يمشي بين السيارات ، عند انطفاء الاشارة الضوئية يتخذ ركنا ما … وأحيانا زاوية ما . لديه مواقيت محددة… أبحث عنه أياما ليكون اعتقادي خاطئا ، فأنا التي لم تتعرف على جدول مواعيده بعناية .
عندما أراه تتوالد الصور في ذهني ، وتتعارك المشاعر في قلبي .
يرتدي بذلة بنية ، ربطة عنق خضراء … حذاء أسود ما من بقايا غبار عليه .
تلك البذلة البنية، حاولت خيوطها أن تحتفظ بصلة القرابة للون البني على قدر استطاعتها ، ولكن ! .
ربطة العنق الخضراء ، اشعر بها ، أراها مثل عشب أخضر شق رمال الصحراء ليرتدي ثوب الحضور الراهن .
( نطق ما . رغبة ما . اختلاف ما )
في وجوده هنا ، في تحركه ما بين صفوف السيارات ، يمتلك خطا مستقيما ، لا ينظر الى سائقي وسائقات السيارات ، انما يدرس خطواته التي تتناسب مع مواعيد الاشارة الضوئية . حمراء يمشي، صفراء يبتعد قليلا ، خضراء يركن الى مكانه .
بضاعته التي يحملها لها مواسم. في الشتاء هنالك الدفاتر والأقلام . في الصيف هنالك قصص الأطفال . في الأعياد هنالك المراوح المتلونة والطائرات الورقية . واذا ما امتد النظر اليه ، يشعر به فيمد يده بالبضاعة الى شباك السيارة . يعطي أولا بيد ثم يستلم باليد الأخرى . لا ينظر بتاتا الى النقود التي استلمها ، انما يضعها بأناه في جيبه .
كأن هذا ا لمكان هو مكتبته الخاصة به … ولكن تلك الخطوط التي يرتديها وجهه ، هي كحزوز برتقالة قشرت على مهل . تلك الخطوط هي التي أشعلت نيران الأسئلة في قلبي .
هل له بيت ؟ هل له أبناء ؟ هل يعاني من عقوق الأبناء ؟ أهي الحاجة الملحة ؟ من تركه هكذا ؟ . مشاعري نحوه تتجه أحيانا الى خطواته . ان كان سيره منتظما وكانت أكتافه منبسطة أشعر أنه بخير. وان تراخت يوما ما خطواته أشعر بأن أموره قد ساءت .
أهي مهنة التسول ؟ ولكن ليس لديه أي صفة منها . ان امتدت يد اليه ، يمدها بالبضاعة ، وان لم تمتد فهو في مكانه ، ما من امتداد لنظراته ولا تتحرك أي دعوة منه للشراء .
هذا الحوار ما بين قلبه وقلبي كان لا بد له من ايضاح وتفسير ! .
كانت الابتسامة هي المفتاح . وكان السلام هو الباب .
– كيف الحال ؟
– – الحمد لله
– الجو حار جدا .
– – الحمد لله
– الأمطار غزيرة .
– – الحمد لله خير وبركة .
احترامي لطريقة تحركه ، لأسلوبه ، يزداد يوما بعد يوم .
ذاك الوجه المشع الذي نمت وما زالت خلايا الكبرياء دفعتني للاقتراب منه .
لوضع تساؤلي وحيرتي بين يديه . ولكن قبل أن تطفو الأسئلة من أعماقي ، كان هو المبادر لكل ذلك .
– هنالك استغراب وتعجب يطفو على وجهك ، بل هو أكثر من هذا ! .
– ماذا ؟
– بل هو التقدير والاعجاب لطريقتك ، لخطواتك .
– ابتسم
– ابتسمت
أي جواب باستطاعته أن يبني جسورا ما بين تلك الأيام المتباعدة وهذه اللحظة الراهنة .
لقد كان لي وضعا ما ليس باستطاعتي أن أشرحه لنفسي أولا ، فكيف لي بالمقابل أن أشرحه لك .
لا تراودك الظنون أو الشكوك . فأنا انسان عاشق للمعاني …كان العطاء هو الهواء الذي أتنفسه ولكن !! .
هذه ال لكن ! دعينا لا ندخل في تفاصيلها . انني انسان محب ، محب لرغيف الخبز المعجون بالشمس والمطر .
أفهم . أعرف . واسمع . ان ما أقوم به يطلق عليه مهنة التسول .. ولكن مرآتي التي أرى روحي فيها تقول لي كلاما غير هذا الكلام .
ان التسول الحقيقي هو أن تمتد يداي الى رزق من حولي وهما ما تزالان في بستان العطاء ، وقدماي تعرفان الطريق الى دكاني عند الاشارة الضوئية .
شعرت به يهز شجرة العطاء بيد ، وباليد الأخرى يحمل قصصا مصورة للأطفال .
رجعت الى ذاتي ،لأستعيد ما رأيت ، وما سمعت ، ولكن عدت للحقيقة الواضحة . فنحن لا نرى الا أطياف من الضوء ولا نفهم الا جزءا قليلا مما نسمع .
وآه يا مرايا الروح
يا مرايا
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.