مشوار فى صُحبة ماجدة الجندى

11:43 صباحًا الإثنين 23 ديسمبر 2013
إبراهيم فرغلي

إبراهيم فرغلي

روائي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ماجدة الجندي

كثيرًا ما كانت تستوقفنى واحدة من الصور التى كانت تصحب مقالات ماجدة الجندى فى صحيفة «الأهرام»، يُطلّ فيها وجهها بابتسامة هادئة مطمئنة تمتزج بمسحة من السماحة، لكنها لا تخفى لمحة قلق شاردة تطل من عينيها. كلما رأيت تلك الصورة استوقفتنى، ربما لشعورى أن هذه الصورة تمكّنت، بشكل ما، من أن تقتنص روح ماجدة الجندى كما أعرفها. الأم التى ترى فى أمومتها أولوية أولى على أى قيمة أخرى، المتسامحة، المهمومة بما يحدث حولها بشكل يكاد يكون مرضيًّا، إذ ترى فى كل ما يمر بالبلد مؤثرًا على مستقبل أبنائها. حين سمعت خبر مرضها بالسرطان، هنا فى الكويت، حيث أعيش منذ سنوات، شعرت بروحى تَهْمَد فجأة كأنها تلقت صفعة مدوية، وفى لحظات كان عقلى قد اصطخب بعشرات الصور لـ«مدام ماجدة»، كما أناديها، أو «الأستاذة» كما أطلق عليها أحيانًا أخرى، وكانت الصور تتداعى على ذهنى بشكل سريع ومتعاقب وتملأ قلبى بالحزن، بالحنين، وبالافتقاد.

أسست فى عام 2000 بـ«الأهرام» واحدة من أهم الصفحات الثقافية الأسبوعية

عزلها أسامة سرايا من الإشراف على صفحة «غذاء العقول» لأسباب سياسية

اللقاء الأول فى مقر مجلة «الأهرام العربى» القديم، اجتماعات القسم الثقافى الذى كانت ترأسه آنذاك، حيث تزاملت مع الصديق سيد محمود ومحمد بركة وسواهما. اليوم الذى اقترحت فيه علىَّ أن انتقل إلى العمل معها فى صفحة «غذاء العقول» التى أسستها فى «الأهرام»، فى عام 2000 فى عهد إبراهيم نافع، كصفحة كُتب أسبوعية متخصصة. اليوم الذى أعلنت لى فيه خبر تعيينى فى «الأهرام»، بعد سنوات طويلة من الانتظار، حيث جاءت مهرولة إلىَّ أمام باب مقر «الأهرام العربى» القديم، فى الطابق الثالث بالمبنى القديم لمؤسسة «لأهرام»، وعلى وجهها ترتسم ملامح انفعالاتها، فَرِحة وسعيدة ومبتهجة كما لم أرها، لتحتضنى وهى تخبرنى بقرار التعيين، كأنها هى التى تم تعيينها. اليوم الذى تلقيت فيه أول ترقية فى «الأهرام» لأصبح أصغر رئيس قسم مناوب فى «الأهرام». لحظة إعلانى لها عن قرب زواجى وتشجيعها لى، ومحبتها لاختيارى لهايدى؛ التى كانت قد عملت معنا لفترة فى «الأهرام العربى». المكالمة الهاتفية التى تلقيتها منها بينما كنت أتجول وحيدًا، قلقًا ومتوترًا وخائفًا، فى المستشفى، قريبا من غرفة العمليات، حيث أنتظر ولادة ابنتى الكبرى ليلى، ولا تزال كلماتها المشجعة ترن فى أذنى، بل وما زلت أذكر مكان تلقى اتصالها، الذى جاءنى كأمل، بصوت حنون ومشجع.

نعم مرَّ شريطُ الذكريات بسرعة، بينما كانت تتداعى لقطات عدّة لمواقف وملامح ماجدة الجندى، وبينها ملامح من أشجانها التى كانت تحكى لى عن أسبابها أحيانًا، وبعضها كان يتعلق بشؤون عامة فى البلد كانت تتابعها يوميًّا وهى تشعر بالأسى، وبعضها الآخر كان يتعلق بشؤون حياتها الخاصة، وبقلقها المستمر على ابنها الأكبر «محمد» وابنتها «ماجدة»، عبر مراحل عديدة فى حياة كل منهما. كما تذكرت بكاءها المرير فى أيام وفاة والدتها -رحمها الله- وافتقادها الرهيب إليها فى الأيام التى أعقبت الوفاة.

كانت التداعيات تنداح على ذهنى بلا توقف، مرورًا حتى بلحظات الغضب التى مرت بها إثر خلاف مع شخص أو آخر، وكثيرًا ما كنت أنا سبب ذلك الغضب لأسباب مهنية عدّة، لكنها كانت مشاحنات وقتية سرعان ما تنتهى وتمر، وسرعان ما تستعيد هى هدوءها وحنانها كأن شيئًا لم يكن. وأذكر أنها فى إحدى مرات غضبها، لأسباب لم أعد أذكرها الآن، أحالتنى إلى مدير التحرير آنذاك، الأستاذ محمد زايد رحمه الله، الذى جلس معى قليلًا، واستمع إلىّ ثم قال لىّ: أنا لا أشعر بوجود مشكلة، «روح لها بس وقل لها كلمتين حلوين والموضوع هيخلص»، وعملت بنصيحة الرجل، واستقبلتنى مدام ماجدة بفرحة أم عاد إليها ابنها العاق!

مرّ شريط الذكريات بعقلى، وشعرت بسخونة مقلتى، وبحزنٍ قاتمٍ شديد يحل على روحى، ولم يخفف من قلقى إلا صوتها، حين جاءنى على الهاتف، عابرًا المسافات والزمن، وهى تحكى لى تفاصيل المرض، والظروف المأساوية التى صاحبت وصادفت وتزامنت مع تلك الفترة، حيث كان أسامة سرايا رئيس تحرير «الأهرام» الأسبق، قد عزلها فجأة من الإشراف على الصفحة، وبلا سابق إنذار، ولأسباب سياسية لا يمكن وصفها فى تقديرى سوى بالواهية والتافهة، أما تفاصيل الأسباب فقد أشارت إليها مدام ماجدة فى مقال لها نشر قبل فترة فى صحيفة «التحرير».

كنت أعرف وقع هذا الأمر عليها، لأنها لم تكن تعتبر «صفحة الكُتب» التى أسستها واجتهدت فى أن تجعل منها واحدة من أكثر صفحات الثقافة نجاحًا، فى «الأهرام»، وربما فى الصحافة المصرية، أقول لم تكن تعتبرها مجرد صفحة تشرف عليها، بل كانت أملها فى الحياة، ونافذتها على العالم، ومكمن تحققها، وسبيلها فى ممارسة متعتها فى الكتابة، ويقينها فى أنها وسيلتها لنشر المعرفة إلى عقول عديدة كانت تنتظر المعرفة وتشغف بها ولا تعرف كيف تصل إليها.

وعلى الرغم من استيائى من إبعادها عن الصفحة، فإنى لم أكن فى قرارة نفسى مندهشًا، فقد كانت الثقافة فى «الأهرام»، خلال العقد الأخير على الأقل، من أضعف أقسام الصحيفة، والحائط المائل كما يقال، موضوعة تحت أهواء قسم الإعلان، الحاكم الفعلى للمؤسسة، والذى كان يخطط تقريبًا لمحتوى وشكل الصحيفة، وفقًا لأهواء المعلنين. وأصبحت المؤسسة العريقة، مثل مصر كلها، مستلبة لصالح أصحاب رأس المال والنظام معًا، وهو نظام لم يحترم الثقافة ولا المثقفين، والشواهد أكثر من أن تُعد فى هذه المساحة على أى حال.

ماجدة الجندي بين بدر الدين عرودكي وآلان روب جريه في 1988

ومع تولى رئاسة تحرير «الأهرام» شخص لا علاقة له بالثقافة، مثل أسامة سرايا، وهو الأمر الذى كان مثار تندرنا جميعًا حين كان رئيسا لتحرير مجلة «الأهرام العربى»، كان من المتوقع أن تزداد الأمور سوءًا. ولو كان هناك رئيس تحرير من قامة أساطين الصحافة المصرية فى عهدها الذهبى، لكان حريًّا بهذه الصفحة؛ «غذاء العقول» أن تكبر وتتحول إلى ملحق مهم عن الكتب.

لكن أسامة سرايا لم يكن استثناءً فى الحقيقة، ومع الأسف، فى الصحف القومية والمستقلة على السواء، فقد كانت الصحافة الثقافية ضحية أشباه الصحفيين وبعض أشباه المثقفين الذين تولوا الصحافة على مدى العقدين الأخيرين.

بقيتُ على اتصال معها خلال فترة وجودها فى الولايات المتحدة للعلاج، كلما سمحت الظروف بالاتصال. وكان صوتها فى أيام العلاج بالكيماوى يأتينى متعبًا، مرهقًا، وكانت كلماتها أحيانًا تخرج بطيئة وربما بصعوبة، لكنى كنت رغم ذلك أشعر بأنها ستتجاوز محنتها، وعندما تمتلك أقل قدر من الطاقة تمكنها من الحديث سرعان ما تشرع فى الكلام عن البلد وأحوال البلد، وكنت أستمع إلى صوت محمد ابنها بجوارها يلومها على الانشغال بالأخبار السيئة القادمة من مصر خوفًا عليها.

والحقيقة أيضا أننى حين عرفت ما بذله محمد وماجدة أو «ماجى»، كما يطلق عليها، من أجل أمهما خلال فترة مرضها كنت أقول لنفسى إن أمومتها الطاغية لم تذهب هدرًا حقًا.

ماجي ومحمد الغيطاني ، مع والدتهما .. أغلفة مضيئة وسط الكتب

وكانت المفاجأة، لمدام ماجدة قبل غيرها، هى ماجى، ابنتها التى كانت تتعامل معها كصديقة، لكنها فى النهاية كانت دومًا تراها من منظور أمومتها هى التى تحتاج إلى رعايتها، لدرجة أن مدام ماجدة، فى بداية مرضها، كانت، إضافة إلى مفاجآتها الشخصية بطبيعة مرضها، متوترة ومحتارة فى الكيفية التى يمكن بها أن تخبرها بها عن مرضها. وإذا بتلك الفتاة الصغيرة التى كانت فى مقتبل حياتها، تكشف عن جانب من النضج وتحمل المسؤولية، مكناها ليس فقط من أن تتماسك حين علمت بمرض الأم، بل أن تتكيف مع حقيقة وطبيعة المرض بنضج وأمل كامل فى أن الشفاء يحتاج إلى جهد كبير لا بد من أن يبذل، وقررت أن تحمل والدتها بالمعنيين المعنوى والمادى، وتنطلق فى درب العلاج، وقرأت كل شىء عن المرض وكيفية علاجه ومراحل العلاج، لتعبر بأمها إلى طريق الشفاء من المرض، بكل ما تملك من قوة، وسخّرت حياتها لهذا الهدف، ربما لنحو عامين أو أكثر، حتى تكلّل مسعاها، وأمنيات كل محبى مدام ماجدة بتجاوز محنتها المرضية.

الحقيقة أن علاقتى بمدام ماجدة علاقة استثنائية، تبدأ ربما من حيث لا تتذكر هى، فقد كنت فى بداية عملى بالصحافة أعمل مراسلًا لمجلة اسمها «الدولية» كانت تصدر فى باريس، وكنت أرسل إلى تلك المجلة حوارات مع عدد من الكتاب فى مصر، وكنت أحاول الوصول إلى الأستاذ جمال الغيطانى لأجرى حوارًا صحفيًّا معه، ولم تفلح محاولاتى فى الوصول إليه، وأخيرًا اتصلت بمنزله فى مساء أحد الأيام، فجاءنى صوت مدام ماجدة، ودودًا، بالغ اللطف، وحكيت لها عن رغبتى فى إجراء الحوار مع الأستاذ جمال، فطلبت منى أن أعيد الاتصال بعد فترة، وكانت قد رتبت لى الموعد، وبالفعل ذهبت إليه فى مكتبه فى «أخبار الأدب» بعد يوم من هذا الاتصال.

وهكذا ظلّ انطباعى عنها قبل أن أعرفها أنها إنسانة بالغة اللطف والود، ثم تشاء الأقدار بعد أكثر من نحو سبع سنوات على ذلك الاتصال أن أعمل معها فى «الأهرام العربى»، ثم فى «الأهرام» لاحقًا.

أقول إن العلاقة مع الأستاذة ماجدة كانت استثنائية ليس فقط لأنها صاحبة أفضال عديدة علىَّ، ذكرت بعضها ولم أذكر أفضالًا أخرى عديدة، بل ولأن ظروف العمل جمعت بيننا لنحو عشر سنوات تقريبًا، وأتاحت لى أن أتعرف عليها عن قرب، وأن أشاركها الكثير من تقلبات الحياة، حزنًا وفرحًا وغضبًا وأملًا.

كما جمع بيننا حب الكتب، من خلال العمل المشترك فى صفحة الكتب لسنوات طويلة، وأظن أننا كنا على قدر كبير من التفاهم فى مفهوم الصفحة وهدفها، ولذلك كنت أشعر أننى أعمل بحرية مطلقة، فهى كانت تثق فىّ بشكل شبه مطلق، وأظن أن انطلاقى من مدرسة «روزاليوسف»، حيث عملتُ فى بداية حياتى، كان جزءًا مكملًا لعلاقتى بمدام ماجدة، التى كانت واحدة من رموز مؤسسة «روزاليوسف»، ومجلة «صباح الخير»، قدّمتْ فيهما تاريخًا طويلًا من العمل الصحفى بالغ التميز، فى التحقيقات الصحفية، كان كل موضوع منها بمثابة درس بليغ فى الكتابة وجمع المعلومات والتحرى عن القضية موضوع التحقيق، كما تشهد أيضا لموهبتها الكبيرة عدة حوارات ومقابلات أجرتها مع العديد من الشخصيات العامة فى مصر والعالم، سواء فى «روزاليوسف» أو فى «الأهرام»، وسوف يتضمن القسم الثانى من هذا الكتاب مجموعة الحوارات التى أجرتها مع عدد من كتاب العالم ونُشرت فى صفحة «غذاء العقول».

أظن أن هذا المشترك كان سببًا لتفاهمنا بسرعة حول شكل الإخراج الفنى لصفحة الكتب، التى أرادت مدام ماجدة أن تضع فيها لمستها المؤسَسَة على المفاهيم الجمالية التى كانت عنوانًا مميزًا لمدرسة «روزاليوسف»، والتى شاركنا فى تنفيذها الزميل المخرج الفنى نبيل السجينى.

ربما كنت أختلف مع مدام ماجدة فى بعض وجهات النظر التى تختص بفلسفة الصفحة وفكرة عرض الكتب، فى سياق التطور الطبيعى للصفحة، متحيزًا لضرورة النقد أحيانًا، حتى باختيار كتب لا تعجبنا لكى ننتقدها، خشية الإفراط فى مدح أفكار الآخرين دون نقدها، وتجنبًا للانحراف، أحيانًا، إلى منهج يعكس الإعجاب بالكتاب، أى أن يتحول الأمر إلى الكتابة عن «الإعجاب بالكتاب» لا بمضمونه. لكنها كانت تؤمن بمفهوم الحق الكامل فى المعرفة والتى ينبغى أن تتاح وتقدم إلى القارئ، وأن تتاح له فرصة التعرف على الكتب من خلال عرض شيق وجذاب، وكانت تعتقد أن النقد يأتى فى اختيار الكتاب من البداية.

وفى كل أسبوع كنت أستمع منها إلى تفاصيل ما تقرأ، أو حيرتها بين كتابين يثيران إعجابها وتشعر بالحيرة عن أيهما تكتب، تتحدث عن شغفها بما تقرأ، وتنتقل من ذلك إلى ما يتماس مع موضوع الكتاب فى واقعنا الذى كان يصيبها بمرارة حقيقية، وكان أكثر ما يثير إحباطها أنه على الرغم من كل ما يقال ويكتب، فإن أحدًا من المسؤولين لا يكترث أو يعقب أو يرد أو يوضح.

أما العذاب الحقيقى، (عذابها هى لأنها كانت تأتى مبكرًا لتكتب المقال، وعذابى شخصيًّا لأسباب مهنية بحتة)، فكان يبدأ صباح أيام الإثنين من كل أسبوع حين كانت الصفحة تصدر أيام الثلاثاء، ولاحقًا فى صباحات الثلاثاء حين تغير موعد الصفحة وبدأت تصدر أيام الأربعاء.

فقد كانت مدام ماجدة، مثل الكثيرين من أبناء مدرسة «روزاليوسف»، لا تكتب إلا تحت ضغط الوقت، وفى كل أسبوع كانت تعطينى المقال الأسبوعى لها، الخاص بعرض الكتاب، قبيل ساعات قليلة من موعد الطباعة، وهكذا كان علىَّ أن أركض إلى قسم التنفيذ لجمعه، ثم تصحيحه، والجلوس مع المصححين للتدقيق.

وعى الرغم من أن مدام ماجدة تمتلك خطًا جميلًا، ذكيًّا، ورشيقًا، فإنها كانت لديها مشكلة مع النقاط، إذ إنها عادة ما تخط الكلمات ثم تنثر النقاط لاحقًا بعد كل عدة كلمات، وكان على، بسبب خبرتى التى تشكلت مع السنين فى خطها، ومعرفتى بذهنيتها الكتابية والكلمات الشائعة التى تستخدمها وتنسج بها أسلوبها الخاص، أن أفك بعض الطلاسم وأن أضع النقاط فوق الحروف للمصححين.

حينما أعدت قراءة صفحات «غذاء العقول» من أجل إعداد هذا الكتاب، استعدت عمرًا من سنوات المهنة، وسنوات صحبة مدام ماجدة، الإنسانة، والصديقة، والرئيسة المباشرة، والأم، بل والابنة أحيانًا. كما استعدت، مع كل صفحة تقريبًا، ذكريات اختيارها للكتاب، وكلامها عنه، ثم تفاصيل تنفيذ الصفحة فى قسم المونتاج فى «الأهرام» بصحبة المنفذين، وبينهم الأستاذ على الفار؛ أو «عم علىّ» كما أناديه، رئيس القسم الفنى الذى كان يتولى إخراج الصفحة وتنفيذها لنا بمحبة.

غاية القول إننى استمتعت كثيرًا بإعادة قراءة هذه المقالات، واكتشفت أننى تحت ضغط القراءة فى أثناء أيام العمل كانت تفوتنى لمحات جمالية عديدة، بل وإشارات فى غاية الذكاء والأهمية فى ما تتناوله من مضامين.

أما المقدمات الاستثنائية التى كانت تميز كل موضوع فهذه كانت من الصعب أن تنسى أيًّا كان وقت قراءتها. فقد كنت استمتع كثيرًا ببراعتها فى كتابة مقدمات موضوعاتها.

وثائق مهمة ونواقيس إنذار.

غلاف الكتاب الصادر عن دار العين للنشر

إن أهمية هذه المقالات فى الحقيقة، لا تتوقف عند كونها تقدم دليلًا مهمًا، ومرجعًا أساسيًّا لعشرات من أهم ما صدر فى اللغة العربىة من كتب، وبعض الكتب الأجنبية، الفرنسية على نحو خاص، خلال العقد الماضى، التى ينبغى قراءتها لكل من يهتم بالمعرفة. بل تتعدى ذلك لكونها تبدو اليوم كوثائق بالغة الأهمية على رصد تفاصيل الانهيار الذى تعرضت له مصر على مدى العقود الثلاثة الأخيرة حتى سقطت أخيرًا فى يد الإخوان لتعيش أكثر سنواتها هوانًا فى القرن الأخير.

كنتُ كثيرًا ما أشعر بأن كتبا عديدة بدت كل منها كأنها نواقيس إنذار تقرع تحذيرًا من انهيار شامل مقبل، ويعدد مظاهر أسباب هذا التداعى والانهيار، اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وتعليميًّا وأخلاقيًّا وثقافيًّا. لكن كيف لإدارة جاهلة تحتقر الثقافة أن تقرأ أو ترى أو تسمع شيئًا، وإن رأت فقد اختارت أن تتغاضى عمّا يقال ويكتب، وأن تريح نفسها، متخلية عن مسؤولية جسيمة فى نهضة بلد كبير مثل مصر، بتوزيع كل ملفات الدولة إلى إدارة وزارة الداخلية، كحال كل النظم الشمولية الديكتاتورية الفاشية والفاشلة، التى كانت تتداعى وتنهار داخليًّا لأسباب عديدة، أولها اتساع مهامها بما يفوق طاقتها، ولتغير فلسفتها بما استدعى تغييرًا فى مهامها من حفظ أمن العباد إلى حفظ أمن النظام، وهو فارق شاسع، وأيضا من فرط الفساد وقلة الكفاءة، كحال كل مصر تقريبًا إذ أسبغ النظام سمته على البلد.

فى كل مقالة مما أعدت قراءته هنا لإعداد هذا الكتاب كنت أكتشف ذكاء ماجدة الجندى فى اختيار الكتاب، وفى التقاط أهم إحالاته على الواقع الراهن، خصوصا تلك الكتب التى انشغلت بتفسير مظاهر ما كنا نعيشه من فساد وشيخوخة إدارية للوطن فى عهد مبارك، بالشكل الذى جعلنى أرى رصدًا أمينًا ودقيقًا على مدى العقد الأخير كاملا، لكل مظاهر مبررات سقوط الدولة وانهيار المجتمع التى كانت تلوح ظاهرة للعيان، ولكل ذى بصر وبصيرة.

وبعضها كانت تبدو لى اختيارات ذكية، من كتب التاريخ التى تسقط ما كان فاحشًا فى الماضى، لكنه يذكرنا بما يجرى يوميًّا فى مصر، خصوصا ما يتعلق بسوء الإدارة، ومظاهر الشمولية والديكتاتورية والفساد، بل إننى أستطيع القول بضمير مطمئن إن مبررات قيام الثورة المصرية، وما تجلى بعدها من انفلات أخلاقى وسياسى، ومن كل مظاهر العبث، لاحت لى مع كثير من العروض التى كتبت عنها ماجدة الجندى، محذرة وكاشفة ومعقبة بقولها: «اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد».

وبعض الكتب التى اختارتها حقًا كانت تثير الألم، والشعور بالغبن والقهر، خصوصًا مثلًا حين تتناول كتابًا يكشف شيئًا من مؤامرات الغرب باتجاه عالمنا فقير الوعى والثروة. أما العديد منها فكان حقًا يبدو لى بمثابة غزل متأنٍ وحقيقى من امرأة واعية لنسيج متين وجميل بمعنى أن تكون مصريًّا. كأنها كانت تراكم هذا الإحساس ليدرك مَن يقرأ من المصريين عمق وأصالة ومدى حضارة ما ينتمى إليه.

ولعل ما يلفت الانتباه فى كثير من تلك الاختيارات هو الهمّ الكبير الذى أولته ماجدة الجندى فى اختياراتها للكتب التى تتأمل أحوال الفقر والفقراء فى مصر، وأسباب فقرهم، والبحث عن سُبل انتشالهم من هذه الظروف البائسة التى تُسأل عنها إدارة حكومية فاشلة على كل المستويات، لكن ما لفت انتباهى أيضا أن كثيرًا مما تناولته الأستاذة فى هذه القراءات لم يكن يسلط الضوء على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل ويقدم حلولًا أيضا، بمعنى أنه فى ثنايا الكثير من هذه الكتب ما يمكن أن يقدم «روشتة» للتنمية والنهضة الحقيقية لمن يرغب حقًا فى التفكير وفى تحقيق المستقبل الأمثل الذى تستحقه مصر.

طبعًا اهتمامات ماجدة الجندى تنوعت، أيضا، بين السياسة والاجتماع والأدب والاقتصاد والفنون، بل وحتى المطبخ والتراث الشعبى، ليس فقط لإيمانها بأن الصفحة تتوجه إلى جمهور من القراء العاديين من حقهم أن يتعرفوا على كل ألوان الكتب، لكنها أيضا كانت تعبر عن ذوق شخصى رفيع، ومعرفة عميقة بفكرة الهوية والوطنية، والاعتزاز برموز العمل الوطنى على مدى تاريخ مصر، ومعرفة عميقة بالمزيج الخصب لتراث مصر الممتد من عصر الفراعنة إلى اليوم، بكل ما مر عليها من حقب وحضارات.

أخيرًا.. يا مدام ماجدة.. أرجو منك أن تقبلى هديتى هذه، ليس نيابة عنى فقط، بل وعن كثير من محبيك، تعبيرًا عن تقديرى وحبى لشخصك، وامتنانى الكبير لواحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا فى حياتى، وأنا أعرف أنك كذلك بالنسبة إلى كثيرين آخرين.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات