القصة الكورية الشعبية تشون هيانج: الرَعيَّة الصالحة لا تخدم ملكين!

08:33 صباحًا الأحد 8 ديسمبر 2013
محمد صلاح الدين

محمد صلاح الدين

صحفي ومدون من مصر، مهتم بالشأن الكوري

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الصراع بين الخير والشر..مواجهة الفساد ..الشجاعة..الرومانسية والحب..كلها قيم تجمعت في قصتنا الشعبية “تشون هيانج”.. تلك القصة التراثية ذات المذاق الشرقي في عرضها وحبكتها وتعقيداتها وحلولها .“تشون هيانج” تجسيد لتراجيديا واقعية بشكل يتميز ببساطة عرضه ونصويره للأحداث وتسلسلها بسلاسة تدفعك لقراءتها حتى النهاية في يوم واحد بل ربما خلال جلسة واحدة .تأخذك القصة مع سطورها الأولى إلى عالم آخر .. إنها كوريا القديمة في حقبة مملكة تشوسون أعظم الممالك الكورية .مع وصف يوم دانو تشعر بصفاء الطبيعة والهواء النقي بقرية نام وون يدخل إلى رئتيك ليشعرك بمزيد من الصفاء الذهني والنفسي يدفعك لمزيد من اشباع نهمك في قراءة مزيد من تفاصيلها .

ومع اللقاء الأول بين العاشقين بطلي قصتنا تغمرك الفرحة والرغبة .. فرحة هذا اللقاء الرومانسي الجميل ورغبة القراءة التي تزداد شيئا فشيئا مع الغوص في أعماق القصة  حتى النهاية السعيدة التي تنتهي بالزواج .. ولكن تبدأ أحداث القصة بالتعقد مع سفر الحبيب إلى العاصمة هيانج دان – الاسم القديم للعاصمة سيول- مع أبيه المحافظ لتجد بطلتنا نفسها بمفردها في مواجهةالحياة بعد أن شاء القدر أن يجمع الحب بينها وبين لي مونج ريونج ” دو ريونج لي ” ويتكلل بالزواج .

يهبط على القرية نام وون حيث وقعت أحداث قصتنا محافظ جديد كالكابوس ..إنه بيون هاك دو ليحل محل والد بطلنا .. لكنه كان فاسدا ظالما لتتعقد أحداث القصة بشكل أكبر حينما يطلب من بطلتنا ” تشون هيانج” أن تصبح محظية له ..فتأبى تشون هيانج إلا أن تحافظ على طهارتها وتنفيذ ما أمرت به التعاليم الكونفوشية ..فالرعية الصالحة لا تخدم ملكين والزوجة الصالحة أيضا لا تخدم رجلين .أمام ذلك تقاسي “تشون هيانج ” أقصى ألوان العذاب وتعاني في غيابات السجون لرفضها إطاعة أوامر المحافظ الفاسد الذي كان لا يستمع إلا لرغباته وشهواته .

في الوقت ذاته ينتقل المشهد إلى العاصمة هيانج دان حيث يقيم بطل قصتنا لي مونج ريونج ” دو ريونج لي “يستعد في الدخول لاختبارات القبول في السلك الحكومي والتي يشرف عليها الملك بنفسه .. يدخل لي مونج ريونج الاختبارات ليجتازها بنجاح منقطع النظير .. فيعينه الملك مبعوثا سريا خاصا له بمقاطعة جولادو حيث تقع القرية التي شهدت قصة حبه وزواجه ليتفقد أحوال الرعية ويتابع ما يفعله محافظو المقاطعة .يكشف لي مونج ريونج فساد المحافظ بيون هاك دو وأمره مما فعله بحبيبته تشون هيانج ليأمر بعزله ووضعه في السجن ، لتتخلص تشون هيانج من مذلة الأسر لتعيش معه بقية حياتها كزوجة طاهرة نقية صالحة .. ولتعلمنا معاني الإخلاص والتضحية والفداء .. إنها تشون هيانج .

الفكرة:

إن الفكرة التي تدور حولها قصتنا ” تشون هيانج “على الرغم من ظهورها كفكرة بسيطة كغالب القصص التراثية العالمية الشهيرة إلا أنها تميزت بالعمق في عرضها من خلال حكمة كونفوشيوس ” الرعية الصالحة لا تخدم ملكين والزوجة الصالحة لا تخدم رجلين”التي تحث على الإخلاص .. إنها القيمة الرئيسية في قصتنا .

والإخلاص إحدى القيم العالمية الإنسانية التي لا يستطيع أحد أن يختلف عليها أو يغلفها مهما اختلف المكان أو الزمان أو الظروف .. فتبقى قيمة الإخلاص القيمة المستوعبة من جميع البشر مما يعطي لقصتنا القدرة على الانتشار والاستمرار .

وعن طريقة عرض الفكرة فقد جاءت طريقة عرض الفكرة في قصتنا سلسة ومنطقية مما يسهل على المتلقي استيعابها أيا كان عمره أو مستواه التعليمي وأيا كان القالب الذي تعرض به ” قصة مكتوبة.. مسرحية .. عمل سينمائي” . ويمكن تصنيف فكرة تشون هيانج على أنها فكرة جيدة توازنت فيها الحبكة مع رسم الشخصيات سواء كانت رئيسية أم ثانوية بحيث لم تستحوذ إحداهما على قلب وعقل القاريء على حساب الأخرى.. فالفكرة والشخصيات يسيران في قصتنا بشكل متوازٍ. بجانب الفكرة الرئيسية ناقشت قصتنا التراثية عددا من الأفكار الفرعية والقيم العالمية الأخرى كالصدق والأمنة ضرورة مكافحة الفساد الذي يمكن قد يستشري في أي زمان أو مكان ، ويسعى الشرفاء دائما للمقاومة والوقوف إلى جانب الحق .

 

وإذا كان الصراع سمة أي قصة أو رواية سواء كانت من خيال مؤلف أو من واقع الحياة فالصراع بين الخير والشر هو سمة قصتنا الرئيسية . قصة الحب الطاهرة بين بطلي قصتنا تشون هيانج و لي مونج ريونج قد شكلت القوة اللازمة للوقوف إلى جانب الحق والدفاع عنه في مواجهة الشر المتمثل في المحافظ بيون هاك دو وفساده .. وكعادة أي قصة ينتصر الخير في النهاية المتمثل في حب بطلينا برغم البعد بينهما والصراع الطبقي المتمثل في انتماء والدة تشون هيانج “وول ماي ” إلى طبقة الكي سينج ليرسل جرس إنذار إلى المجتمع الطبقي في تشوسون إلى أهمية المساواة بين أبناء الشعب .. وأن الحب والشرف والإخلاص لا يرتبطان بطبقة اجتماعية .

إن إعطاء القصة التراثية اسم البطلة ” تشون هيانج ” هو في حد ذاته انتصار للمرأة على مستوى الثقافات الشرقية خاصة أن المرأة في ذلك التوقيت لم تكن قد حصلت على حقوقها الكاملة بالمجتمعات الشرقية .. فمثلا سنجد في التراث العربي  أغلب الأبطال من الرجال مثل عنتره بن شداد أو قيس بن الملوح .

الشخصيات:

وعن شخصيات قصتنا فيمكن القول إنها الباعث الرئيسي للأفكار والمباديء التي ناقشتها الرواية ، فتشون هيانج هي الباعث الرئيسي داخل القصة للأمانة والإخلاص والطهارة ، ولي مونج ريونج هو الباعث الرئيسي للجد والاجتهاد في العمل والوفاء بالعهد . هذه البواعث لم تجد نفسها فقط مع الشخصيتين المؤثرتين داخل القصة لكن أيضا وجدت مع أم تشون هيانج ” وول ماي ” حيث إنها كانت باعثا لقيمة الصبر . واستطاع الراوي وصف شخصيات روايتنا بشكل يدفع المتلقي إلى استكشاف خواصها واحدة تلو الأخرى بمفرده عبر تسلسل الأحداث . ففي بداية القصة ظهرت تشون هيانج كفتاة بريئة وجميلة تقع في حب شاب من أبناء الطبقة العليا وتتزوجه .. ولكن تسارع الأحداث يكشف صفة الإخلاص في تشون هيانج مع سفر زوجها وطهارتها عند رفضها إغراءات المحافظ بيون هاك دو . وقد وصف خادم لي مونج ريونج ” دو ريونج لي” بانج جا تشون هيانج في بداية أحداث القصة بشكل مباشر على أنها فتاة مهذبة ودمثة الأخلاق ،وأنها تنشد الشعر وأنها عفيفة .

على الجانب الآخر سنجد أن بطلنا لي مونج ريونج في بداية القصة شابا رومانسيا من أبناء الطبقة العليا يقع في غرام فتاة من عامة الشعب فيتزوجها لكن تسارع الأحداث أيضا كشف اجتهاده للوصول إلى ما يريد وإخلاصه للملك ووفائه بعهده عند عودته لحبيبته تشون هيانج التي لم يتخلى عنها بالإضافة لمواجهته للفساد المتمثل في المحافظ بيون هاك دو .

ومع تصاعد الأحداث في روايتنا سنجد أيضا أن وول ماي والدة تشون هيانج قد تجسد صبرها في تربيتها لابنتها وصبرها على ما عانته مع ابنتها فترة سجنها بل وما عاناته مع زوج ابنتها حينما رأته متنكرا واعتقدت أنه قد فشل في مهمته وافتقرت عائلته فجأة لتساعده وتقدم له الطعام وتنفذ ماوصته به ابنتها من تقديم الرعاية له إذا توفيت.

وإن أردنا التعمق فيما يتحلى به بطلي قصتنا من هوايات سنجد أن كليهما يحفظ الشعر ويلقيه ويكتبه .. إن حفظ الشعر وإلقائه وكتابته إن دل على شيء فإنما يدل على مدى ما تتمتع به شخصيات قصتنا الرئيسية ” تشون هيانج ولي مونج ريونج ” من صفاء ذهني ونفسي وسعي إلى المثالية .. بل ومدى التقارب بينهما ليس فقط في السن بل أيضا في الموهبة .

ويظهر ذلك جليا فيما ألقاه لي مونج ريونج ” دو ريونج لي ” أمام المحافظ بيون هاك دو من أبيات عن ظلمه وفساده .

وطوال أحداث القصة سنجد أن طريقة تحدث العاشقين تدل على رقيهما وتربيتهما ويدلل بشكل منطقى على مبادئهما وخصالهما التي ظهرت واحدة تلو الاخرى طوال أحداث القصة .

أسماء أبطال القصة كان لها مدلولاتها الخاصة فبطلنا لي مونج ريونج قد ظهر معنى اسمه واضحا جليا حينما تحدثت عنه وول ماي والدة تشون هيانج قائلة “إن مونج تعني حلما وريونج تعني تنينا باللغة الصينية ، لقد رأيت هذا في الحلم ، وها هو ذا يتحقق”

والباحث في اللغة الكورية سيجد أن اسم بطلتنا ” تشون هيانج” إذا ما أرجعناه إلى الرموز الصينية 春تشون وتعني الربيع وهيانج香 تعني الربيع ،أي أن الاسم الكامل لها هو عطر الربيع مما يدل على النقاء و الطهارة التي تتمتع بها بطلة قصتنا.

الزمان:

وإذا انتقلنا إلى زمان حدوث القصة “عصر مملكة تشوسون ” في عهد الملك سوك جونج “1674-1720″ أي بعد اختراع الملك العظيم سي جونج للأبجدية الكورية ” الهانجل” وهو ما يفسر سهولة تعلم تشون هيانج للقراءة والكتابة والشعر الكوري بالرغم من انتمائها لعامة الشعب .

من جهة أخرى سنجد أن طريقة اختيار موظفي السلك الحكومي تتم عن طريق اختبارات يشرف عليها الملك شخصيا وهو ما يعطي منطقية لدخول بطل قصتنا لي مونج ريونج لاختبارات السلك الحكومي وعودته مرة أخرى إلى قرية حبيبته وبطلة قصتنا تشون هيانج” نام وون” جولادو كمبعوث سري خاص بالملك لينهي فساد المحافظ بيون هاك دو ويعود مرة أخرى إلى حبيبته لتنتهي القصة نهاية سعيدة . ومع بداية القصة سنجد أن موعد لقاء الجبيبين الذي حدده القدر لهما هو يوم دانو في إشارة واضحة للحب والطبيعة في الثقافات الشرقية .. فيوم دانو شبيه بيوم شم النسيم لدى المصريين أو عيد النيروز عند الفرس ، وهي أيام يخرج فيها الجميع للتنزه والتمتع بجمال الطبيعة سواء مع الأسرة أو بين الأحبة وبعضهم . وبرز هذا في قول لي مونج ريونج ” كل شيء بلا معنى لأنني بلا صديقة .. فما نفع الربيع ” .

المكان:

وعن تأثير المكان في أحداث القصة سنجد أن موقع الأحداث الأساسية في قرية نام وون بمقاطعة جولادو بعيدا عن العاصمة هيانج دان التي لم تنتقل لها أحدث القصة سوى مرة واحدة أثناء اختبارات بطل قصتنا ولقائه بالملك سوك جونج ، أما باقي الأحداث التي شهدتها تلك القرية الصغيرة إن دلت على شيء فإنها تدل على النقاء والفطرة التي يتمتع بها أبطال قصتنا لا سيما تشون هيانج التي قضت جل حياتها فيها حيث ولدت وترعرعت.  وإذا قمنا بربط الأماكن بشخصيات قصتنا فإن الوصف المباشر هو سمة لمنزل بطلتنا ، ويظهر ذلك في وصف خادم بطل قصتنا بانج جا لبيت بطلتنا وكيف تحيطه أشجار الصنوبر والخيزران وهو ما جعل دو ريونج لي ” لي مونج ريونج ” بطلنا يقول ” إن هذا يعني أن هذا البيت طاهر ، أظن أن من يسكن في بيت طاهر يكون هو أيضا طاهر ” إن سكنى القصور بالنسبة لدو ريونج لي ” لي مونج ريونج ” جعلت منه إنسانا نبيلا وصالحا وهو ما جاء على لسانه ” الرجل الصالح لايكذب ويجب أن يتحلى بالمروءة والشجاعة ” .

الحبكة:

وإذا أردنا تقييم أحداث قصتنا سنجد أنها اتسمت بالترتيب المنطقي فالبداية تبدأ مع والدة تشون هيانج ثم ظهور كل من  تشون هيانج ودو ريونج لي كأبطال لقصتنا وحياتهم معا كزوجين لتصل العقدة مع سفر الزوج وظهور المحافظ الجديد بيون هاك دو ليصبح العقدة الأساسية في الرواية ثم سجن تشون هيانج الذي يعتبر ذروة الأحداث حتى يقدم الحل مع عودة دو ريونج لي ” لي مونج ريونج ” وانتهاء المحافظ الفاسد . وبجسب التصنيف الأدبي لأنواع الحبكة فيمكن فإنه يمكن تصنيفها على أنها حبكة هدف حيث إن هدف أبطال قصتنا هو العيش معا لا يفرقهما سوى الموت . وختاما يمكن إجمال أحداث روايتنا”تشون هيانج” على أنها سفير حقيقي للثقافة الكورية وباعثا حقيقيا للقيم الإنسانية النبيلة التي طالما جسدتها بطلة قصتنا واستكملها العاشق لي مونج ريونج “دو ريونج لي” بوفائه بعهده الذي اقتطعه على نفسه.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات