الفصل الأول من رواية سعيد نوح: ملاكُ الفرصة الأخيرة

03:21 مساءً الخميس 27 فبراير 2014
سعيد نوح

سعيد نوح

روائي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ملاك الفرصة الأخيرة ـ رواية نشرت في دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة

حينما يستنفد المرء كل السبل،ويصل إلى أقصى قدرةٍ له على الصمود،حين ذلك يظهر ملاكُ الفرصة الأخيرة،ذلك الذي يمُدّنا بأسباب البقاء. يظهر من مكانٍ غير معروفٍ.

يمد يده بالكيس الأرجواني،ثم يختفي تحت جنح الظلام أو في وجود شمسٍ حارقةٍ، لا يهم.يتركك تتعجب وتروح تسأل نفسَك :هل كان ذاك ملاك الفُرصة الأخيرة فعلاً ؟! أم  شُبّه لك؟!ربما جاء في صورة مطرٍ يسقط في شهر أغسطس أو ريحٍ عابرةٍ للقارات .ربما تنكّر في صورة قطٍ يَخْمُشُ بابَك أو عصفورٍ رقيقٍ، لكنه أبدًا يأتي.يأتي حينما نكون محطمين ومرتعشي الفؤاد.حين لم تعدْ هناك أدنى قدرةٍ لدينا علي الصمود.يأتي حينما نكون في أمس الحاجة إليه.

لانه هو في الحقيقة لا في الخيال الشخص الوحيد الذي ننتمي إليه. يأتي في الوقت الذي يكون النفي فيه شيئًا غير مرغوبٍ وغير متوقعٍ،وحينما يأتي تحلُّ فينا البصيرةُ النافذةُ،فتُوَسّع منظورالرؤية،ونرى أنفسنا للمرة الأولى الأكثرَ جمالاً  والأرحبَ في الأبعادِ الروحية.لقد تمَّ إعادة تشكيلنا ،فصرنا أنقياءَ وطاهرين وأبر ياءَ.

إنها الثقةُ بالنفس التي  يُقال عنها.

لا،إنها الثقةُ في الروح،روح ملاك الفرصة الأخيرة.

وحينما يتحقق لنا ذلك،فإننا لا نستمر في الاضطراب والتلعثم

بوجود روح الملاك نُصبح حكماءَ . يصير المِنْجلُ في أيدينا منجلاً صحيحًا،لا يحصدُ غير الأكيد، وغير المشكوك فيه.

ولكن هل يُصدر ملاك الفرصة الأخيرة صوتًا؟

هوووووووووووووووووووووووووووووو.

إذن ما تلك الصرخة القادمة من المجهول؟! هذا الصوت الذي أرَّق الأجنةَ في بطون الأمهات؟!إنه صوت أتي من روح بلا جسدٍ.

هذا الصوت يعتبره بعضُ الناجين صوتًا يخرج من الداخل.

يُقالُ : إن الصوت يأتي في أي وقتٍ إلا أنه يأتي على وجه الخصوص عندما تكون النفس في محنةٍ.

لحظة ذلك تُطْوَى المسافاتُ ،ويقول قلب الناجي :

شكرًا للآلهة، لأنها أرسلتْ إلىَّ روح ملاك الفرصة الأخيرة، شكرًا  لكلِ الآلهة.

 

**********

 

كانت مهمّته الأولى ،هي مهمتُه الأخيرة أيضًا . ظل طوال عمره لا يتعدى كونه ساعي بريدٍ من قِبلِ الله .ملاكٌ طيبٌ يذهب إلي رب عائلةٍ ما ،لينقذه من الفقر أو الموت في اللحظة الأخيرة،ثم يختفي.في الحقيقة،هو لا يختفي،هو ـ فقط ـ  دائم الذهاب إلى أسرةٍ جديدةٍ في شتّى أنحاء المعمورة.

هذا الملاك الذي نتحدث عنه أحسَّ هذا الصباح بالكسل،هو لم يعرفْ معنى هذا الكسل من قبل حتى يمكننا أن نقولَها ونحن متأكدون من تلك الحقيقة ،لكن هذا ما حدث.لكمْ يفرح ، وهو يرى فرح الإنسان، حين ينتشله هو وأفراد أسرتِه من الجوع أو التشرد أو الموت الذي علي بعد بضعة انفاسٍ! لكنه أبدًا لم يعرفْ كل أفراد الأسرة الناجية،ولم يكنْ في الحقيقة يَشْغل رأسه بذلك.الفرح موجودٌ دائمًا.هكذا استمع ملاكُ الفرصة الأخيرة إلى ما يدور في رأسه. رفع جناحيه في الهواء بتكاسلٍ واضحٍ، وأضاف ،وهو يهزُّ رأسه ،وكأنه يُؤكِّدُ علي فكرتِه بلسانِه :ـ بعد ساعةٍ أو يزيد قليلاً سوف يكون هناك رب أسرةٍ، مليئة بالذعر والخوف عيونُه بقريةٍ ما ـ لا أعرفهاـ لا بد ستتلألأ  الفرحة في عيونه عندما أُدركُه،وعند ذلك لا بد سوف أرى تلك الفرحةَ.لينتظرْ الفرحُ قليلاً رَيْثَما أفرد جناحيّ في هذا الصباح الجميل.هكذا همس الملاكُ لنفسه.وهكذا فعل.مدَّ جَنَاحيه تحت سماءٍ فاتنةٍ تُشْبه كثيرًا امرأة الأحلام .هل تعرفون امرأة الأحلام التي طالما برع الشعراء في وصفها؟

تلك المرأة يقولون عنها إنها ذهبتْ ذات مساءٍ إلى البحر وعرَّت ثدييها ـ اللذين يُشبهان كوز الصنوبر ـ و غنَّتْ بصوتٍ رائقٍ وحنونٍ لحبيب اليوم الذي لا بد موجودٌ في انتظارها كالعادة.

لكن ما لا تعرفُه تلك المرأة أنَّ البحر قد اختطف حبيبَها قبل بلوغها الشطَّ بلحظاتٍ .يا لهول ما يُخبئُه القدرُ لامرأة الحلم.

لقد استمع إليها البحر أمس للمرة الأولى .وللمرة الأولى ـ أيضًا ـ ظلَّتْ روح البحر متقدةً طوال الليل.لم يعرفْ كل علماء الطبيعة أنّ البحر حين هاج وماج كان ذلك من أجل أنه أحبَّ امرأة الحلم.لقد ظلّتْ روحُه متقدةً مُذْ ذاك.

هاجت مشاعره الحزينة،فهاج الماء.

عشق قلبُه امرأة الحلم،فأحبَّ الماء المرأة.

ومن هنا أراد أن يُسعد سيده وصاحبه البحر.أن يُشفي قلبَه الذي اتّقد مُذْ أمس .لم يجدْ الماء أمامه حلاً غير سحب الحبيب .لقد أراد أن يُوفّر الأمان لصاحبِه البحر.نظر البحر إلى المرأة بعشقٍ ولم يُرْخِها.كانت تغنِّي للحبيب الذي لا بد تأخَّر لسببٍ ما لم يشْغَلْ بالها في حينها.ظنَّ البحر أنها تُغنِّي له هو،فمدَّ يده وضمَّها إليه بقوةٍ. يقول بعض الناس : إنَّهم كثيرًا ما استمعوا إلى غناء المرأة الحلم في لحظات تقبيلِهم لمن يُحبّون أمام البحرِ وقت الغروب.

لكن ما لا يعرفُه الناس أنَّ الماء كلما حنَّ  إلى  صوت امرأة الحلم الحقيقي ينتظر إلى أن ينام البحر ـ ذلك يحدث لا ريب ـ  ويقرِّب ما بين جثة الحبيب وروح المرأة،وحين ذلك يهتزُّ طربًا وتحدث الأعاصير، وهو يستمع إلى صوتِها العذب .

ربما يكون الماء كاذبا ،فهو أبدًا لا يستقرُ علي شئٍ .

لم يكنْ ليخطر على بال الملاك أن يشعر بتلك السعادة،وهو يهمل عمله،لكن هناك أشياء كثيرة وجب على الراوي فكَّ طلاسمها كي نستطيع تصديق أنَّ ملاكَ الفرصة الأخيرة، كما يَطلق عليه أصدقاؤه قد تكاسل عن وظيفته.وللمتعطشين لإجابة هذا السؤال أقولُ لهم : أنَّ الراوي قد علم أشياء كثيرةً تتعلق بحياة ذلك الملاك منه ذاته . إنني سوف أُخبركم بآخر سرٍ  قاله لي : وهو أنه ـ ملاك الفرصة الأخيرة طبعا ـ للمرة الأولى طوال عمره الذي لا يعلمُه إلا الله قد حَلُم بالفتاة التي كانت ممسكةً بيد أبيها المشعث الشعر وهو يمنحه الكيس الأرجواني ليلة أمس.للمرة الأولى مُنْذُ آلاف السنين يحلُم ويتذكر حلمه.

لا ، ليس كذلك يا أنتَ.

هو للمرة الأولى يرى  وجه أحدٍ  كان في انتظاره.

( كيرياليسون)   كل مَن يُؤمن به لا يهلكُ.

لأنه لم يُرسِلْ اللهُ ابنَه الوحيد إلى العالمِ ليُدين العالم،

بل ليخلص به العالم.

قالها الملاكُ المتغيب عن عمله وعقله يُراجع نظرات الفتاة.

راح يستجمع رائحتها الذكيةَ وهو يحرّك جَنَاحيه على العشب الأخضر، ويُغمض عيونه ،ويتحرّك أنفُه حركاتٍ سريعةٍ في البداية، وكأنه يستجمع رائحةً ما، ثم ببطءٍ،ثم ببطءٍ شديدٍ.

لحظة ذاك لمح ملاك التفاصيل الصغيرة الذي كان في الطريقِ إلى عمله نظرة الشوق المرسومة علي وجه صديقه ملاك الفرصة ،كاد يَقِف،ويسأله عن معنى تلك النظرة المرسومة على فمه ووجهه ،ويسأله ـ أيضًا ـ  لماذا هو متغيبٌ عن عمله ؟ لكن ذلك الملاك، ملاك التفاصيل الصغيرة ـ طبعًا ـ كان على عجلةٍ من أمره ، فآثر السلامةَ ومضى تاركًا  المشهد دون أن يُؤثّر فيه إلا برائحته العبقة ،رغم أن المشهد قد أثّر عليه تمامًا.

للناسِ أنْ تعرف أنَّ المشهد قد ملك عليه لبَّه .

هكذا يُعلّق أحد الرواة .

كانت النظرة المرسومة علي وجه صديقه الطيب، ملاك الفرصة الأخيرة تنتقل معه من عملٍ إلى عملٍ، حتى زُلَّتْ قدماه مرة، ولم ينتبه . لقد أخذ النظرة من مكانٍ إلى مكانٍ ثانٍ،ثم مكانٍ ثالثٍ،وهكذا دواليك حسب طبيعة عمله.

اختلطتْ رائحةُ الفتاة برائحة ملاك التفاصيل الصغيرة، ففتح عيونه .لم ير شيئًا هنا أو هناك ، حيث دارت عيون ملاك الفرصة الأخيرة بأرجاء المروجِ الخضراء والجداول والماء السلسبيل.

عاد بعيونه إلى السماء، وراح يتشمم ما علق في خياشيمه من رائحةٍ للفتاة.

دقق النظر، فرآها بازغة من الأفقِ، تمامًا كما كانت، حين رآها في المرة الفائتة. كانت التفاصيل ترتسم أمام عينيه للمرة الثالثة في السماء إِثْر حركتها،وكأن الله أراد أن يُريه ما رآه في الحقيقة ظهرأول أمس.

ظُهرأول أمس، يا حقيقة ظُهر أمس تعال.

تذكَّر الآن تفاصيل كل شئٍ، وانبلج الصبحُ.

أنجز عمل البارحة على خير وجهٍ.لم تكنْ الفتاةُ فيه. كانت تقف بالقرب من أبيها ظُهر أول أمس.كان يقولها ،وهو يعتدل بظهره على العشب الليّن،يا لها من مفاجأةٍ!.

أضاف ،وهو يصوّب نظرته على الفتاة في السماء.

كانت كما هي ،لكن شيئًا ما مختلفًا دخل المشهد في رأس الملاك.كانت الفتاة تُعيد تمثيل المشهد. نعم ،ذلك حقيقي تمامًا،لكنها كانت وحدَها .

يا الله !

قال بصوتٍ عالٍ،فرددت الجوقةُ كلُها بمائها وأحيائها وكل ما يُحيطُ بالأبصار.الآن تذكَّر أنَّه حين استيقظ بعد حلمه مُنذ ساعاتٍ فكَّر،وهو يُعيد الحلم لنفسه،بل وتمنّى أنْ تكون هي محيط المشهد كله.فكَّر أنْ يراها هي فقط .فكَّر ألا يشغل فكره بمأساة الأب،أو حتى رؤيته للفرحِ يتلألأ . تمنّى أنْ يكون وجودُها ضروريًا  للمشهد .لا يجوزُ لتلك الفتاة الحزينة الجميلة أنْ تكون مجرد التفاتةٍ عابرةٍ منه ،هي ما تجعله يراها كما حدث.

قال أحد الحكائين واصفًا وجهة نظر الملاك ببساطةٍ :

ـ كان وجود الفتاة في المشهد فقط َ لمليء الفراغات.

وجود ربما يُؤتى أكله في التشويق والإمتاع والمؤانسة،تمامًا كأشعة الشمس الطافحة حرارةً على المشهد.ببساطةٍ أكثر،كما يقول آخر:لم تكنْ هي كابتسامة الأب بعد حزنه الطويل،ولا هي الكيس الأرجواني الحامل للمكافأة.إنها أقرب ما تكون إلى الظلِ،أو ما يدخل محيط بصرك دون أنْ يدخل نظرك.

لكنها كانت، وهو لا يعرفُ ذلك حتى الآن علي الأقل،وربما يتفاجأُ بحدسي،لقد كانت أقرب ما تكون إلى نقطة الماء التي سقطت في فمه حين ذلك بعد أنْ أحسَّ بالهجير القاسي .

لقد كانت ضروريةً له ليكسر ذلك الفرح الدائم العائش فيه ليل نهار، حتى أن  زملاءه يحسدونه ويقولون بعد انصرافه مباشرة :

ـ محظوظٌ صديقُنا ملاك الفرصة الأخيرة،سعيدٌ وفرحٌ دائمًا ،لأنَّه يُعطي الفرصة الأخيرة، لمَن تقع له مصائب الدهرِ ،ولا يرى غير الفرح بمجرد أنْ يَمُدَّ جَنَاحيه بالكيس الأرجواني ،فلماذا لا يكونُ سعيدًا، ونحن المنغرسة عيونُنا بالحياة ومعاناتها قبل حضورِه؟!علَّق ملاك التقارير الوافية الجامعة

ربما يُخالفُني ملاك الفرصة الأخيرة الرأي الآن ،ويُعلن أنَّه ما أحبَّها قط،ولا خَطَر على قلب ملاكٍ.وربما أضاف:إنها هي القشة التي قصمتْ ظهر البعير.لكنَّه قط لن ينكر أنها قد أضجَّتْ مضجعه.

مدَّ جَنَاحيه في السماء،وأمسك بها. قرَّبها ببطءٍ إليه .ثبَّتها بين جناحيه،ثم دنى،فتدلَّى،فمدَّ فمه ولَثَمها على خدها.

حين ذلك، وذلك رأس الخيمة يا أعزاء،إنها لحظة اكتشاف المأساة التراجيدية .إن صاحبنا الطيب ملاك الفرصة الأخيرة فيها. لا إن ملاكًا هو كل شيءٍ  فيها.لقد ذكَّرته الفتاة بعمله،وكيف غاب عنه.لقد كان في انتظارِه ـ مُنذ ساعةٍ أو يزيد ـ بالخليل أب مكلومٌ  في بيته وفي أسرته وفي وطنه كله.عند ذلك تذكَّر ملاكُنا أنه لم يذهبْ إلى عمله.دار في الأرض عدة دوراتٍ ،وهو يصرخ ويقول :لقد أضعت شخصًا ما في الخليل، يا لمأساة ما صنعت يا لله.لقد أضعتُه تمامًا،وحطمّتُ حياته وحياة أسرته. قطعت عليه طريق النجاة الوحيد للتغيير والإنصاف، ككل الناجين الذين أُدركهم في اللحظة الأخيرة.

وللملاك أقولُ: لأنه لم يعرفْ بعد.

بعد معاناةٍ لا يعلمُها  إلا الله ،ولم تكنْ أبدًا لتخطر على قلب ملاكٍ مدربٍ على العمل والعبادة مثلك يا صديقي . إن ما أضعتُه كان رب أسرةٍ مكونةٍ من أحد عشر من الأبناء والزوجة والأم والحموين والأقرباء والأصدقاء وأشياء كثيرةٍ، لو ظللت أُعددها لن ننتهي قبل صياحِ الديك للمرة الرابعة وإنكارنا ـ جميعًا ـ للمسيحِ .

حين ذلك أنزل الفتاة بين الورود . لم تكنْ لمسة ناعمة وخفيفة مثل تلك التي فعلتْها الفتاة لتخطيء باب القلب أبدًاً .

وأنتم ـ جميعًاـ شركاء رومانسيةٍ ، لو كانت الظروف مغايرةً ،لكن الملاك كان جدَّ حزينًا،والبنت ـ أيضًا ـ  حتى لا يلومُها لائمٌ،كانت حزينةً.لقد تأكَّد لها ،وهي تراه يَلُفُّ حول نفسه ويزعق ويئنُّ ويسجد ويركع إنها بالفعل تُحبُّه.ورغم علمها أنَّها كانت ألعوبةً في يد الشيطان الذي استطاع أنْ يدخل ،حيث لم يُنتظرْ. يدخل  قلب ملاك الفرصة الأخيرة.

حيث خلقتَني أكون،لا حيث أشاء.

قالت الفتاة، وهي تحاول البحث عن مبرراتٍ تُعينُها على تحنين قلب الرب.

اصمتْ يا أنتَ ،مَن قال لكَ: إنها تقصد بقولها السابقِ ما علَّقت به؟

مَن قال إنها لا تحبُّ خطيئتها ؟!،

مَن قال إنها ليست فرحةً بها ؟! يا هذا أنا أُؤكّد لك ذلك.

من قال لكَ إنها تطلب الغفران من أجل تلك الخطيئة؟!

هل تنطق بما لا يعلمُه إلا الله وهي؟!

هلوليا . هلوليا .

استغفرْ الله العظيم،استغفرْ ربَّك العلي العظيم يا أنت .

ولكي تعرفوا جميعًا أنَّ ذلك الرجل الذي تدخَّل في الحكاية منذ قليلٍ كذابٌ أشر، أقول لكم ما قالته الفتاة لملاك الفرصة الأخيرة ، وقفتْ أمامه ومسحت دموع عينيها وقالتْ:

ـ هل تعلم أيها الملاكُ،ربما ظللت أعيش مع أبي هناك لسنواتٍ عدةٍ وطويلةٍ أيضًا،ربما كنت تنعمّت بالخير الذي منحتَه إياه أمام نواظري،بل ربما أكثر كنت سأتزوج شابًا جميلاً جدًاً،وربما يكون فيثاغورس ذاته،ما العائد علىّ؟! قصور منيفة ، خدَّام ،أبناء سعداء ؟!في النهاية زوجة فيثاغورث، يا لهذا الهراء!حيواتٌ أُخرُ رائعة يمكن لي أنْ أصف لك ،لكنني أبدًا يا ملاكي الطيب.

لن أكون حيث أشاء.

وحيث شاء الله الملك الحق .

حياتي أنا أحلم بها معك.

ثمَّ مرتْ بيديها على زغبٍ آخر في جناحه ،وأضافتْ وهي دامعةُ العين :ليغفر لنا الله جميع خطايانا التي فعلناها دائمًا كما أراد هو.لا حيث نشاء.لكن حيث نحبُّ.أنهتْ جملتَها ،ثمَّ دنتْ منه وعيونُها ملئ  بالدموع والحب والشوق والذعرِ والرجاء والأمل، ربما كادت أن تكون قبَّلتْه.وهو ـ ملاك الفرصة الأخيرة ـ لا حيث خُلِق.ولا حيث يكون.وحيث شاء.

ومن هنا لم يحسّ بالقبلة أو بملمس الشفاه ،فقط سحب رأسه من بين يديها ،وأدارها  في الفضاء دورةً،فدورتين ،ثم زاد في السرعة،دورةً فدورتين،ثم فرد جَنَاحيه في الفضاء وكاد أنْ يطير إلا أنَّ سؤالاً  في القلب انبلج،وخرج من لسانه

ـ ما اسم الرجل الذي كان في انتظاري منذ ساعةٍ أو يزيد في الخليل؟

حاولتْ إبعاد عيونها عنه. كانت عيونه ملونةً بأحلى ما يُريد الناظرُ.هزَّها جناحاه ،فعادتْ إلى الكارثة ،فعلمتْ أن الأرض مستقرٌ ومتاعٌ ،فهبطتْ بعيونها إلى عشب الجنة الأخضر، ورددتْ بصوت الذليل :

ـ اسمه فلسطين.

 

*********

كلما تحدّثنا مع أنفسنا،كلما تضاءل الأمل في وجود فرصةٍ للنجاة.من المنطقي تمامًا أنْ يتساءل المرء عن المبرر وراء تلك الأحداث القاسية المروعة التي نمرُّ بها.لماذا هذا الظلام الدامس؟! إننا مثل نبات الصبار،ذلك الذي نضعه على شواهد قبور ذوينا الذين رحلوا.ذلك الصبار الرقيق الجميل ـ دائمًاـ يعيش على حواف القبور.تدوسه الأقدام أو تُخرّبُه أيدي الأطفال.مليئةٌ بالثقوب دائمًا أوراقُه.بعض العشاق يكتبون كلمات الحبِّ الأكيدة على ورق الصبار.يا لهول ما يفعلون بالنباتات الحزينة،تلك التي تصاحب الموت والأجساد البالية.إننا نعيش وكأننا في الحكايات الخرافية،وفي انتظار الأحداث الدامية التي تملأ جميع الأساطير،لكن مهما بلغتْ فوضى تعاقب الأحداث، ثَمَّة ـ دائمًا ـ فتراتٍ فاصلةٍ، تُوجدُ من تلقاء ذاتها لنتحدث فيها مع أنفسنا.مازال هناك وقتٌ،ليس فقط للتأمل،بل للتعلّم والكشف عما هو منسيّ ومدفونٌ داخلنا،وعندئذ بمقدورنا أنْ نتخيل المستقبل.البعض منَّا يُمكن أنْ يرى حلمًا رائعًا.أتدرون! أنا واثقٌ من أني سأكتب شيئًا فريدًا هذه الساعةَ . سوف أبدأ من بداية الخلق.أنا واثقٌ من أنني سأصنع حلمًا رائعًا هذه الليلةَ.ليس حلمًا واحدًا ،وإنما جمهرة منها.هيا بنا الآن نُمعن النظر ونتأمل الصور والخيالات المنبعثة من دخان حلمي الأول فمازال هناك وقتٌ ليحيا التوازن ويُبقينا أحياء لبعض الوقت،حتى لو كان في الخيال.تقول الحكاية أنَّ الله بعد أنْ خلق الملائكة وإبليس و خلق العالم وآدم ،اجتمع بكلٍ منهم على حدة.وقف كبير الملائكة إسرافيل في حضرة صاحب العرش العظيم خاشعًا مُتذللاً من عظمة رؤية وجه ذي الجلالِ.طلب منه الخالق أنْ يجلس على الكرسي ليعطيه أهمَّ نصائحه،وقال له:

عدل السلطان يا إسرافيل خيرٌ من خصب الزمان،لذلك يجب أنْ يكون المَلِكُ برعيته شفيقًا،متجاوزًا لمسيئهم ،متلهفًا لدعائهم ،مشغوفًا بمحبتهم،محسنًا لمحسنهم،قائمًا بحفظ مأمنهم.عليه أن يكون في دينه متينًا،وعلى الناس أمينًا،

سديد الفكر،قويم النظر،صدوق النطق،مشغولاً بتهذيب نفسه ،متذكرًا يومه في غده وأمسه،متميزًا بالشمائل المرضية على أبناء جنسه،واضعًا الأشياء في محلِّها،متفحصًا بنفسه عن جلِّها وقلِّها،مقيمًا كل أحدٍ في مقامٍ لا يتعداه،ومنصبٍ معلومٍ لا يتخطاه،حتى تستقيم بذلك أمور المملكة،وتُصان من الوقوع في مهاوي التهلكة،ويطمئن خاطر مخدومه،ويركن إليه في منطوق قوله ومفهومه،وحسبي قولي يا كبير الملائكة في سيد الخلق الذي سوف أختمُ به الرسالات : ولو كنتَ فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك.

بعدها دخل آدم، ووقف موقف الملاك ،وسلَّم على رب العباد ،وجلس أمام عرش التواب ،واستمع إليه وهو أوَّابٌ ،فقال الله ،حين استقرَّ بين يديه:

ل.. صُنْعُ حواء يا آدم شئٌ عظيمٌ، شئٌ مختلفٌ عنك تمامًا .

زُبْدَةُ القول يا آدم إنني لا بد لي أنْ أصنع صِنْوًا فريدًا.صنوٌ به ازدواجيةٌ غامضةٌ وخارقةٌ،بها قدرة على الجَلَدِ والمثابرة،على الاستمراروالظهوروالاختفاءوالذهاب والعودة والسعي.حواء شئٌ مدهشٌ وأصيلٌ.عليك أنْ تعرف  كيف تقدر عليها،وتقدر هي عليك.كيف تستطيع هي وأنت في كوخٍ واحدٍ صُنعَ حياةٍ ؟!أنت  جنديٌ أجيرٌ في المعركة ،وهي ملكةٌ بالبيت.ستُؤجّرك أشياءٌ كُثرٌ،بداية من المال والأخلاق والأطماع وانتهاءً بالأماني والأمنيات.كل شئ  خلقتُه يا آدم ليكون لك ،سيكون أيضًا عليك .لكنَّ حواء ستكون كل الأشياء مجتمعةً ،ولهذا ستكون صِنْوَك الذي يكشفُك أمامك.هل أُخبرك يا آدم ما أخفيتُ عنك؟ إنها ستكونُ أمك وامرأتك وابنتك وأختك.هل تريد أكثر؟ باستطاعتي أنْ أُلوّنها لك كيفما تريد.انظرْ ما أخلقُه أمام عينيك.هذه يا آدمُ تُسمّى  امرأة اللبن الرايب ؟ مدّ يدك وتحسسْ ملمسها . ماذا في فمك الآن؟لا شك لدي،لبنٌ رائبٌ .هل ذهبَ خيالُك إلى ذلك ؟ بمجرد أنْ تتحسس جسدًا يسقط من بين لعابك لبنٌ رائبٌ ؟! انتظرْ قليلاً ،هذه أُخْرَي تُسمَّى  امرأة الزعتر الأخضر.هل أدلّك على امرأة التفاح! البرقوق الأحمر والأصفر! امرأة الأحزان امرأةالأرغول؟!.هل تعرف امرأة الحنطة؟هي امرأةٌ مليئةٌ بالرفق والحنان والعذوبة والجمال.على قوتها أنْ تنسحب وتُخْلي الطريق  للين العريكة.على صِنْوك يا آدم أنْ تكون أشياء كثيرةً في لحظةٍ واحدةٍ.عليها أنْ تُطيّب الجراح وتنزع خيوط الشرِّ الحريرية من منبع الروح . عليها أنْ تحتاط للغلّ البازغ ،أنْ تنتبه إلى جيوش الحقد الطامحة إلى سلب العقل لديك، أنْ ترعى  ثدييها جيدًا، منهما  الإحساس و فيهما  التغذية .ما أحلى امرأة  الأحلام يا آدم .امرأةُ التوق، فلا بد لك أنْ تتحسس  كل خرائطها .تلك المرأة تشعُّ روحُها حينما تَشُدُّ وتر الكمان أو تُمسك بزهرةِ بريةٍ . اسمعْ يا آدم حتى أنتهي منك  أقول لك :الرقة والعذوبة، اللطافة والوداعة والإمتاع،كل ما علّمتُك إياه من صفاتٍ وأسماء ستراه في عملِ يديّ.حواءُ هي عمل يدي ،أجمل وأرقُّ وأبدع ما خلقتُ ،ستراها،في ممشى الحديقة وحواف الزهور ستراها. أقولُ لك يا آدم:ارعْ  حواء كرعايتك لبستانك.هي في شجر الكرز وفي الكمثرى والليمون.هي فكرةٌ أو صورةٌ أو أرضٌ أو جبلٌ .هي ماءُ الوديان، وهي الترقرقُ في الغُدْران.هي في أسماك الزينة النائمة في القنوات المحفورة بيديك . هي في حوض الزرع وفي الضرع وفي مناقير الطير.أقول لك : حواء هي القدرة على الوقوف ومواجهة الأهوال المرعبة بدون ارتعاشةٍ.من ذرة خوفٍ واحدةٍ عند الوضع خُلِقتْ لتكون صِنْوًا لك. حواء مثل كلبٍ مدربٍ على رهافة السمع والتشبث والعناد والتنقيب ،تحت الجدران والكشف والمطاردة واسترجاع ما فُقد منك أنت يا آدم.لا تعتقدْ أنك خلقي الأعظم . أنتَ نصف الكوب الفارغ أقول لك .وأقول لك إنَّ حواء هي نصف الكوب الفارغ أيضًا.أنا المملئُ  الممتلئُ.بيدي أنتما عرائس أقلبكما حيث أشاء،وحينما أشاء. يا آدم اعرفْ أنَّ حواء ستعيش في الحياة بأرجل  دجاجةٍ .ستلفُّ وتدورُ كالدوامات، لتكون صِنْوَك. أنت مُشعل النار عند البحر وفي البر وفوق سمائي وتحت بحاري،وهي تُغنِّي لابنتك الصغيرة، وترعى البقرة وفناء البيت من الذئاب.تُعين خيال الحقل على الدوران، حتى تكفي غَلّةُ  بيتك. انظرْ ماذا تصنع!حتى فرخ البط القبيح يجد غذاءه مما يسقط من بين يديها،وهي تضع إبريق الماء أمام الكوخ، لربما مرَّ عابرٌ للطريق. ستكون طيبة وخاضعة وليّنةَ العريكة حين تريد وكيفما أرادتْ.إياك وجرح الغريزة عند حواء.وأقولُ لك في البداية إنَّ غريزة حواء هي كل حواء،أو حواء هي الغريزة مُتمثّلة.هي لا تكتملُ إلا بالمنح والاختيار والتدبر والأمومة.خلقت صِنْواً لك ،لتعرف الفرق بين القدرة على الحياة والسماح بالحياة.إنَّ الجميع سوف يقدر على الحياة طالما وُجِدتْ حواء.لتعرفْ أنه لولا وجودها لأصبح  مسموح لك بالحياة فقط .إنَّ الفخَّ المنصوب لك من الفخ المخلوق منك لن يُحلَّ إلا بمعرفتك مَن تُشاركُه الحياة.لك أنْ تعرف في النهاية إنَّ أرداف امرأةٍ كبيرةٍ لا بد يحتمي خلفها أطفالٌ صغارٌ .ردف المرأة دائمًا عريضٌ لأنَّه الركيزة التي يتمحور الجسد حولها من أعلى وأسفل،هما باب الجسد،الوسادتان الطريتان لك، ولذلك أقول لك إياك من جرح  الغريزة، وهو التطبع مع غير الطبيعي.لحظتها ما لا أذن سمعت ولا عين رأتْ ولا خطر على بال بشرٍ ترى، ولسوف ترى بأم عينك.أقول لك في النهاية ،عليك يا آدم أنْ يكون ما لديك أكثر من مبلغ الإيجار لكي تؤسس بيتًا جديدًا. أكثر كثيرًا من الأموال،إنَّ حواء تحتاج إلى براعةٍ فائقةٍ في الاستعطاف والمؤانسة.لا يهمُ خشب الأرضيات ولا ألواح الجدران أنْ تكون من خشب السرو،أو تكون خزائن الكتب رَحْبَة إلى حدٍ يُمكن تحويلها  إلى أسرةٍ جداريةٍ للنوم،حضنٌ بصدقٍ في كوخٍ بقرب البحر ربما  يُحوّل القشَّ إلى أسرةٍ من ريش النعام.لا تخفْ على المفارش الحريرية ذات اللون الوردي،ستصنعها حواء.أنت الجندي وساعي البريد وصانع الأحذية وخيال الحقل،وهي بائعة لُعَب الأطفال وزارعة الورود والظلّ النائم على الجدار وطاقة النور وما هو منظورٌ وما هو مَخْفِيٌ. لتعرفْ يا آدم أنه عَهدٌ ووعدٌ بالقوة المبدعة التي سوف أخلقُها لك.آخر ما أقوله لك عن النساء إنهن ساحرات العالم .بمجرد حضورهن  يتحوّل الرجال من عابسين ومتجهمين إلى مبتسمين وبشوشين.إنهن يُخففن من حزن الحَزَانى.إن قدمًا تفقدها في الحرب ستعود لك  بمجرد مرور يد حواء على الجزء الباقي. حواء مثل زهرة عباد الشمس، تتحول باتجاه الشمس.والآن اذهبْ إلى حالِ سبيلك ،وليدخلْ بعدك إبليس، لعنتي عليه أبديةُ .صاحبتك حواء، مع السلامة.دخل إبليس على رب العزة وهو يضع عيونه في الأرض فقال الرب له :ـ تتذكر يا إبليس حياتك في جنة الخلد قبل أنْ أخلق آدم؟ـ أتذكر يا رب السماء.ـ تتذكر حياتك هناك وما مرَّ بها يا مَن خلقتُه من نار؟ـ أتذكر كل كبيرةٍ وصغيرةٍ يا رب.ـ كيف كنتَ في حياتك الأولى ؟ـ كنتُ كبير الملائكة، أأمر، فأطاع .أهمس، فيجري الماء بين يدي كالبحر،أُبرئ الأكمه والأصم من الملائكة.ملايين من القصور بُنيتْ من أجل إراحتي .ماذا أقول يا رب، وأنت مَن أمَّن لي أحلامي طيلةَ حيواتي.ـ تتذكر نخلة الكمال التي صنعتُك عند جزعها، وقلتُ لك لحظتها أنت طرحها؟ـ نعم يا رب، أتذكر كل شئٍ  فيها.ـ هل تعلم أنَّ طرحها اسمك ؟ـ فكرت في ذلك يا رب ،لكني أبدًاً ما عرفته.ـ قلْ إذًاً ما هو طرحها لأفضّ لك ما خُفِي عنك؟ـ ثلاث عراجين يا رب لا غير . كانت ثمارها الدائم غير المنقوصِ،مكتوبٌ على التمر بالتمر ذاته ثلاث جمل لا رابع لها.ـ اذكرهم.ـ  أين شطا لام ، ثم شطا أين لام ، ثم لام أين شطا ؟ـ ذلك اسمك يا إبليس. كنت خلقتُك وأعرف ما توسوس به نفسك وأنا أقرب إليك منك.ـ لا أعرفُ له معنى. طويلة هي الأيام، التي ظللتُ أدوّر ،وأبحث بين تلك الحروف،لأخرج بنتيجةٍ تُقَرّبني من معرفة الحقيقة الغائبة عني، بل أقول لك ما أنت به أعلم، لقد سخَّرت بعض الملائكة للبحث في معنى كل الكلمات، بعد ترتيبِها بشكلٍ مختلفٍ ولم أخرجْ بنتيجةٍ يا رب.ـ هذه الحروف الحال فيها كاملٌ في سرِّهم، مال الإباحة عندها تأويل.لله أحبابٌ إنْ باحوا بالسرِّ تُباحُ دماؤهم وكذا دماء البائحين تُباحُ. ـ لا أفهم شيئًا يا ربُّ.ـ مثلك مثل أبناء آدم، الذين سوف أخبرهم أنَّ اسمي الأعظم بين “بسم الله الرحمن الرحيم” يا إبليس ومثلُك هم لن يتوصلوا  إليه.ـ أنا أعرف اسمك الأعظم يا رب.

ـ ذلك ما كنت تُؤمّلُ به نفسك، وأنت منه بعيدٌ.

فالحق فيهم ناطق بشواهد   وسيماتهم تعلو الوجود دليلي.

ـ لا أفهم شيئًا،هل تعني أنَّ اسمك الأعظم ليس الذي أعرف؟وإن كان كذلك،ما معنى”الحقُّ فيهم ناطقٌ بشواهد،وسماتهم تعلو الوجود دليلي،ومن تقصدهم يا رب؟

ـ تعلمت كثيرًا بقربِك مني، فلماذا لمْ يُفدْكَ علمك حين الوقت المعلوم؟!

ـ أنتَ القائلُ يا ربُّ أنَّه حينَ تَحلُّ المقاديرُ تَضلُّ التدابيرُ، وأنت خلقتَني لذلك. نعم كنتُ أعلم أنَّ هناك ملاكًا ما سيرفض الركوع لآدم،وانتظرت على السجودِ قليلاً لأعرفه .لم أكنْ أعرف أنَّك قد خلقتَني من أجلِ ذلك.

بعد ما تنعمت به في القرب منك تبعدني يا رب عنك؟!

هل أخطأت في شيءٍ عظيمٍ حتى تجعلني ما كنت أبحث عنه؟! .

ـ نعم يا طاووس الملائكة أخطأت، لكن اليوم ليس يوم الحساب، وأنا أمهلتُك كما تريد. أنا فقط أقول لك ما خُفِي عنك، وهو اسمك ذاته.هل تعلم اسمك الذي كنتَ تبحث عنه في نخلة الكمال ؟ هو الشيطان يا إبليس.

ـ يا الله ! اين شطا لام؟. شطا اين لام؟ لام اين شطا!

إنَّه الشيطان، كيف غُفِلَتْ علىَّ ؟! كيف رحتُ أبحث عن لامٍ فقط ؟ لماذا لمْ أجمعْها؟! لقد كانتْ واضحةً تمامًا.

ـ لا تؤنبْ نفسك الآن، هناك أوقاتٌ كثيرةٌ في الطريقِ  يا شيطانٌ خلقتُه بيدي ومنحتُه قربي وأعرفُ ما في نفسه ،أما ما طلبتَه ولم أمنحْك إياه ،أقولُ لك ،لقد أُجبتَ سُؤلك : لك أبناءٌ عددُ  أبناء آدم، لك هذا . هل تطلب شيئًا آخر؟

ـ طلبٌ أخيرٌ يا رب ، كما جعلتني أُخطئ ، أطلب العدل في جميعِ مَن كانوا يعملون بإمرتي وتحت يدي، هؤلاء الملائكة جميعًا يا رب.

ـ ليس عدلاً ما تطلبُه ،وأنا أجبتُك عن كل أمنياتك ولم يعد لك الحقُّ  في طلبٍ كهذا .

ـ يخطئ  رؤساءُ الملائكة فقط  .

ـ ليس لك الحقّ ، ومع ذلك لأسهّل عليك ،حتى لا تخرج خالي الوفاض، اختر طلبًا  يؤديه شخصٌ واحدٌ.

عند ذلك احتار الشيطان، وظلَّ يتحرك أمام عرش الرحمن لمدةٍ طويلةٍ، وهو يفكر ويعصر رأسَه المليئة بكلِّ الألاعيب التي خُلقَ من أجلها والمعروفة لربِّ الوجود، ثم ابتسم لنفسه وقال للرحمنِ :

ـ عندي طلبٌ واحدٌ يؤديه ملاكٌ واحدٌ يا ربُّ ،ملاكُ الفرصة الأخيرة.

ـ ماذا به ؟!

ـ أريدُ أنْ أدخل إليه في يومٍ معلومٍ لي ، لأجعله يُخطئُ  في شئٍ  ما في المستقبلِ .

ـ لك هذا ،ولتذهبْ الآن من أمامي، لا صاحبتك غيرُ الندامةِ .

 

مضى  قليلٌ من الوقت، ثم اجتمع الربُّ مع آدم وكبير الملائكة وإبليس، قال الله وهو يُشيرُ على آدم :

هذا الذي دانتْ الدنيا لطلعته  والدين والملك والأيام والأمم ،فنظر آدم إلى إبليس، وتعجَّب من وقفته المغرورة وقال مخاطبًا الله :

ربُّ الممالك واقعٌ في محبته       الخير والشر كلُّ بحكمته.

فقال كبير الملائكة ،بعد أنْ لمح عيون إبليس المتنمرة لكلام آدم والمتوعدة له ،حين يغفل ولا بد أنْ يغفل :

تأتي الخطوب وأنت عنها نائمٌ تُبْلَى العيون وعين الله لمْ تزلْ .

عند ذلك انتبه آدم إلى شكل إبليس المتحولِ ونظرته العدائية وغروره المتحكم فيه ،فقال :

وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته، حتى إذا فات أمرًا عاتب القدر.

تأكد لإبليس أنه يقصده ،ففتح فمه للمرة الأولى في حضرة الإلهِ قائلاً :

وأعجب ما شاهدت في وصله وقد نزعنا غلالاتٍ وثوب حياء

تلألأ  نور في ترقرق مائه وصورة روح في مثال هواء

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات