حروب الموسيقى

01:52 مساءً الإثنين 23 ديسمبر 2013
فاطمة الزهراء حسن

فاطمة الزهراء حسن

مخرجة تليفزيونية، وكاتبة من مصر، مستشار شبكة أخبار المستقبل (آسيا إن)

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يبدو عنوان المرجع الهام الذي ألفه باتريك بيد (حروب الموسيقى 1937 ـ 1945) مثيرًا، حيث ارتبطت الموسيقى معظمها لدى جمهور متلقيها بالإمتاع، والإبداع، لا الحرب! لكننا نكتشف كلما تعمقنا في تصفح هذا الكتاب كواليس خافية تؤكد أن الفن يمضي بموازاة المجتمع، يتأثر به ويحرضه، يتفاعل معه ويجدده، وأن ما بين سطور نوتة الموسيقى قراءات أكثر عمقا مما يبدو على السطح من أضواء وبهرجة تسطع حينا وتخفت أحيانا أخر.

أعادني هذا الكتاب لتأمل سنوات العروض الأوبرالية التي كنت أقدمها لجمهور التلفزيون المصري، حيث تأتي فرق العالم كله، تتدرب، وتستعد يومًا أو أكثر، نجلس مع النجوم بدون مساحيق الوجه، والأزياء التمثيلية، حتى يُرفع الستار، فيأتي عالم مختلف من دفتي الكتب، وصندوق التاريخ، ليتجسد حيا موسيقيا.

حوار عابر بين مؤلف الكتاب وناشرته د. سحر الهنيدي يقف وراء فكرة هذا الإصدار. كان باتريك بيد قد فرغ للتو من ترجمة كتابين رافقا إصدار أربعة أسطوانات لتسجيلات حية لحفلات موسيقية أقيمت في باريس سنة 1944 ، قادها الموسيقار الألماني الكبير ويليام مينجلبرج. ومما أدهش الكاتب تلك العواطف البينة والمتبادلة بين العازفين والمستمعين لهم مما جعله يتأمل الاستجابة العميقة للموسيقى في كل أزمنة الحروب. وكان أن شجعته الناشرة على التبحر في تلك الفكرة، واكتشافها بشكل أكثر، وكلفته بتأليف هذا الكتاب الذي صدر العام الماضي.

الكتاب، كما يقول المؤلف في مقدمته، “يحتلف عن معظم كتب تاريخ الموسيقى وبالتأكيد عن تاريخ الحرب العالمية الثانية، والسبب الرئيس للاختلاف هو أن مصدره تلك الأصوات التسجيلية. ومما يعد علامة لقدرة العصور التي نحياها على الإدهاش هو أنني استطعت أن أستمع لمعظم التسجيلات التي تعد بالآلاف والمشار إليها في هذا الكتاب دون أن أترك بيتي”.

حفل إطلاق (حروب الموسيقى) في Daunt Books

في الفصل الأول، الذي حمل عنوان “الموسيقى: السلاح المعجزة”، نقرأ كيف عثر المؤلف في العام 2009 على أسطوانتين ظهرتا على نحو غامض، وهما تعودان لزمن الحرب، بعد أن طال الاعتقاد بأنهما دُمِّرتا، ضمن الأرشيف الكامل لراديو باريس الشهير الذي كان تحت سلطة الألمان. ظهرت الأسطوانتان بمحض الصدفة في محل للأنتيكات بمدينة ليون الفرنسية، دون إشارة تفيد بكيفية ظهروهما هناك ونجاتهما مما عصف بالبنية التحتية لراديو باريس من حريق خلال عملية تحرير العاصمة الفرنسية.

سُمَّ النازي وعسل الثقافة

كان راديو باريس يضع (سُمَّ) بروباجندا النازي في (عسل) المحتوى الثقافي المذهل والثري والمتنوع، على حد تعبير المؤلف، بشكل يضمن ولاء المستمعين الفرنسيين. لذلك كان يمكن للبرامج الإذاعية في راديو باريس أن تشمل موسيقى شعبية راقصة وأخرى كلاسيكية راقية، وما بينهما من تنوع خلاق.

يعود تاريخ هذين التسجيلين إلى يومي 16 و20 يناير 1944، خلال الشتاء الرابع والأخير من الاحتلال الألماني، وهو شتاء كانت له قسوته الاستثنائية، وتميزه بنقص واضح في كل ما يخص الطعام والوقود والملابس. كانت صحة الجمهور المعتلة واضحة، كما يمكن استشفافها من سمع أصوات السعال أثناء الإنصات للتسجيل. وكان اختيار فقرات الحفل الموسيقية هي آخر ما يمكن أن تتوقع من برنامج يقدم تحت وطأة درع النازي. فلم تكن أي من الموسيقى المقدمة تندرج ضمن التقاليد النمسا ـ ألمانية، حيث كانت الأعمال الأربعة الرئيسية فرانكوـ بلجيكية (سيزار فرانك، سيمفونية دي ماينور)، وتشيكية (كونشيرتو دفوراك للتشيلو، وبولندية (كونشيرتو شوبان للبيانو إف ماينور)، والأكثر إدهاشا من ذلك كله هو أن الجيش الأحمر حين كانت  خطوطه تجبر الجبهة الألمانية للعودة القهقرى، كانت موسيقى الروس، وبالتحديد سيمفونية تشايكوفسكي Pathétique´، تعزف للجمهور. وللمصادفة فقد تم تحرير ليننجراد من أيدي الألمان يوم 19 يناير، أي قبل ساعات من عزف ألفريد كورتوت وبول تورتيلييه المنفرد لتحفة تشايكوفسكي.

في الفصل الثاني مقدمة للحرب، وقراءة سنوات 1937 ـ 1940، وإذا كان من الثابت تاريخيا أن الحرب العالمية الثانية بدأت ـ رسميا ـ يوم 3 سبتمبر 1939 فهي اشتعلت قبل ذلك التاريخ في 1936 (وربما أبكر في الشرق الأقصى) حين غزا موسوليني الحبشة، وحين تحارب هتلر وستالين ـ بالوكال ـ في أسبانيا.

وحين نتناول الأمر موسيقيا، فقد بدأت المناورات بواكير 1937 ، حيث كان للغزو الإيطالي للحبشة تبعات ديبلوماسية وموسيقية، وهي إن كانت تبدو تافهة آنذاك، فقد كانت لتمثل تحذيرا في عصر الحكومات الشمولية، ووجود فكرة تقول بأن إمكانية فصل الفن عن السياسة لم يمكن أن تظل متحققة.

في أتون السياسة تقلبت الحوادث، وكان الاتجاه الأنجلو ـ فرانكفوني ضد إيطاليا قد دفع بموسوليني للارتماء بين ذراعي هتلر، عبر حلف سياسي بين البلدين، ووسم الأول الحلف بخاتمه حين أرسل شركة لا سكالا إلى ميونخ وبرلين، في يونيو 1937، بمهمة ثقافية. وكان الاحتفاء بالرحلة بيِّنا، كما وثقه كتاب تذكاري تميز بالبذخ، حمل غلافه إطارا مزخرفا بأقنعة المسرح، وبالعلم الوطني الإيطالي،  وصورة لهتلر وجوبلز يصفقان بحرارة. ولنا أن نتخيل ضخامة هذه الرحلة حين نعرف أن قطارين انطلقا من ميلان حملا 700 فردا بين عازفين وراقصين وكورال وأوركسترا وتقنيين، مع الآلات الموسيقية والخلفيات والديكورات المسرحية، وكان التنظيم المذهل خلال رحلة استمرت 12 يوما أحد دلائل الإعجاب حتى من قبل الألمان.

وثيقة مصورة

لا تكاد صفحة تمر دون صورة إلا نادرًا، فالكتاب، بجانب توثيقه غير المألوف للسمعي والصوتي، يقدم بالمثل وثيقة مصورة، تشبه أحيانا كراسات القصاصات التي كنا نجمعها للفرق الموسيقية التي نعشقها، لذلك فالكتاب ليس فقط تحليلا تاريخيا، بل موسوعة مصورة، لنجوم الموسيقى وما قدموه، لذلك ليس غريبا أن نجد غلاف ذلك الكتاب، وصورة ذلك القطار، ومايسترو فرقة سكالا فيكتور دي ساباتا، وتيتو شيبا الذي قام بدور فيدرجو خلال عرض لا سكالا: Cilea’sArlesiana ، وزيارة الفرقة لتقديم التحية إلى تمثال فاجنر ومشهد من أوبرا لا بوهيم، ولقطة لحظة عزف السلامين الوطنيين الألماني والإيطالي قبل أوبرا عايدة في 22 يونيو 1937، برلين، التي حضرها هتلر وجوبلز ووثق حضورهما الكتاب، بأكثر من صورة، إحداها لهتلر يصافح دي ساباتا.

وإذا كانت هذه المجموعة من الصور تخص ذلك الحدث وحده، فلنا أن نتأمل قيمة ما يقدمه الكتاب من توثيق تاريخي مصور، ضمنه مجموعة من الصور الملونة النادرة.

على مسرح Foothill الموسيقي: إنه ربيع هتلر

بعد 42 شهرا من حرب الكر والفر ، والاحتلال الألماني لمدينتهم، وفي 16 يناير 1944، كان يمكن للباريسيين الجوعى والمكتئبين أن يبتهجوا ولو قليلا بوجبة موسيقية استثنائية.  فعلى مسرح الشانزليزيه كان يقدم حفل موسيقي مجاني يقوده مينجلبرج ضمه كل مل يأمل عاشق الموسيقى الكلاسيكية.

وعلى الرغم من أن هناك اعتقادا معلنا من قبلهم بتفوق الثقافة الألمانية، فإن النازيين لم يمثلوا مصدر خشية لباريس وسمعتها كعاصمة للثقافة. ولهذا فإن زيارة هتلر الوحيدة للمدينة التي سقطت بيديه في 23 يونيو 1940 كانت بدأت بحضور عرض في أوبرا باريس. وقد رافق هتلر في تلك الرحلة المعماري ألبرت سبير، والنحات آرنو بريكر. وطبقا لما ذكره سبير فقد كان هتلر يعرف كل صغيرة وكبيرة عن مبنى الأوبرا من خلا دراسة مخططات المبنى. وبعد تلك اللفتة بوقت قصير، قام جوبلز زيارة مطولة للمبنى نفسه ناقش خلالها مع الراقص ولاعب الباليه سيرجي ليفار خططه العتزمة للحياة الثقافية في باريس تحت الاحتلال، كما يورد المؤلف بالتفصيل في الفصل الثالث.

هتلر في باريس

يبدأ المؤلف فصله الرابع الذي حمل عنوان (وثيقة مصورة) بصورة شهيرة للمايسترو الإيطالي الأشهر توسكانيني محاطا بكوكبة من الموسيقيين الألمان خلال زيارته إلى برلين. صورة نادرة إذا عرفنا أن المايسترو توقف عن زيارة ألمانيا منذ 1935 وأن ثلاثا ممن في الصورة؛ كليبر ، كليمبرر، وبرونو والتر  هجروها، ولم يبق سوى ويليام فورتوانجلر. وإذا طالعنا قائمة مصورة لمشاركين في حفل موسيقي سنة 1932, سنجد أن عشرين من بين 35 اسما قد هجروا ألمانيا. لقد ارتبط الحضور والتألق الموسيقييين بالإقتراب من السياسة، وهو ما صرف الكثيرين ودفعهم للهرب.

من هنا يأتي الحديث عن رودولف واجنر ريجني، الذي نال حظوة لدى الحكم للمرة الأولى في 1935، حين قدم أوبرا Der Günstling  التي أصبحت أكثر العروض الأوبرالية عرضا تحت حكم الرايخ الثالث. ولكن نجاح أوبرا Der Günstling (المحبوبة) أسفر عن شكوك في مردود إنتاجه اللاحق، تبعتها فضيحة (جوانا بالك) التي قدمها في أوبرا دار الدولة بفيينا، في 4 أبريل 1941، الأمر الذي أثار غضب جوبلز، وكان أن أرسله عقابا له إلى العسكرية ، لكن فاجنر استطاع أن يؤمن لنفسه وظيفة مكتبية بالجيش جنبته خوض الحرب.

الموسيقى الأوربية

على النهج نفسه، من تقصي حياة الشخوص وسيرة العروض ، كجولة تاريخية في جغرافيا، يأتي الفصول الخامس والسادس والسابع مخصصين للتجربة الموسيقية للحرب ، في الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا.

والخلاصة أن ما تعرضت له أوروبا منذ 1933، وما تلاها من سنوات، كان نتاجه نقل مواهب كبرى إلى ألمانيا، كما في تجربة اليوناني ديمتري ميتروبولس الذي وصل ألماني في 1936 وقاد بها أوركسترا مينابوليس، قبل أن يطير للولايات المتحدة، مع سواه. أما في روسيا فقد انضم الموسيقيون والفنانون والكتاب إلى المحاولات الأولى اليائسة للدفاع عن روسيا ضد النازي ، وكان هناك 250 موسيقيا بينهم من درسوا في كونسرفتوار موسكو، بينهم عازف البيانو إيميل جيلس، وزميله ديفيد أوستراخ وعازف الكمان أبرام دياكوف قد انضموا للمتطوعين، قبل أن يؤمروا بالعودة للحياة الموسيقية، قبل اشتعال المواجهات الأخطر.

أوركسترا فلسطين السيمفوني الذي تأسس في 1936 بمساعدة ألبرت أينشتاين لمساعدة لاجئي اليهود من الفنانين على القدوم للأرض الموعودة

في الفصل الثامن يتوقف المؤلف عند مفترق طرق الشمال الإفريقي والشرق الأوسط، وقد سببت الحرب في أن تنتقل الموسيقى وتعرض بين الشعوب العربية والأوربية. ويشير المؤلف إلى أن أفضل نتاج لتلاقح الموسيقى الغربية والعربية خلال تلك الفترة كان أوركسترا فلسطين السيمفوني الذي تأسس في 1936 على يد الموسيقار البولندي برونيسلاف هوبرمان. كما كانت أوبرا القاهرة دارا لفنون مصر والعالم، ولكن خارج الموسيقى الكلاسيكية كان هناك صوت موسيقي أقوى، كما يقول باتريك بيد:

“إذا كانت السلطات البريطانية في مصر قد فشلت في تقدير دقائق فن أم كلثوم، فهم دون شك قد أدركوا القوة التي تأسر بها قلوب ملايين العرب في زمن أخذت تتصاعد به موجة الاستياء ضد سيطرة البريطانيين على المنطقة، وقد بدا أن دعم العرب النضال ضد هتلر أبعد من أن يكون مكفولا لهم. لقد كانت أم كلثوم أول فنانة عربية تستفيد كليا من إمكانات الوسائط الجديدة للتسجيلات الأسطوانية، والإذاعة، والسينما”.

من بين فصول الكتاب الموسوعي فصل للموسيقى في المعسكرات، وآخر لأغنيات الحرب، ولعلي أختتم بإحداها. ففي أغسطس 1944 خلال أيام تحرير باريس كتب جان نوهان نصا سياسيا جديدا لأغنية قديمة كان قد كتبها في 1942:

“على مدار أربع سنوات،

كان مدينتنا العجوز البائسة باريس،

قد فقدت ابتسامتها،

تحت طوفان من اللون الأخضر الرمادي،

ثم انفجر كل شيء فجأة،

وعدت ترى الحياة وردية مرة أخرى،

وعدت تغني تحت الشمس”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Patrick Bade مؤلف حروب الموسيقى

Music Wars 1937-1945

  • Patrick Bade
  • East & West Publishing , London, 2012

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات