مجلة دمشق: أرض الحرية وسماء الخيال

08:51 مساءً الجمعة 4 أبريل 2014
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الشاعر نوري الجراح يتوسط طفلات سوريا : “في يايلاداغي ..فراشات الحرية… اشتقت إليكن.. في كل وجه هنا كتاب صغير فيه حكاية كبيرة. في كل وجه هنا، رغم الألم، سوريا جديدة”. (من صفحة نوري الجراح على فيسبوك)

الحرية هاجس الشاعر، تلك التي تمنحه جناحيها، لا ليحلق بعيدًا، بل ليكتب على سحاب سيمر بسماء الوطن ما لم يستطع أن يدونه على أرضه.

هكذا اختار الشاعر السوري نوري الجراح قدره؛ أن يظل يعزف للحرية، ينشدها وينشد لها، وهو يعرف أن حرية الوطن تبدأ بحرية الحرف. لذا لا تصهر شمسُ الغربة له جناحًا حتى ينبت له آخر، لأنه لا يرضى أن يعيش بجناح مكسور، تحت أي مسمى، وفي إطار أي مسوِّغ.

 هكذا ولدت أحلامه الشعرية، وهكذا كبرت مشاريعه الثقافية، وأحسب أن مجلة “دمشق” تتويجٌ مستحق يبلور فيه قصيدته الأم، وهو الشاعر المنغمس في هموم وطنه، مع كتيبة نخبوية من رفاق  العمر والحبر؛ المناضلين الفكريين الذين لا تنسلخ حياتهم عن أحلام شعبهم.

أعادتنا مجلة “دمشق” إلى المشاريع الفكرية العربية الكبرى، التي وجدت لتبقى، ولو لم يصدر منها سوى ما في أيدينا من أعداد، منها المفرد وفيها المزدوج. فكم من مؤسسة رسمية اسالت على الورق اللا-حصري من كلام، لكنه لا يزن شيئا، كالعلكة يبصقها الزمن، بكل ما فيها من تفاهات نظامية تمجد هياكل ديكتاتورية باسم الثقافة.

أتأمل في مجلة “دمشق” فإذا هي تلك الحارات العتيقة التي أحببتها في المدينة الخالدة، مثلما هي المخيمات المؤقتة على حدود الموت للسوريين الهاربين من أنياب الحاكم وأظافر طغمته العسكرية، مثلما هو نوري الجراح المجرب المغامر العاشق.

الثقة في اسم نوري الجراح تجعل مشاريعه المتجددة الحمّالة للتثوير  والتنوير جاذبة للأقلام الجادة، والمحبة للكتابة كفعل ثوري.

سنعود للحديث عن الأعداد التي صدرت، والجوائز التي تمنحها مجلة “دمشق”، لكنني أحب ـ هذه الإطلالة ـ أن نستمع إلى مانيفستو، يمزج الشخصي بالعام، والشعري بالنثري، والأنا بالآخر، والمهجّر بالمنفي، إنه كما دون نوري الجراح ما يشبه البيان، وجاء في صدر العدد الأول من المجلة.

أغلفة الأعداد الأولى لمجلة دمشق

منبر ثقافي حر لأجل سورية حرة – ما يشبه البيان

 مجلة دمشق /مارس 09 / 2013

تولد هذه المجلة في أعقاب شتاءين داميين عرفتهما سوريا وثورتها الباسلة لأجل الحرية والكرامة، وخلال هاتين السنتين ولدت أصوات في الفكر والأدب والفن وماتت أصوات. وعرف السوريون وجوها في الثقافة والسياسة والفكر جديدة عليهم بعضها حمل لهم رسائل البشرى بانتصار ثورتهم وعبورهم الجسر من مملكة الصمت إلى أرض الحرية، وبعضها نطق باسم الطاغية فكانت كلماته الجاحدة سما رشه على جرح الثائرين المطالبين بالحرية، وكفرا بالمستقبل.

دم كثير عبر تحت الجسر خلال عامين لا سابق لقسوتهما في حياة السوريين ولا في أخبار الشرق في الأزمنة المعاصرة. وهو ما جعل صفة السوري مرتبطة بالمأساة، وصورة السوري بالبطولة الأسطورية تارة، والسلوك الهمجي تارة أخرى. لكأن أمثولة قابيل وهابيل، ما برحت تحرك الغرائز وتصنع التاريخ.

شهداء، جرحى، معتقلون، مطاردون متوارون عن الأنظار، لاجئون، ومتظاهرون سلميون حتى الساعة. مدن مدمرة وقرى وبلدات مسحت عن وجه الأرض. آثار حقول محترقة وآثار أحياء وأسواق عريقة عبر بها المغول يوما وتركوها وراءهم، وعبرت عصابات سفاح سوريا وجعلتها أثرا بعد عين.

عشرات آلاف المفقودين، أطفال قضوا تحت التعذيب، مراهقات صغيرات وأمهات لهن اغتصبن وقتلن بالآلاف. ومن ثم أسئلة في كل مكان مصحوبة بوجوه مفجوعة: من هم هؤلاء الذين يذبحون شعبهم بالسكاكين وينكلون بهم ويرتبكون المجازر الجماعية والآثام، من هم هؤلاء الذين يقيمون للنساء حفلات الاغتصاب الجماعي في البلدات الصغيرة، ويقيمون لرجالهن وإخوتهن حفلات الإعدام الجماعي؟ من هم هؤلاء الذين يقصفون شعبهم بالطائرات التي دفع شعبهم أثمانها الباهظة ليدافعوا بها عنه؟ من هم أؤلئك الذين يسحقون شعبهم ببراميل الموت؟ من هم؟ من هم؟ من هم؟ من أي شق في عماء التاريخ خرجوا؟ وماذا يريدون من وراء كل هذه الفظاعات؟

السوريون فتحوا أبواب سجونهم وقبورهم وخرجوا إلى الهواء يطلبون بالحرية؟ ولشدة القتل والفتك بهم شهورا طويلة وهم في ثورتهم السلمية لم يبق لهم إلا السلاح.. فحملوه دفاعا عن نسائهم وأطفالهم وأرواحهم.

السوريون قدموا انفسم قرابين لأجل قضية الحرية وقضية الكرامة، ولكن لأجل أية قضية يطلق الطاغية كتائبه المجرمة تفتك بالسوريين أينما ثقفتهم؟ إن لم يكن لأجل مصالح سفاح فاجر ومريض وعائلة فاسدة جعلت من سوريا مغارة للصوص!

***

 كل شبر من تراب سوريا المحتلة منكوب اليوم. خرجت شوارعها تطالب بالحرية فاقتلعت حناجر مغنيها وفتحت النيران على حاملي اللافتات فتيات وشبانا وأطفالا ورجالا: هتفوا سلمية سلمية فانهمر عليهم الرصاص من كل صوب، وحملوا بالجرافات الى قبور جماعية.

قتل حاملو الأزهار واقتلعت عيون مصوري الحقيقة الشجعان..

دماء كثيرة جرت في الشوارع، دماء زكية، دماء طاهرة، دماء حرة أضاءت العالم.

وفي الوقت الذي انتمى فيه شعراء الحرية إلى شهداء الحرية، وردموا للمرة الأولى في تواريخهم الفجوة بين أصواتهم وخطواتهم وأعادوا للشعر بهاءه وللثقافة الامل بها، صمت شعراء وخاتل شعراء وكذب شعراء، موسعين الفجوة المرعبة بين كلماتهم وضمائرهم.

***

تولد مجلة “دمشق” محررة من الأقواس، بوصفها الشبر الرمزي المحرر من تراب هذه المدينة العظيمة المحتلة والمكافحة لأجل خلاصها من ربقة الاستبداد وفجور الطغيان. وبولادة هذا المنبر نتطلع إلى استئناف مشروع ثقافي تحرري سوري وعربي لم ينقطع يوما، لكنه تعثر بفعل القمع والحصار والإرهاب الذي مارسته ديكتاتورية الاسد الأب وواصله امتدادها في الإبن، وهي سياسة وحشية عملت، باستمرار، على احتقار الثقافة والتنكيل بالمثقف، بواسطة موظفين ثقافيين مأجورين باعوا ضمائرهم للسلطة واشتغلوا عبيدا عند الديكتاتور، وعملوا جاهدين على إخضاع الثقافة وسجنها وتكميم أفواه حملة الأقلام والوشاية بأحرارهم ودفعهم إلى الصمت أو اللجوء الى المنافي في محاولة منهم للخلاص، ولو المؤقت، من مملكة الصمت والجريمة، لحماية عقولهم والثبات على أفكارهم والعمل، ولو عن بعد، لأجل غد لا طاغية فيه ولا طغيان.

ومما يؤسف له أن سنوات المنفى طالت وتسرب اليأس والقنوط إلى نفوس كثير من المنفيين، لكن خميرة الحرية كانت تنضج في المكان الأمثل: الوطن.

***

يقوم هذا المنبر الجديد، بالضرورة، على لقاء حرّ وتضامن مفتوح بين كتاب من داخل سوريا وإخوة لهم باتوا خارجها، موسعين بوجودهم فضاء المنفى السوري، وقد هدمت الثورة بتضحياتها الجسيمة الجدران بين منفيين، داخل سوري أسير وخارج سوري طريد وشريد.

على هذه الخلفية من الوعي بما جرى بالأمس ويجري اليوم، ندعو الكتاب السوريين والعرب إلى المشاركة في الكتابة إلى مجلة دمشق وإغنائها بثمرات أفكارهم وإبداعاتهم بوصفها منبرا حرا ومستقلا يقوم على لقاء حر ومفتوح  بين أهل الأدب والفكر والفن. أينما كانوا.

سنعمل معا، سوريين وعربا وأحرارا من كتاب العالم ناصروا ثورة شعبنا، على أن تكون المجلة منبرا حرا لكتاب يعملون على تحرير اسم دمشق من القوسين الغليظين اللذين حبسها بينهما نظام الموت والإبادة الجماعية. وإطلاق هذا الاسم ليستعيد مكانته البارزة في الفضاءين العربي والشرقي بوصفه اسما لعاصمة ملأت الدنيا وشغلت الناس عبر العصور وكان لها في كل حقل من حقول العلم والأدب والفكر والفن ومختلف أوجه النشاط الإنساني، سهم بارز. فاستحقت في كتاب التاريخ اعتبارها عاصمة صانعة للتاريخ.

***

نريد من هذا المنبر أن يعيد إلى الثقافة صوتها الحر وإلى دمشق وجهها الباهر، مذكرين بدورها البارز في مناصرة الثورات العربية وغيرها من ثورة الجزائر إلى الثورة الفلسطينية ومن ثورة أهلنا في عربستان لأجل استعادة حقوقهم الثقافية والقومية، وحتى تطلعات الشعوب العربية والشرقية في رفضها الاستبداد والطغيان والتسلط والتجبر، والديكتاتورية.

***

لطالما كانت دمشق منارة على طريق الحرية، كما كانت من قبل مفترقا في طرق الحضارة، ومختبرا لمغامرة العقل والروح الإنسانيين. فلاننسى انها أول طريق الحرير ولا ننسى انها بيت يوحنا المعمدان، ولا ننسى أن الرسولين بولس وبطرس انطلقا منها لينشرا كلمة المحبة في الارض.

وفي ظاهرها من جهة جهة الجنوب وضع النبي العربي قدمه. فسميت تلك الجهة من دمشق: القدم.

لا تكفي دمشق العاصمة البارزة للحضارة العربية، وأول طريق العرب إلى الغرب سطورٌ أو صفحات قليلة، فهي، بذاتها، صفحة وضاءة في كتاب المجد، والسوريون اليوم يعيدون بدمائهم إلى هذه الصفحة وضاءتها.

فهل نبالغ إذا ما أنشدنا اليوم ما أنشدها بالأمس أمير الشعراء العرب شوقي وهي تحت الاحتلال الفرنسي: وعز الشرق أوّله دمشق.

***

منذ ان ابتليت سوريا بالنظام البعثي العنصري، مرورا بالعسكر الفاشي وصولا الى النظام المافيوي لآل الاسد، لم تعرف هذه البلاد المخطوفة من أهلها صحافة حرة، ولا أمكن لشعرائها وكتابها ومفكريها وفنانيها أن يعبروا عن أنفسهم ولا عن أشواق شعبهم الا وصاروا طعاما للسجون والمنافي والفقر والمرض والموت الزؤام.

***

أما عني ابن حي المهاجرين في دمشق، صنيع المنفيين المهاجر مرتين عن تلك الجادات العالية المطلة على مدينة التاريخ، فإن في جديدي هذا مع نخبة من الكتاب الأحرار صلة رحم بالقديم الذي حلمنا به معا في دمشق وبدأناه معا من هناك، في صحافة الثقافة وفي المشاريع الثقافية. تأتي هذه المجلة لتضيف نفسها على تاريخ قلق، إنما مستقيم المسعى، من البحث والعمل عقودا لأجل بناء ثقافة حرة مستقلة عن السلطة ومعادية، بالضرورة، للطاغية وأبواقه المعلنة والمستترة. ثقافة حديثة تقوم على تحرير المخيلة من أسر الماضي واستيهاماته المختلفة، والإيمان بالفرد، امرأة ورجلا سواء بسواء، بوصفه صورة من صور الجماعة، وخلاصة لها، وأسمى ما في الكينونة، والطاقة المبدعة، والروح الخلاقة المتعطشة للجمال، والحالمة بالحرية تفك قيود النفس الأسيرة وتحرر الخيال من أسر واقع اختلت موازينة وفسدت قيمه، وتقوم على الإيمان بالتعبير مبتكرا، وبالكتابة بوصفها أرقى ما أنجز الإنسان في رحلته مع التاريخ وفي سموه الاجتماعي.

في هذا السياق ولدت مطلع التسعينات في لندن مجلة “الكاتبة” وشعارها: “مغامرة المرأة في الكتابة، مغامرة الكتابة في المرأة” وعاشت سنتين، وغامر على صفحاتها عشرات الكاتبات والكتاب العرب، وتوقفت لتحافظ على سجل نقي وتاريخ مستقل. وفي أواخر التسعينات ولدت من قبرص مجلة “القصيدة” منبرا للشعر الحديث، وعاشت فصلا واحدا، وتوقفت وفي منتصف العقد الماضي ولدت من لندن مجلة “الرحلة” منبرا للأسفار في الأرض، من باب التأكيد على ان الثقافة العربية تحض على التعارف والتلاقي مع الثقافات الأخرى. وقبل هذا التاريخ كانت لنا في الثمانينات وبشراكة ثقافية مع رياض الريس مغامرة تمثلت في مجلة “الناقد” التي شاركنا في وضع الأساس الذي سارت عليه والمنهج الحرّ في استقطاب الأقلام الجديدة، والرؤية المنفتحة في طرح الافكار ونقائضها، وصولا إلى حوار حر بين الأصوات الثقافية السورية والعربية المختلفة.

تاريخ قلق، لأن الانقطاعات كانت تتعاقب، والرياح غير المواتية كانت تهب على المركب، والضربات كانت تفعل فعلها  في مصائر الكتاب الاحرار والثقافة الحرة فاليتم كان سيد المنفى والوطن معا.

***

أول ما يمكن ان يثير انتباهنا اليوم في الانتفاضات العربية التي بدأت بتونس، ولن تنتهي مع ثورة شعبنا في العراق، تلك الميزات الثقافية الخلاقة التي كشف عنها الثورة، وباتت وجهها الأبرز.

وإنه ليثير استغرابي ودهشتي اليوم، أولئك الذين اعتبروا أن الانتفاضة السورية تفتقر إلى الوجه الثقافي ويعوزها البعد الفكري، والواقع أن هذا الكلام قاصر ويفتقر إلى الموضوعية، وربما الأمانة. بل إنه كلام الديكتاتور وشاعره.

فماذا نسمي مثلا المضامين والظواهر التي احتوت عليها آلاف مقاطع الفيديو التي صورها الناشطون السوريون وفاض بها اليوتيوب، وتصور شتى نواحي الحياة اليومية للسوريين في ظل الانتفاضة المتواصلة التي لم يبق الكثير حتى تدخل سنتها الثالثة، لتسجل بذلك نفسها كأطول انتفاضة شعبية عارمة سلمية ومسلحة في العصر الحديث؟

أين ندرج مئات الأعمال التشكيلية التي أبدعتها قرائح التشكيليين والنحاتين السوريين من أمثال: علي فرزات، يوسف عبدلكي، عاصم الباشا، موفق قات، ثائر هلال، جمال الجراح، بشار العيسى، منير الشعراني، أحمد عدي أتاسي، وغيرهم قائمة تطول؟

وأين نصنف صفحات مبدعة كـ: طوابع الثورة السورية، و”منتجات الثورة السورية”، و”أغاني الثورة السورية”، و”الفن والحرية”.. و.. و… ومئات من أمثالها على الفيس بوك وتويتر ومواقع اخرى على الشبكة العنكبوتية مما يعتبر إبداعا فرديا وجماعيا في التشكيل والتصوير والكتابة والإخبار فجرتها كلها هذه الانتفاضة العارمة؟

وماذا بشأن  عشرات النشرات التي تكتب وتطبع وتوزع داخل سوريا، مثل: عنب بلدي (داريا)، أوكسجين (الزبداني)، بانوراما الثورة (طرطوس)، اليساري (دمشق)، أميسا (حمص)، تمرد (حلب)، الفجر الأحمر (اللاذقية)، البديل وطلعنا عالحرية (دمشق)، وغيرها الكثير مما طبع ونشر في أوقات الحصار المضروب على بابا عمر والرستن ودوما والزبداني وداريا، وغيرها من حواضر سوريا وبلداتها.

بل أين ندرج لافتات الثورة السورية، التي برزت بها كفرنبل وبنش، ودوما، وداريا، والقابون والرستن والزبداني وحمص ودمشق، وقد تلفتت نحوها رؤوس المثقفين السوريين والعرب وباتت ظواهر يكتب عنها، وتقرأ في صحف العالم بوصفها إشارات وعلامات على طريق الانتفاضة وخلاصات لخطابات فكرية وسياسية؟

وماذا نعتبر عشرات أفلام الكارتون الساخرة، والشخصيات التي عبرت باصواتها وصورها وأدائها المسرحي وغيره من “عنزة ولو طارت” لفتاة سورية من وراء قناع، و”المندسة السورية”وحتى مقالب حسين جبري الواقعية الذي يحرص عبر مواجهات تلفونية ساخرة ومؤلمة يوقع فيها ضحاياه من شخصيات فنية وصحافية وسياسية وأمنية نظامية، في ما يشبه مسرح الواقع، وآخر هذه الظواهر نشاطات ميسون بيرقدار تحت اسم الفتاة “وسام” ومقالبها المشابهة.

ومن بين الظواهر الأخرى تبرز أمثلة عديدة على شخصيات فنية وثقافية بارزة لعبت أدوارا تعبيرية مؤثرة في مسار الانتفاضة السورية، كالأخوين ملص، فارس الحلو، جمال سليمان، جلال الطويل، محمد آل لراشي، مي سكاف أسامة محمد، هيثم حقي، أمل حويجة، عزة البحرة، يارا صبري، كندة علوش، وليد قوتلي، لويز عبد الكريم، وريما فليحان، وكوليت بهنا، وعشرات غيرهم من الفنانين السوريين الكبار الذين انخرطوا، سرا وعلانية، في أنشطة الانتفاضة وكانت وماتزال لهم أدوارهم المؤثرة، وكان من بين اوائل بياناتهم السياسية في مواجهة قسوة السلطة ودمويتها ما اشتهر باسم “بيان الحليب” لاجل أطفال درعا الذي وقعه أكثر من مائة منهم، ما أدى إلى تخوينهم بشكل جماعي من قبل النظام والضغط عليهم لسحب تواقيعهم.

لكن قوائم للعار انتشرت على صفحات الفيس بوك وضمت بعض الأسماء التي عادت الثورة او خذلتها، كدريد لحام، أدونيس، نزيه ابو عفش، فائز خضور، سلاف فواخرجي، بسام كوسا، وغيرهم. على أن إجماعا ملحوظا يرى أن قائمة الشرف الثقافية السورية أكبر بما لا يقارن من “قائمة العار”. وهو ما يبريء الثقافة السورية من تهمة الانحناء للطغيان.

لقد برزت عشرات الأقلام الأدبية والفكرية في صف الثورة، منذ أيامها الأولى، منها للدلالة لاغير: صادق جلال العظم، سلامة كيلة، الطيب تيزيني، ياسين الحاج صالح، حبيب صالح، صبحي حديدي، خلدون الشمعة وبرهان غليون، لينا الطيبي، فرج بيرقدار، خطيب بدلة، مفيد نجم، جورج صبرة، عائشة أرناؤوط، وكوكبة من الشعراء والقاصين وكتاب المسرح والفاعلين الثقافيين.

ومن بين الإعلاميين الذين لعبوا أدوارا بارزة في فضح النظام وسياساته الكاذبة، وبناء منابر إعلامية بديلة تكشف عن حقائق الحياة السورية وثراء ثقافتها توفيق حلاق، ابراهيم الجبين، فرحان مطر، هاني الملاذي، موسى العمر، إيلاف ياسين، إياد شربجي، رولا ابراهيم.

وسطعت  في حقل الموسيقى والفنون الغنائية: فرق وأسماء: سميح شقير، مالك جندلي، أصالة نصري، وصفي معصراني، وفي الجولان المحتل الذي عرف حراكا قاده مثقفون وأدباء كالشاعر الأسير ياسر خنجر عضو الأمانة العامة لرابطة الكتاب السوريين وهو مناضل وطني سجن مرارا من قبل سلطات الاحتلال، تأسست على يدي الموسيقار والمغني مضاء مغربي مجموعة “نصف تفاحة” التي قدمت بعض ألطف الأغاني المعبرة عن انتماء أهل الجولان إلى الانتفاضة السورية، وهذه واحدة من بين عدد لايستهان به من الفرق الغنائية الصغيرة الوليدة التي عبرت عن انفعالات السوريين بانتفاضة شعبهم وتطلعاته المستقبلية.

ولا يجب أن يفوتني أن اذكر هنا مشروعات ثقافية كبيرة ولدت خلال الانتفاضة، كـ”كياني”، مشروع فني-إعلامي مستقل، يهتم في المقام الأول بتسجيل الابعاد والحكايات الانسانية التي تشكل الخلفية في الثورة السورية بشكل فني وابداعي، و”دولتي”، وهو مشروع لبناء القدرات والعمل على تطوير مواد تدريبية بصرية وسمعية ونصية عن التحول الديمقراطي والعدالة الانتقالية، و”رابطة الكتاب السوريين” وهي تجمع يضم مئات الكتاب السوريين المنخرطين في الثورة السورية والمناصرين لها، و”رابطة الصحافيين السوريين”، و”تجمع الفن والحرية-امارجي” الذي يضم مئات المبدعين، و”الشعب السوري عارف طريقه”، وهي صفحة للحوار حول مصير سوريا وتأثرها بما يحدث في المنطقة، و”مركز الجمهورية” للدراسات الفكرية حول الثورة، إلى جانب عشرات المراكز الإعلامية الناشطة من داخل سوريا وخارجها كـ”المركز الإعلامي السوري”، و”وكالة أنا -شبكة النشطاء السوريين”، و”اتحاد شبكة اعلام المخيمات الفلسطينية السورية” و”شبكة شام”، و”شبكة أوغاريت” وغيرها من الشبكات الإعلامية التي أسسها شبان في العشرينات والثلاثينات من اعمارهم بثوا فيها روح المغامرة والجدة والابتكار والتضحية معا لأجل تحقيق حلم الحرية والديمقراطية لسوريا الجديدة.

***

لسنا نؤرخ هنا للملامح الثقافية للانتفاضة السورية المتواصلة فهذا له محل آخر، لكننا نرمي إشارات على ظواهر تجعلنا أميل إلى اعتبار الانتفاضة السورية انتفاضة ثقافية في جوهرها الأول، رغم غزارة الدماء. وليس عفويا أنها انتفاضة أعلنت عن نفسها تحت شعارين: الحرية والكرامة، وهما مسألتان ثقافيتان. وهي انتفاضة كسرت الحواجز بين الثقافة المكرسة في صيغها القارة وبين المفاجآت الثقافية المبدعة للشارع المنتفض، وصولا إلى ما قدمه الحراك الثقافي من أمثلة صارخة على تضحيات قدمها موقوفون ومعتقلون ومتوارون عن الأنظار يعملون تحت الأرض، كالكاتب عدنان الزراعي الذي اخترع شخصية الرجل البخاج في الدراما السورية وانتقلت الى الواقع، فاعتقل، وشهداء من المثقفين والمبدعين قضوا اغتيالا وتحت التعذيب: كالتشكيلي وائل قسطون، والمغني ابراهيم القاشوش، والروائي ابراهيم الخريط، والكاتب السياسى محمد نمر المدنى، والروائي محمد رشيد الرويلي، وغيرهم. وشهداء في الميدان: كالسينمائي باسل شحادة، والمخرج تامر العوام، إلى جانب عشرات الصحافيين المواطنين، من أمثال براء البوشي، ورامي السيد ممن قضوا في الشارع.

ثم من هم، أخيرا، الممثلون المعبرون عن الانتفاضة السورية؟ أوليسوا جميعهم من المثقفين والكتاب؟ من “رؤساء المجلس الوطني”، إلى الائتلاف الجديد، الى الناطقين الإعلاميين نيابة عن التنسيقيات السورية الناشطين مع الإعلام الخارجي، جلهم شعراء وكتاب ومثقفون وفنانون. وقبلا، في جذور حركة الاحتجاج السورية، أولم ينهض ربيع دمشق مع مطلع الالفية الثالثة على كاهل مثقفين ومبدعين، أساسا، كان مصيرهم السجون.

ومن محطات هذا الربيع السوري شهداء من مثقفي بلاد الشام، أشهرهم كان كاتبا هو سمير قصير.

مرة أخرى، الانتفاضة السورية المستمرة، بقادتها والناطقين باسمها وأنصارها الفلسطينيين واللبنانيين والاردنيين وغيرهم، ثقافية بامتياز. ولكن أليس غريباً أن تتوافق اتهامات من جاوبناهم، هنا، من المثقفين المتجنين على الوجه الثقافي للانتفاضة السورية مع أكاذيب “بينوكيو الدموي” في خطاباته!

ثورة لها هذا الوجه الثقافي الباهر تليق بها مجلة حرة.

***

اندلعت شرارة الثورة السورية ببراءة لا حدود لها، ورغم الدم الغزير الذي بذله السوريون والتضحيات الأسطورية التي قدموها طوال عامين، وكلما خال أعداؤها أنها شارفت على الأنطفاء، تأججت شعلتها وانتشرت أكثر فأكثر في الأرض وفي الوجدان. مع مجلة “دمشق” نريد أن نقتدي بثورة شعبنا ونبدأ من براءة الصفر، ومن الإوار المقدس، من فقر ما في أيدينا وغنى ما في النفوس، وهكذا سنستمر، لتكون هذه المجلة منبرا لثقافة الحرية في سوريا الجديدة.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات