رواية عزة سلطان : تدريبات على القسوة

10:09 صباحًا الأحد 30 مارس 2014
عزة سلطان

عزة سلطان

روائية من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الكاتبة عزة سلطان

مقاطع من رواية الكاتبة عزة سلطان : تدريبات على القسوة

  • هذا الصباح تنقصه القهوة، ودفء رجل يجلس في الجوار على نفس الأريكة، سوف أتحرك لإعداد القهوة، وعن الرجل سأُعيد تشغيل عقلي واجترار تفاصيل لطيفة تشي بالدفء وربما بعض المحبة.

 سأضبط نفسي أبتسم حين كان يغازلني ذات يوم، أستمر في الابتسام باجترار اللحظات الخاصة، لكنني لن أستطيع إيقاف نفسي عند حدود الابتسام، سيملؤني شبق، وشغف لا إجابة له سوى عناق محبيْن.

أُطفئ النار، أضع القهوة في فنجان، وبينما أعبر باب المطبخ تتكشف لي التفاصيل، كان يغازلني ولديه موعد مع امرأة أخرى، سأستمر في سيري إلى الأريكة، سأجلس أتلمس برودة المكان المجاور، سأُغمض عينيَّ وأراه يشارك الأخريات تفاصيلي، تستحيل الابتسامة إلى زم الشفتين بضيق، سرعان ما يصير غضبًا عارمًا، أُغلق عينيَّ عن تفاصيلنا المدهشة، ستختلط ملوحة الوحدة بمرارة الغدر، أمسك قهوتي وأُعدل من وضع جلوسي على الأريكة، فاردة جذعي، وأصير في وضع النوم.

هبت ليلى صديقة الصبا من غفوتها لتنصحني فجأة برجل، يرحمني من الذبول وأفول الروح، لماذا كان حديثها في ذلك اليوم؟ الحديث الذي أتبعته بملاحظات مستمرة لمناطق الذبول في عيني، ابتسامتي الباهتة، شعري في تسريحته التي تزيدني عشرة أعوام مجانية بلا خبرة، صدري الذي تهدل دون طفل يُنهكه في حلم التغذية والتواصل، حتى جلدي قد ترهل، دون تقدم يُذكر في عمري.

وخزتني ليلى بكلماتها، الرجل يمد بروحه في طزاجة الجسد، ربما يأخذ مني العقل، أو القلب، وبعضهم يسرق الطاقة والجهد، وآخرون يستنزفون المال بقصد وبدون، لكن مع كل هذا هو الرجل وحده القادر على إنبات زهرة الجسد، وكشف مسام الرغبة تحت الجلد المصمت الذي أغلقت ملوحة الوحدة مسامه.

لعلك يا ليلى بعد أن تركتِ داخلي هذا الرعب لا تدركين أنكِ صنعتِ له جميل العمر، حين جعلتِ مقاومتي هشة لا تحتمل أكثر من ثلاثة أسطر، وابتسامة ود مجانية، يمنحها للجميع دون فارق.

ليلى، أنتِ فعلت بي ذلك، حفرت لي الشرك، وتركتيه له ليلتقط نظراتي الشاردة، ويشعر بعطشي.

كانت ليلى ذات مساء تحب، وكانت تحكي عنه، تُفرغ رغبتها في البوح بصدري، فتعلمتُ السمع، وتعلمنا شغل الوقت بحديث عن رجل وحيد، سأراه بعد تخليه عنها بعشر سنوات، يبتسم لي وأنا أقف ساهمة أود أن أطارده، أغلق فمه، لا تبتسم لامرأة أخرى غيرها، لكنني وقفت مكبلة بصمتي ومباغتة.

عشرات الحكايا كانت عنه، وعن رجال يشبهونه في بعض الملامح، هذا يعمل في نفس تخصصه، وذلك له اسمه، أما ذاك فسينقلها في السلم الاجتماعي لتصبح سيدة مجتمع تتخلى عن حارتها الضيقة بشبرا، لكنهم جميعًا تخلوا عن حلمها البسيط في الحياة.

توقفت ليلى عن حكايتها لي منذ زمن، فلماذا ظهرت في هذه اللحظة لتترك بداخلي خوفًا كبيرًا، وأنا تلك التي لم تلتفت لجسدها كامرأة في يوم فات.

تخلت عني ليلى بحكاياتها وتركتني أصنع حكاياتي من العابرين، أعترف لك أني لم تكن لي بصيرتك، لم تكن لي حس المرأة وحدسها النابه، لكنك بكلماتك في ذات اليوم أشعلت بداخلي كل مخاوف الزمن من العجز المبكر، كنت أقول لها إن العجز هو من نصيب الروح، لكنها صرخت فيَّ فقالت إن عجز الجسد ممر قصير آمن لعجز الروح.

أنت يا ليلى السبب في أن ابتسامته جعلتني بعد ساعتين في سريره، أتجرد من وحدتي في توحد معه.. أنت فعلتها بي.

الرسوم المصاحبة للنصوص للفنان بابلو بيكاسو، أعلاه رسم يعود للعام 1920

  • بعض من التوتر وحالة ألم تتبدى على الشفاه والوجه، تمسك بمثلثها، وكأنها بصدد رسم لوحة هندسية، تمسك بالمثلث وتقيس أضلاعه، تعاملت مع المساحة بشكل طولي من أسفل إلى أعلى، محددة شروط العمل، أن يكون في آخر أيام الدورة الشهرية، على أن تبدأ بقاعدة المثلث وتنتهي إلى أضلاعه، تتعامل معه برفق.

خرجت لتوها من الحمام لتخبرها أنها نجحت في تبييض صفحتها، وحين بدا التساؤل في عيون مرافقتها، أتبعت نبأ النجاح بضحكة عالية ورفعت يدها بجزء من الحلوى، في هدوء قالت: كان الأمر مؤلمًا!

وسرعان ما تبدلت العادية بحالة بهجة وامتنان، وقتها شعرت بضرورة أن ترى مرافقتها نتيجة النصيحة،  فرفعت البلوزة لتريها شكله (التحفة) وهي مبتسمة وتنتظر إعجابها به، لكنها لم تُظهر أي تجاوب واضح معها فأمسكت يدها ووضعتها على مساحتها الخاصة، وسخرت من هذا الخجل الذي ظهر على ملامحها، مكللة سخريتها بغنج واضح وعبارة من بيئة وضيعة:

–          أُمال بتمسكيه إزاي؟

لم تعلق وصمتت.

كانت.. لا كُنت.. لماذا نتخلص من آثامنا ونحن نحكي عن أنفسنا فنلصق بالحديث صفة الغائب، مع أن كل تفاصيل الحكاية تشير إلى راوٍ عليم، فسدت فكرة الراوي العليم هذه ولم تعد مناسبة، لذا سأقول (كُنتُ) دون أن أخاف من أحد، لن أخاف من التكفير أو من الوصم بالدنس، لن أكون لين بول التي كتبت مذكراتها عن نساء محمد علي وأخفتها لأنه كان من العار أن تكتب امرأة، لن أكون امرأة تختفي خلف برفان زائف من العادات الاجتماعية، تخلت أوروبا عن تعاليها عن المرأة وعقلها، وتملكتنا نحن العرب هذه الصفات، نتجاهل المرأة تاريخها.. حكاياتها، لن أتجاهل نفسي، لن أكون كما يريدني الآخرين عاهرة سرية، يمارسون أحلامهم الشبقية عنها فى تخيالاتهم، بينما يبدو كل منهم فى وضع القاسي المدافع عن القيم والأخلاق، متطهرًا من نقائصه ودنسه فكلنا مدنسون بنسب، ليكن دنسي وخطئي فقط أني أكثر وضوحًا وتحديدًا من الآخرين، وربما شجاعة أيضًا.

العهر ليس شيئًا سهلاً على الإطلاق، ربما كانت مندهشة من انضمام فتاة تقرأ إلى هذا الوسط الذي يفترض أن تكون المنضمة له فارغة إلى حد كبير، وحسب الصورة النمطية، تكون في مشاكل عديدة وتدفعها الظروف إلى أن تكون عاهرة، لكنني اخترت هذه المهنة بإرادتي، ومن ثم أصبحت بضاعتي وعليَّ أن أسوق لنفسي جيدًا.

هل كانت هي السبب؟ ربما نعم، ربما هي سبب تفاصيل عديدة في حياتي، لكن أهم هذه التفاصيل على الإطلاق هو أنني صرت أقرأ بنهم، هي صديقة قديمة تدعي (…) لا لن أقول اسمها لن أقدم لها شرف تثقيفي وتعليمي، وليس في ذلك حقد الأنثى ضد الأخرى، لكن هي أفضل مني لأسباب لا أعرفها، لا أحب أن أجعله القدر كإجابة بلهاء، كنا نقرأ معًا، أحيانا تستعير الكتب مني، نعم هي من أرشدتني للقراءة لكنني أصبحت أفضل منها، أو ربما كانت هي أفضل، عادة أسقط في الأخطاء المعتادة للنساء حين يتحدثن عن بعضهن البعض، أذكر عيوبها بوضوح وأتغاضى عن مشاكلي، أنظر لها بعين التفحص، لعلني الآن أسعى لمحاولة الطُهر، لعلني أستطيع أن أتحدث عنها بحياد، برغم أنها أفسدت حياتي بحيل النساء التي توارثتها في جيناتها بينما كنت فقيرة.

تكتب هي الشعر في فترة المراهقة وها أنا أكتب الآن رواية في فترة النضج، ما الفارق بيننا؟ هي طبيبة وسيدة مجتمع وأنا عاهرة، لكن الحقيقة أن كل امرأة بداخلها تتمنى أن تكون عاهرة، ترغب في ذلك لكنها لا تستطيع لأنها دومًا تُراعي شكلها أمام المجتمع، أما أنا.. فأنا أكثر حرية منهن جميعًا، أنا أختار حياتي وشكلها، وليس معني أني عاهرة أني متاحة للجميع، إطلاقًا، أنا اختار رجلي، وليس هو من يفعل، هل لأنه يدفع لي، كلهن يتم الدفع لهن بعد أن ينام معهن رجل، ألا تختار الزوجة هذه اللحظة لتطلب من زوجها شيئًا، ألا تدفع الفتاة بشفتيها نحو حبيبها ثم تمرر طلب التعجيل بالزواج، أليست هذه جميعها أشكالًا للدفع، لماذا أنا وحدي أبدو عاهرة بينما كلهن يفعلن ذلك؟

على العكس أنا أكثرهن حرية وشجاعة.

صديقتي القديمة التي دومًا سأرمز لها بثلاث نقاط فقط (…) كانت تخبرني أن أهم شيء في المرأة عقلها، هو الذي يُزين كل شيء فيها، يمكن أن تكون متوسطة الجمال لكن جمال كلامها وعقلها وحسن تفكيرها سيصرفان المستمع عن أي شيء، نعم لقد أعطتني أول الخيط وأنا أكملت طريقي.

  • آلام الرقبة تقتلني، لمحتني وهي تقف في ركن بعيد ألمس رقبتي وتبدو على وجهي دلائل ألم، أسرعت باتجاهي، وأخرجت من حقيبتها كريمًا للتدليك، وقررت أن تدلكها لي، كنت أعرف غرضها الأساسي، كانت ترغب فيّ،  تحاول أن تؤنس وحدتها، فقد قررت أن تستريح ليومين، لكنها تحاول أن تستمر في أداء الفعل الجنسي وتبرر ذلك بأنها لو توقفت يومًا ربما لن تعود بنفس كفاءتها وقد يقلل ذلك سعرها في السوق.

تعرف أن زبائني مختلفون، ألمح الحقد أحيانًا في عينيها فأنا لا أعمل كل يوم ورغم ذلك سعري أعلى بكثير، طلبت أن أُعلمها القراءة ربما فعلت مثلي، لكنها كانت صبورة جدًا في أداء الجنس ولم تصبر يومًا في القراءة.

في فترة سابقة كانت تسكن معنا صديقة ثالثة، كن يفعلن ذلك في أيام راحتهن عندما يفشل الزبون في إشباع أي منهما، لكن الصديقة ذات الحظ الأحسن استطاعت أن تحصل على رجل اكتفى بها لنفسه ومنعها من الممارسة مع آخرين، اشترى لها شقة وأقامت بها، وعين لها حارسًا شخصيًّا حتى يضمن عفتها، وبرغم ذلك كان لها صديقان آخران تمكنت من تمريرهما من عين الحارس.

الآن أنا وحدي معها وهي تدلك رقبتي وتمتد يدها إلى صدري الذي تنظر له بافتتان ولا تصدق أنني لا أحقنه بالكولاجين حتى يظل باستدارته هكذا وحجمه المتميز، تمرر يدها على رقبتي، وعندما تصل إلى صدري تلاعب الحلمة الكبيرة والمنتصبة طيلة الوقت، تحركها وهي تعرف أن جسدي الملتهب سوف يجعلني أسيرة لها في دقائق، كنت أصرف تفكيري عنها وأفكر في الملاكيْن اللذين هبطا واستخرجا مضغة من قلب الرسول (ص)، لماذا لا يهبطان ويفعلان معي المثل، وربما وقتها قد أتحول إلى رابعة جديدة، أفكر في فرويد وهو يشرح أن الرجل حين يرضع حلمات امرأة هو بشكل أو بآخر يرتد لمرحلة الرضاعة مع أمه، لكن أفكاري في فرويد لابد ستسلمني لها، ومن ثم بدأت أصرف ذهني عن فرويد الذي سيكون عميلاً لها بامتياز.

بدأت أنفاسها تزداد سخونة أشعر بها على رقبتي، اصطدمت يدها الأخري بظهري فشعرت بها تخلع الكلوت وتقترب به من ظهري، لم أبد نفورًا أو قبولًا، تركتها تؤهلني إلى هذه التجربة الجديدة جدًا عليَّ، فخلال عشر سنوات أنام فيها مع رجال لم تصادفني امرأة ترغب فيَّ، أو ربما صادفتني ولم تلتقطها عيناي.

تحركت يداها على كل ظهري في تدليك لكل الظهر وممتدة إلى مؤخرتي، وهي تتنفس بسرعة شديدة، وأنفاسها ساخنة، وأنا كلوح من الثلج أسكن ممسكة برواية هيمنجواي جنة عدن، أقرأ في صفحاتها الأولى، استفزها برودي، رغم تدفق الدم إلى كل مساحة لمستها، كانت بخبرتها كعاهرة تقبل الجنسين قد شعرت بتقبلي لها، فالتحمت بي من الخلف تحتضنني بشدة وتمسك الكتاب من يدي وتودعه جانبًا، استسلمت لها فقبلتني على ظهري وكانت فوقي في ثوان، في وضع معاكس تتعامل مع مثلثي الغامض بشراهة وكأنها ستقتطعه بلسانها وشفتيها.

 “لعلك يا ليلى تنظرين الآن نحوي بكثير من الاشمئزاز وأنا أحكي عن أنثى بهذا الشكل، وربما أنهيتِ تواصلنا حين تدركين ما وصلتُ إليه، لكنك يا ليلى سبب بؤسي الذي لم أُفصح عنه في يوم مضى، أنتِ كنتِ تُدركين فيَّ الجزء النقي، كنتِ تعرفين بكارتي، لكنكِ دفعتِ بي، ربما لم تقصدي، وربما لأنني أخفيت عنك كثيرًا مني، فلم تعرفي قسوتي فيكِ.. ليلى لا تنفري مني، تذكري حكايات صديقاتك في المدينة الجامعية، وصديقك الذي أوشى بجارته التي تمارس علاقة سرية مع فتاة، اسمعي ما تبقى فيَّ من طزاجة ربما، أكملتُ طُهري فيكِ.. ليلى هل أنت هنا؟”

***

  •  كانت أمي امرأة خجول جدًّا، لذا لم أفهم وقتها دلالة أن ترتدي قميصها الستان دون حمالة صدر أو كلوت يحمي عضوها السفلي من برد،

كانت هذه الواقعة غريبة لي حيث لم يكن أبي بالبيت في هذا اليوم، فكنا نعرف ونحن صغار دلالة ذلك في وجوده، لكن هذا اليوم كان مختلفًا، فقد أصرت أن ننام مبكرين، وحدي كانت دماغي ناشفة ولم أوافق على النوم، وظللت أمام التليفزيون وأنا أتمني أن يكون اليوم هو الخميس حتى يستمر الإرسال إلى ما بعد منتصف الليل لكنه لم يكن، جلست أقلب في قنواته الثلاث وأمي تكيل لي شتائم حتى أنام، لم أكن متفوقة في دراستي وسوف يثبت القدر لاحقًا ذلك حين ألتحق بمعهد فوق المتوسط وأرفض إعادة امتحان الثانوية العامة، لكنها كانت تُصر على نومي وحين يئست مني دخلت لتنام وتركتني.

ربما نصف ساعة من الملل والبحث عن شيء يقتل وحدتي قد مرت أمام التلفزيون العقيم، قبل أن يدق جرس الباب، وأجد أمي النائمة والغارقة في الحلم تهب من رقدتها، فكانت نظراتي لها أقوى من شتائمها.

تحركتُ إلى الباب لأجده. صديق أبي، هذا الشاب الذي يصغر والدي بنحو خمسة عشر عامًا، كان يسأل عنه، رمقته بضيق وقلت إنه مسافر وأغلقت الباب دون دعوته للدخول.

سأظل لفترة لا أربط بين ارتداء أمي لقميصها الستان وبين حضوره المتأخر، فهي أمي الخجول جدًّا.

***

  • في لحظات قررت أن تصنع عضوًا بمواد بدائية،

كنت في غاية الدهشة وكأني أري فورد يخترع السيارة أو يقدم فكرة خط الإنتاج ليؤسس بذلك لفكرة المصنع وتجميع السيارة بعد ذلك، امتدت يدها سريعًا نحو قطعة من القماش بعد أن مزقت قميص بيت قطني، أخذت جزءًا منه وطوته بانتظام، ثم أخذت شريطًا من القميص ولفته حوله بإحكام، ثم أحضرت فردة جورب من النيلون وأدخلته فيها وعقدت نهاية الجورب، ما زالت الدهشة تتملكني وكذلك الإعجاب، ومن حقيبتها أخرجت واقيًا ذكريًّا وألبسته له فصار عضوًا بجدارة، قررت أن يكون شريكنا في هذه الليلة التي لم أُعد لها.

***

  • نجلس في كافيتريا كليتها، أجلس برفقة زملائها من طلبة كلية الطب، وهم لا يشعرون بأي فارق بيني وبينهم، لكنها دومًا تُصر أن تُشير أني طالبة في المعهد الفني الصحي،

امتلأتْ حقدًا حين جمع الحب بيني وبين زميل لها كان الأول دومًا على الدفعة، وذكرت لي قديمًا أن والده رئيس قسم الجراحة، لم تشغلني حكاية والده، لكنني قررت أن أحتفظ به لسنوات حين لمحتُ في عينيها إعجابًا به، ترى نفسها أفضل مني، هذه الثلاث نقاط ليست أفضل في شيء سوى الدح والحفظ هذا الذي أوصلها لكلية الطب، ليكن.. الآن الرؤوس تساوت.

حين رأته يلمس يدي ويقبلها في خرق واضح لأعراف الكافيتريا استشاطت غضبًا، وقررت أن تقطع علاقتها بي، كانت بسذاجتها تتصور أنني لن أدخل الكلية مرة أخرى.

لكنها بلهاء، كنت قد تصادقت مع كثيرين من زملائها وزميلاتها، خسرت هي فلم يفهم الكثيرون منهم لماذا غضبت مني.

سقطت منه ورقة، ربما ألقاها، حين مددت يدي وأحضرتها وظللت أبحث عنه طيلة اليوم، وحين وجدته اندهش من اهتمامي المبالغ فيه بشيء سقط منه، لكنه كان موقفًا سيحفر صورتي في عقله طويلًا.

كانت لي خفة ظلت لا تجاريني فيها صديقتي ذات النقاط الثلاث، كنت أيضًا أكثر إلمامًا بالتفاصيل، كلتانا كنا نقرأ لكنني كنت أختار ما اقرأ أحسن منها.

حين ابتسم عندما رآني أدركت أنه يبالغ في العناية بأسنانه وأنه ربما تمنى أن يكون مدخنًا لكن حسم والده جعل رغبته هذه رغبة أسيرة عقله الباطن فقط، فاشتريت علبة سجائر وأهديتها له ومعها مُبيض أسنان ومزيل لرائحة الفم، جمعت الكل في هدية جميلة ومعهم زهرة بنفسج، وأهديته الهدية في نفس اليوم الذي التقيت به فيه لكن يفصلهما أسبوع، أمسك الهدية واندهش مني وعندما سألني عن السبب قلت إنها بمناسبة مرور أسبوع على ابتسامته لي.

ظل يبحث عني طيلة الأسبوع التالي ليجد إجابة عن محتوي الهدية، لكنني اختفيت وأرسلت له في نفس اليوم في الأسبوع التالي زهورًا مجففة في رسالة تركتها في سرعة داخل الكافيتريا وهربت قبل أن تطالني عيناه.

كنت أتحرك همسًا لم يعرف أحد بتفاصيل هذه الحكاية.

لم تمر سوى ساعات حين حضر إليَّ في المعهد وظل يبحث عني، وحين وجدني أمسك يدي بقوة وخرج بي من المعهد.

هاله أني أعرف ما بداخله، دخن لأول مرة وأنا أتشمم أنفاس سيجارته بافتتان ولهفة، وكأني مدمن جاءت جرعته بعدما تأخرت.

قبل يدي.

  •  الزحام يطارد وحدتي، ويشتت حلم العثور على رجل يأويني من الاختباء بحائط، رجل يجد في ملمس يدي أمرًا جللاً، وفي ابتسامة مني سعادة الدنيا.

هنا في القاهرة قابلتك.. أنت يا ليلى كيف التقطتِ نظراتي وأدركتِ غربتي، كيف استطعتِ بث الطمأنينة في روحي، أنت يا ليلى مثل جولاتي وحيدة في الشوارع، تبعثين بداخلي الشجن والدفء، وفراغًا كبيرًا.

كنتِ بعيدة عن فمي ورغبة البوح التي تعلمتها في غيابك، كنت هناك مع حكاياتك ورجال لن أعرفهم هذه المرة، حين ظهر ظللت أجوب الشوراع ولدي رغبة أن ألتقيك مصادفة، أحكي لك عنه، وأبلل شفتيَّ بابتسامته واسمه وأنت لست هنا.

كثيرًا ما فكرتُ بكِ يا ليلى، لماذا لم تهب بيننا رياح النساء، لم تغاري مني على رجلك، هل كنتِ تعتقدين أنه بعيد عن يدي، أنني لا يمكنني الإيقاع به ذات مساء، بينما عيناه تتابعني؟

هل قصصتُ عليكِ تلك الندوة التي جلس يتحدث فيها عن حقوق الملكية الفكرية، وكأنه يقدم اكتشافًا للعالم، كيف يكشف جهلنا بشيء العالم كله درسه ونظمه منذ عقود، كان يكشف جهلنا وفى كلامه إشارة إلى علمه وحصافته، هل رأيتِ نظراته الشبقة المعجبة بي، وأنا أجادله، وأتحدث معه فى تفاصيل هذا القانون، القاعة كلها تحولت نظراتها نحوي بتساؤل من تلك التي تعارض الأستاذ العلامة، ابتسم لي بعد المحاضرة، وأنا أكره ابتسامته تلك، أُدرك أنها تؤمتها كانت لكِ ذات يوم، تذكرتك يا ليلي، وهربت من رغبته فى التعرف إليّ، ابتعدت عن عينيه كرامة لك ومحبة فيك، بينما أنتِ لم تصبحي هنا فى عيناي؟

 عشرات الأسئلة كانت تدور في ذهني كلما مرقتِ في ذاكرتي، كوهج للحظات، أنتِ يا ليلى كنت النافذة الأولى لي على فساد هذا العالم، فلماذا تعاملتُ معك بشرف، وغضضت عقلي عن لياليكِ الحمراء، هل كنت أقرأ فيك قدري الساعي وراء تفاصيلي بدهشة.

كنا نتقاسم الأيام والحكايات والخبز، وزيارات لمناطق تعرفنا بطزاجتنا.

هل كنت تسعين أن تؤهليني له، ولكل الرجال من بعده ومن قبله؟ كل ما أدركه فيكِ، أنك مثل شُهب تظهر في سمائي كلما حزن عقلي، فأين أنتِ الآن؟

سمعتك تمتدحين عقلي واجتهادي لأخريات فحقدن علينا، ونحن لم نهتم، كنتِ تعرفين أني لن آخذ منكِ شيئًا، وكنت أعرف أنكِ تنيرين طريقي، حتى وأنت بعيدة.

أكثر من عشرين عامًا ولكِ في قلبي وهج الصديقة الحقيقية، نعم نحن النساء نعرف الصداقات طويلة الأمد، تضحكين الآن، وتقولين إننا كذلك لأننا أقلعنا عن اللقاء، لأنك أخفيتِ عني الكثير من تفاصيلك، لأننا تباعدنا منذ زمن.

لم أتخيل  يا ليلى أن امرأة أخرى يمكنها أن تلعب دورك في حياتي، أنت تلك الفتاة الطيبة التي تعلمت كل شيء، وصنعت من الفشل سُلمها، الآن تركض هي في أذني، تحكي وتحكي وحين أملَّ حكاياتها أغلق الهاتف وألجأ إلى أحلامي.

هي لم تكن في حلمك ولا حتى في فشلك، لكنها كانت تخبئ من أسراره في عينيها الكثير، سخرت مني وعانقتني مهنئةً.

 

  • كنت أجلس في اللوبي الخاص لفندق جراند حياة في الجزء المخصص للتدخين وأتعجب من هذا التقسيم الغريب، فلا يفصل القسم المدخن عن غير المدخن شيء سوى لافتة،

لكنني لم أشأ السؤال عن هذا التقسيم الواهي، أشعلت سيجارتي وأنا أمسك كتابًا لـ”ميشيل فوكو” عن تاريخ الجنسانية، بينما أدخن سيجارتي بشكل استعراضي، حين لمحت أحدهم ينظر لي بتمعن، لم أبدِ أية إشارة كوني رأيته واستمررتُ في القراءة وبعد دقائق خلعتُ بلورو كنت حين أغلق زراره الوحيد يوضح شكل صدري ويعطيه مظهرًا جذابًا، خلعته لأكشف عن ذراعين جميلتين ورثتهما عن أمي، خاليتين من الشعر تمامًا، وبلوزتي الكت الأنيقة تشير أنني لا بد أنتمي لأسرة عريقة، ظل يراقبني لنصف ساعة قبل أن يقرر الاقتراب، اقترب من ترابيزتي وطلب الجلوس قليلاً، فرفعت رأسي عن الكتاب، ونظرتُ إليه بدهشة مُرحبة، فتلعثمت الكلمات على شفتيه وهو يجد مبررات لطلبه، لكنني بأدب وابتسامة دعوته للجلوس، تحدث عن سر التفاته لي وعن كتاب فوكو تناقشنا في القراءات وظللنا نتحاور لساعتين تقريبًا.

بعدها كنت في حجرته أشرح له بطريقة عملية طرق التقبيل كما تناولها كتاب الكاما سوترا فن الحب عند الهنود.

كان مبهورًا، وفي اتفاق ضمني استكملنا اللقاء، وكنت أوزع ضعفي على الحديث، فأُشير إلى مأساة حياتية مُفتعلة، جمع في وعيه لي، إعجاب ممزوج بشفقة.

نمنا على السرير بعد عناء دام لساعة، قام وقبل قدمي وهو يقسم أنه أبدًا لم يجرب ما حدث.

قمت لآخذ حمامًا حين سمعته يفتح حقيبتي ويضع فيها مبلغاً، سأعرف بعد ذلك أنه ألف دولار، ويصير هذا الرقم هو الحد الأدني الذي سأقبل به لمعاشرة أحدهم.

***

استلقينا متجاورتين وإلى جانبنا هذا العضو ذو الصناعة المحلية، كان مغطى بسائل أبيض لا أعرف لمن ينتمي فينا، نامت بينما أتأملها.

 

  • الحياة بلا رجل أمر ربما يكون مريرًا، أحتاج إلى مركز لنواتي، بؤرة تتجمع حولها اهتماماتي، يتكاثر إحساسي بالاغتراب كلما فتحت نوتة تليفوناتي وأتذكر بيت الشعر لأحمد عبد المعطي حجازي: “هذا الزحام لا أحد”.

لماذا كنت أختزن كل هذه الوحدة بداخلي؟ ولماذا صرتُ وحيدة بقية عمري.

أنت يا ليلى تدركين أنك اقتربت مني بشروطي، كنت تبحثين عن رجل أيضًا، لكن لسبب لم أعرفه، كنت تريدين هذا الرجل مختفيًا في جسد امرأة، لهذا أصبحنا أصدقاء، سنوات طويلة مرت بيننا، مئات الحكايات تحكيها لي، رجال يعبرون غرفتك، وأنت جالسة تراقبين وتتقصين أخبارهم، وأنا مستمعة جيدة، أجيد التحليل والتعليق.

هل كنت أغار من رجالك، من قدرتك على اجتذابهم وتحريكهم كدمى، قطع الشطرنج المنثور في روحك، لم يعجبني أيًّا من رجالك، كنت أحلم بآخر مختلف.

حكاياتك كانت داعمة لصمتي ورغبتي في التلاشي، أحبُ السير على الرصيف ملتصقة بالحائط، أشعر أنه ذات يوم سينشق الحائط وأدخل فيه كناقة صالح ولن أظهر مرة أخرى، في كل مرة أواجه العالم أسعى للاختباء، أنزوي في الكتل البشرية، لا أريد أن يميزني أحد من المارة، ولا أرغب في أكثر من 30 سم أتحرك فيها بشكل متوازي مع الطريق.

كل شيء من حولي يدفعني للخرس، حكاياتكِ، رجالكِ الساعين لإيجاد مساحة خصوصية في عينيكِ، الباحثين عن شعرك الناعم الطويل، وبلوزتك الكتانية، كلٌّ يبحث عن أرباحه فيك وهم الذين لم يستثمروا بروحك.

لماذا يا ليلى لم تكوني عابرة في حياتي ككل النساء والفتيات اللواتي عبرن، ولماذا ظللتِ هنا بداخلي تبثين فيَّ الرعب؟

لعلك يا ليلى مندهشة من حكاياتي التي أغفلتها عنك، وأنت كنت الباعث لي، هل تعتقدين أن فكرتي للعمل في هذا المجال جاءت من فراغ، نعم يا ليلى أنت السبب، دعيني أُكمل لك حكايتي لتعرفي ما فعلتِ بي.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات