مشاهد عربي أمام قنوات التليفزيون الآسيوي

12:33 مساءً الأحد 15 ديسمبر 2013
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تبدو العلاقة بين قنوات التليفزيون الموجهة الناطقة باللغة العربية، ومشاهديها العرب، مثل حوار من طرف واحد. إذ أن تلك القنوات لا تستفتي سوى إدارتها في المواد التي تبثها، وقد تتشابه في ذلك مع قنوات عربية حكومية كثيرة، تظهر وتبقى دون حراك، لأنها تعتقد ـ أو يعتقد القائمون عليها ـ إن ديمقراطية المشاهدة تعني حرية أن أبث ما أريد، في مقابل حرية أن أتابع أو لا أتابع ما يُبث.  وإذا كنا ـ بداية ـ نبحثُ عن ماهية الدور الذي تؤديه وسائط الإعلام في حياتنا اليوم، سندرك أن هذا الدور يمكن أن يطال كل شيء نقوم به! فقد جعلت هذه الوسائط من المسافات تتقلص حتى تكادُ تتلاشى، ولم يعد خافيا على من يريدُ المعرفة ما يحدث حوله، في مجتمعه الضيق، أو الواسع، أو الكوني. كما استطاعت هذه الوسائط عبر حيلها المتكاثرة من برامج ومساحات مكرسة من ساعات إرسال أن (توجِّه( الرأي العام محليا وقطريا وعالميا بشكل غير مسبوق، بالكلمة المكتوبة والمسموعة، وبالصور الثابتة والحية، على حد سواء.

 لم يعد الإعلام سلطة رابعة وحسب، بل أصبح مهيمنا على كل السلطات، ولسنا نغرق في التضخيم إذا قلنا بأن وسائط الإعلام اليوم أصبحت تنشيء الحروب أو تذكي نارها، وقد كانت في الماضي القريب تكتفي بتغطيتها وحسب، ذلك بعد أن دشنت ساحات المعارك الإعلامية وانفتح الفضاء على مصراعيه لعالم جديد هو قنوات تلفزيونية عابرة للحدود تبثها الدول والمؤسسات والجماعات والأفراد من أجل أن تجد تلك القنوات لنفسها دورًا أو أن تقول كلمتها في ذلك الحوار (الكوني( الذي كاد ضجيجه يصم الأذان عما سواه.

 وإذا عدنا بالذاكرة إلى بدايات البث التليفزيوني نجد أن المادة المقدمة في البداية كانت لا تتخطى النشرة الإخبارية بفقراتها المكرورة، والقصص الخبرية المصورة، والحوارات مع قادة المجتمع، أو خطب هؤلاء القادة، والمواد الترفيهية السمعـبصرية.

 أما اليوم فقد أصبحت المواد التي تُبث تشمل كل شيء، ولم تعد هناك مادة ممنوعة، أو عصية، أو صعبة، أو محرمة على البث، كما أصبح ضيوف البرامج لا يضمون القادة وحسب، بل يشملون نجوم الرياضة، وأيقونات الفنون، والناطقين بالقانون، وطهاة المطابخ، وعارضات الأزياء، وأحداث الشوارع، حتى لتكاد تمتد القائمة لتشمل المُجرَّمين من قبل الحكومات والمجتمع!

 في خضم ذلك كله، وبعد أن امتلأ الفضاء العربي بقنوات تليفزيونية تمرح بين النقيضين، المحافظ الصارم، والمنفتح العارم، وبعد أن بات انشغال الجمهور العربي بهذه القنوات يقينا لا جدال فيه، إذ تتحكم في هذا الجمهور الأخبار التي تبث، والصور التي تعلن، والكلام الذي يتداوله المحاورون، والسباب الذي يبتادله المتعاركون، بدا للقوى المراقبة للعرب ـ في الغرب والشرق ـ أن الوقت قد حان لتدخل حلبة ذلك الصراع الكوني الثري، معتمدة ـ هذه القوى ـ على ما لديها من تقنية، وما تملكه من خبرة، وما تضخه من مال، ومن تجنده من قوى ناعمة لتتحدث باللغة العربية.

سنحاول استعراض تاريخ قنوات التليفزيون الموجهة الناطقة باللغة العربية، وملامح حضور الثقافة العربية في تلك القنوات، ومدى تأثير القنوات المستعربة في محيطنا العربي.

تاريخ البث الفضائي

 تعد التوابع الصناعية ـ أو وفقا للتعبير الدارج الأقمار الصناعية ـ وسيلة متميزة لتبادل الاتصالات بين الدول المختلفة، وهو ما ترتب عليه إحداث ثورة حقيقية في مجال البث الإذاعي، ففي أواخر الأربعينات، اقترح البعض وضع ثلاثة توابع صناعية في مدارات فضائية تبعد عن الأرض مسافة 22.300 ألف ميل فوق خط الاستواء حيث يسير أي جسم في هذا الموضع بسرعة الأرض وفي اتجاهها دون الخروج عن المدار، بغرض تحقيق نظام متكامل للاتصالات الفضائية باستخدام هوائيات ثابتة.

 في الرابع من أكتوبر عام 1957 أرسل التابع السوفيتيSputnik1، وبعد ذلك بثلاثة أشهر أطلق التابع الأمريكي Explorer 1 ، وهو ما أتاح لأول مرة استخدام الفضاء في الاستشعار عن بعد، واستطلاع المناخ والاتصالات والبث الإذاعي. وكان للتابع الهندي فضل تأكيد هذا كله حيث وجه البث الإذاعي عن بعد لمناطق القرن الهندي المحرومة من تلقي الإرسال التليفزيوني. وفي عـام 1962 أطلقت الولايات المتحـدة  تلستار Telestar  فنقل البرامج التليفزيونية من بلد إلى آخر محققاً بذلك ثورة تكنولوجية عظيمة الأهمية في مجال الاتصالات ولحق بهذا التابع سلسلة من التوابع الصناعية الأمريكية والأوربية.

 تنبه العرب في وقت مبكر إلى أهمية الاستغلال العلمي والثقافي لهذه التكنولوجيا الحديثة، فصدرت عدة توصيات بضرورة إنشاء شبكة فضائية للعرب . وفي عام 1976 أنشئت المؤسسة العربية للاتصالات الفضائية تحت اسم عربسات، ARABSAT  بغرض خدمة الاتصالات بين بلاد الوطن العربي بوجه عام، ونقل الإرسال الإذاعي والتليفزيون المحلي والجماعي فيما بينها بوجه خاص، وهو ما تحقق بإطلاق التابع الصناعي العربي الأول في الساعة الواحدة من صباح السبت الموافق الثامن من شهر فبراير عام 1985 من قاعدة كورو الجوية بمستعمرة جويانا الفرنسية بأمريكا الوسطى  بواسطة الصاروخ الفرنسي آريان،  كما أطلق تابع جديد بواسطة مكوك الفضاء الأمريكي ديسكفري في 18 من يونيو  من العام نفسه،  وفي عام 1992 أطلق التابع الثالث من الجيل الأول ليوفر خدمات الاتصالات وقناة للتبادل الإخباري والبرامجي وقنوات البث المحلي، وتم التعاقد مع Aerospatiale لتصنيع تابعين من الجيل الثاني وهما عربسات A2 الذي أطلق عام 1996 وحولت إليه جميع قنوات البث المباشر وعربسات B2 الذي أطلق في نهاية العام نفسه وحولت إليه جميع الخدمات الإقليمية والاتصالات وقنوات التبادل، ثم اتفق على تصنيع عربسات BSS1 الحامل لـ 22 قناة.

كان أول تابع صناعي مصري للبث التليفزيوني المباشر هو Nilesat  الذي بدأ العمل في الأول من يونيو سنة 1998 وعمره اثنتا عشرة سنة. ويتمتع هذا التابع فضلاً عن قنواته السمعية وقنوات المعلومات بطاقة بث 84 قناة إذاعية موجهة إلى المنازل التي يحوز أصحابها أطباق مخروطية صغيرة قطرها (60سنتيمتر)، ويغطي التابع العالم العربي كله من المغرب إلى الخليج العربي وبعض بلدان أوروبا الغربية.  وقد استأجرت شبكة راديو وتليفزيون العرب (ART) جزءً منه والجزآن الآخران مستأجران من محطات تليفزيونية لبلدان يغطيها نطاق بثه

 لم يكن هذا التابع استثمارًا حكوميًا بحتًا حيث تبلغ حصة الحكومة المصرية فيه 20% ، ويملك اتحاد الإذاعة والتليفزيون 40%، والباقي طرح في بورصة الأوراق المالية للبنوك والأفراد في شكل أسهم غطيت قيمتها بالكامل وقد شجع هذا كله الحكومة المصرية على التعاقد على صنع التابع الثاني في مارس عام 1999 مع نفس الشركة الفرنسية صانعة التابع الأول حيث استفادت مصر من التصنيع بنفس سعر التابع الأول مع خصم خاص يناهز 30% من سعر التابع الأول تطبيقاً لعقد تصنيع الأول، وقد أطلق في السابع عشر من أغسطس سنة 2000 التابع الجديد NileSat 102 ، وبدأ التشغيل بطاقة بث بلغت مائة محطة رقمية موجهة إلى حائزي الأطباق المخروطية ذات قطر 60 سنتيمتر، وعمره خمسة عشر عامًا.

 وإذا كان استقبال القنوات التلفزيونية العربية في أوروبا يطرح لديهم مشكلة ثقافية تتعلق بتماسك المجتمع ووحدته، فإن المخاوف ذاتها باتت بينة لدى المجتمعات العربية التي تستقبل البرامج الدخيلة من الغرب والشرق، من منابع غير عربية.

 وقد جاءت توصية المؤتمر التاسع لوزراء الثقافة العرب في اجتماعه في بيروت في السادس عشر من شهر يناير عام 1994 بدعوة البلدان العربية إلى إنشاء قناة تلفزيونية عربية مشتركة تخصص للبرامج الثقافية، وهي دعوة فيها حث للدول العربية على الالتزام بقرار مجلس وزراء الإعلام العرب في الدورة الرابعة والعشرين التي عقدت في تونس خلال شهر أغسطس 1988م بالاستفادة من القناة التلفزيونية للقمر الصناعي العربي والتي كلفت الدول الأعضاء ربع تكلفة القمر ولم يستفد منها أحد إلى أن استأجرتها مصر في نهاية عام 1990 لتبث منها قناتها الفضائية الأولى وكان المتبقي من العمر الأساسي للتابع هو عامان، وهو ما جعل باقي البلدان العربية تدخل المجال بقوة!

 وبدأ الحضور العربي بقنوات فضائية ـ على الترتيب ـ بقناة مركز تلفزيون الشرق الأوسط  وقـنوات راديو وتلفزيون العرب ، وقناة أوربت  وقناة الجزيرة  وقنوات النيل المتخصصة إلى جوار قناة النيل الدولية باللغة الإنجليزية والقنوات الفضائية الناطقة باللغة العربية.

 وتعد الإذاعة بواسطة التوابع الصناعية ذات الإرسال الإذاعي المباشر بثاً إذاعياً وفقاً لاتفاقية برن واتفاقيتي جنيف (المعروفة باسم الاتفاقية العالمية) وروما . ويجب أن يتمتع أصحاب الحقوق من المؤلفين أو خلفهم والمؤدين والعازفين ومنتجي الفونوجرام وهيئات الإذاعة عند البث الإذاعي المباشر عبر هذه التوابع الصناعية لمصنفاتهم بنفس الحقوق التي يتمتعون بها عند البث الإذاعي التقليدي (بواسطة المحطات الأرضية) كما أن المسئول عن البث الإذاعي المباشر عبر التوابع الصناعية هو القائم بالإذاعة عند البداية (من يمنح الأمر بالإذاعة) وإذا تم التوصيل العلني (البث بغرض الاستقبال من الجمهور) عن طريق تابع صناعي للإرسال الإذاعي المباشر ، تعد عملية التوصيل (البث) واقعة، في نفس الوقت، في البلاد التي ترسل منها الإشارات حاملة البرنامج وفي كل الدول التي يغطيها التابع الصناعي بإرساله (وللجمهور المستهدف بتوصيل (ببث) المصنفات السمعية البصرية).

أما القوانين الوطنية الواجبة التطبيق وفقا لاتفاقيات برن والعالمية وروما – والتي تأخذ جميعها بمبدأ المعاملة الوطنية – فهي ، في آن واحد، قانون الدولة التي ترسل منها الإشارات حاملة البرنامج وقانون كل دولة مغطاة بإرسال التابع الصناعي .  

 نشأة قنوات التليفزيون الموجهة الناطقة باللغة العربية

 قبل التليفزيون، كانت الإذاعات الموجهة هي نقطة البداية لمخاطبة العرب من شرقي العالم ووغربه. ففي 22 مارس 1925 أي بعد عام ونصف على زلزال كانتو الكبير في اليابان تم إطلاق أول بث إذاعي في الياباني من هضبة أتاغو شمال قبور توكوغاوا في حديقة شيبا، وبعدها أنشأت الإذاعة على عدة مراحل، في أعوام 1926، و1931 وأخيرًا 1941 حيث قام الجيش الياباني الإمبراطوري بعولمة الإذاعة لتبث ب16 لغة عالمية منها العربية. وقبل ذلك التاريخ بقليل انطلقت أشهر إذاعة غربية ناطقة بالعربية على الموجات القصيرة، ونقصد بها محطة هيئة الإذاعة البريطانية التي باشرت خدمتها العربية في العام 1938 وقد أصبحت علامة فارقة على الخدمة الصحفية، بغض النظر عما كانت تخطيء فيه أحيانا بعدم حيادها في بعض جولات الصراع العربي الإسرائيلي.

 كان تاريخ بدء القسم العربي في الـ BBC مثيرًا للانتباه، فقد كان هناك هدفان مختلفان آنذاك، إذ على الرغم من أن الحكومة البريطانية طلبت من الـ BBC أن تبدأ في عام 1938 بثها باللغة العربية لأن الحكومة البريطانية حينئذ كانت قلقة حول مدى تأثير البرامج الألمانية والإيطالية ـ التي كانت تبث من إيطاليا ـ وتأثيرها على العالم العربي. كانت رد الـ BBC   الرفض، لأنها لم ترد أن تمارس ما يمكن أن يوصف بأنه دعاية سياسية، وقد استمر الجدل بين الحكومة والـ BBC على مدى عامين، التزمت الـ BBC خلالها بأن الـ BBC وكهيئة إذاعة عامة يجب أن تقرر ما هو خبر يمكن إذاعته، ولذلك وفي أول مادة خبرية بإذاعة عام 1938 التي نشأت على هذا الأساس، في الثالث من يناير عام 1938 أذيعت قصة بطلتها السلطات البريطانية التي قامت بشنق عربي في فلسطين صبيحة ذلك اليوم لامتلاكه بندقية وذخائر، وكانت تلك قصة حقيقية، ولكن الحكومة البريطانية استشاطت غضباً لأنها لم ترد للـ BBC أن تنشر مثل هذه الأخبار.

 وما أوردتُ هذه القصة في بداية التأريخ للقنوات الموجهة إلا لكي أنبه إلى حقيقة الارتباط  العضوي المبكر بين الصوت الحكومي والصدى الإذاعي. وهي الحقيقة التي استمرت مع الإذاعات حتى اليوم، وأعربت عن نفسها بقوة بعد أن أصبحت الإذاعة مرئية، سواء كانت تبث من الشرق الأقصى أم تنتمي للغرب الأدنى.

 النسخة التليفزيونية من القسم العربي في الـ BBCبدأت بعد أكثر من 50 عاماً من النجاح الإذاعي، وبعد أن أصبح العالم يتنفس تليفزيونيا. لكن تلك النسخة التليفزيونية من B.B.C العربية التي انطلقت في يوليو عام 1994 فشلت، وأجهضت بعد أقل من عامين عندما اصطدمت سياستها الإعلامية بحساسية الشركاء العرب. كما وجدت خدمات تليفزيونية أخرى الطريق إلى المشاهد العربي عبر البث الفضائي في المنطقة العربية في شبكة قنوات (اليورونيوز) الإخبارية التي تبث بأكثر من لغة من بينها العربية، والتي انطلقت في العام 1997 بدعم مالي محدد المدة من المفوضية الأوروبية، لكن حظها لم يكن أوفر من سابقتها، فتوقفت بعد ذلك بعامين تحت وطأة أزمة مالية!

 بعد الحادي عشر من سبتمبر بما شكله من علامة تاريخية فارقة يقاس بما بعدها وما سبقها، حاولت القنوات الفضائية ـ التي دخلت سماء العلاقات العربية الغربية الملبدة بغيوم الحساسية المتبادلة والنفور من كلا الجانبين بل والشك فيهما ـ حاولت أن يكون لها دور في حوار حضاري، لذا بدأت القوى (الكبرى) في كشف ستار محاولاتها الإعلامية لذلك الحوار.

وحسب رأي إيريك بيترمان مدير عام إذاعة وتليفزيون ألمانيا فإن العالم الإسلامي بات يمثل أحد أهم محاور التركيز لدى مؤسسته، ولكون الدول العربية جزءًا مهما من هذا العالم، فقد سعى إلى تيسير فهم ألمانيا على المتلقي العربي من خلال ترجمة برامج ألمانية. وهكذا بدأت مؤسسة التليفزيون الألماني DEUTSCHE WELLE خدمتها الناطقة باللغة العربية، بتوليفة تستمر ثلاث ساعات يوميا من الأخبار والبرامج المنوعة المترجمة، موجهة إلى النخب العربية، والشباب العربي، من أجل توضيح الرؤية الألمانية. وقد دشنت في القاهرة خلال شهر مارس 2007م نسختها الجديدة، بعد أن تم رفع الموازنة لتوسيع ساعات البث في القناة بين  6ـ8 ساعات يوميا.

 وفي إيطاليا أطلقت شبكة عبر ساعتين يومياً خدمة تترجم إلى اللغة العربية مختارات من برامج (Rai)  المختلفة تعاد مرةً أخرى في صباح اليوم التالي.

 وعلى الرغم مما يظن بأن متابعة الإذاعة المسموعة تلاشت لصالح زميلاتها المرئيات، فإن (الآخر) لم يتوقف عن البث المسموع، لعدة أسباب. فهو أيسر وصولا لأن متابعيه ليس عليهم أن يلزموا البيت، كما أنه من الممكن إضافة هذا البث ـ وهذا ما يحدث ـ لجميع التوابع الصناعية الناقلة (إذاعات عبر الأقمار الصناعية).

 وطبقا للنظرية الإعلامية فإن الوسيلة الإعلامية الجديدة لا تلغي سابقتها، بل تؤدي إلى تطويرها، ولهذا لم تخرج الإذاعة من حلبة السباق. وغالبا من تبث الخدمتان المرئية والمسموعة تحت مظلة راع واحد، كما هي الحال في فضائيتي قناتي (الحرة) و(الحرة عراق) وشبكة راديو (سوا)  اللتين تعادل ميزانيتيهما السنوية قرابة 750 مليون دولار. وتعد إذاعة (سوا) الوريث الشرعي لصوت أميركا العربية الممولة من قبل الكونجرس، وقد تخلت عن النهج الإخباري الرصين وراحت تكسب ود الشباب العربي الذي تتوجه إليه أساساً بباقات من الأغاني العربية والأجنبية عبر موجات الـ F.M شديدة النقاء، تتخللها نشرات موجزة تأخذ في اعتبارها الحسابات الأميركية، ويرى فيها المراقبون كنواة لمحطة تليفزيونية أميركية، أوصت دراسات أجريت في الكونجرس أخيراً بضرورة إطلاقها لمواجهة مشاعر العداء العربي المتنامية ضد واشنطن، في ظل حرب ملتبسة ضد ما يسمونه الإرهاب. ويبدو أن إنشاء القنوات يظنه القائمون عليها أفضل من الإنفاق على حملات دعائية فقد ذكر إدوارد جيرجيان ـ وهو مسؤول أمريكي سابق ـ في لقاء مع محطة (CCN( عن أن أمريكا أنفقت مليار دولار على الدعاية لتحسين صورتها في العالم الإسلامي ولم تفلح!

 في أبريل 2007م تم تدشين فضائية فرنسية جديدة هي قناة (فرانس 24) التي ركز مسئولوها على أن هدفهم هو معالجة أي قضية بشيء من الانفتاح. وأساس قناة (فرانس 24) صيغة هجينة تضم مشاركة القطاعين العام والخاص معا، وتستثمر في الطاقات البشرية والإعلام الجديد، بميزانية ضخمة، ساهمت في رفع ساعات البث باللغة العربية للقناة إلى 10 ساعات يوميا بعد أن كانت بداياتها بـ4 ساعات فقط، وهناك نية لرفع عدد ساعات بثها باللغة العربية إلى 24 ساعة، في ظل اعتمادها على البرامج الإخبارية أولا، إضافة إلى شبكة برامج تركز على البث المباشر والتفاعلية اعتمدتها (فرانس 24) في شكلها الجديد.

 وفي الرابع من مايو عام2007 بدأ بث القناة التلفزيونية الفضائية الروسية (روسيا اليوم) إلى العالم العربي، من أجل إنشاء جسر إعلامي بين روسيا والعالم العربي في مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد، وتبث القناة 20 ساعة يوميا تشمل أخبار التطورات الروسية والدولية وبرامج الثقافة والأفلام الوثائقية، ويعمل بها نحو 100 متخصص بين عرب ومستعربين ومراسلين روس.

 وبالنظر إلى خارطة الصين الإعلامية العملاقة نرى أنه تم إنشاء 251 محطة إذاعية و272 قناة تلفزيونية و2087 محطة إذاعية تلفزيونية، مما يشكل أكبر شبكة للإذاعة والتلفزيون في العالم، وقد وصلت نسبة تغطية الإرسال الإذاعي إلى 96.31%، ووصلت نسبة تغطية الإرسال التلفزيوني إلى 97.23% في بقاع الصين الشاسعة. وحين نتحدث عن محطة التلفزيون  المركزية الصينية العربية الدولية، التي تكتب اختصارا (العربية (CCTV- فقد بدأ بثها في 25 يوليو عام 2009 من أجل (الحفاظ على روابط أقوى مع الدول العربية)، ولكي تكون القناة الجديدة (بمثابة جسر هام لتعزيز التواصل والتفاهم بين الصين والدول العربية). وتبث القناة باللغة العربية مع برامج من أربع فئات من الأخبار، وتقارير إخبارية والترفيه والتعليم. ويعاد بث البرنامج ست مرات في اليوم الواحد، في حين تبث التقارير الأخبارية بانتظام على مدار الساعة. وقد ذكرت صحيفة (ساوث تشاينا مورنينج بوست) ان محطة التلفزيون المركزية الصينية على استعداد لانفاق 45 مليار يوان (9.5 مليار دولار أمريكي) في تطوير القناة، وهو ادعاء غير مؤكد من قبل مصادر رسمية. ويقول مسئولو الشبكة الأم إنهم لا ينشرون المعلومات ولا يقدمون المواد الترفيهية فحسب، بل يتحمل أيضا مسؤولياتهم عن التعليم والحفاظ على التعددية الثقافية وتعزيز الانسجام والتقدم داخل المجتمع الصيني، وتعزيز وتوسيع التعاون مع المؤسسات الإعلامية في مختلف دول ومناطق العالم على أساس الثقة المتبادلة والتنسيق والمكاسب المشتركة.

 بعض المراقبين يرى ـ تعقيبا على سؤاله عن أهداف تلك القناة الإعلامية ـ أن الصين ليست بحاجة لقناة لتسويق تجارتها فهذا الغرض حاصل بالفعل على الأقل في الوقت الحالي، كما أن الصفقات التجارية أو التسليحية الكبرى تتم غالبا بالتفاهم بين القيادات الحاكمة الصينية ومثيلتها العربية، لكنها قد تستخدمها لاحقا لتحسين صورتها في العالم العربي خاصة أن الإعلام العربي ينقل انتهاكات طالت حقوق وحريات مواطنين مسلمين بالصين.

 وقد انطلقت فكرة القناة قبل أكثر من أربعة سنوات ضمن أعمال منتدى التعاون الصيني العربي، الذي حث على إقامة قناة صينية بالعربية وأخرى عربية باللغة ، وخلال زيارة الرئيس هو جينتاو رئيس جمهورية الصين الشعبية لمقر جامعة الدول العربية في 30 يناير عام 2004 التقى بالسيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة العربية ليعلن وزير الخارجية الصيني لي تشاوشينغ والسيد عمرو موسى تأسيس منتدى التعاون الصيني العربي وإصدار بيان مشترك بشأن تأسيس منتدى التعاون الصيني العربي، طرح فكرة إنشاء القناة في الدورة الأولى للمنتدى في بكين عام 2005 وفي الدورة الثانية للمنتدى بالرياض مارس عام 2007 نوه المشاركون بما يقوم به الإعلام الصيني بالتعريف بالحضارة الصينية، وشجعوا فكرة إقامة جمهورية الصين الشعبية قناة متخصصة تبث باللغةالعربية على غرارCCTV-9التي تبث باللغة الإنجليزية وتشجيع الجانب العربي لإقامة قناة مماثلة أو أكثر.

 من تركيا، وفي الرابع من أبريل  2010 بدأ بث قناة فضائية ناطقة باللغة العربية من مؤسسة الإذاعة و التلفزيون التركية (تي ار تي)،  بحفل رسمي شارك فيه رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان،  في ظل ازدياد الاهتمام ازاء تركيا في العالم العربي خلال الاعوام الاخيرة بعد سياسة الانفتاح التي بدأت الحكومة التركية بانتهاجها في السنوات الماضية تجاه العالم العربي والاسلامي، مؤكدة في بياناتها الرسمية على العلاقات المشتركة في التاريخ والثقافة والفن والموسيقى والدين والعادات والتقاليد، فضلا عن سعيها لعرض صورة واضحة لرجال الاعمال والمستهلكين العرب عن المستوى الذي بلغته تركيا في قدراتها الاقتصادية و التنموية و الصناعية.

قناة العالم

وكانت إيران قد أطلقت عبر هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانيّة IRIB في عام 2003 (قناة العالم) الاخبارية الناطقة بالعربية. وتشمل مؤسّسات هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانيّة IRIB أكثر من 35 قناة إذاعيّة وتلفزيونيّة حكوميّة, (من بينها إذاعة باللغة العربية راديو طهران).

وتضم تلك المؤسسة حالياً أكثر من 25000 موظف، وقد تأسّست الهيئة عام 1966, وكان يرأسها منذ عام 1996 ولمدة عشر سنوات علي لاريجاني قبل أن يكلف برئاستها عام 2005 العميد في الحرس الثوري المهندس عزت الله ضرغامي. وأخيرًا انطلقت في سبتمبر 2010 قناة تلفزيونية إيرانية تبث برامج منوعة باللغة العربية، هي (آي فيلم). وأعلن تلفزيون (برس تي في) الايراني الناطق بالانكليزية إن شبكة التلفزيون الرسمية بدأت ببث برامج ايرانية منقولة الى اللغة العربية وموجهة الى المشاهدين في لبنان وسورية والامارات على القمرين الاصطناعيين عرب سات ونايل سات. وقد تزامن إطلاق هذه القناة التلفزيونية الثقافية مع مرور ثلاثة أشهر على بدء تلفزيون (برس تي في) بالبث، وهو محطة ارادت إيران من خلالها كسر هيمنة الاعلام الغربي. كذلك تضم شبكة هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانيّة قناة عربية موجهة أخى  هي قناة (الكوثر) المتخصصة بالبرامج الدينية والاخبار والحوارات.

 في كوريا، وبالتحديد عام 1926 أنشئت مؤسسة Kyeongseong Broadcasting Corporation للبث الإذاعي، لتبدأ عملها العام التالي. وفي العام 1961 بدأ البث التليفزيوني، Korean Broadcasting System (KBS)  وفي العام 2003 بدأ البث الدولي   عبر قناة    KBS WORLD  التلفزيونية الفضائية والإذاعة المرادفة لها، والتي تترجم حاليا بعض موادها إلى اللغة العربية. وفي العام 1999 أنشأت مؤسسة كوريا الدولية للإذاعة والبث التلفزيوني قناة أريرانغ لتمثل كوريا، وقد بدأ بثها  باللغة الإنجليزية قبل 11 سنة. والقناة تتبنى خطوات تسعى للوصول إلى قلوب المشاهدين في جميع أنحاء العالم، على أمل أن تنشر الثقافة المزدهرة ونمط الحياة الكورية. اليوم يستطيع المشاهد العربي متابعة بعض المواد المترجمة في الفترة المسائية التي تشمل غالبا الدراما الكورية.

 في يوليو 2008 بدأ بث قناة تلفزيونية كورية في الشرق الأوسط وإفريقيا باشرت بها المجموعة الكورية لوسائل الإعلام العالمية (KGMG ) ، خدماتها الإعلامية في الدول العربية والأفريقية باسم (تلفزيون كوريا). وتعد تلك المجموعة الإعلامية الكورية أول مؤسسة كورية خاصة تعمل في بث برامج عبر قناة فضائية في الدول العربية  وتشمل البرامج التي سيتم بثها عبر قناة (تلفزيون كوريا) بعض المسلسلات الدرامية الكورية، والبرامج الوثائقية، وبرامج تعليم اللغة الكورية، والطب الكوري التقليدي، مع وضع ترجمة على الشريط، أو الدبلجة باللغة العربية والانجليزية.

 كما تسعى هولندا لإطلاق قناتها العربية، هنا أمستردام، بعد نجاح القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية، والذي يقدم يوميا وعلى مدار ساعة كاملة مجموعة من التقارير والأخبار في شتى الميادين، منذ 60 سنة. مثلما نسمع عن قنوات فضائية معادية ستبثها دولة الاحتلال الإسرائيلي باللغة العربية في القريب العاجل.

وقد يتساءل متابع لهذه القنوات على قلتها، ما مدى تأثيرها وسط المشهد الإعلامي التلفزيوني العربي، الذي تغرقه مئات الشاشات المتناحرة على جذبه؟

 في الاحصائيات التي اعتمدها إتحاد إذاعات الدول العربية، جاءت القنوات الاخبارية باعتبارها الأقل حضورا عند الجمهور العربي بين نظيراتها الاخريات، بحيث بلغ عددها 34 قناة، بينما تنفرد القنوات التي تتعلق بالموسيقى والمنوعات من قضايا تنمية وبيئة وفكر وتعليم بأعلى نسبة في مجموع القنوات المتخصصة في البث الفضائي العربي، بحيث يصل عددها إلى 115 أي بنسبة مرتفعة تصل إلى 23.4%.

 كما يستأثر قطاع الدراما والسينما والمسلسلات والثقافة العامة بعدد مرتفع من القنوات يصل إلى 75 قناة. وتأسيسا لهذه الميول والاتجاهات المتنوعة، شكلت هذه المسألة نوعا من التخصص في الاعلام يحسب للمواطن العربي فرضتها رغباته واتجاهاته الملحة، ولا يغيب عن الاذهان بان الرياضة والنشاطات الشبابية هي الاخرى تشكل مقاسا نوعيا هاما لدى خبراء الاعلام عند قياس توجهات الجمهور عليها، الامر الذي جعل عدد القنوات الفضائية الرياضية في عالمنا العربي يبلغ بنهاية 2009 بحدود 56 قناة من مجموع القنوات المتخصصة.

 ويتحدث المختصون العرب عن 696 قناة متعددة اللغات والتوجهات تبث عبر سبع عشرة قمرا صناعيا وفي مقدمتها الأقمار الصناعية العربية (عرب سات ونايلسات ونور سات)، بالإضافة إلى الباقة العربية الموحدة لتغطية كافة مناطق العالم، كما بلغ عدد الهيئات العربية التي تبث أو تعيد بث قنوات فضائية على شبكاتها حوالـي 398 هيئة، منهـــــا 26 هيئة حكومية و372 هيئة خاصة، وهو كم بدأ يفرز نوعًا واختيارا لدى المشاهد العربي.

 واليوم تتركز ملكية تلك القنوات بالخصوص بين أيدي أربعة هيئات خاصة من عمالقة البث الفضائي العربي، هي (شبكة راديو وتلفزيون العرب 88وشبكة شوتايم 48وشبكة أوربيت 33).

ويعكس اتحاد اذاعات الدول العربية الذي يتخذ من تونس مقرا له في مضمون تقريره السنوي لنهاية 2009 قراءة ورصدا موضوعيا حول إحصائية ومعلومات أضافية تحصي القنوات وتصنّفها، وتبيّن نظام بثها، ومداه الجغرافي، واللغات التي تستعملها. كما يقدم قراءة نقديّة لبيان مدى مواكبة البث الفضائي العربي للتطور العالمي للقطاع، والوقوف عند ظاهرة تكاثر القنوات الفضائية وانعكاساتها على الجمهور.

 وفي ندوة احتضنتها العاصمة التونسية قبل عام (يناير 2010) كشف صلاح الدين معادي المدير العام لاتحاد اذاعات الدول العربية بأن 515 قناة تتناول خطابها باللغة العربية بنسبة 74% تقريبا، ولم يتوقف الامر لهذا الحد بل تبع هذه الخطوة وجود 142 قناة تتحدث باللغة الانكليزية، وبمرتبة ثالثة ومن خلال 14 قناة تأتي اللغتان الفرنسية والهندية. ويشمل البث أيضا باللغة الإمازيغيّة في أربع قنوات والإسبانية في ثلاث قنوات، والعبرية في قناتين والفارسية في قناتين، والأوردو في قناة واحدة والماليزية في قناة واحدة.

 إنها الصورة المكتظة المتزاحمة التي وجد الشرق الأقصى والأدنى الآسيوي أنها صالحة لاستقبال المزيد. وهكذا، ومما سبق يمكننا أن نوجز هذا السياق التاريخي في عناصره الآتية:

  • ·   أصبح التليفزيون ـ الذي يأتي عبر البث الفضائي والإنترنت والكيبل ـ صاحب التأثير الأكبر في الساحة الإعلامية المعاصرة، وهو تأثير لا يقل في المنطقة العربية عن سواه إن لم يكن يتعاظم.
  • ·       الاهتمام بمخاطبة المنطقة العربية بلسانها العربي صادر من الشرق والغرب معًا.
  • ·   يستند بالخطاب الإعلامي الموجه للشرق العربي إلى متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، فمثلما دفعت به عجلة الحروب الساخنة والباردة في الأمس، فإن سواعد أخرى تدفعه اليوم وخاصة بعد انهيار سياسة القطبين، وهجوم الحادي عشر من سبتمبر، وازدهار الدعوات الأصولية في المنطقة.
  • ·   أن الخبر لم يعد وحده القادر على تشكيل الرأي العام، وإنما يجب أن تساهم المواد الإعلامية الترفيهية في صياغة وجهات النظر عن الذات والآخر.
  • ·   أن هناك ميزانيات ضخمة مرصودة لهذه القنوات، قد تتحملها الدول، ويساهم بها دافعو الضرائب، وقد تقوم بها مؤسسات اقتصادية مستقلة، ترغب في إيصال رئسائلها الإعلانية.
  • ·       أن الاستقلالية عن الخط الرسمي ليست واضحة في معظم هذه القنوات، حتى ولو أعلنت ذلك.

رسائل من الشرق

 على الرغم مما يوحي به الإنترنت اليوم من أن انتشاره جعله الوسيط الأكثر تأثيرًا فإن هذا الاعتقاد مشكوك فيه. فالإنترنت لا يزال نخبويا، يعتمد في البداية على بنية تحتية في الدولة لكي يستفيد به رعايا تلك الدولة. كما يعتمد أيضا على مساحة الحرية الممنوحة لتبادل المعلومات، ويستمد انتشاره من قدرات المستخدمين ـ التعليمية والاقتصادية والمهنية والتقنية ـ على استخدامه. وأزعم أن الإنترنت بمفهومه العام لا يزال متاحا بشكل كلي، فهو بالنسبة للبعض ليس إلا وسيطا للمخاطبة، ولآخرين ليس أكثر من مستودع لمخزون من الأغاني ضمن مواد سمعبصرية كثيرة، كما لا يعدو أن يكون ساعي بريد لدى فئة ثالثة، وهكذا.

 ويبقى التلفزيون ـ في مقاربته بالإنترنت ـ الوسيط الأكثر وصولا إلى الجمهور، والأقوى تأثيرًا فيه. لهذا تهتم به القوى الفاعلة في الفضاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتحرص على استخدام هذا الوسيط، وتطوير آليات الاستخدام، والعمل على انتشاره حاملا رسائل تلك القوى. ونرى كيف لم يكتف التلفزيون بحضوره على الشاشة الصغيرة، بل رأيناه يغزو شاشات أجهزة الكمبيوتر، ومواقع الأنترنت، والهواتف النقالة، فضلا عن وجوده في الشاشات العامة العملاقة، إنه الوسيط الأكثر انتشارا وتأثيرا وقوة دون شك.

 وفي حين لا نغفل أهمية القنوات جميعها، فإننا مدعوون لتناول القنوات التي تقدمها القارة العملاقة، آسيا، وهي القنوات التي تبث باللغة العربية، من الصين واليابان وكوريا وإيران، في إطار الندوة التي تبحث في إطار (العرب يتجهون شرقا). وهنا ستناول الرحلة العكسية التي يقوم فيها الشرق الآسيوي بمخاطبة العرب! ويمكننا أن نوجز قراءة محتوى القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية لنصل إلى هذه العناصر الأساسية، التي تعد ما نسميه رسائل من الشرق:

 1.    نشر نمط الحياة:

 تسعى قنوات التليفزيون الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية إلى أن تكون أداة لنشر  نمط الحياة الخاص بثقافتها في المحيط الدولي. يبدو ذلك من خلال عديد البرامج التي تتناول طرائق المأكل وأنواع المشرب وألوان الملابس المختلفة وممارسة الرياضات الخاصة وسبل الاحتفال التقليدية لأعراقها، ناهيك عما يمكن أن نصفه بالصورة الموازية.

 وهكذا لا تخلو ـ نموذجا ـ محطة من تلك القنوات المشار إليها من برنامج يعرض للطعام، ومكوناته، وطرائق تقديمه، وتناوله، وجميعها عناصر تمثل نمط الحياة اليومي الشائع، والذي يكسب جمهورا يومًا بعد يوم، إذ تنتشر المطاعم النوعية في العالم العربي لاحقا، وليس جمهورها وحده من أبناء هذه الثقافات، بل من هؤلاء الذين شغفوا بطعام تلك الثقافة كنمط من أنماط حياتها.

 لقد كان الأمر كذلك مع تيار انتشار الوجبات السريعة التي تمثل أحد عناصر أنماط الحياة الغربية ـ والأمريكية خصوصا ـ أما اليوم فيمكن أن نشير إلى الأطعمة التي لا تستخدم الدهون في طهوها، وتلك التي تحمل أسماء بعينها مثل البط البكيني، أو التي يتم تناولها بالعيدان الشهيرة، لنقول إن ذلك من تأثير انتشار نمط الحياة الآسيوي، الذي تكرس له تلك القنوات، وتترجمه ليكون ميسرا للعامة، حتى أن من نجوم بعض قنوات التلفزيون العربي اليوم طهاة آسيويون تخصص لهم البرامج المطولة.

 أما الاحتفالات فهي صورة حية من إشاعة نمط الحياة الشرقي الآسيوي، ففي عيد الفطر الماضي ـ على سبيل المثال ـ تم التعرض لهذه الاحتفالات في الصين باعتبارها خصوصية صينية لها طقوسها في القوميات المسلمة سواء في منطقة شينجيانج الويغورية المسلمة ذات الحكم الذاتي، أو داخل العاصمة الصينية نفسها. والأمر نفسه بالنسبة لاحتفالات النيروز ـ التي تحتفل بها طوائف عربية مع قدوم الربيع ـ ويمكن أن تمثل هذه الاحتفالات في إيران إحدى تلك الصور المقابلة مع التأكيد على خصوصيات بعينها تكرس نمط الحياة.

برنامج “الحوار” من القناة الدولية باللغة العربية لـCCTV

  1. 2.    الحوار مع العرب:

 هناك ثلاثة اتجاهات تلخص هذا العنوان في القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية، فهو حوار مترجمٌ إلى اللغة العربية حول قضايا آسيوية محلية تخص البلد وحده، وحوار مع عرب حول قضايا دولية، وحوار عن العرب مع محللين محليين وعرب.

 في الفئة الأولى من المحتوى الحواري يكون الهدف، كما أسلفنا، هو إضافة لمحور نشر الثقافة المحلية الآسيوية، بينما تنزع الفئة الثانية من الحوارت إلى استطلاع الرأي العربي حول قضايا محلية وعربية ودولية، فيما تختص الفئة الثالثة بأن يتبنى العرب الضيوف وجهات النظر التي تدعو إليها تلك القنوات. وفي الفئة الأولى يمكن أن نأخذ برنامج (حوار) في (العربية  (CCTV- نموذجا لاستفتاء الرأي العربي العامل في الصين والمراقب للشأن الصيني للحديث عن قضايا صينية.

ولذلك فقد استضاف البرنامج في حلقاته ضيوفا للحديث عن نظام التقاعد في الصين على سبيل المثال. وهنا يكون هدف هذا الحوار ـ دون شك ـ هو التعريف، إن لم نقل، الدعاية لنظم الحياة الاجتماعية والثقافة المحلية.

 في الفئة الثانية ينزعُ هذا البرنامج نفسه لاستضافة أعلام من الوطن العربي، فقد استضاف الشاعر السوري محمد علي سعيد (أدونيس) في صيف 2010، خلال حضوره في بكين ليوقّع المختارات الشعرية التي صدرت مترجمة له هناك بعد حصوله على جائزة (زونغ كون) الدولية للشعر، التي قال بعد أن استلمها:‏ أعتقد أنّ الصينيين على المستوى العام أكثر فهماً لشعري من الوسط الثقافي العربي!‏ كما استضاف البرنامج نفسه وزير الثقافة السوري رياض نعسان الأغا، ووزير الثقافة المغربي الروائي الدكتور بنسالم حميش، وتحدث إليهما المحاور عن “سبل التواصل الثقافي بين الصين والعرب” خلال مشاركتيهما الرسمية على رأس وفدي سورية والمملكة المغربية للمشاركة في فعاليات رسمية.

 لكن الفئة الثالثة ـ اختيار أصوات عربية تتبنى قضايا موجهة ـ فهي غالبا ما تكون من نصيب قناة (العالم) الإيرانية، ولا شك أن الطابع الخبري للقناة، والتوجه السياسية للمؤسسة الإيرانية، وآليات وصور الصراع الإقليمي، تصب كلها لتجعل من ضيوف (العالم) أصواتا إيرانية، حتى ولو كانوا عربا، فلا تتيح القناة حوارا مفتوحا لآراء متعاركة، وإنما تمثل الوجه الصارم للإعلام الموجه.

 3.    حضور الثقافة العربية

 إيجازا سنلخص هنا ملامح الحضور الثقافة العربية على شاشات القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية:

 ·   حضور لغوي، يتمثل في ترجمة المواد التي تبث، أو تقديمها باللغة العربية، وهي النسبة الأغلب لمظاهر الحضور.

  • ·   حضور ثقافي، تعبر عنه استضافة أعلام الثقافة العربية، والتغطيات الإخبارية للأحداث الثقافية العربية، وتقدم على استحياء، إذ لا توجد برامج مخصصة، ولكن تعتمد على الصدفة.
  • ·   حضور سياحي يتمثل في زيارات مصورة لمناطق الحضارات العربية، كما يمكن أن نضيف إليه التعريف بالأجنحة العربية المشاركة في معارض السياحة والمدن في الشرق (شنغهاي في الصين، وأنتشون في كوريا)، وهو حضور موسمي.
  • ·   حضور درامي، وقد رصدته في الصين، وهو ما قد لا يراه المشاهد العربي على قناة (العربية  (CCTV-  لكن التلفزيون الصيني بدأ عرض المسلسل المصري (أرابيسك) بطولة صلاح السعدني، بواقع حلقتين يوميا على القناة المركزية الصينية، ليكون أول مسلسل عربي يتم عرضه في التلفزيون الصيني بعد الترجمة والدبلجة اللازمة للمسلسل لعرضه ناطقا باللغة الصينية حتى يحوز على أكبر قدر ممكن من المشاهدين.
  • ·   حضور خبري، وهي النسبة الغالبة لتمظهرات الوجود العربي على شاشات  القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية، وهي تشوبها آية الاعتدال الهاديء في عرضها صينيا، عكس ما يحدث في قناة (العالم) إيرانيا.
  • ·   حضور رسمي، ويمكننا أن نشير بوجه خاص إلى تبادلات معلنة بين الاذاعة والتلفزيون الصيني والاذاعة والتلفزيون العربي (كما في سورية، فقد أجريت تدريبات للمذيعين والمذيعات في سورية) كما يخصص التلفزيون الصيني المركزي برامج تعريفية عربية تبث في المناسبات الوطنية.
  • ·   حضور مهني يتمثل باختيار المؤسسة الصينية مذيعين وإعلاميين ومراسلين عربا للعمل بها.  ويقتصر ذلك غالبا على الإذاعة، أما في التلفزيون فالقنوات معظمها يختار كوادر من وجوهه الآسيوية على الأغلب.

 تأثير القنوات المستعربة في محيطنا العربي

 قبل نحو نصف القرن أو يزيد لم تكن هناك من آليات للإعلام المصور العابر للقارات إلا فيما تقدمه الصحافة المكتوبة، وهو الذي مهد لظهور مجلات ثقافية مصورة عربية وغربية تمارس تأثسرها بفض بكارة مناطق وموضوعات جغرافية واجتماعية وتاريخية. وبعد ظهور التلفزيون، عرف المشاهد، في العالم كله بشكل عام والعالم العربي كذلك، بوجود الأفلام الوثائقية، التي ترتدي مسوح الحقائق. يُستعان فيها بالصور الأرشيفية وشهود العيان، من أجل إيجاد قاعدة جماهيرية للأفكار التي تطرحها. وقد اعتمدت شاشات القنوات العربية على هذه الوثائقيات بشكل كبير لملء فراغ بساعات إرسالها سببه طول ساعات الإرسال وكذلك عدم وجود إنتاج محلي. وهنا ننطلق للحديث عن كون هذه  الوثائقيات بمثابة كبسولات إعلامية متحركة تجسد القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية، فلم يعد هناك تلفزيون عربي يخلو من مادة مصورة قدمت مسبقا في القنوات التليفزيونية الآسيوية، وتم ترجمتها ودبلجتها لتقدم لاحقا في القنوات العربية نفسها!

كانت ولادة عدد من القنوات الفضائية لا يسمح لها في البداية بإنتاج نوعية عالية من الافلام الوثائقية ذات المواصفات المهنية، والمغامرة بما ينفق عليها، ومن هنا ظهرت المواد الإعلامية الآسيوية من وثائقيات آسيوية ودراما (كورية ويابانية وصينية) وأفلام (صينية وإيرانية)، بما نعدها حضورًا مزدوجا لا نجد مثيلا له للثقافة العربية في القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية. ولعل المشاهد العربي لا ينسى الدراما اليابانية التي حملت اسم مسلسل أوشيــن، في 297 حلقة، مدة كل منها 15 دقيقــة، وتم انتاجها بين عامي 1983-1984 من قبل التلفزيون اليابانيNHK عن أوشين الفتاة الصغيرة التي ولدت ضمن عائلة فقيرة في منطقة ريفية في اليابان، والتي مالبثت أن كبرت لتجد نفسها تعيش في أجواء خلال فترة حرجة من عصر اليابان، نتعرف فيها على زلزال سنة 1923 الذي مات ضحيته مائة واثنين وأربعين ألف شخص في طوكيو، وكذلك الحرب العالمية الثانية، عبر أدوار أوشين كجليسة للأطفال وخادمة ومصففة شعر وبائعة سمك، ومزارعة وهي تتعرض لأذى نفسي وجسدي من أجل مؤازرة ومعونة لأسرتها، وكأنها هي اليابان نفسها التي عانت وخرجت لتعين ذاتها ومجتمعها ومحيطها الإقليمي والدولي. إن هذا هو ما أدعوه كبسولة إعلامية متحركة تجسد القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة الناطقة باللغة العربية. ويمكن على شاكلة حلقات أوشين اليابانية أن نلاحظ الآن حضور المسلسلات الكورية المترجمة، ليس فقط على شاشات تلك القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة، ولكن على الشاشات العربية، ومن ثم إلى موقع (اليوتيوب) الذي يعيد بثها بترجماتها العربية بما يعد أيضا ضمن القنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة باللغة العربية، وهو الذي يساهم في نشر تلك الدراما المعبرة عن ثقافاتها، مثلما ساهم في نشر ثقافة المسلسلات التركية، سابقا، والباحث في هذه المواقع على شبكة الإنترنت يدرك كم الملايين من العرب الذين يتابعون إعادة البث، بما يشكل مشاهدة موازية إضافية للقنوات التليفزيونية الآسيوية الموجهة باللغة العربية.

 صورة المستقبل

 في القمة الإعلامية الآسيوية لعام 2010م التي استضافتها الصين للمرة الأولى تحت شعار (الابتكار والمصداقية والحقوق والمسؤوليات)، وحضرها نحو 800 شخصية من الوزراء وممثلي الحكومات وبعض مسؤلي المنظمات الدولية ومؤسسات الإذاعة والتلفزيون الرئيسية وشركات الإنترنت الإعلامية والخبراء المشهورين تحدث المشاركون عن ثقة الجماهير في وسائل الإعلام، والأخلاق والحريات الممنوحة لتلك الوسائل الإعلام، وتنوع الثقافة في مرآة تعددية قنوات الإذاعة والتلفزيون، وكلها ملامح ترسم المستقبل لللإعلام الموجه.

 لقد تسلل السلاح الإعلامي ليمارس الضغوط السياسية عبر الوثائقيات المصورة، وظهرت تلك الأفلام لتمثل أوراق ضغط من خلال الحقائق الحية عبر الصوت والصورة، مثلما اخترق مجتمعاتنا عبر الصور النمطية التي قدمتها السينما على سبيل المثال. وإذا كنا في الماضي نتابع برامج (الأكروبات الصينية) فإننا اليوم نتابع حلقات (دولار واحد في اليوم) وهو برنامج تسجيلي من الصين عن الفقراء والنساء العاملات في مصانع بعيدة عن مسقط رؤوسهن ليجنين دولارا واحدا في اليوم عليه أن يقسم ليكفي احتياجات المرأة العاملة وأسرتها التي أرسلتها للعمل. هكذا لم تعد المواد الإعلامية ترفا بل حديثا سياسيا ومجتمعيا واقتصاديا موجها.

 لقد كانت لي تجربة في التلفزيون حين قدمت برنامجي (الآخر) الذي يستضيف نخبا من العالم، وحاورت فيه شخصيات من نحو 20 بلدًا يوميا على مدى شهر كامل في قناة (العربي) التي بثت تلك الحلقات خلال شهر رمضان 1432هـ (أغسطس ـ سبتمبر 2010م)، واستمعتُ لأصوات آسيوية من الصين، وكوريا الجنوبية، وإيران، وسنغافورة، وتيمور الشرقية، والهند، والباكستان. وكان مما اتفق عليه الجميع بهذه الحوارات التي تحدثت فيها نخب ثقافية مطلعة هو أن الحضور العربي ضعيف إعلاميا في تلك الدول، فهو لا يعدو أن يكون نمطيا عبر حكايات (ألف ليلة وليلة) سواء في الأدب أو الفن، أو هو عبر بعض صور الآثار (كأهرامات أبو الهول في مصر)، أو هو حضور مواز للدين الإسلامي (رحلة الحجاج الآسيويين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة)، أو حضور تاريخي (التجار العرب الذين سافروا منذ قرون إلى تلك البلدان)، أو حضور أكاديمي (عبر أساتذة اللغة في جامعات تلك البلدان)، أو نخبوي (عبر ترجمة الآداب العربية)، أو أنه حضور خبري (يرتبط بصورة الإسلام المشوه في الذهنية التي تستقي أخبارها من الغرب، مثلما يرتبط بالصراع في الشرق الأوسط مع دولة الإحتلال التي تكرس لها وكالات الأنباء المؤدلجة المملوكة للوبي الصهيوني وأذنابه).

 لهذا أدعو لإنشاء قناة تتحدث بلغات الصين (1,328 مليار نسمة) والهند (1,021 مليار نسمة) واليابان (127,590 مليون نسمة) وكوريا الجنوبية (48,333 مليون نسمة)، وإيران (74,196 مليون نسمة)، وهي خمس ألسن لدول تشكل أكثر من ثلث سكان العالم! إن أربع ساعات بث يوميا بكل لغة، تشرف عليها أمانة جامعة الدول العربية، أو تنتجها المؤسسات الإعلامية العربية، وتذاع في برنامج يومي يراعي مواعيد البث مع فروق توقيت تلك الدول، يمكن أن تجعل لنا حضورًا لدى نحو ثلاثة مليارات نسمة، خاصة إذا علمنا أن بعض اللغات كالصينية والفارسية والهندية والكورية هي لغات تتحدث بها بلدان أخرى غير ما ذكرت من بلدان اللغة الأم!     

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات