غربة النفس والوطن في عناق ببروكلين

11:12 صباحًا الجمعة 30 مايو 2014
رضوى أشرف

رضوى أشرف

كاتبة ومترجمة من مصر، مدير تحرير (آسيا إن) العربية.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

“ساعتها أدرك أن الفردوس أو الجحيم إنما يكونان في الرحلة نفسها وليس في المنتهى”، جملة من قصيدة إنجليزية في بيت أحد شخصيات الرواية، وأراها قد تلخص هذه الرواية بصدق. فالمتعة تكمن في رحلة قراءتك للتفاصيل المختلفة لهذه الرواية، وليس في نهاياتها التي تُركت مفتوحة للقارئ.

“عناق عند جسر بروكلين” هي الرواية الخامسة لـ د. عز الدين شكري فشير والتي صدرت عام 2011. للوهلة الأولى يظن القارئ أنه بصدد قراءة رواية رومانسية تدور أحداثها في بروكلين، ولكن الرواية أبعد ما تكون عن الرومانسية، عدا أحد فصولها “ماريك” الذي إستوحى منه هذا العنوان، ربما لأنه أكثر فصول الرواية حميمية.

 هذه رواية تتحدث عن الإغتراب، وبالأخص إغتراب المصريين في الولايات المتحدة الأمريكية، بمختلف ثقافاتهم وتوجهاتهم. تبدأ مع الجد درويش في الفصل الأول “كتاب درويش” حيث يتم تقديمنا إلى الشخصية الأساسية وهو الأستاذ الجامعي الكاره لبلده مصر درويش والذي وجد الحياة التي يبغاها في أمريكا. نتعرف على عائلته، أولاده يوسف وليلى، حفيدته سلمى، والنساء المهمات في حياته والكتاب الذي يجمعهن. الكتاب المقصود هنا هو كتاب حوراني عن تاريخ العرب وكيف تحكم ذلك الكتاب بعلاقاته جميعها، مع جين البريطانية، ريما اللبنانية، وأخيراً زوجته زينب المصرية. كيف حكم بجهلهن من خلال هذا الكتاب، وكيف قام بنفي كل ما أحبه فيهن، لمجرد عدم معرفتهن بتاريخ العرب أو فهمهن لكتاب بسيط كهذا.

يقيم الجد درويش عشاءً بمنزله، لمناسبتين هامتين، أولاهما الإحتفال بعيد ميلاد حفيدته سلمى، القادمة من مصر. وثانيتهما، رؤية كل هؤلاء الذين يعرفهم قبل أن يهجرهم بعد علمه بمرضه.

ننتقل في الفصل الثاني “اللجوء إلى مارك” لشخصية مصرية أخرى و هو رامي، ولكنه على النقيض من درويش، فهو يحب بلده مصر ويشعر بالغربة خاصة وسط عائلته، عند حديثه مع زوجته الكوبية وابنتيه، ساشا ومارتا. فهو على حد تعبيره يشعر كما لو أنه يعمل كمترجم في الصباح وكمترجم في منزله كذلك. يستعيد تفاصيل حياته في طريقه إلى العشاء الذي دعاه له الأستاذ درويش بإعتباره أحد تلاميذه القدامى.

في الفصل الثالث نستمع لوجهة نظر ابن درويش، يوسف، في فصل “فرسان الدمار” حيث يروي يوسف الواقع الذي عاناه وعاشه أثناء تلك الفترة من عمله في الأمم المتحدة ورحلاته إلى السودان. تتضح بعض التعقيدات في شخصيته وسببها، تعقيدات لم يفهمها درويش وربما لم يحاول كفاية أن يفهمها. وفي الفصل الرابع “عين جالوت” نستمع إلى قصة شخصية مختلفة تماماً، وهو الشيخ داوود، الشخصية المتشددة دينياً، والذي يبدو من حديثه أنه العقل المدبر وراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية وتفجير البرجين. يزور أحد المتاحف المُقامة لإحياء ذكرى الحدث، ليتشفى في موتهم. نكتشف أنه يمت بصلة للجد درويش، فزوجته أميرة، هي أخت طليقة درويش المتوفاة.

وفي الفصل الخامس “ماريك”، أطول فصول الرواية وأكثرها تدفقاً بالمشاعر، نعرف قصة لقمان، طليق ليلى ووالد سلمى، مع ماريك، حبيبته المختلفة عنه، وحبهم المستحيل. لقمان الناقم على التدين يتعجب من تدين ماريك، تلك المرأة المتفتحة. ولكننا لا نعرف بالضبط قصته مع ليلى، ولكن تتضح معالم علاقته بابنته سلمى المشوشة قليلاً. وفي الفصل التالي “مدرسة كوينسي آدامز الإبتدائية” نلتقي بعدنان، وهو شخصية سلبية بعض الشئ يتخلى عن حقوقه بسهولة، ويمت بصلة قرابة لدرويش، يسترجع عدنان حياته في واشنطن وعلاقته المتوترة بوالده، الإضطهاد الذي تعرض له كطفل عربي، وحبه لليلى الذي لم يعترف به يوماً.

وفي الفصل السابع نلتقي بشخصية تختلف عنه تماماً وهي “رباب العمري” وهي امرأة تدافع عن أبسط حقوقها أياً كانت، ربما يرجع ذلك لعملها كمحامية ومدافعة عن حقوق الأقليات العرب في أمريكا. هي إحدى تلميذات درويش وصديقة ليلى المقربة منذ فترة دراستهم بالجامعة معاً في نيويورك. نراها تسترجع حياتها الوحيدة في رحلتها لنيويورك لتلبية دعوة درويش. لتظهر في الفصل الثامن والأخير “منتصف الليل في مجطة بن” بطلة الرواية والمُحركة لأحداثها، سلمى. وهي سبب تجمع كل هؤلاء الأشخاص ولكنها لا تصل في الوقت المناسب، لتنتهي الرواية بنهاية مفاجئة.

عز الدين شكري فشير

عز الدين شكري فشير

أسلوب عز الدين شكري مميز للغاية، فالشخصيات رغم تباعدها وإختلافها إلا أنها مرتبطة، وليس عيد ميلاد سلمى أو معرفتهم بدرويش هي ما يجمعهم، بل هو الإغتراب ووجهات نظرهم المختلفة تجاهه. هناك من يستمتع بتلك الغربة ويرى الحياة في أمريكا هي ما كان يحلم بهو هناك من يراها العكس.

جزء من المتعة في هذه الرواية يكمن في التفاصيل الصغيرة التي يتم ذكرها في قصة أحدهم، لتكتشف بعد ذلك المغزى منها ومعناها في قصة شخصية أخرى. القصص تبدو وكأنها مبتورة ولكن هذا يحقق عنصر جذب الإنتباه فيجعلك راغباً في قراءة المزيد. رغبت برؤية المزيد من درويش ولكن من الواضح أن قصة ماريك ولقمان تم إختيارها لتصبح محور الرواية أو أهم أجزائها، خاصة بعد إقتباس عنوان الرواية من لقائهم. كما أنني رغبت بمعرفة المزيد عن ليلى، تلك المرأة الغامضة التي لم يعرفها أحد حقاً.

قد لا يكون العنوان مناسباً بعض الشئ للتحدث عن رواية ثيمتها الأساسية الإغتراب، وخاصة ذلك الإغتراب النفسي. الإغتراب النفسي يستطيع البعض التكيف معه والبعض الأخر لا. بالطبع يتم التعرض في الرواية لمشاكل أخرى تواجهها الأقليات عامة هناك، والمصريين والعرب خاصة، مثل الاضطهاد جراء اللون أو اللهجة أو الدين. وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتأثير ذلك، بطريقة غير مباشرة، على رؤية العرب لأنفسهم في ضوء تلك الظروف.

ينجح فشير في رسم شخصيات تصلح كل منها لأن تصبح شخصية محورية في رواية مستقلة بذاتها. كما أن النص ينفي الفكرة “الوردية تماماً” عن الغرب في بعض المواضع، فيظهر عيوبه بجانب مميزاته. ولكن رغم ذلك تميل الكفة إلى الغرب، فها هو على سبيل المثال داوود المتشدد يعترف بأهمية الاستفادة من الغرب رغم كرهه الشديد لهم، ودرويش يدرك أنه لا مفر من النجاح في الغرب، لأنك لن تجد التقدير أو النجاح الذي تطمح له في وطنك العربي، خاصة إذا كان مصر. يتضح كذلك فهم فشير الشديد لحياة المغتربين العرب وخاصة المصريين في أمريكا، فهناك من هو مرحب بتلك الغربة، من يراها شئ لا مفر منه، وهناك من يحاول الهروب منها بأي ثمن.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات