ميس خالد العثمان تفتح قوسًا وتغلقه: الاحتفاء بالألم.. والرجاء

10:42 مساءً الجمعة 10 يناير 2014
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ميس خالد العثمان

كان عليها أن تكتب هذه التجربة الإنسانية الكبرى، وتسجلها فى رواية تسجيلية أسمتها “سرد ذاتى” بعنوان “افتح قوسا واغلقه” انها الكاتبة ميس خالد العثمان.

تجربة الألم، حين نتناوله نيابة عن أقرب الناس اليها، حين نراهم يتألمون، ويدخلون فى رحلة علاج طويلة، مليئة بالترقب، والغموض، والمعاناة.. نذهب إلى الأطباء والعيادات ونسافر خارج حدود الومطن، وتطول رحلة العلاج، وتتضح ملامح الانسان حين الشدة، ودرجة وقوفه إلى جوار المريض، قد يشعر لدقائق، باليأس أو الملل، محبوس داخل جدران المستشفى، واللون الأبيض فى كل مكان، الجدران، والأسرة، وملابس الاطباء، وطاقم التمريض ايضا الزى الرسمى الذى يرتديه المرضى.

هذه المراحل كلها وغيرها عاشتها ميس العثمان بتفاصيلها، ولفترة طويلة والغريب أن كاتب هذه السطور، كان على تواصل متباعد معها خلال تلك الفترة من خلال البريد الاليكترونى، ورغم أن أكثر من عام قد مر على هذه التجربة القاسية، فإننى توقعت أن تسجلها الكاتبة فى سطور، لكننى لم أكن أدرك مدى قسوتها، فقرأت تفاصيلها كما كتبتها المؤلفة، وأخذتنا الابنة الكاتبة إلى رحلتها. أشركتنا معها فى آلامها، وتحدثت عن مشاعرها أكثر مما اكتست الألم بالألم.

ذكرتنى هذه الكتابة بكتاب نشرة الروائى والصحفى فتحى الابيارى قبل عشرين عاما، تحدث عن أزمة قلبية حادة اصابته، وركب اتوبيس نقله إلى مسقط رأسه بالاسكندرية، وعبر بحزن شديد وبلغة صادقة عما يشعر به، وانه اقترب من الموت، وهو ينظر عبر زجاج الحافلة.. وقد رأى قطرات المطر أشبه بالدموع، كأنما الدنيا تنوح عليه، والغريب، ان الكاتب قد تجاوز هذه الازمة ولايزال حتى الآن على قيد الحياة.

تجربتان سينمائيتان بالغتا الصدق، شاهدناهما حول تجربة مشابهة، عبر عن كل منهما صاحب التجربة، كتبها بنفسه، ثم أخرجها، الأولى بعنوان “كل هذا الجاز” للمخرج الامريكى بوب فوس، عام 1978، والتجربة الثانية ليوسف شاهين عام 1982 بعنوان “حدوتة مصرية” حكى فيها عن عملية قلب مفتوح أجراها خارج بلاده، أى أن المريض هنا هو الذى حدثنا عن تجربته مع الألم، وفتح الصدر لاجراء عملية القلب، بل أن يوسف شاهين استعان فى كتابة فيلمه بالروائى يوسف ادريس الذى مر بتجربة مشابهة، فعكس لرؤيته حول تجربة ذاتية.

ميس خالد العثمان، لم تدخل مع أمها إلى غرفة العمليات باحدى المستشفيات الكبرى بالعاصمة البريطانية، كما أنها، لا قدر الله، لم تعرف معاناة المرض مثلما حدث مع الكاتب الألمانى الراحل توماس برنارد، فكانت كافة كتاباته حول الألم، والمرض، ولكنها عاشت تجربة مرض الأم، ورحلتها معها، واعترفت ان مرافقتها مريض تعنى ان تحاول التحدى لتبرع بكونك صلب مما أنت عليه فعلا، بكلمات سريعة، تهرول وراء بعضها تلغرافية، تعبر عن دورها كممرضة ورفيقة، وابن وأب وأم فى كثير من الاحيان، بل اسرة كاملة اى ان الرواية هى مجموعة من الاشخاص، انصهروا فى شخصية الحكائة التى تحدثت عن تجربتها مع امها المريضة وحددت لنا الفترة الزمنية انها بين شهرى فبرايل واكتوبر عام 2012.

استخدمت الكاتبة اسلوبها الذى صاغت به روايتها الاسبق.. من خلال اختيار منطوق لغوى للمعاول الذى تقدمه اولا، حيث تقول مثلا: (مكتملة العناصر – المعانى) او (لتجميلها- تخفيفها). وعلى القارىء أن يختار بين الملفوظ، حسب الاقرب الى ذوقه، او عليه ان يختار الاثنين معا، وقد تعمدت المؤلفة ان تلجأ إلى هذه الصياغة طوال كتابتها، كأن تحرص ان يكون (رفيقى – عقيلى) هو الشخص المقصود بزوجها الغائب الحاضر فى أغلب صفحات الرواية، فتبدأ حكايتها مع تلقيها الخبر الاول لاصابة الام بمرض عضال وما اعرفه بان المرض اللعين دهم والدتى ومس طهر جمالها لكنها تقول الحقيقة كاملة، هذا المرض الذى لم يكن غريبا قط على العائلة، فمثلما سوف تعانى الكاتبة مع امها، عانت الام ايضا من قبل مع والدتها، التى اصابها المرض نفسه من قبل، مما يعنى ان الام سوف تعانى كثيرا الا ان الكاتبة تعطينا الامل رغم الصفحات الكثيرة، فالجدة بقوتها تغلبت على بشاعة السرطان وسرعان ما يظهر العدو اللدود للاسرة.

انه المرض الملعون كما تكتب ميس.. هو لا يستأذن الروح قبل الانقضاض وتؤكد الابنة ان الروح اشد رهافة من ان تسحق بالحزن، والفوران والقلق ولأن الخبر يسبب صدمة، فقد اوجزت الكاتبة فى التعبير عن مشاعرها بعيدا عن المفردات اللغوية التى يستخدمها كتاب الميلودراما، فهى تحاول ان تتماسك امام زوجها، وتتركه يضمها الى صدره، وتأخذها احلام– كوابيس الليل، حتى يأتى يوم جديد، فاذا بالاحضان اكثر تورما واذا بالروح ذابلة، ورغم ذلك تنطلق الى عملها.

تعكس الكتابة أننا امام ابنة بالغة القوة، والحنان وهما نقيضان اجتمعا فيها، عليها ان تخفى الخبر عن رجلها، وتذهب الى العمل، رغم انها غيرت عاداتها اليومية بشكل ملحوظ، هكذا غيرت الكاتبة اسلوب الحكى عن معاناتها ومشاعرها عما قرأناه فى الكثير من المأساويات المسرحية والرواية حيث ان الرواية هنا ذات صفات مختلفة، انها تكتم سرها وآلامها بداخلها، وهى تضع كافة الاحتمالات التى ستقابلها فى رحلة العلاج.

لقد عاشت الكاتبة داخل أمها، وآلامها، ليس فقط آلام الجسد، فلعل الهم الأكبر الذى حاصر الأم حسبما جاء الهاجس للابنة هو كيف يمكن ابلاغ الابناء بموضوع المرض؟ لقد عرفت الأم بأمر المرض اللعين، وبالمصير المؤلم ولم يخف عنها طبيبها نبأ الاصابة بهذا المرض، حيث تعترف الابنة انه ليس اكبر هما من مرض جديد – غريب لا نعرف التعاطى معه بشكل سليم، رغم ان الام اكثر خبرة به، من خلال سبق اصابة الجدة بالمرض، وتبدو قوة الكاتبة فى مواجهتها للموقف حين تقول بصدق ملحوظ “فكرت طويلا ولأن الانسان ينهار عادة حينما يغيب عقله لا معرفته، ويترك نفسه نهبا للتخيلات وحنونها بلا عقلانية، قررت أن أعيد رسم المشهد- الخبر – الحقيقة، وتداعياتها من جديد، وهذه الفقرة هى مفتاح تعامل الكاتبة مع كافة الأحداث التالية، فهى تتألم وتتابع الحالة وتعيش الحدث، لكنها امرأة قوية، واعية، ترقب، وتشارك وتتحرك بعفوية وتقوم بعمل الاجراءات دون ان تندب او تتباكى لعلها تعرف أن البكاء والضعف لن يفيد فى شىء، وان كل ما عليها أن تساند امها كى تنتصر على المرض الذى تعافت منه فيما بعد، كما تعافت جدتها.

الى هذه الصعوبات هو التعقيدات الورقية التى مضت فى يسر ولين، كانت كلها كوميض حلم متحقق، وهذه حقيبة السفر مليئة بتفاصيل لا تعرف زمنا للبقاء هناك، حيث ان تاريخ العودة من لندن مجهول كتاريخ الموت، خاصة أنها تصف هذه الرحلة انها بلا رحمة، مليئة بالغموض فالفسر فى الشتاء حيث الصقيع، والتذكرة بوجهة واحدة، مغيبة العودة.

الكاتبة تعطى قرائها الاحساس أن اطمئنوا، فهى قاردة على مواجهة هذا الغيب الغامض، وما به من مصير.. هى على فراق مع زوجها الذى تحبه، وايضا مع اخوتها، تحس بالوحشة، لكنها تتجاوزها تحوطها وداعات السفر، تعوز لنا ان كل ما يحدث حولها اشياء آلية، لأن القادم أكثر أهمية.

سافرت الكاتبة مع امها وابيها، وكلها أمل ان القادم أكثر رأفة وطيبة وانسانية. وأشد وضوحا، كأنها تطمئن قارئها أنها فى مجرد “رحلة” ايا كان الغموض الذى يكتنفها، لكنها تقر أن القلوب يؤرقها الالم.. ومتشحة بالصبر، وخيال منهك، حيث لا معنى لأى سؤال قادم.. وتبدو الكاتبة كأنها تسافر لأول مرة فهى تحس بوطأة الاجراءات وهذه شعلة الانتظار تتعثر، والمطر يشق أخاديد الآلام الجديدة، والتساؤلات تزداد.

ورغم كل هذا فان الكاتبة تهل علينا من وقت لآخر بعبارة أو تعبير يدل على قوتها “كنت متوحدة مع ذاتى” كما أنها توحدت مع الام امها التى تلقبها “قديستى” وتعترف الكاتبة أنها قررت أن تمارس عمل الكتابة بشكل خاص، حول الرحلة اشترت دفترين سميكين، ومجموعة أفلام، أهدت لأمها دفترها الخاص لتحولها الى كاتبة من اجل ان تدون رحلتها المرهقة، التى لا تحتاج الا الى سيدة من طراز هذه الام التى افنت شبابها فى خدمة ابنائها، تدللهم مع حزم ملحوظ.

يعنى هذا ان الكاتبة قررت منذ الوصول الى لندن، ان تكون كاتبة مع المرض والألم والمعاناة، تسجل الوقائع من اجل تحويلها الى كتابة ادبية وتحكى الكاتبة عن الليلة الاولى فى لندن.. انها طويلة تحفها الكوابيس، تستيقظ فى ساعة متأخرة كى تكذب، تحتضن أوراقها الباردة ترفقها بمشاعر مفجوعة.

والغريب أن ميس العثمان لم تنشر فى كتابها “افتح قوسا واغلقه” ما كتبته لحظة بلحظة فى ليالى لندن الباردة، وكل ما جاء فى الكتاب ممهور بـ “كان” ولا أعرف لماذا لم تنشر علينا نموذجا من خواطرها او كتابتها ورغم انها عنونت فصولها بتواريخ الأحداث فهى تتكلم دوما بصيغة الماضى، كأنها تؤكد أن كل مادة الكتاب قد كتبت بعد العودة وأرى أن ما كتبته فى الثالثة صباحا من الليلة الأولى فى لندن سيكون أكثر بلاغة حين النشر، من أن تتكلم عنه بعد ان يصير فعلا من الماضى.

تتميز ميس خالد العثمن بأنها صاحبة اسلوب يخصها وحدها، ليس فقط فى الكتب، بل حين تخاطبك فى بريدك الاليكترونى وفى الفيس بوك وسوف تلاحظ ذلك فى الكثير من فقرات كتابها، حين تقول مثلا “كنت بارعة فى دعك قلبى ليتوقف ولو قليلا عن التناقض، بين ايمان عميق وخوف كثير. فاختفى بداخلى الأمان الذى يشتعل ويخبو طرديا مع التوحش مما سيكون”. والكتاب ملىء بعشرات من مثل هذه الفقرات، التى كما اشرنا تكشف لنا على لغة الكتابة عندها، وايضا عن سمات خاصة بمن تكتب، وهى تتذرع بالأمان بدلا من الخوف.. والطمأنينة بدلا من الريبة.

فى لندن لم تنس الكاتبة الركن الانسانى منها، فصحبت امها القديسة الى اركان المدينة وحاولت شراء البهجة فى طرقات لندن. هذه البهجة ممزوجة بجنون مصطنع تراقب المهرج، وتدخلان المطاعم، وتستمع إلى الاغنيات، وتركبان المترو، وذلك فى رحلة صغيرة “رممنا بها أوجاع الحقيقة الصعبة، كنا نمشى منتشرحين على البهجة والتلقى رغم كل شىء”.

منزل تشارلز ديكنز

فى هذه الرحلة، اخترقت الكاتبة مع اسرتها الصغيرة عالم المدينة الباردة، وذهبت الى منزل تشارلز ديكنز، وحولتها رحلتها الى المرأة المثقفة، المعجبة بكاتب كم قرأت له، ولعل مثل هذه الرحلات تعكس حالة الأم التى تتخفف من آلامها، وتأتى اهتمامات اضافية، فوجود الكاتبة فى لندن جعلها لا تدرى أين هى من الليل أو الفجر، مطر يغسل خدود الشوارع كل الأوقات يضاعف نسبة اكتتابها حتى وان بدا رائقاً.

هكذا تمضى تفصيلات الرحلة، وتتخلص الام من المرض اللعين، الذى تطلق عليه الكاتبة اسم “زائر” ومن خلال كتابة فقرات منفصلة (تقريبا) تحكى لنا الكاتبة عن دلائل ايمانها أثناء هذه التجربة، وتخصص فصلا تحت عنوان “أؤمن أن” تحكى فيه أن أول درس علينا تعلمه حين المرض هو “الصبر” فلندن مدينة جميلة، لكن الرحلة أساسا للتخلص من المرض، من خلال الغمس بالعلاج الكيميائى فى محنة تعبه وغيابه. وفى بعض الأحيان يغيب جمال المدينة عن الكاتبة لتراها مكرورة وروتينية، وتتجاوز الكاتبة كافة مشاعرها، وهى تتحدث عن ما تكتب، كتابة موشاة بالدمع والتنهدات، والافكار الجديدة، والمفردات التى تمنح الأحاسيس الحياة كلها، كان لزاما ان اختار بين ان اتألم فقط أو أن أتحاور مع ألمى وأدون تعبى –تجربتى على الورق.

وتترك المؤلفة كل هذا العالم المغموس باللون الابيض كى تصوغ رأيها فى الكتابة، فتراها شهوة لا ترد ولا تؤجل، وانها فعل التحرر من الكآبة، وهى الافصاح عما نخفى، كما انها ترياق الافئدة المخنوقة، بالأذى وهى صدقة نقدمها للعابرين كى يفوزوا دون عناء التجربة، وهى القاء التحية على الورق عبر الحروف.

ومما يزيد القارىء احساسا بمتعة التعرف على الكتابة فان ميس تبلغنا ان أمها ايضا كاتبة تتخذ من التدوين ملاذا، كانت تضع أوجاعها على الورق، وتوثق هذه الهزة الصحية الموهنة كتلميذة نجيبة تخرج دفترها وأقلامها ونظارتها من درجها، تستقيم على طاولة الطعام، وتبدأ النحت بتأمل عميق.

ليس هذا غريبا على افراد اسرة انجبت كاتبات وكتاب بارزين، لكن اللطيف ان الكاتبة تسمى المرض بالهزة الصحية، والهزة تعنى دوما أن الشىء لن ينهار، او يسقط، وان الكيان سيعود الى حالتها الاولى، واقفا بكل شموخ، وتستعين الكاتبة بعبارة يرددها الروائى الفرنسى سيوران “ان المرض منفذ – إرادى إلى ذواتنا، يجبرنا على التوغل فى العمق، والمريض، انه ميتافيزيقى رغم أنفى.

استغرق اعداد الكتاب وصياغته قرابة العام: وعادت الام مع ذويها الى بيتها، كاملة البهجة مشرقة بالرضا، حنونا كما غادرت وقد تخففت من حقائب ثقيلة فى الروح، وهذا هو الأهم.

سوف يدخل هذا النص تاريخ الكتابة، باعتباره احتفاء بالألم، والأمل، والرجاء، وايضا القوة الماثلة فى الانسان، بأنه قادر على التغلب على صعاب تبدو فى بداية الأمر اشبه بضباب اسود كثيف لا يلبث ان يتبدد ليكشف عن جليد ابيض لا يلبث ان يذوب كى تنتشر الاشياء الجميلة بألوانها المتعددة وتعيد الينا الصورة الحقيقية من البهجة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات