قصة قصيرة
المدونة: سارة حسين
“لاحظتها واقفة هناك أمام أحد أعمدة الإنارة في وسط الجزيرة التي تفصل الشارع العريض.. حزينة.. يعلو وجهها تجهم غريب و تنظر ناحية الشرق و كأنها تنتظر أحدًا قد تأخر عليها .”
كانت الشمس قد أوشكت على المغيب على أول يوم في عيد الفطر، و قد فرغتُ أخيرًا من الزيارات العائلية مع والدي الذي يـُصرعلى أن يأخذني كل عيد لأزور الأقارب و لأنه يعلم أنني أمل من تلك الزيارات سريعـًا و أنني أتحرق شوقـًا لأجوب شوارع المدينة ملتقطة لصور البهجة بقدوم العيد ، كافأني –لصبري- في نهاية الجولة بأن يشتري لي “آيس كريم” من المتجر الذي أفضله .
و بينما كنت واقفة أنتظره مستندة على باب السيارة أغوص في تفاصيل كل هذه الضوضاء و كل ذلك الزحام .. وسط الأطفال الصغار الذين يصرخون في مرح والأمهاث اللاهثات وراء أطفالهن .. الأضواء المبهجة للملاهي الشعبية و التي طالما اعتقدت أن سوء صيانتها هو سبب كافٍ لعدم المخاطرة و ركوبها .. بائع السكاكر الذي ينادي بحماس منقطع النظير : “غزل البنات” .. أصوات المركبات المتداخلة مع أصوات الأغاني المنبعثة من مكانٍ ما .. كل ما في هذه اللوحة المبهجة من ألوان و أصوات لم يمنعني من التركيز عليها و قد انسحبت الصورة كلها للوراء و بقيت هي في منتصفها فقط .. تقف شامخة منكسرة النظرات كأنها تمثال حجري يعود لعصور ما قبل الميلاد .. تمثال نـُحت من روح فنان مرهف الحس غارق في الحزن و الكآبة .. !
تأملت ملابسها البسيطة ، عباءة طويلة سوداء و غطاء رأس أسود أيضـًا تربطه من الأمام و تمسك كيسـًا أبيض اللون بكلتي يديها ..
بدت لي سيدة ريفية لا تنتمي لروح المدينة الصاخبة بل أتت من عمق الأرض الرطبة و المساحات الخضراء لتقضي أجازة العيد في المدينة .
و مثل لوحة ألوان شذّ عنها لون شارد، لم يوحِ مظهرها بأنها مرتاحة في هذا الجو .
قطعت تأملاتي حافلة و عندما مرت وجدتها و قد استسلمت للتعب أخيرًا و جلست على الرصيف و ما زال نظرها مثبتـًا ناحية الشرق ، أدرت وجهي نحو ما تركز و لم أستطع أن أتبين شيئـًا يمت لها بصلة ، فهناك كان المزيد من المركبات السيارة تمر و لا أحد يلتفت إلى الآخر ، كلٌ في عالمه !
فأعدت النظر إليها و لاحظت –ربما لأول مرة- أن عينيها ليستا مثبتتين على شيء محدد .. هي فقط تنظر إلى الشرق ، حاولت تخمين ما الذي يدفعها إلى ذلك .. ربما هو الانتظار .. ربما هو الحنين إلى شخص ما غادر و لم يعد .. ربما غادر يوم العيد فصار يومه مرادفـًا عندها للتعاسة السنوية .. ربما قد اعتادت أن تأتي كل عام إلى نفس المكان و تنتظره .. فنحن –البشر- أحيانـًا نقوم بتصرفات غير مفهومة أملاً في استعادة شيء مضى و تركنا خلفه .
حدثتني نفسي أن ألتقط لها صورة بالكاميرا ، و أوثقها في ملفي عن العيد .. لا لشيء إلا أن أقول للناس أنه ليس الجميع يسعد بقدوم العيد ، لا أحد ينتبه لهؤلاء المهمشين على جوانب الحياة و أخلد تخميناتي عنها .. !
و قبل أن ألتقط الكاميرا ، وجدت يد والدي تمتد لي بالآيس كريم البارد و يفتح لي باب السيارة . لحظة استقراري في مقعدي سحبت كاميرتي و لمحت الساعة المتوقفة فوق العمود الذي تجلس أسفله و قبل أن أتحرك قيد أنملة كان والدي قد ضغط على دواسة الوقود .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.