القسم الأول من رواية (شـماوس) لأشرف أبو اليزيد

09:01 صباحًا الأحد 4 مايو 2014
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الدكتور هان دوك كيو، الأستاذ بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية يمسك رواية (شـماوس) لأشرف أبو اليزيد، دار العين، القاهرة 2007، بينما المؤلف يظهر الطبعة الكورية من الرواية التي ترجمت ونشرت العام التالي في سيئول، عن جمعية كوريا والشرق الأوسط، التي كان يرأسها د. هان

الطريق إلى شماوس

ربما أكون قد سمعتُ باسم “شماوس” مرتين أو ثلاثا قبل أن أقرر الذهاب إلى هناك. لم تكن المسافة إليها كبيرة، قدر غرابة الحكاية التي قادتني نحوها.

 كانت حرارة الربيع تبشِّرُ بصيفٍ قاس، وقد تكاسلت أمامي السطور على شاشة اللاب توب، وتباطأت، حتى توقفت، ولم يأتِ ذلك الجفاف إلا بعد أن تعاقدتُ على نشر روايتي الأولى! قال لي صديقي “ستجد في حارات شماوس ألف رواية ورواية”.

 هكذا انطلقت جنوبًا على الطريق المؤدية إلى حي المعادي، بموازاة نهر النيل، حتى عبرت مجموعاتِ الأحياء التي تناثرت عمائرها بعشوائية على اليسار، تغلق السماء أمام العابرين والمسافرين، طمعا في توفير ثقب لساكنيها يرون عبْره النيل، أو ما تبقى منه. عمارات في أغلبها ميتة لا يسكنها أحد، ولكنها وجدت لكي تسد عين الشمس عن الأحياء.

بعد مرور نحو الساعة، وحسب الوصف تمامًا، وجدتُ الطريق إلى شماوس. هبطتُ بالسيارة عن السكة الأسفلتية، لأقودها بمحازاة الفدادين القليلة التي تسبق بيوت شماوس. وحين عبرت المدخل الترابي الواسع، الذي يشبه ميدانا بدون إشاراتٍ مرورية، إكتشفت أن علي تَرْك السيارة تحت أقرب شجرة، لضيق الحارات الداخلية. استفسرت عينا حلاق كان يرش الماء عن سر قدومي، وكان عليَّ أن أطمئنه، وربما أجد عنده خيط الحكاية الأول.

هكذا سلمتُ عليه، ودخلت وقد عرفته بنفسي، فقال لي مجاملا أنه يقرأ المجلة التي أكتب بها أسبوعيا، وخاصة مقالاتي في السياسة. وتعجبت، فالمجلة شهرية، كما أن آخر مرة كتبت فيها عن السياسة أو حولها، كانت أيام الجامعة، وقد باعدت الأيام بيني وبين السياسة، بالشغل حينا، وبالإنشغال حينا، وبالهم والنكد أحيانا أكثر.

سألته عن سبب التسمية، فأجابني، وكأنه كان يستعد للسؤال منذ خمسين سنة: “والله يا أستاذ أنا نفسي محتار أصدق من ولا من في حكاية الإسم. يعني مرة قالوا اسم فرعوني: شام.آو. أوس. ومرة قالوا إن اسم العزبة على اسم أم صاحبها؛ واصل باشا. ومرات كثيرة يقولون أن الشماسين في كنيسة السيدة ماريا كانوا يسكنون فيها قبل العمار”.

ويبدو أن الرجل لمح علامات عدم الرضا على وجهي، فأضاف:

“لكن لو حضرتك تسأل الأستاذ معروف الجندي، تلقى عنده الإجابة الكاملة. وعِينا كلنا وهو كبير. ربنا يعطيه الصحة. لا تتعب نفسك بالبحث عنه. أنت تشرب قهوتك وتجده عندك. لأنه يمر ببيوت العزبة كل يوم. عادة قديمة، ربنا لا يقطع لك ولا لنا عادة”.

قبل أن تكتمل النصف ساعة، وجدت رجلا جاوز الستين، بما تنبيء به خطواته الثقيلة وشعر لحيته الأبيض. كان يتكيء على عصا من العاج الأسود ويغطي رأسه بطاقية من الصوف ذات نقوش مطرزة يدويا. وبعد تقديمي إليه سارع الحلاق فسحب كرسيا من داخل المحل، وعلا صوته وهو يرحب بالرجل العجوز:

“والله نورتنا يا أستاذ جندي، ولازم أشكر الأستاذ أنه أتاح لنا فرصة جلوسك معنا”

وفسر لي الحلاق سر ما قال:

“أصل الأستاذ الجندي يمر بنا يلقي السلام، ولا يجلس إلا أمام بيته. ربنا يكرمه ويعطيه الصحة”.

قال لي الجندي:

“في سنة 1911 يعني قبل مائة سنة أو أقل بقليل، كانت المنطقة عبارة عن سراي كبير لواحد من الأتراك، وحوالي خمسة عشر فدانا من هنا للنيل، شغال فيهم سبعة أو ثمانية عشش طين لمجموعة من المزارعين. سنتها نزل من الصعيد رجل اسمه واصل باشا، قال لي والدي الله يرحمه، أنه جاب حُجة السراي، وادعى أنه اشتراه بفدادينه. وزي ما البيت أصبح ملك واصل باشا، الأرض والفدادين والناس الشغالة عليها انتقلوا للشغل عند المالك الجديد. وكم سنة، ولقينا كم واحد من عائلة واصل باشا توزع الأرض بينها. وآخرهم جاء من حوالي ثلاثين سنة وبنى الفيلات الثلاثة على نهاية الأرض الزراعية. طبعا الناس استنكرت أن الأرض تزرع فيها حجر وأسمنت وحديد مسلح، بدل القطن والموالح والنخيل. لكن ما كانوا يستنكرونه في الماضي، أصبح اليوم عادة. وأقدر أقول لك إن فدادين العزبة تآكلت للنصف. ومن يعرف إن كان أحفادنا سيلحقون اللون الأخضر أم لا”.

أخذ معروف الجندي رشفة من فنجانه واستطرد:

“كان الناس هنا مجرد فلاحين، لكن ذلك كان من مائة سنة، لأن الجيل التاني لم يشأ أن يورِّث الفلاحة لأولاده، خاصة وأن الأرض بسبب التجريف لم تعد تكفي الجدود والآباء والأحفاد. المهم، ولا أطيل عليك، بدأ الشباب يعرفون السكة إلى الضواحي القريبة على أطراف القاهرة. وقدر واحد يشتري سيارة يؤجرها بين العزبة والمعادي. ودخل الأولاد المدارس، ولم تبن المدرسة الوحيدة في البلد إلا في الخمسينيات، مع فورة التعليم المجاني في مصر كلها. والعزبة الآن أصبحت تلم، يعني البوابون في فيلات المعادي من هنا، والعتالون المتسكعون في محطة مصر من هنا، والفلاحون الذين لا يزرعون من هنا، والجديد أن سكة الخليج انفتحت، ورجع من سافر يجرف أرضه، ومرة يطلعها مزرعة فراخ، ومرة يقوم بها صناديق أرانب، ألف مشروع ومشروع، إلا الزراعة، حتى من ظل يزرع اختار الموالح والبطاطس، وهي أسهل طريق لتوريد الإنتاج للمصانع التي تبيع قشور البطاطس في أكياس، ورواسب الفاكهة في زجاجات!”

مد معروف الجندي بصره وكأنه يتذكر سؤالي الأول عن سر الإسم:

“طبعا الناس هنا، زي أي تجمع، ستختار التفسير المريح لها، يعني أكيد سمعت تفسيرات الأسطى مختار، ولكن أنا سأقول لك الخلاصة”.

رفع معروف الجندي آخر رشفة في الفنجان، ومررها على لسانه، وكأنه يستخرج منها التفسير:

“قبل مجيء واصل باشا، من الصعيد الجواني، كانت الأرض كلها مثل الجنة. يعني تمشي تحت نخيلها وشجرها فلا تجد إلا الظل. وما كانت الشمس تمر إلا قليلا. وطلعت اللفظة “شماوس” وكأنها تصغير لأشعة الشمس، حين صاحت جدة بحفيدها كي يحترس من الشمس، فأجابها:

“أي شمس يا “أنِّيه”، والله ما هي إلا شماوس”!

1

يتدفق الهواء من نافذة السيارة. أجلسُ في المقعد الخلفي وكُلي حيرة. أين أوجِّه النظر؟ النيلُ إلى اليمين، ومعه كورنيش ممتدٌ بطول الزمن، ومباني القاهرة إلى اليسار، تتفاوت المسافات بينها كما تتباين الارتفاعات. مركب على اليمين، وفندق على اليسار، شراع يتهادى هنا ومئذنة تتشاهق هناك. أغان ترقص فوق الموج، وجرس كنيسة ينتظر في مهده قيام يوم الأحد. تدق الساعة في مذياع السيارة الحادية عشر صباحا وشمس شهر مارس تحاول أن تغازل هواء الربيع. أهربُ بحيرتي فألقي رأسي إلى الخلفِ، وقد بدأ النيلُ يتشح بالوحدة، مثلما بدأ صف العمران يترك للمساحات الخضراء مكانا. يعبرُ البصر من شباك السيارة الخلفي. فأرى السماء تتوهج. كأنها خريطة على باليتة ألوان ترسم لي الطريق إلى فيلا الفنان كريم عبد المجيد.

أسترجعُ الكلماتِ التي قالها شعبان صالح رئيس القسم الثقافي بالجريدة وهو يرتب الموعد لي: “كريم عبد المجيد فنان مدهش. صحيح طِباعُه ساءت قليلا بسبب السفر للخليج. وحكاية أن الفنَّ حرام. لكن ربنا تاب عليه من هذا التخلف. اشتاق للفن ورجع لمصر. وأنت ستكون أول من يجري معه لقاء مطولا حول معرضه الاستعادي في الأوبرا الشهر القادم. أنت ستُذكر الناس بفنان جميل وأصيل”.

ابتسمتُ وسائق سيارة الجريدة يقلب الشريط الكوكتيل في مشغل الكاسيت، فيأتي صوت المطرب الشعبي سعد الصغير الذي يمثل صرعة جديدة تفوقت على سلفه شعبان عبد الرحيم. مقاليد السوق أصبحت بيد من يستطيع أن يكون أكثر سوقية، كان يغني: “بحبك يا حمار!”.

“وصلنا يا أستاذ!”

أفقتُ على صوت السائق وهو يميل بالسيارة إلى اليسار. ليخرج عن الطريق الممهد الذي يفصل النيل عن ثلاثة فيلات تكاد تكون متماثلة. كنا نتجه إلى الفيلا التي تتوسط المباني الثلاثة، بينما أنظر لساعتي. ساعة كاملة استغرقها الطريق منذ غادرنا الجريدة حتى وصلنا إلى فيلا الفنان كريم عبد المجيد، أو “البستان” كما تقول اللافتة التي كتبها بخط كوفي بسيط على جانب البوابة.

2

“أنا إنسان بسيط جدًّا. عشت طول عمري وسط الناس لأني أعتبر نفسي ابنهم وأخاهم وأباهم أيضا. رسمتُ المراكب فوق النيل. ورسمتُ العشاق فوق المراكب. ورسمت الفرحة فوق وجوه العشاق. تقدر تقول عني إني رسَّام الفرحة. لكن هذا كله كان قبل السفر”.

يتنهَّدُ الفنان التشكيلي كريم عبد المجيد. كان حجمه ضئيلا رغم صوته القوي. ملامحه تقترب من سمرة أهل الريف الذين لوحتهم شمس الأرض. لكن تلك السمرة ربما كانت بسبب السنوات التي أمضاها في الخليج. يتوقف كأنه يتذكر مرحلة مؤلمة:

“تقدر تقسم حياتي إلى مراحل. مرحلة تلمُّس الطريق. بعد التخرج مباشرة. يعني من حوالي 25 سنة. كنا مبهورين بالأساتذة. وكنا منبهرين باكتشاف عظماء الفن في الغرب. وكانت عندنا الفرص الأخيرة لرسم موديلات بجد. وقفنا على عتبة السلم قبل أن يقع”.

يأخذ من مكتبة تمتد بطول الجدار ألبومًا مصورًا، يناوله لي وهو يضحك:

“ستجد هنا بعضا من ذكريات ذلك العهد البائد”.

تأمل طبقي الممتليء بالكعك البلدي والذي لم يُمس.

“لم لا تأكل؟ هذا كعك لن تجده في مكان آخر. قم معي!”

أخذني إلى الشرفة العكسية، ليست تلك التي تواجه الطريق التي دخلنا منها، بل المطلة على الحقول الخلفية.

“هناك، آخر هذه الغيطان، قرية صغيرة. أو مجرد عزبة. اسمها غريب، “شماوس”، يمكن يكون الإسم سقط من خريطة الدنيا. لكنه محفور في قلوب ناسها. ريفيون على سجيتهم. هم من يأتون لي بكل ما أشتهيه. لا أحتاج أنزل البلد، ولا ألف في زحام محلات مصر. ناس طيبون جدا. الفاصل بيننا وبينهم الأرض التي تراها. أنا هنا ومعي جاران، واحدة على اليمين وواحد على الشمال. حكايتهما حكاية، أجارك الله، لكن ذلك ليس وقت الحديث عنهما”.

حكي لي الفنان أن هذه الفيلات الثلاثة كانت معروضة للبيع قبل السفر، وأنه استطاع شراء الفيلا التي يسكنها بما وفره في أول عامين من سفره. لاحظتُ أنه يكاد لا يذكر اسم البلد الذي عاش فيه سنوات طوالا، وكأن في الإسم مسًّا من جنون.

“هناك، كنت أُدرِّس الفن لطلبةٍ لا يحبون الفن. يعني من بين الدفعة كلها يمكن يكون هنا واحد ولا واحدة، تربوا مع أسرتهم في الخارج فعرفوا قيمة الفن. أما باقي الطلاب فكان يهمهم الشهادة، ليؤسسوا مكاتب معمارية، فرع هنا، وفرع هناك، ويأتي مهندسون من عندنا أو من أوربا حتى ليؤدوا العمل. يعني الشهادات كانت رخصة. وأنا كنت، ومعي خيرة الفنانين والأكاديميين، مهمتنا أن نمنح الرخص!”

يتذكر قصة قال لي إن طرافتها قاسية:

“ذات يوم سهرنا عند أمين الكلية، فأخذ يتحدث طويلا عن جامعته وطلابه وما إلى ذلك. وكان أحدنا سليط اللسان، جاء قبل شهور وقبل أن يكمل العام دورته كان قد قدم استقالته، قائلا للرجل في تلك السهرة: أنا في الفصل الجامعي أمثل أنني أدرس، والطلاب يمثلون أنهم يتعلمون، وأنت تمثل أن لديك جامعة!”

كانت نغمة الفنان اعتيادية، وكأنه يردد كلامًا قاله لنفسه ألف مرة ومرة.

“كل سنة أقول إنها آخر سنة، ثم أجدِّد العقد. والحق يقال أنهم لم يكونوا يدخرون وسعًا في إغرائنا كل عام بالبقاء. فوبيا العودة جعلتني أجدد  عقدي عامًا وراء العام. حتى حين توفيت زوجتي رحمها الله هناك، احترت في تربية ابنتي الوحيدة، لكن الحيرة لم تستمر طويلا، كان الحل مع مربية ومدارس أجنبية، ولكن مع الجامعة، كان لا بد أنزل مصر، خاصة وأنها أحبت تكمل في الكلية التي تخرج فيها أبوها”.

أحس الفنان في ملامحي أن قصته قد تكون خارج السياق الذي جئت من أجله.

“أنا أطلت قليلا، لكن أحمد ربنا إني هنا الآن، رغم أنني كنت نسيت متاعب البلد. أنا سافرت وتركت مشكلاتي، وغيري مئات الآلاف فعلوا مثلي، ولكن المشاكل عاشت هنا، وتزوجت وأنجبت مليون مشكلة. لست أدري، هل هذا ذنبي، أم أنه ذنب من لم يسافر!”

دق جرس الهاتف، فعلت دهشة عابرة وجه الفنان، لكنه ما لبث أن ارتاحت أساريره وهو يخاطب محدثه:

“تأخرت يا عماد اليوم! فاتك تتعرف على شاب رائع، متى ستأتي؟ سأنتظرك! على فكرة، لا تنس شراء جريدة “الأمة”. صحيفة واحدة تكفي، المصادر واحدة، والمصائب واحدة، والمصائر واحدة”.

3

بحثتُ عن السائق حين عبرتُ عتبة فيلا البستان إلى الطريق، كان قد صعد إلى رأس الطريق المرصوفة، عاد وهو يرمي بباقي السيجارة بشكل لافت، وكأنه يقنعني أنه يرميها من أجلي. وما أن استوينا على مقعدينا، حتى بدأ ينافس شريط سعد الصغير في الدندنة. ألقيت بالبصر إلى الخارج. فجعل صوت المسجلة منخفضا، ليتحدث هو:

“مكان يوتر الأعصاب يا أستاذ، منظر الغيطان في الأول يشدك، ويغريك، ويريحك، لغاية ما تبدأ الكلاب تحس بوجودك..”

قاطعته بدهشة:

“كلاب!!”

استطرد وهو يدهس دواسة البنزين بقدمه:

“كلاب على اليمين، وكلاب على الشمال. كلاب يلمها “يونيفورم” وكلاب تحبسها السلاسل. أنا قلت أستكشف المكان حين دخلت أنت الفيلا. لقيت على اليمين فيلا قدامها كلاب مسعورة، ولولا أنها مربوطة، كان زمانك تتصل الآن بالإسعاف لجمع الأشلاء.. أشلائي طبعًا”.

نظر لي وهو يتصنع الغضب:

“أنت لا تصدقني يا أستاذ؟ ألف ونرجع تشوف بنفسك!”

تذكرتُ أنني حين وصلني صوت النباح تخيلت أنه آت من الغيطان، وأنها بعض الكلاب الضالة، التي يطاردها صبي غاضب. أخذت أسترضي السائق بابتسامة وسألته، حتى أشجعه على المضي في الطريق والحديث:

“طيب، اليمين وعرفنا، ما حكاية كلاب “اليونيفورم” في الشمال؟”

“ثلاثة رجال كما يظهرون في الأفلام الأمريكية، “بودي جارد” يعني. بمجرد إني قربت، لقيت الشر في عيونهم. وقلت الكلاب الطبيعية أرحم. ربنا يكون في عون الأستاذ الساكن وحده بين الكلاب”.

“ياللغرابة!”

كان ذلك لسان حالي، رغم أنني لم أر الكلاب التي يتحدث عنها السائق مسعود. لكنني رأيت الخوف والقلق والألم بين كلمات الفنان كريم عبد المجيد. ربما أحسست بهذه الكلاب وهي تنهش الحروف التي تتحرك حواليه في سماء المكان. يتحدث بصوت خفيض. يقتضب الجمل. يقتطع الكلام. يتوقف كثيرًا ويوميء بإشارات ذات معنى. وحين تحدث عن جارَيْهِ توقف، وكأنه يخشاهما. أتيت ليحدثني عن الفن، فأفاض في الحديث عن نفسه. وحين ودعني تأكدت أنه فعل ذلك عن عمدٍ حتى أعود إليه. إنه يريد أن يسمعه أحد. ولكن، ما سبب كل ذلك الخوف الذي يؤرق صدره؟

4

لا تستيقظ فيولا قبل غروب الشمس، لكن صوتَ الكلاب كان يخترق الفضاء ويدق باب السمع. أصابها بعض الإنزعاج وهي تحاول العودة للنوم، فلا تستطيع. اعتدلت على سريرها، ومالت نحو المرآة لترى آثار الأمس تحت عينيها؛ كانت هناك دائرتان بلون الكحل، تحتهما بدأت خيوط العمر تزحف ببطء، ولكن بقوة.

كانت امرأة شاهقة البياض. حين ترتدي ثوبها الوردي الشفاف تحسبها عارية، كآنية من ضوء. خداها يذوبان تحت بقايا حمرة الأمس. تمتمت وهي تسب كلاب الباشا، التي أقلقت نومها. صرخت بصوت غاضب:

“سعدية. سعدية. تعالي. خلاص نمت وتغطيت بالطرش؟”

تحركت كومة بشرية ضئيلة كانت ترقد بجوار عتبة باب الغرفة، ونهضت وهي تحاول أن تتوازن. وبيد مرتعشة دقت الفتاة الصغيرة باب غرفة نوم السيدة فيولا.

“طبعًا نمت ولا على بالك. صوت الكلاب داخل دماغي، وأنت أذن من طين، وأذن من عجين. لو واحد دخل يقتلني ستكونين آخر من يدري”

ارتعدت الفتاة وهي تقرِّب الخُفَّيْن تحت قَدَمَي السيدة فيولا عند طرف السرير:

“بعد الشر يا هانم. ألف سلامة. ما عاش من يمده يده عليك. والبركة في البهوات على الباب. باسم الله ما شاء الله. يسدون عين الشمس. الكلاب ممكن تنبح. الناس ممكن تعلي صوتها. لكن من بعيد، والبيت أمان.”

تتماسك فيولا وهي تتجه إلى المقعد القريب من المرآة.

“أمان يا ساذجة؟ الأمان بين أربع جدران ليس أمانا. يمكن أسميه سجنا. أنت يا سعدية حرة الحركة. سهل عليك أن تمشي فلا يراك أحد. أما أنا فلا أستطيع الخروج وحدي. لازم أخرج ومعي حراسة”.

تدرك فيولا أن أكثر كلامها يعبر أذني سعدية كما يعبر الهواء فوق غصن خال من الأوراق. لا يجد الهواء ما يحركه، ولا تستطيع سعدية أن تفهم ثرثرتها. لكنها تتحدث بصوت عال تواسي به نفسها.

“حضِّري لي الحمام!”

“حالا يا هانم!”

“ماذا ستفعلين يا فيولا بعد الحمام؟ ما يزال النهار طويلا. هل ستنتظرين مجيء الليل والأصدقاء طوال هذه الساعات. وكيف ستستطيعين أن تصمدي الليل معهم؟ ربنا يخرب بيت الكلاب وصاحبها”.

عادت سعدية إلى غرفة السيدة فيولا تعلن عن تجهيز الحمام. كانت تسمع كثير الكلام لكنها لا تفهم سوى ما يعنيها. تدرك أن السيدة فيولا لا تريد أن تحاورها. هي تريد أذنين ولا ترغب في أن تمتلك خادمتها لسانا.

كانت الهانم قد تمددت مرة أخرى على فراشها وقد غلبتها الأفكار وصرعها النوم. خلعت سعدية الخفين من قدمي المرأة. وعدلت من رأسها على الوسادة. وغطت جسدها الذي تبين قسماته المشدودة تحت ثياب النوم الشفافة، وخرجت وهي تغلق الباب. اتجهت للحمام، فتحت الباب، ثم أغلقته وراءها. وأخذت تتجرد من ثيابها قطعة فقطعة، ثم غاصت بجسدها النحيل في الحوض الذي امتلأ بصابون الاستحمام.

5

قد يمرُّ النهارُ فلا يراها، يجلس ناهضا من النوم ساعة الصباح المبكرة، الساعة التي اعتادت عليها ساعته البيولوجية منذ ثلاثين عامًا، ينتظرها لتعبر ذلك البساط الأخضر، قادمة من عزبة “شماوس” في الأفق، تشق اللون الأخضر، وتشق قلبه معها، كما تشق السكين ثمرة ناضجة، إلى أن تختفي خلف سور الفناء الخلفي لفيلا السيدة فيولا. متى تأتي، ومتى تعودُ، ومتى تمر بالغيطان، ومتى تدعوه فيولا، ومتى يرى نرجس؟ ألف سؤال وعلامة استفهام ولا مجيب!

قبل طلوع اللواء وجيه عصام الدين على المعاش كان الأمر سيختلف، ربما كان سينزل ببزته الرسمية ليعترضها، بل وربما اكتفى بإرسال عسكري بشريطين إليها ليبلغها أن الباشا بالإنتظار. وكان سيحصل عليها برضاها أو غصبا عنها. أمام أهلها أو دون علمهم. برضى العزبة التي تأتي منها، أو بسخطهم عليها ومنه. اليوم لا يستطيع. ففي الخدمة لا يزال الطلب أكثر من العرض. أصبح الضباط الصغار ينافسون رؤساءهم. لم يتركوا شيئا لمن هم مثله خارج الخدمة. لذلك سيكتفي بما يفعل كل نهار: الإنتظار.

لا يستطيع أن يتصل بالسيدة فيولا، ليسألها عن سبب غياب نرجس طوال هذه المدة، يعرف أن ناموسيتها كحلي، وأن موعد صباحها يأتي مع عودة الطيور إلى أعشاشها. منذ أن اعتزلت فيولا الفن، أو اعتزلها، وهي تضرب مواعيدها أول الليل، وتستقبل ضيوفها منتصف الليل، وتعقد صفقاتها مع نهاية الليل. وتتلقى مكالماتها خلال الليل. وهي تتدلل عليه، ولولا أنها تعرف أن هناك خيطا رفيعا يربطه بوزارة الداخلية لما شرف بحظوة دعوتها إلى سهراتها بين حين وآخر.

كان جسده الكبير يشي بوطأة العمر، رغم محاولته في إخفاء الشعر الأبيض بالصبغة الألمانية المعتبرة، ومحاولته ممارسة الرياضة بشكل منتظم في نادي اليخت، والمداومة على النظام الغذائي القاسي الذي يعذب به نفسه التي تشتهي الكثير ولا تحصل إلا على القليل.

حين ألمح إليها بأنه يرغب في نرجس حذرته فيولا:

“نرجس غير كل البنات. هي تعرف تتكلم كذا لغة. وتعرف تلبس. وتعرف تكتب وتقرأ لأنها تدرس في الجامعة. لكن يا باشا ليست مثل باقي البنات. أنا أتيت بها لتساعدني حين يكون معنا ضيوف أجانب. يلعن أبو اللغات، أنا كنت في مدرسة حكومية، وليس عندي سوى العربي. والبنت مثل الراديو. تقف بجانبي فلا أحس أني كالأطرش في الزفة. لكنها لا تشرب ولا تأكل ولا ترقص ولا تتغنج. كل أملها آخر السهرة تأخذ القرشين. يمكن عندها ظروف. أرجوك لا تخرب علي ولا عليها. أنا ما صدقت ولقيتها!”

وحين صارحها برغبته، صرخت فيولا:

“زواج! لا يا باشا. لا أنصحك. أولا أنا لست خاطبة. وثانيا طريق الزواج لا ينفع من الباب الخلفي. تروح تشوف أهلها وتطلب يدها منهم. ولا أعتقد أنهم سيوافقون لفارق السن.”

ثم تستدرك كأنها تعتذر عن نبرة الاستنكار في تعليقها على فكرة الزواج:

“أصل لكل بنات الجامعة حبيب وقريب، اسألني أنا، قصصهن كلها عندي!”

يأخذ آخر رشفة من فنجان القهوة، وهو ينظر للمدقات الترابية التي تشبه خيوطا من رماد، وتفصل بين أحواض اللون الأخضر. طيور رمادية صغيرة ترفرف وأخرى بيضاء وكبيرة تقفز على الغدران الصغيرة التي تسقي الأرض. لم يدرك كم من الوقت مرَّ وهو على هذه الحال. لأنه حين استيقظ كانت رأسه الثقيلة قد مالت به إلى مسند الكرسي. نظر للصحيفة التي سقطت من يده حين غلبه النعاس. كان العنوان: الإحتفال بعيد الشرطة. رحم الله أيام زمان. كان سيكون بين أوائل المدعوين. لكنه اليوم لا يظفر ولا بدعوة شرفية. ليس يربطه بالوزارة سوى وجود ابنه بها. ولا يذكره بمزاياها سوى هذه الفيلا، التي حصل عليها بمكافأة نهاية الخدمة. لملم الصحيفة، وعدّل من ثيابه، وألقى نظرة أخيرة على المدى المتجه للقرية، ثم غادر الشرفة.

6

“تعرف يا عماد، هذا أنبل كائن. دعك من الإنسان، لأن ربنا اصطفانا وخصنا برسالاته السماوية. لكن الحمار كائن له خصوصيته. وأسعد لحظات حياتي هي لما أنزل وأخذ كرسيا وأراقب الحمير، وأرسمها وهي تلعب وتكلم بعضها.”

استمع عماد كمال إلى كلمات أستاذه وصديقه باهتمام بالغ. يتمتع عماد بقوام متين، لكنه يكاد ينحني وهو يخاطب الدكتور كريم. كان عماد قد أحضر “الأمة” كما أوصاه بها الدكتور كريم عبد المجيد. ودخل إلى المطبخ فأعد الشاي. وجاء بالصينية إلى الشرفة المواجهة للأرض، حين وجد أستاذه يراقب  أحد الحمير الذي اقترب من فناء الفيلا الخلفي. وحين أحس بحضوره، بدأ الفنان يتغزل في الحمير:

“كائنات مسالمة. والله تذكرني بشعب غلبان منكسر. ترضى بالقليل. تتحمل الكثير. لا يهمها من يقودها؛ شيخ كبير أو طفل صغير. الشاب الذي كان هنا وذهب منذ قليل، يعملُ صحفيًّا في جريدة “الثقافة اليوم”، قال لي أن هناك مطربًا شعبيا يغني للحمار. أخيرًا وجد الحمار من يغني له!”

يأتي عماد في الأيام التي لا يكون لديه محاضرات في الفنون الجميلة، بعد عامين من الدراسة، تعرف على أستاذه الفنان كريم عبد المجيد. وقرَّبه الفنان إليه، وخاصة حين عرف أن يسكن قرب الفيلا. ودعاه إلى بيته. وهناك رأى ابنته دنيا، فأحب أستاذه أكثر. وأصبح عليه احتماله ليحظى برؤية دنيا ولو بالصدفة، حين تكون مغادرة أو عائدة من الكلية. وحين دعاها إلى فنجان شاي لم ترفض، فقد وجدت أن دخوله البيت، وحديثه مع والدها، سببان كافيان لتمنحه الثقة.

حاول عماد أن يغير موضوع الحمير، الذي يحدثه عنه الفنان كل يوم. ولولا أنه يعرف أستاذه لغلبه الشك بأنه على علاقة جنسية بالحمير. سأل عماد أستاذه:

“أنا أقرأ جريدة “الثقافة اليوم” أسبوعيا، فيها صفحة فن تشكيلي ممتازة، وخاصة اسم ناقد كبير هو مصطفى سليمان، رؤيته وكلامه في الصميم”.

يضحك الفنان كريم عبد المجيد مقاطعًا:

“لا كبير ولا حاجة، مصطفى سليمان هو نفسُه الشاب الذي كان يجلس مكانك قبل ساعة. جاء يعمل معي مقابلة لنشرها في الصفحة. صحيح عمره صغير. لكن آراءه تنم عن قراءة ودراسة وحب للفن. نادرًا ما تجد اليوم مثل هذا الشاب الذي يكتب ويعرف تخصصه.”

توقف الفنان كريم عبد المجيد ليشيرُ إلى اللخارج وقد شده مشهد خارجي:

“أنظر يا عماد. الحمارة جاءت وراء الحمار. يبدو نها خافت عليه حين غاب عن نظرها. تعرف يا ابني، نحن نظلم الحمير. يبدو أن مشاعر الكائنات الحية لا تعرف الحدود. ناولني كراس الإسكتش. أنت تعرف مكانه”.

7

قرب شماوس، وفي الطريق المؤدية إلى طرة، تسكن مجموعات صغيرة من الغجر الرحَّل أعشاشا من الخيش والصفيح. لا يدل على وجودهم وحياتهم شيء سوى تلك الحيوانات الهزيلة التي ترعى بجوارهم، وبعض الكلاب التي يسكن صوتها الليل، وقليل من العنزات اللاتي يصافح النهار ثغاءها. ستراهم في عزبة شماوس يجمعون الفضلات، وقد يؤجَرون لبعض المهن السريعة، ومن نسائهن من تجيد الرقص فيرتدين أزياء الغوازي ليرقصن في بعض الأفراح الشعبية بالعزبة أو خارجها، ولثلاثة من الشباب خيول يركضون بها ويرقصون ويتصارعون بالعصي فوقها تسلية لحضور تلك الأفراح.

الغجر قرب شماوس  يظهرون ويختفون في مواسم مثل الطيور البرية. لكن امرأة منهم تظل العام كله في خيمتها، حتى إنهم إذا رحلوا، لم ترحل معهم، لذلك كانوا يلقبونها بالشمساوية، لالتصاقها على عكس ذويها بهذه الأرض، فلا تغادر إذا غادروا، ولا تسافر إذا سافروا، يغيبون فيعودون ليجدوها في خيمتها، وإن لم تكن هناك فهي في عزبة شماوس.

لكن مكانا ثالثا غير عزبة الغجر وعزبة شماوس، وجدت فيه الشمساوية نفسها، وكانت تزوره مرتين أو ثلاثا كل شهر.

كانت الشمساوية تقرأ الطالع، مثل كثيرات معها، غير أنها كانت أمهرهن. تمسك كفَّ الرجل فتعرف كم امرأة سيتزوج، وكم طفلا ستلد له تلك النساء، ومتى ستتزوج بناته. وهي تقول ذلك كله وكأنها تقرأ من كتاب، أو تعيد على مسمعه ما يملى عليها به.

ذات يوم تحدثت سعدية إلى مخدومتها بأمر الشمساوية، فألحت عليها السيدة فيولا أن تأتي بها. وانتظرت الفتاة مجيء الشمساوية لقراءة طالع إحدى النسوة، وكانت تشكو من هجر زوجها لها، لتلتقيها في سكة العودة إلى عزبة الغجر. وحكت لها عن سيدتها فيولا، وعن اشتياقها للقاء العرَّافة.

قالت الشمساوية بلهجة حازمة:

“سيدتك وحيدة رغم الزحام فوقها وتحتها. وليلها نهار ونهارها ليل. لو سألت عني للتسلية فأنا لن أسليها. سأخبرها الحقيقة المرة مثل قهوة الأعراب.”

حين نقلت سعدية ما قالته لها الشمساوية إلى فيولا، اشتاقت السيدة أكثر للقاء العرافة الغجرية. قالت لنفسها:

“ربما تقرأ لي غدًا لا أعرفه، فأتذكر ماضيا لا يعود، وأتجنب حاضرًا لا أحبه. سأعيش في حضرتها مشهدًا سينمائيا جديدًا كل مرة، بعد أن أطفئت مصابيح الإضاءة. والله زمان يا فيولا!”.

هكذا كانت سعدية نافذة فيولا على عالم شماوس ونرجس والشمساوية، تذهب في استدعاء نرجس مرة، وفي ترتيب موعد لزيارة الشمساوية مرة.

في مهمة جديدة، وبعد خروج الخادمة سعدية بقليل احتارت نرجس في السبب الذي ستختلقه تلك المرة حتى تبيت الليل خارج المنزل. ماذا ستقول لأبيها وأمها وأخيها حتى يقنعوا بأنها في أمان. المرات السابقة انتهت بحججها. وعليها أن تبحث عن سبب جديد مقنع وغير متكرر.

منذ دلت سعدية جارتها الأستاذة نرجس على الطريق إلى فيلا فيولا وهي تعيش هذا القلق. كانت فيولا تبحث عن شابة تتقن الإنجليزية والفرنسية، مائة جنيه في الليلة الواحدة. ولن تفعل شيئا سوى أن تترجم بعض الجمل المبتورة الطالعة من أفواه مخمورة. تدخل الفيلا وهي ترتعد. ولكنها تدرك أن الوجوه التي تراها في الداخل ليس لها وجود حقيقي في عالمها. هي أقنعة لبشر يعملون في مدار خارج مجرتها. ولولا سعدية ما تعرفت على هذا الكوكب. لم تكن تدرك أن هناك خارج السينما مشاهد تشبه الأفلام. وأن المسافة بين “شماوس” وفيلا فيولا، وهي على ما تبدو عليه قريبة، كأنها المسافة بين السماء والأرض، أو بين الجنة والنار. وهي ليست تدري، أيهما النار، وأيهما الجنة.

ها هي تتهيأ لإرتداء الملابس في الوقت الذي يتهيأ ذهنها لكذبة جديدة.

“كذبة بيضاء لا تضر!”

تمتمت وهي ترتب حقيبتها. استطاعت أن تُهرِّب مع سعدية حذاءً وفستانا سترتديهما عندما تصل إلى الفيلا. هناك يمكن أن تضع بعض المساحيق الخفيفة، وأن تتزين ولو قليلا، وأن تتعطر، لكنها لا تستطيع أن تخرج أمام أهلها وشباب القرية إلا وهي ترتدي ملابس ذات أكمام، وتغطي رأسها بالبونيه، وتنتعل ذلك الحذاء الذي ترتديه الممرضات. يمكن أن يقبل بها الزملاء والزميلات في الجامعة بهذا المنظر، وكثيرات مثلها ممن يأتين أفواجا من القرى، وقد حملهن القطار برائحتهن الفجة، وكأنهن آتيات من وراء الجاموسة! لكنها تتأنق في الجامعة بحذر، من يدري، ربما يهبط عليها فجأة أخوها، كما فعل العام الماضي. ستر ربنا أنها كانت في ثوب الحشمة! أما في فيلا فيولا، فهي مهما ارتدت تظل أكثر الحضور حشمة، وهن كمن تركن ثيابهن في السيارات الفارهة التي تقلهن إلى السهرة.

كل مرة ترتب لها فيولا سببا، وتخطط لذلك ببراعة. وحين جعلت سيادة اللواء يتصل ببيت خال نرجس، لأن ليس ببيتها تليفون، استعاد اللواء هيبته وهو يتحدث إلى الأستاذ نبيل زينهم مدرس المواد الإجتماعية في مدرسة الشهيد عبدالله حمدي:

“أستاذ نبيل زينهم. معك اللواء وجيه عصام الدين بمباحث أمن الدولة. حضرتك اطمئن. أنا أتصل بخصوص الآنسة نرجس كمال. زميلة ابنتي مروة في الجامعة. ابنتي تعبت وحجزوها في مستشفى النزهة. وبنتكم الله يكرمها ستبيت الليلة معها. لأن زوجتي تعيش أنت. وأنا أخذت الرقم من الأنسة نرجس. وتقدر تكلمها على رقم المستشفى في أي وقت. غرفة 23. خذ حضرتك الرقم”!

سترد سعدية على التليفون. تطلب من المتصل الإنتظار. تذهب لتستدعي نرجس من داخل القاعة الكبيرة. تتأكد من إحكام غلق الغرفة عليها حتى لا يتسرب صوت الموسيقى وضوضاء العبث. يطمئن قلب الأستاذ نبيل. ويحمل الخبر بنفسه إلى زوج أخته:

“…. وزيادة في الإطمئنان، اتصلت بنفسي برقم المستشفى، وردت عليَّ البنت في البدالة، قلت لها رقم الغرفة، وحولتني واطمأننت بنفسي. أصل يا أبو عادل، نرجس ابنتي مثل ما هي ابنتك تمام. وربنا ما يجيب شر. سيادة اللواء كان سيموت من القلق على ابنته.”

تؤمِّن أم نرجس على كلام أخيها، وقلبها يعصف به قلقٌ من نوع خاص:

“ربنا يجيب العواقب سليمة”.

8

“حمير؟ هذا كلامٌ فارغ يا درش! تروح مرتين لحد بيت الفنان، يومان أجازة، وكاميرا، وسيارة، وسائق، وبدل الحوار، ترجع تكلمني عن الحمار!”

علت نبرة الغضب صوت شعبان صالح رئيس القسم وهو يخاطب مصطفى سليمان.

“هذا كلامٌ فارغ!”

 حاول الشاب تهدئة رئيسه في العمل. وهو يخرج من حقيبته أسطوانة:

“والله يا أستاذ شعبان، هذا ليس ذنبي. الفنان كريم عبد المجيد لم يخرج عن موضوع الحمير. المرة الأولى قال لي إنها مقابلة تعارف ضروري بيني وبينه، وكلمني عن نفسه وسفره ورجوعه وبيته وابنته وتلامذته. وطلب أن يكون لنا لقاء ثان. رجعت له في الموعد أخذني إلى الغيطان. جلس يرسم الحمير. أكثر من مائة اسكتش والله يا أستاذ. والشمس تأكل الدماغ وهو ولا هنا. أنا صورته، والأسطوانة معي. وكتبت عن معرضه القادم. يقول أنه يفضل يعمل معرض الحمير، لأن المعرض الإستعادي تقليدي وقديم ومكرر!”

تغيرت نبرة صوت الأستاذ:

“أنا كنت حجزت الصفحة للموضوع هذا الأسبوع. ونشرت التنويه العدد الماضي. وأخشى أمنع النشر يغضب مني كريم، وهو صديق قديم. حاول تغير المقدمة يا مصطفى. هات شغله القديم من الأرشيف واكتب عنه، قبل ما تدخل علينا بحمارته الجديدة!”.

أحس مصطفى سليمان أنه في مأزق، لو غيَّر في الموضوع، سيغضب منه الفنان. ولو أبقاه ونشره كما هو سيصب شعبان صالح جام غضبه عليه. وإذا اختار الحل الوسط، فلن يرضى هو نفسه عن المقالة برمتها. يريد أن يكتب شيئا جديدًا، بوحدة موضوعية وقد اقتنع فعلا بإنسانية الحمار التي يدافع عنها الفنان كريم عبد المجيد.

كانت مقدمة الموضوع تستحضر كلمات الفنان:

“إنهم يضطهدون الحمار، لكن هناك كشف علمي جديد، يحق للحمار أن يفخر به، لأنه الكائن الوحيد الذي استطاع أن يعبر كل الحضارات دون تمييز, هو الكائن الوحيد الذي لا يختلف حجم أنفه، أو اتساع عينيه، أو ملامح وسمات وجهه بين قارة وأخرى، أو بين بلد وسواه، فالحمار في استانبول يكاد يطابق شكلا ومضمونا حمير قبرص دون تمييز بين الحدود اليونانية أو التركية، والحمار في المدارج المتجهة نحو أعالي التبت وكهنتها، مثله كإخوانه في مصاعد جبال الأطلس، أو أقرانه في القرى النائمة على نهر النيل.  والسبب الذي اكتشفه العلماء هو أن سهولة حركة الحمير، وتحملها، جعلها وسيلة سهلة، إن لم تكن الأسهل ـ فلا ينافسها سوى أبناء عمومتها البغال ـ في نقل الزاد والعتاد، وبما أنها ترحل من مكان لآخر، ومن قارة إلى أخرى، فإن تناسلها مع الحمير، الموجودة هنا وهناك، يسَّر لها أن تنتج ذرية تتمتع بسمات موحدة، لها بصمة وراثية لا تختلف بين مناخ وآخر، حتى في لون العينين، وطول الأذنين، واحتمال الراكبين. أنظر لهذه الإسكتشات. ستجد في العيون خريطة لكل بقاع الدنيا. والحمير كرمها الأدب، أقصد الحمير في عالم الرواية، خلدها ثيربانتس وخيمنيس في الأدب العالمي وتوفيق الحكيم في الأدب العربي، واحتفل بها غيرهم في أساطير وآداب العالم. وفي العالم تصور أن   الحمار هو الحيوان الذي أثبت خطأ نظرية دارون!”

كنتُ أتأمل وأكتب وأسجل وأتابع الحمير حولنا وكأنها تستمتع بالحوار مثلي.

يستطرد الفنان:

“ربما سمعنا أن الفيل هو خير خلف لسلفه الماموث، أو أن الحمام وباقي الطيور تناسلت من الآركيوبتركس، والفيلوسيرابتور والألوصوروس، والسيلوفايسس، والصورسكيا، والدينوصوريا، وكلها أسماء تنتمي للعائلة الجوراسية المنقرضة، لكننا لم نسمع، وربما لن يغير ذلك أحدٌ، أن الحمار كان أصله كائنا آخر سوى الحمار.    وإذا كانت الحيوانات ـ المستأنسة والمتوحشة ـ قد عانت كثيرا من الأخطار، ومنها ما انقرض ومنها ما ينتظر، فلا أظن أن الحمار ـ بالرغم من كل ما نسمه به من صفات أبخسته حقه ـ سوف ينقرض يوما، وذلك لأن العبرة دائما بالنهايات، وليست نهاية الحمير عابرة الحضارات كنهايات صانعي الحضارات أنفسهم أمثالنا. أنا أحس أن مهمتي هي إعادة الإحترام لهذا الحيوان. وسأكرمه في الفن، كما كُرِّم في الأدب. خمسون لوحة كاملة. حياة الحمار كلها إنسانية. إذا كانوا يريدونه معرضا صادمًا. سيجدون كذلك. وإذا أرادوه حانيا، فلن يكون هناك أكثر حنوا منه.”

أسر مصطفى سليمان في نفسه:

“سأنشر الموضوع كما هو وأضيف إطارا بارزًا عن أعمال الفنان القديمة، وأجعل مُخرج الصفحة يقسم بينهما، ولن أضع اسمي على كلام الإطار. هذا عين العقل”.

9

أخذت دنيا فطائر سريعة من الكافتريا المواجهة لكلية الفنون الجميلة. عليها أن تلتهمها وهي تأخذ الطريق إلى قاعة الفنون، قبل أن تنطلق مرة أخرى إلى جاليري الهناجر في الجزيرة، ثم تعود إلى عشاء مبكر أو غداء متأخر مع والدها الفنان كريم عبد المجيد.

فتاة رشيقة تبدو بقسماتها الدقيقة كأنها دمية من البورسلين. تتحرك بفطرية ونعومة. لا يرتفع صوتها حين تتحدث، وربما لا تحاول عيناها أن تتجاوزا زجاج نظارتها.

ينتظرها عم خضير على باب الكلية، سائق سيارة أبيها البي إم دبليو، منذ عاد أبوها من السفر، وكف عن قيادة السيارات، وقال معلنا قرار الإعتزال:

“الناس هنا لا تسوق سيارات، إنهم مشاريع انتحارية، إما أن يموت هو، أو يموت الراكب أو يموت الماشي على قدميه”.

سيكون معها السائق طالما يبقى والدها ينتظرها في البيت، وليس لديه مواعيد، ولا محاضرات. ترى دنيا أن وجود خضير معها ليس إلا جزءًا من الرقابة التي يحيط بها والدها تحركاتها، بعد عودتهما إلى مصر، ودخولها الجامعة.

“يمين ولا شمال يا ست دنيا؟”

“زمانك حفظت مواعيدي يا عم خضير، خذني إلى قاعة الفنون، سأتأخر في الداخل قليلا”.

“لن أتحرك من أمام الباب حتى تعودي، هذه هي الأمانة التي أوصاني بها أبوك ربنا يكرمك يا دكتور كريم يا ابن حواء وآدم!”

حين عاد الفنان كريم عبد المجيد من السفر، بحث عن سائق أمين، وكانت وصية عماد بهذا السائق من الوصايا الكثيرة التي جعلت كريم ممتنا لعماد.

كان خضير يعمل في وكالة سيارات بإحدى دول الخليج، صاحبها عنده توكيلات من الشرق والغرب، سيارات يابانية وكورية وأمريكية وأوربية. كان خضير يعمل خارجها جميعا، بعد أن أوكلوا له توكيل سيارة روسية اسمها لادا! لم تصبر لادا على حرِّ الخليج، وكانت تسبب متاعب، وكأنها انهارت مع انهيار الإتحاد السوفييتي نفسه!

تأتي الطامة الكبرى حين يقرر شاعر شعبي اشترى إحدى سيارات اللادا، فأتعبته، أن يهجوها بقصيدة نبطية، شاعت من الحدود إلى الحدود. وهنا قررت إدارة الشركة إغلاق توكيل سيارات لادا التي لديها، وأوكلت لخضير مهمة بيعها حتى أخر قطعة.

يتنقل خضير بين المدارس والمعاهد التي يعمل فيها المصريون، يعرض عليهم مزايا يراها هو ولا يراها أحد سواه في سيارات لادا. الميزة الوحيدة التي رآها المصريون في السيارة، بجانب أنها أرخص من سواها، هي أنهم لن يدوخوا في مصر على قطع غيارها التي تباع أو تزيف عند كل حارة! انتظر خضير لادا، وقد نال الاسم عن استحقاق، بيع كل السيارات، وحين عاد بآخر قسائم البيع للشركة، طامعا في نقلة إلى إحدى أقسام السيارات الآسيوية الأخرى، وجد قرار إنهاء عقد عمله ينتظره.

انتهى الإتحاد السوفيتي، وانتهت معه سنوات خضير لادا بالخليج، وبعد سنوات قليلة من عودته تبخرت القروش التي ادخرها، ولم يجد مكانا يقبل مسنا يكاد ظهره أن ينحني سوى أن يعمل سائقا. ولولا جيرته لعماد لما نال هذه الفرصة، وكان سينضم لا محالة إلى نادي المسنين الذين يتنفسون مع بخار شاي القهوة دخان شيشة الألم.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات