محمد العون : الفصل الأول من رواية “سجن الطاووس”

09:14 صباحًا الأربعاء 7 مايو 2014
محمد العون

محمد العون

كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الروائي محمد العون، وغلاف الرواية الذي صممه الفنان عبد العزيز السماحي

من بعيد لاح القصر بمبناه الذى يتراوح لونه بين الأصفر الغامق والبنى الفاتح ، وسط مساحة اللون الأخضر للحقول الشاسعة.

قبل ساعة كانت السيارة التى تتجه الآن نحو القصر وتحمل لوحتها أرقاماً حكومية ، تعارك الزحام عند مخرج المدينة.

خرجت بعد معاناة من منطقة تقاطعات مزدحمة .. لتصل بعد جهد إلى الطريق الزراعي الذى يخترق الحقول ، وتسير بعد ذلك بين حركة البناء والتشييد القائمة على قدم وساق على جانبى الطريق ، مبانٍ لمختلف الأنشطة الإنسانية وغير الإنسانية ، عمارات سكنية وشركات ومؤسسات ومحلات ومطاعم ومقاه وورش ، تُبنى بسرعة وعلى عجل تسابق الزمن لتلتهم أكبر قدر ممكن من الأراضى الزراعية !

بعد الكثير من الكيلومترات قطعتها السيارة على مهل بسبب حركة المرور الكثيفة ، أخذ الطريق يصفو وتنقشع المبانى مع الابتعاد عن المدينة ليتجلى لون الحقول الأخضر ويملأ الأفق.

تركت السيارة الطريق الرئيسى ودخلت إلى طريق إسفلتى فرعى ، وسارت لمسافة ليست قليلة على الشارع الضيق المرصوف جيداً حتى بلغت سور القصر ، ظهر بوضوح أن السور المبنى بالطوب وتعلوه الأسلاك الشائكة التى تتخللها على مسافات محددة أسياخ حديدية مسننة الأطراف كالحراب ، حديث نسبياً وأنه بُنى فى زمن لاحق على بناء القصر وبطراز معمارى مخالف ، أرخص وأردأ ، وبدا غير متجانس مع البوابة الحجرية الهائلة الحجم التى تشبه قوس النصر والمزينة بالنقوش والزخارف ومازلت محتفظة برونقها ، برغم أن يد الزمن طالتها فى أكثر من موضع ، خاصة فى حوافها العلوية التى ظهر فيها عدة شروخ وتشققات فى بعض أحجارها.

بعد نهاية السور وفى منطقة خلف القصر بدت على البعد بيوت العزبة القريبة ، مجموعة عمارات متلاصقة من ثلاثة وأربعة طوابق من الطوب الأحمر بذيئة المنظر ، تفصل بينها وبين الحقول مساحة من الأرض تستقر عليها تلال القمامة ، وعدد مهول من الأطفال الحفاة يجرون هنا وهناك ويملأ صياحهم وزعيقهم الفضاء ينتشرون فى المكان ويلعبون حول القمامة بسعادة.

وقفت السيارة الحكومية أمام البوابة لعدة دقائق تحقق فيها أحد عساكر الحراسة من شخصية ركابها وتفحص بطاقاتهم الوظيفية قبل أن يُشير بفتح الباب الحديدى المحكم  البالغ الضخامة والمصنوع من الحديد المجدول على شكل زخارف نباتية.

عبرت السيارة البوابة وسارت على الممر الإسفلتى الطويل المؤدى للقصر عبر الحديقة الشاسعة ، على الجانبين تتوزع بعشوائية أحواض للزهور ونباتات الزينة تعلوها الأتربة ويبدو عليها الإهمال كأنها زرعت كيفما اتفق على أرض الحديقة الجرداء ، التى تتناثر عليها بقع من النجيل شاحب الاخضرار ، بينما تنتظم أشجار عملاقة مستوردة من شتى بلاد العالم ، بدت غريبة المنظر تلفت الانتباه على الفور بطبيعتها المغايرة للمألوف ، بأحجام وأشكال أوراقها وبألوانها التى تتنوع فيها درجات الأخضر والأصفر والأحمر ، حتى تفرعات أغصانها وأخشاب جذوعها تبدو مختلفة ، بالقرب من أحد الأشجار ثمة كشك خشبى متهالك مازال يحمل أثر اللون الأبيض ، ويبدو أحد هذه الأكشاك التى كانت تستخدم فيما مضى لتناول الشاى والمرطبات.

عبرت السيارة بوابة أخرى تبدو نسخة مصغرة من البوابة الخارجية ، لكنها ما تزال محتفظة برونقها ويظهر على أحجارها ونقوشها أثر العناية ، تفضى إلى القصر مباشرة عبر ممر مرصوف بالحجارة يخترق حديقة منسقة باذخة الخضرة يخيم عليها الهدوء ، لا تلمح العين ذرة تراب على أوراق النباتات وأزهارها وخشب أشجارها ، بمجرد عبور البوابة الثانية شعر ركاب السيارة أنهم انفصلوا عن العالم الذى كانوا فيه ، أو الذى جاءوا منه ، وأنهم أصبحوا فى عزلة ، كأنهم دخلوا عالماً آخر ، كل ما فيه يتميز بالأناقة والجمال والنظافة ، ويهيمن القصر الرابض بشموخ فى وسط حديقته الخاصة على المشهد بأكمله.

توقفت السيارة فى المكان المخصص للانتظار، ساحة واسعة محاطة بالأشجار تقع فى الناحية الخلفية ويُطل عليها القصر ، ركنت فى نهاية الساحة بجوار عدة سيارات أخرى معظمها سيارات حكومية وبعضها عربات جيب عسكرية.

نزل ثلاثة رجال من السيارة توحى هيئتهم بالاحترام بالرغم من تواضع ملابسهم وبساطتها ، لا تخطئ العين فى كونهم موظفين حكوميين من هؤلاء الذين يمتلكون السلطة والفقر معاً ، ويبدو جلياً من تواضع مظهرهم أنهم لا يختلسون ولا يرتشون إما لأنهم لا يستطيعون ذلك ، بحكم أن وظائفهم لا تتيح لهم الفرصة ، ولا يوجد أمامهم مجال للتعامل مع المال من الأساس ، أو لأنهم – وهذا احتمال ضعيف ويوجد بنسبة بسيطة للغاية – شرفاء !

تقدم أكبرهم سناً الذى يبدو فى منتصف الخمسينيات من عمره وتبعه الآخران ، أحدهما تجاوز الأربعين بقليل والآخر ربما لم يبلغ منتصف الثلاثينيات بعد.

نظروا إلى مبنى القصر الذى بدا على القرب أكثر مهابة وأكبر حجماً مما قدروا ، بجدرانه الخارجية المحتفظة بأحجارها الصلدة التى تتنوع ألوانها ما بين البنى الضارب إلى الحمرة والأصفر الغامق ، يرتفع عالياً لثلاثة طوابق يفصل بين كل طابق وآخر حزام من الأحجار البارزة ، تعلو كل حزام منها نوافذ كبيرة مؤطرة بأحجار صغيرة الحجم يميل لونها إلى الحمرة ، وعلى زوايا الأركان تبرز شرفات صغيرة مزينة بتماثيل رخامية لأسود وخيول بأشكال متعددة ، تحيط بجوانب القصر ثلاثة أبراج ترتفع من الأرض إلى ما بعد السطح تعلوها قباب ضخمة ، تعطى منظر القصر بعداً أسطورياً !

أما الواجهة فمُغطاة بالزخارف المجسمة والتماثيل المنحوتة والنقوش بشكل رأى الرجال الثلاثة أنه ترف زائد عن اللزوم ، إلى حد ما شعروا بالانقباض ، وبشكل خفى لم يستطع أحدهم تفسيره تبدى لهم الجو بالقرب من القصر غير مريح للنفس برغم البذخ والفخامة وثراء المبنى الهائل الذى تحيط به مساحة عريضة من النجيل زاهية الاخضرار تتوزع فيها أشجار النخيل الملكى بنظام هندسى بديع.

على الجانب الأيسر للسلم الرخامى العريض المؤدى لمدخل القصر توجد أربع غرف بدروم واطئة ، يفضى إليها سلم رخامى جانبى من خمس درجات يهبط إلى ممر عريض يمر أمام الغرف ، يبدو أنها تستخدم من قديم كمكاتب لموظفى القصر ، كان هناك عدد من الرجال كبار السن يرتدون الزى المميز للجناينية ! يتوزعون فى الحديقة المقابلة للمدخل وهم يؤدون عملهم بهدوء وببطء يتناسب مع أعمارهم المتقدمة.

بجانب باب أحد هذه الغرف يجلس ساعٍ ضخم الجسد يبدو فى منتصف العمر ، قام بمجرد أن لمح الزوار وهم مقبلون ، تحرك ناحية باب الغرفة وأطل برأسه داخلها وأخبر رئيسه بوصول أعضاء اللجنة ، خرج من الغرفة رجل طويل القامة أنيق المظهر إلى حد كبير أبيض الشعر لكنه يبدو شاباً ، مشى بخطوات سريعة نحو الرجال الذين توقفوا عند بداية السلم الجانبى ، وقد أصابهم هذا الارتباك الطفيف الذى يصيب الإنسان عادة عندما يدخل مكاناً غريباً عليه لأول مرة ، ولا يعرف أين عليه أن يتجه ولا من يسأل ليصل إلى مقصده ، لكن أكبرهم سناً ما لبث أن تقدم بخطوات ثابتة ، لم يكن توقفه بسبب الارتباك بقدر ما كان لاستعادة ذكرى بعيدة.

– أهلاً يا دكاترة .. شرفتم القصر.

صافحهم الرجل مرحباً ومعرفاً بنفسه.

– المهندس كمال .. مدير حدائق القصر.

فى هذا الصباح كان يعانى ألماً فى أحد ضروسه مما جعله يبدو ممتعضاً بعض الشىء وهو يرحب بضيوفه الرسميين ، تقدمهم إلى غرفة مكتبه التى كان أثاثها الحكومى الرخيص متناقضاً مع ثراء القصر ، أمام المكتب المعدنى عدة كراسى خشبية وفى مواجهته كنبة جلدية قديمة ، وعلى جانبيه توجد عدة دواليب وأرفف معدنية مكتظة بالملفات والدوسيهات و .. الكتب ، كتب كثيرة ومتنوعة تتراص على الرفوف القريبة من المكتب الذى كان عليه كتابان أحدهما مفتوح.

قال المهندس كمال مبتسماً بعد أن جلس الرجال على مقاعدهم ، موجهاً حديثه إلى أكبر الدكاترة الثلاثة سناً.

– آسفين الطريق طويل .. ثلاثين كيلو خارج المدينة.

– المشكلة فى الزحام ، لقد قطعنا هذه المسافة فى ساعتين !

– تخيل يا دكتور أننى والزملاء الذين يعملون هنا نعانى هذا الزحام يومياً ، فى بداية عملى هنا كان هذا المشوار لا يزيد عن عشرين دقيقة ، أما الآن فكما ترى !

– كان الله فى العون.

– الله يحفظك ، قبل أن نبدأ ماذا تشربون أولاً ؟

– لا داعى للتعب والتكليف.

قال الدكتور وهو ينظر حوله ويرى رثاثة الأثاث والمكاتب.

– لا يمكن بعد هذا المشوار ، لابد أن تشربوا شيئاً قبل أن نبدأ العمل.

– إن كان ولا بُد .. نشرب شاى.

– حاضر ، تحت أمرك.

نادى كمال على بدر ساعى مكتبه وطلب منه عمل الشاى.

مال الرجل الأربعينى على الدكتور وهمس فى أذنيه بشىء فقال الدكتور على الفور.

– لو سمحت شاى كمان لرزق السائق ، أحسن يعمل لنا مصيبة وإحنا راجعين !

– طبعاً .. طبعاً.

تذكر الدكتور ممدوح بأسى أن السائقين انقلب حالهم خلال السنوات الأخيرة ، خرجوا عن حدود الاحترام وتمردوا على قيم ومبادئ استقرت لزمن طويل ، شهدها بنفسه حينما كان شاباً وقبل أن تتردى الأحوال ويعصف الزحام والفقر بالجميع ، أصبح السائقون يتطاولون على رؤسائهم   ويتحكمون فيهم خلال مأموريات السفر ، ويفرضون عليهم البقشيش فرضاً على أى مشوار يخرجون معهم فيه وإلا كانت العواقب وخيمة ، أبسط شىء أن يدعى السائق إذا لم يأخذ مقدماً حق الطلعة وينال إكراميته كاملة أن السيارة تعطلت يا دكاترة ، وبالطبع لابد أن يحدث هذا العطل فى طريق العودة ، عندما يكون التعب قد حل على الركاب البخلاء الذين يقبض الموظف منهم كل شهر تل فلوس على قلبه ، ويستخسر كام جنيه فى السائق الغلبان ولا يقدر تعبه وجلسته خلف الدريكسيون طوال النهار فى المأموريات والسفريات التى لا تنتهى !

– يا رزق خلى عندك دم وشغل العربية خلينا نروح.

– يا دكتور العربية عطلت ، أعمل إيه أنا ؟ العربية قديمة وتحتاج تصليح !

– يا ابنى العربية موديل ثلاث سنوات فاتت ولسه جديدة.

– سعادتك العربية تشتغل كل يوم من غير صيانة ، وأنا طلبت تصليحها أكثر من مرة لما غلبت.

– طيب حاول تشغلها مرة ثانية علشان خاطرى.

– ولو الموتور احترق يا دكتور ، أنا ينخرب بيتى ، العربية عهدة علىَّ وأنا مسئول عنها ، سيادتك لا مؤاخذة لن تتحمل المسئولية ..

رد الدكتور ممدوح بعصبية وقد ضاق بعبثية الموقف وسخافته.

– أنت كذاب وبنى آدم غير محترم ..

 – لا يا دكتور.. بعد إذنك ، سيادتك تقدر تركب الآن أى سيارة أجرة توصلك للبيت وترتاح هناك من تعب اليوم ، لكن أنا سأنام هنا على الطريق فى الخلاء حتى الصباح .. لا أستطيع ترك السيارة ، يعنى أنا سأتحمل المسئولية وأتعرض للبهدلة وأنام فى الشارع .. وبعد كل هذا حضرتك تغضب وتزعق لى وتشتمنى !

كل هذا بسبب العشرة جنيه التى عاند الدكتور ولم يضعها فى يد رزق قبل أن يركب السيارة فى الصباح ، دفع أضعافها وهو يتنقل بين وسائل المواصلات ليرجع إلى بيته هو والزملاء الذين كانوا معه فى المأمورية ، غير البهدلة والوقوف على طريق السفر فى انتظار سيارة أجرة يرضى سائقها أن يقلهم.

بالطبع عرف بعدها أن رزق أدار السيارة وعاد بها بمجرد ركوبهم وتحركهم من الطريق ، وعندما اشتكاه رسمياً وهو مغتاظ ، قال رزق فى التحقيق.

– وأنا اعمل إيه ، العربية دارت بعد كده من عند ربنا لما جربت أشغلها.

***

بعد شرب الشاى قام مدير الحدائق وهو يجز على ضرسه واصطحب زواره لجولة فى المكان ، خرجوا من المكتب إلى حديقة القصر ، قال المدير وهو يُشير للمبنى ، هذا القصر كان ملكاً لأميرة من العائلة الملكية ، كانت شديدة الثراء وتمتلك عدة عزب تصل مساحتها لأكثر من ثلاثة آلاف فدان ، منهم هذه العزبة الأثيرة لديها التى كانت مساحتها سبعمائة فدان تقريباً ، وتمتاز عن بقية عزبها بقربها من العاصمة وبوجود مزرعة الخيل بها ، ورثت الأطيان عن والدها وبنت القصر فى هذا المكان ، يُقال إن والدها الأمير كان له هنا قصر ريفى صغير لكنها هدمته لتبنى هذا القصر ، الآن لم يبق من السبعمائة فدان سوى مائة وخمسين فداناً بخلاف حديقة القصر التى تبلغ مساحتها حوالى عشرة فدادين ، وطبعاً القصر بحدائقه والأرض الزراعية التى تتبعه تعتبر الآن من أملاك الدولة كما تعرفون.

بالطبع يعلم الدكتور ممدوح فيما تستخدم مساحة الأرض الزراعية ! أو معظمها على الأقل وهو السبب الذى يدعو بجانب بعض الأمور الأخرى ، إلى استخدام هذه الحراسة الرسمية المشددة ، لكنه سأل المهندس كمال سؤالاً اعتراضياً عن الجانب الآخر الذى يلفه الغموض ، ولا يعلمون عنه إلا ما تنقله الإشاعات.

– وماذا تفعلون بالقصر ؟

القصر كما ترى تحفة معمارية وهو يختلف عن بقية القصور المقامة فى الريف من حيث الفخامة والطراز والحجم ، به عشرون غرفة وثلاثة أجنحة كل جناح متصل ببرج من الأبراج الثلاثة ، هذه الأبراج عندما يدخلها الإنسان من أحد الأجنحة الموجودة فى الطابق الثانى ، يجدها باردة منعشة الهواء فى أشد أيام الصيف حرارة.

الأميرة كما يقولون كانت تقضى فى هذه العزبة معظم أيامها ، وأصبحت بعد بناء القصر تقيم هنا بصفة مستمرة ، مع زوجها الثانى وحاشيتها الكبيرة وموظفيها ووصيفاتها وخدمها من سفراجية وطباخين وسائقين ، كانت تعتبر هذا المكان وسط الخضرة والهدوء مملكتها الخاصة التى تقع فى هذه المنطقة التى كانوا يسمونها فيما سبق ريف العاصمة ، حيث توجد على مقربة من المدينة وفى نفس الوقت بعيداً عن صخبها وضجيجها.

كانت إنسانة رقيقة مترفة على قدر كبير من الجمال بشعرها الأسود الطويل وعينيها الزرقاوين وجسدها الرياضى الرشيق الممشوق القوام ، تحب الفن وتميل إلى العزلة وتهوى الريف ، وكانت أيضاً مولعة بالخيل كوالدها الذى كان من كبار المربين وامتلك سلالة متميزة من الخيل العربى ، واصطبلاً كبيراً كانت له شهرة عالمية ورثته ابنته فيما ورثت عنه ، لذلك قامت بتوفير كل وسائل الترف وسبل الحياة الملائمة لها ، حتى تكون على مقربة من خيولها.

القصر من الداخل كان يحوى تحفاً لا حصر لها ، لوحات لفنانين عالميين وفازات كرستالية وأخرى من أنقى أنواع الخزف الصينى ، وسجاد من أغلى الأنواع فى العالم وكذلك كميات هائلة من الذهب والفضة ، وأطقم السفرة والنجف وكذلك مقابض الأبواب وصنابير المياه فى غرف وحمامات الطابق الثانى ..

كانوا قد وصلوا إلى حديقة مسورة تقع بالقرب من المنطقة الخلفية للقصر ، مر بهم المهندس كمال من بوابة صغيرة فى السور لها باب من الحديد المزخرف ، توقف الزوار الثلاثة مشدوهين أمام حمام السباحة البيضاوى المصنوع من الفسيفساء الملونة ، والمحاط بمظلات على هيئة أكشاك بالغة الرهافة من الرخام ناصع البياض ، وهو نفس الرخام الذى صُنعت منه بلاطات الأرضية وممرات الحديقة التى يقع حمام السباحة فى قلبها ، والتى تتوزع حولها نافورات مصنوعة بنفس نوع الرخام أيضاً ، بينما يظهر خلف الحديقة ملعب تنس محاط بسور عالٍ من الشبك السلكى.

– ياااه … هذا نموذج للثراء الفاحش الذى كنت أسمع عنه طوال عمرى ، ولم أره أبداً من قبل !

قال الرجل الأربعينى وهو ينظر إلى المياه الفيروزية الصافية المتلألئة تحت أشعة الشمس وهى تعكس ألوان الفسيفساء المتعددة ، هذا المكان مازال يُستخدم ؟! هذه العناية والنظافة التى تشع من الرخام والزرع المشذب حوله وهذه الزهور المزروعة حديثاً …

بالقرب من السور فى ركن الحديقة البعيد شاهدوا قفصاً كبيراً من السلك ، أنيق الشكل عليه زخارف ملونة بالأبيض والأزرق والأحمر ، به عدد من الطواويس.

نظر الشاب الثلاثينى إلى المهندس كمال وقال ضاحكاً فى شىء من السخرية وهو يشير نحو القفص.

– الطاووس رمز الغرور !

رد المهندس كمال مبتسماً.

– وقد يكون رمزاً للجمال والأناقة والكبرياء أيضاً.

فكر الشاب للحظة ثم قال.

– نعم قد يكون هكذا ولم لا ، لكن هل تظل محبوسة فى القفص طوال الوقت ؟

– لا .. يطلقونها لتتجول فى الحديقة أحياناً.

– كأننا فى بلد آخر غير بلدنا !!

علق الشاب الثلاثينى بشكل لم يعرف معه الآخرون إن كان مندهشاً أم مستاءًً.

***

عندما تم إخطار الدكتور ممدوح بهذه المأمورية ، استعاد معلوماته عن هذا المكان الذى تروى عنه بعض الحكايات ، سمعها منذ بدء عمله فى مركز أبحاث الوزارة ، معظم هذه الحكايات مجرد إشاعات لا ترقى لمرتبة الحقيقة ، لكن الشىء المؤكد الذى تيقن منه مع تقدمه فى العمر وترقيه فى المناصب ، أن القصر وحدائقه ومزارعه يتبع وزارتهم من الناحية الشكلية أو الرسمية فقط ، لكن فى الحقيقة هناك جهات أخرى فى الدولة لها الكلمة العليا فى إدارة هذا المكان !

عقب كمال على كلام الدكتور الشاب.

– بلدنا من البلاد الغنية على مدى تاريخها.

– لم أقصد الغنى ، بل قصدت مستوى النظافة والذوق والجمال ، وهى فى رأيى لا ترتبط بالغنى بقدر ما ترتبط بالسلوك والنظام !

– على كل حال ، هكذا كانت حياة الأمراء والأميرات.

أراد الشاب أن يقول ، ومن الذى يتمتع بهذا الثراء والترف الآن ؟ لكنه آثر السكوت.

سأل الدكتور مجدداً ، لا لأنه يريد أن يعرف ولكن ليرى كيف ستكون إجابة مهندس حدائق القصر.

– ماذا تفعلون بالقصر ؟

– بعد انتهاء الحكم الملكى ظل القصر منسياً لسنوات ، لم ينتبه له أحد ، أو ربما لم يعرفوا بمدى فخامة مبناه وطرازه المعمارى الفريد وحدائقه ذات الأشجار النادرة التى اشترتها الأميرة من خارج البلاد ، أغلب الظن أنهم اعتقدوا أنه مجرد قصر ريفى بسيط مثل غيره من قصور الريف الكثيرة التى كان الأمراء والأثرياء عموماً يمتلكونها ، لم يلتفتوا إلى قيمة القصر وملحقاته إلا بعد مرور فترة طويلة !

يُقال أن واحداً منهم حلق فوق القصر بطائرة ، أو تصادف أن مر بطائرة صغيرة ذات محركات مروحية وهو فى مهمة ما فرأى القصر من نافذة الطائرة ، ولما نزل أمر بإحضار الملف الخاص به وبتاريخه إلى مكتبه ، ثم كلف طاقماً من رجاله بجرد محتوياته من تحف ولوحات أو ما كان تبقى منها وتسجيلها ضمن أملاك الدولة.

قال الدكتور مغيراً صيغة السؤال ، ليرى مدى المسموح به لدى أحد موظفى الوزارة المنتدبين إلى مثل هذا المكان ، يعلم إنهم يُختارون وفق معايير محسوبة يدخل فيها عنصر الأمن بالإضافة إلى الوساطة والصلات ، فالمنتدبين إلى هذه الوظائف لهم بدلات خاصة تضاعف مرتباتهم عدة مرات عن زملائهم من موظفى الحكومة.

– هل يُقيم أحد فى القصر الآن ؟

– الحقيقة إن وضع القصر ومكانه مثل مشكلة منذ البداية ، كان هناك صعوبة فى تحويله إلى مدرسة مثلاً أو حتى متحف أو استغلاله فى أى غرض آخر ، بسبب موقعه البعيد عن المدينة والتجمعات السكانية عموماً ووجوده المنعزل تماماً وسط الزراعات ..

توقف المهندس كمال للحظات ، ثم أكمل كلامه بنبرة أكثر خفوتاً.

– لكنهم ظلوا لسنوات يستعملونه .. كمنفى ؟!

– منفى !

صاح الدكتور ممدوح مأخوذاً وهو يلتفت إلى كمال.

– منفى .. كيف هذا ؟!

– كان هذا يحدث فى العهود الماضية ، منذ سنوات بعيدة ، بعض الشخصيات المهمة قضت فى هذا المكان فترات زمنية مختلفة بعضها طال لسنوات ، وبعضها الأخر لم يستغرق سوى شهور.

– أعتقد أن الإنسان سيسعد بالنفى فى مكان كهذا.

قال الدكتور ضاحكاً.

– السجن سجن يا دكتور حتى لو كان فى قصر ، كما أنهم كانوا يقطعون الكهرباء والمياه  تماماً عن مبنى القصر وكذلك التليفون …

– آه .. بهذا الشكل .. معك حق.

أدرك الدكتور أنه لن يحصل على إجابة ، فلم يعاود السؤال ومضى يمشى بجانب كمال صامتاً وهو يتأمل الحديقة ، بعد خروجهم من منطقة حمام السباحة ، وقد ضايقه هذا الامتعاض الذى ظهر على وجه كمال ، وطريقته فى الكلام وهو يجز على أسنانه كأنه لا يرحب بوجودهم !!

***

 وهم يقتربون من منتصف الحديقة ، ملأت الجو فجأة الرائحة النفاذة المميزة لاصطبلات الخيل ، تلك الرائحة التى يجدها عشاق الخيل وهواة تربيتها منعشة محببة إلى نفوسهم وتملأوها تفاؤلاً وسروراً ، فمجرد وجودهم بالقرب من أحصنتهم وأفراسهم يسعدهم ويجعلهم يشعرون بالانطلاق والتحرر من معظم قيود الحياة ، قوة الخيل ورشاقتها وجمال منظرها ووفاؤها لأصحابها ، وسرعتها فى الجرى عندما تسابق بهم الريح وهم على ظهورها فى الأماكن المفتوحة ، تصل بالإنسان إلى حالة من النشوة والفرح بالطبيعة قل أن تعادلها متعة أخرى.

تأفف أعضاء اللجنة بشكل واضح من الرائحة قبل أن يجدوا أنفسهم على مقربة من اصطبل للخيل ، كان هناك حصانان يطلان برأسيهما من أعلى الباب النصفى لحظيرتهما ، رأسان صغيرا الحجم لهما الشكل الهرمى عريض الجبهة والصغير الفم المميز للخيول العربية الأصيلة ، بعيون واسعة كحيلة وأذان دقيقة منتصبة وفتحات أنف كبيرة ، صهل أحدهما وهو يرفع رأسه كأنما يرحب بالضيوف الذين ظهروا فجأة أمام ناظريه ، أو ليعلن ضيقه بهم وتوجسه منهم ، هؤلاء الغرباء المقتحمون ؟!

أمام الإصطبل ساحة واسعة من الرمل محاطة بسور من العروق الخشبية المدهونة بالأبيض والأزرق ، يبدو أنها مخصصة للتريض.

على جانب الساحة وفوق مربع من الأرض مبلط ببلاطات خراسانية كبيرة ، على أحد جوانبه حوض مياه كبير ، كان أحد السياس يقف وفى يده خرطوم تندفع منه المياه ، وهو يعمل بهمة فى غسل فرس شابة بنية اللون رشيقة الجسم والقوائم لها عينان واسعتان كحيلتان ، تبدو  بديعة التكوين كأنها تحفة حية ، تضرب الأرض بحوافرها المصقولة ولا تكاد تستقر عليها وهى تتراقص بخفة رافعة رأسها وهى تنفض الماء عن رقبتها وكفلها فتتناثر قطراته حولها متطايرة فى الهواء عاكسة لألوان أشعة الشمس القزحية ، فيتموج شعر معرفتها الأسود الطويل ويرجع لينسدل على رقبتها العريضة ، كأنها أشد ما تكون استمتاعاً بحمامها الصباحى ، والسائس يكلمها ويلاطفها ويربت عليها ، ولم يلبث أن وضع الخرطوم على الأرض تحت قوائمها وتناول فرشاة مبللة بالصابون من جردل بجانب الحوض وأخذ يدعك جلدها.

– خيل أيضاً .. هل مازلتم تحتفظون بالخيل هنا.

علق الدكتور مندهشاً وهو يتأمل الفرس الجميلة.

– هم .. وليس نحن ؟! وهى بضعة خيول .. أربعة أو خمسة ، لا أكثر.

– لكنها خيل أصيلة.

ثم أضاف ضاحكاً وقد أنعشه ثراء المكان وطبيعته الخلابة.

– وهل تدخل ضمن ملكية الوزارة ؟ أم أنها …

رد كمال بجدية وهو يبتسم ابتسامة خفيفة.

– على كل حال هى ملك للدولة ، لكنها لا تتبع وزارتنا.

خيل كمان يا ولاد الكلب ، قال الشاب الثلاثينى فى سره وهو ينظر متفحصاً صف الإصطبلات ويرى السياس وهم يعملون والفرس مبهرة الرشاقة ، ويسمع وقع حوافرها المُنغم على أرضية حمامها الأسمنتية.

بالطبع هذا الإصطبل الصغير لا علاقة له باصطبل الأميرة ، الذى كان يسع عشرات الخيول ويشغل مساحة كبيرة من العزبة ، أضاف كمال موضحاً.

قال الدكتور ممدوح مخاطباً زميليه ، وهو يشير إلى ثراء المكان وأناقته.

– كان يجب أن يحضر معنا الدكتور عادل أبو خطوة هذه المأمورية.

– نعم .. من المؤكد أنه كان سيعجب بالمكان هنا ، فهو يحب الأناقة والمناظر الجميلة التى تذكره بأمريكا وأوروبا ، وكذلك الأماكن الأثرية كهذا القصر.

 بعد أن تجاوزوا منطقة الإصطبل وساروا لعدة دقائق فى الحديقة المفتوحة ، مروا على مجموعة من الأبنية ذات طابقين تشبه المبانى الإدارية ، أبنية قديمة الطراز ربما تعود لزمن بناء القصر ، يبدو أنها كانت من ملحقات القصر العديدة المستخدمة فى أغراض شتى ، لكن من الواضح أن هذه المبانى بطلائها الحديث تلقى كل العناية والصيانة اللازمة ، أمام المبنى تقف عدة عربات جيب عسكرية ، وعدد من العساكر يقفون حول ضابط شاب ، بدا أنه يلقى عليهم بتعليمات أو أوامر ، رفع المهندس كمال يده محيياً الضابط ، فسلم الضابط عليه باحترام.

– أهلاً يا كمال بيه .. تفضلوا.

– شكراً.

بعد سير عدة دقائق أخرى وصلوا إلى نهاية الحديقة ، سار بهم كمال بمحاذاة السور لمسافة قصيرة حتى بلغوا بوابة تفضى إلى الحقول.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات