حضور الرئيس ، الذى وصل فى موعده تماماً ، وما أن دخل السرادق حتى دوت الهتافات وعلا التصفيق وسادت الحماسة الجميع ، ركز عبد الواحد ورفاقه وجميع من حضر من الفلاحين أعينهم عليه ، وتسمروا على كراسيهم عندما بدأ يتكلم وصوته يدوى عبر الميكروفون خطيباً.

لم يفهم عبد الواحد معظم مقاطع الخطبة خاصة تلك التى كان الرئيس يقرءاها من الورق ، لكنه استطاع أن يفهم ما كان يقوله عندما يترك الورق ويرفع رأسه ليتحدث معهم ببساطة آسرة ، اطمئن إلى أنهم سيتسلمون الأرض فى نهاية الأمر .

استطاع عبد الواحد بصعوبة بالغة أن يتماسك وهو يقوم عن مقعده ويمشى إلى حيث يقف الرئيس ، شاهد الذين صعدوا من قبله وهم يحاولون عبثاً تقبيل يده عندما يمدها ليصافحهم ، كان يسحب يده بقوة ويربت على أكتافهم مبتسماً ، لم يستطع معظمهم مغالبة دموعه وهو يتسلم حُجة الأرض ، واستطاع البعض ممن يمتلكون الجرأة وضخامة الجسد أن يتقدموا خطوة ليعانقوه فيتلقاهم برحابة صدر ويضاحكهم.

عندما وجد عبد الواحد نفسه فى مواجهة الرئيس غلبه البكاء ورغماً عنه أراد تقبيل يده ، لم يجد الرئيس رجلاً مثل غيره من الرجال ، من الصعب معرفة عمره ، يبدو مهيباً ، عظيماً ، كبيراً برغم شبابه ، إنه رجل بكل ما تمثله الكلمة ، تستطيع أن تطمئن إليه وتثق به ، وقف عبد الواحد بعد أن تسلم حُجة الأرض ودعا له بالبركة وطول العمر والصحة ، فابتسم له الرئيس وشكره .

ستبقى هذه اللحظات فى ذاكرة عبد الواحد إلى آخر لحظة فى عمره ، لن ينسى تفصيلة واحدة منها ، سيظل ملمس كف الرئيس وقبضته القوية وهو يصافحه محفوظاً فى وعيه ، وسيستغرق أياماً حتى يفيق من أثر مقابلته.

نزل عبد الواحد من المنصة منتشياً من فرط سعادته مطمئناً إلى الأيام القادمة ، أيام الخير التى سيعيشها هو وأولاده ، كأنه يرى بعينيه الرخاء وحلاوة العيش ، وحمد الله على أن أولاده لن يعانوا بعد الآن الشقاء والفقر الذى عاناه هو وأبناء جيله.

انفض الاحتفال أخيراً ونهض رجال الصف الأول عن مقاعدهم وهم يتنفسون الصعداء بعد أن انتهت مهمتهم بنجاح وقد أدوا ماعُهد إليهم كما ينبغى ، استطاعوا أن يضربوا عصفورين بحجر واحد بمنتهى الكفاءة ، كانوا قد قضوا أسابيعاً طويلة يدرسون ويخططون للقضاء على نفوذ وسلطة الإقطاعيين وأثرياء الملاك ، وفى نفس الوقت يحصلون على تأييد وولاء صغار المُلاك والفلاحين الأجراء الذين يمثلون قطاعاً واسعاً من أبناء الشعب.

***

نظر عبد الواحد من نافذة الحافلة وهى تعود بهم إلى الفضاء الواسع الذى يمتد إلى نهاية الأفق كبساط أخضر ، وقال فى نفسه والله مصر حلوة يا ولاد ، راحت أيام الفقر والذل وأصبحت من المُلاك يا عبد الواحد ، من كان يصدق ! الخواجات خرجوا بدون كلمة ، تركوا كل شىء ، أراضيهم وبيوتهم ورحلوا مع أولادهم وبناتهم وحريمهم وهم يبكون على مصر وخيرها الذى حُرموا منه ونعيم أيامها التى لن تعود ، لا يستطيع أن ينسى كسرة الظهر من الشمس للشمس ، من شروقها إلى غروبها ، وهم منحنون على الفأس لا يرفعون ظهورهم ، وعلى رأسهم الخولى بالخيزرانة يراقبهم بعين حادة وقلب بارد كأنهم ليسوا أقاربه وأهله.

الخواجة لوسيان ينزل من سرايته ليتمشى ويتابع سير العمل ، الحزام الجلدى العريض يشد بنطلونه الكاكى الواسع ، وعلى رأسه البرنيطة الكبيرة وفى يده الكرباج المنثنى ، قبضة يده تمسك بطرف الكرباج المجدول ، كان يهزه فى يده أو يضرب به على بنطلونه عندما يقترب منهم.

– اشتغل يا ابراهيم.

قال الخولى ليُسمع الخواجا وهو يسير متجهاً ناحيتهم ومن خلفه ناظر زراعته ، كان عم إبراهيم رجل كبير فى السن وبعد ساعتين أو ثلاثة يصيبه التعب ، فيحرك يديه بالفأس ليخربش سطح التربة دون أن يضرب بها ليعزق الأرض ، يرتاح بهذه الطريقة لعدة دقائق قبل أن يعاود العزق بضربات قوية محكمة تعكس خبرة أربعين أو خمسين سنة من العمل.

التفت إبراهيم الخولى للخواجة لوسيان ، وأشار بطرف خيزرانته ناحية عم إبراهيم.

– هذا الرجل لا يعمل كما يجب يا سعادة البيه.

أجاب لوسيان بعربيته المتكسرة.

– لا يهم يا ابراهيم .. اتركه ، المهم أنه لا يرفع ظهره !

اعتبرها عبد الواحد ورفاقه من الشبان الذين تقل أعمارهم عن العشرين نكتة من الخواجة فضحكوا ، لكن الخولى زعق فيهم وسبهم ، فكتموا الضحكة وتابعوا العزق.

نصف ساعة فقط هى كل ما ينالونه من راحة ، بعد أذان الظهر يجلسون فى أماكنهم ليتغدوا ، كل واحد منهم يحمل معه غداءه فى منديل ، رغيف عيش وقطعة جبن أو بصلة أو قرطاس ملح وكمون ، ثم يقومون إلى أقرب قناة رى أو إلى الترعة ليغتسلوا بسرعة ويتوضئوا ليلحقوا صلاة الظهر قبل انقضاء النصف ساعة.

فى العزب القريبة التى يملكها وجهاء البلد والبكوات والباشوات الذين يعيش معظمهم فى مصر العاصمة أو فى المركز ، لم تكن الأحوال أفضل ، الشدة والقهر وانعدام الرحمة سمة المُلاك جميعهم خواجات كانوا أو مصريين.

فى بداية عهد عبد الواحد بالعمل كانت اليومية قرش صاغ ثم ارتفعت مع الأيام حتى وصلت إلى قرشين صاغ ونصف لا تكفى لأى شىء ، عندما وصل إلى سن الرجولة أصبح يُعهد إليه بزراعة قطع من الأرض تبلغ فدانين أو ثلاثة يزرعها بالأمر غلة أو برسيماً أو قطناً أو أى محصول آخر حسبما يترأى لهم ، فى مقابل أن يحصل فى نهاية الحصاد على جزء يسير من المحصول ، يورد للمخزن ثلاثين أو أربعين إردباً يأخذ منها إردباً واحداً لا غير ، شهور طويلة من العمل يحصل منها فى النهاية على ما يكفى بالكاد لطعامه ، العمل نهاراً فى الحقول وليلاً فى الرى ، حيث لا يرتفع الماء فى الترع وقنوات الرى إلا فى الليل ، ست أو سبع ساعات سهر عند بئر الساقية أو الطمبوشة والدولاب يدور بواسطة رأس أو رأسين من الماشية ، المواشى مطمع لقطاع الطرق ورجال الليل الذين يسكنون الجبل ويخرجون ليلاً ليسرقوا ما تطوله أيديهم ، وهو ما يصنع مشكلة الحراسة ، مما كان يستدعى مساعدة شبان العزبة ورجالها ، يتجمعون بعد العشاء مباشرة ويتجهون إلى مكان الساقية البعيد عن البيوت فى آخر العزبة ، وكل منهم يحمل سلاحاً ومنديل طعام ، وواحد منهم يُحضر معه بتعريفة شاى وسكر فى قرطاسين تكفيهم جميعاً طوال الليل.

 

****

كما يحدث فى أى سجن كان البدو يوزعون عليهم الطعام الشحيح والماء فى أوقات محددة ، أرغفة خبز يابسة ومعلبات الأطعمة الجافة ، التى بالكاد تسد الرمق وتبقيهم أحياء حتى يصلوا إلى لحظة التخلص منهم والانتهاء من العملية برمتها يضعوهم فى المراكب المتجه إلى شواطئ إيطاليا.

فى البداية قالوا أن مدة الحبس هذه أو التخزين كما يسمونها ، ستستمر ليومين فقط حتى يتم الترتيب مع رجال البحر وتجهيز المراكب التى ستنتظرهم فى عرض البحر ، لكن المدة أخذت تطول والأيام ظلت تمر ورجال البدو يزدادون عصبية ولا يكفون عن زجر الشبان المصريين واتهامهم بالنحس وشؤم الطالع الذى عطل المراكب السائرة وأخرها ، لغتهم تبدو مفهومة برغم اللكنة البدوية الثقيلة وهم يوجهون كلامهم إلى الشبان المصريين ، أما عندما يتحدثون مع بعضهم فإن لغتهم تتحول إلى رطانة سريعة مغلقة تماماً لا يُفهم منها شىء ولا حتى كلمة واحدة.

الأمل وحده يجعلهم يتحملون صعوبة الوضع القاسى الذى وجدوا أنفسهم فيه ، الأيام القادمة التى سينتقلون فيها إلى حياة أخرى تمدهم بمعين من الصبر والقدرة على الصمود أمام ما يتعرضون له ، يتململون فى داخلهم وفى بعض اللحظات يوشكون على الثورة والهياج ضد المهربين ومعاملتهم المهينة وطعامهم السيئ والمكان الخانق الذى يحبسونهم فيه ، لكنهم يتراجعون خشية ضياع الفرصة الوحيدة لهم لتغيير حياتهم ولخروجهم من الأزمات التى تحاصرهم وتُضيق عيشهم ، لحظة انفعال واحدة قد تؤدى بكل المال والجهد الذى بذلوه حتى وصلوا إلى هذا المكان ، الصبر .. لابد من الصبر حتى تنتهى هذه الأيام الصعبة على خير ويحصدوا فى النهاية ثمرة تعبهم.

***

دخول الليل فى هذا المكان كئيب يقبض القلب ، من بعيد يصل صوت البحر بهديره الوحشى يصاحبه صفير الرياح الباردة وهى تدوى وتنفذ من شقوق السقف والنوافذ ، لتلاعب لهب موقد فتائل الجاز تحت براد الشاى ، ينظر جلال إلى الموقد الذى يحتل أحد أركان الغرفة ويتابع بعينيه البراد الموشك على الغليان ، قام بجسده الفارع الضخم وتناول كوب الشاى الذى صبه أحد زملاء رحلته وعاد إلى مكانه ليجلس على الأرض مسنداً ظهره للجدار ، لا يتوقف عن التفكير فى المال وحساب الأجر الذى سيجنيه ، كما سمع من الذين سبقوه بالسفر وأسعدهم الحظ بالعمل فى أوروبا ، ساعة العمل لا تقل عن ستة يورو ، عشر ساعات فى اليوم تساوى ستين يورو أى ما يعادل أربعمائة وخمسون جنيهاً فى اليوم الواحد ، يعنى ما يزيد على الثلاثة عشر ألف جنيه فى الشهر ، ستين فى ثلاثين تساوى .. تساوى ألف وثمانمائة يورو فى الشهر ، من الممكن له أن يعمل لأثنتى عشرة ساعة بل ستة عشر فى اليوم ليزيد المبلغ .. لم لا ؟ سيعيش بأقل قدر من النفقات ، سيدفع لخاله أولاً المبلغ الذى ساعده به ثم يرسل لأبيه عشرة آلاف جنيه كل شهر ، حتى يسدد باقى تكاليف السفر ويسترد الشيكات ثم يجدد البيت المتهالك الذى يعيشون فيه ، يشترى أثاث جديد وأجهزة كهربائية وسيارة نصف نقل ، ويجهز شقيقاته للزواج وهو مرفوع الرأس طالما جيبه عامر بالمال ، يدفع مصاريف إخوته الصغار فى المدارس ليكملوا تعليمهم … بعد أن تستقر أحوالهم ويضمن أن أسرته تجاوزت حد الفقر ، ساعتها يستطيع أن يرجع من السفر ليتزوج .. الزواج ما أصعبه هذه الأيام ! الشبكة والمهر وحدهما لا تقلان عن عشرة آلاف جنيه ، لا يوجد رجل فى العزبة يزوج ابنته بأقل من هذا المبلغ ، عند الناس الأكثر ثراءً يزيد بزيادة مستوى العائلة حتى يصل إلى خمسين ألفاً ، بعد ذلك يأتى الأثاث وتجهيز ما يلزم لفرش البيت ، وقبل هذا وذاك الحصول على سكن بين بيوت العزبة التى ضاقت على أهلها ولم يعد فيها موضع خال !!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات