قصة “سيندروم” لـ محمد البرقي

12:20 صباحًا الجمعة 4 يوليو 2014
محمد البرقي

محمد البرقي

كاتب و مدون من مصر .. له العديد من الأعمال المنشورة و الإلكترونية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

“غريبة قوي الناس دي! ؟ خايفين…خايفين جدا..محتاجين يعرفوا إنهم مش لوحدهم, قدروا يقنعوا نفسهم إنهم لو إتجمعوا بكترتهم بنفس مخاوفهم ده هيغير من الحقيقة, لكن هم عارفين إنهم غلط..عارفين كمان إنهم ممكن يحمّلوا ذنب غلطتهم لبعض, عشان كده إخترعوا الديموقراطية..كده هيشيّلوا الذنب لبعض, و هيتوهموا إنهم مش خايفين من حقيقتهم اللي إترفضت”

كتب الدكتور شوية بيانات في ملف المريضة اللي شايله في إيده , و ضغط على طرفه عشان يدخل سنّه لجوة تاني قبل ما يحطّه جوّة جيبه اللي في القميص الأبيض المقلّم رصاصي خفيف تحت بالطو أبيض , و يلقي نظرة أخيرة على المريضة اللي قدامه قبل ما يعدل نظارته على منخيره و ينقل إستنتاجه كَخَبَر للدكتور اللي جنبه “الحالة مستقرة دلوقتي, الحقنة دي هتهديها و هتخليها تنام شوية , لو حصل جديد بلغني”.

“حاضر يا دكتور حسام”, كان رد الدكتور التاني قبل ما يدور دكتور (حسام) الناحية التانية و يتجه لباب الخروج من المستشفى, وهو بيحاول يتغلب على العرجة الخفيفة في رجلة الشمال من إصابة قريبة بسبب نفس المريضة.

***

– ألو ؟!
– أيوة يا حبيبي إنت فين؟
– أنا في السكة وراجع, جهّزي لي عشا حلو كده و برميل قهوة.
– هههههه إيه ده ؟ ليه ده كله؟
– هأحاول أفك شفرات الحالة إياها.
– مممم, إنت لسة مع البنت اللي مش عارفين عنها حاجة دي؟
– هي دي ، البنت دي حالة غريبة , طول الوقت سارحة و في ملكوت تانية, و فجأة تيجي لها حالة الكلام الغريب اللي بتقوله ده و بعدين هياج ما بيهداش غير بالحقنة.
– ممكن تكون إتعرضت لصدمة عصبية,ممكن حبيبها سابها مثلا أو جوزها!
– ممكن , رغم إني شايف إن لازم يكون في مبرر تاني للحالة دي , مش مقتنع بمجرد صدمة عصبية تسببها.
– طيب الولد صحي هأقفل أنا , خلّي بالك من السكة.
– حاضر, مع السلامة.

الشوارع فاضية, كانت فرصة إنه يزوّد سرعة العربية من غير ماحد ينتبه أو لجنة تمسكه, حتى أكثر البشر ميلا للإلتزام و الخير بيميلوا أحيانا للذة المحرمة للتصرفات الطايشة أو الشريرة خصوصا لو مش هتضر حد, أو لو للدقة مش فاكرين إنها هتضر حد.

فجأة بدون سابق إنذار ظهر ظل راجل قدام العربية اللي إضطرّه يدوس على دوّاسة الفرامل على آخر و العربية صرخت بعويل مرعب و إنحرفت شوية عن الطريق , و بعد ما وقفت خالص نِزِل بسرعة منها و بص ورا عشان يشوف اللي حصل, الظل لسة في مكانه, كإن كل الإزعاج و الهيصة اللي حصلت دي ماتخصهوش, كإنه من عالم تاني غير عالمها, كان ظل طويل نسبيا لشخص لابس طاقية …بسرعة إختفى الظل , و حاول حسام يجري وراه وهو بينادي “إستنى!” لكن الظل إختفى..خطوتين و وقف حسام, و نظره جه على الأرض كان في ورقة كإنه مقطوعة من كتاب, عليها كلمة واحدة بس, ما يعرفش إيه اللي خلّى فضوله يحكمه بالذات للورقة دي و يمسكها و يرفعها عند مستوى نظره عشان يعرف يقرأ الكلمة..
و الكلمة كانت “الحقيقة”….

***
عند مدخل العيادة هزّت ممرضة راسها بإبتسامة و سلّمِت على حسام “إزيّك يا دكتور” رد رد مش واضح عليها و كمّل طريقه للأوضة المعنية ,كانت المريضة المشوّقة مستنياه هناك ,كانت هادية و بتاكل غداها, و دي كانت فترة مناسبة يريح جسمه المرهق من قلة النوم إمبارح على كرسي المكتب بعيد عن أي مرضى أو مشغوليات.

فجأة الزعيق و هوجة الممرضين فوّقوه , كلهم متجهين ناحية الأوضة إياها, و حالة هياج المريضة كانت أكبر من اللي فاتت , 2 عُمّال بيحاولوا يكتّفوها و التالت بيحاول يديها حقنة مهدئة, و هنا قرر حسام يتدخل”إستنى عندك!” بص له الجميع بإستغراب و صمت كإنهم مستنيينه يكمل كلامه ماعدا المريضة اللي صوت حركتها كان مسموع ,و هنا بعد ما إتراجع سنتي لورا لا إراديا من نظرتهم المفاجأة كمّل كلامه فعلا “سيب الحقنة دي هنا, و عايزكم كلكم برة حالا!”, رد عليه واحد من العمّال “بس يا دكتور…” قاطعه حسام ” ماتقلقش هأعرف أتصرف لوحدي”..

إضّطر الجميع في الآخر يخرجوا من الأوضة فعلا و سابوا الدكتور و المريضة لوحدهم في العالم الصغير بتاعهم.

– ماتخافيش أنا مش هأذيكي.

ده كان كلامه وهو بيقعد جنبها على الأرض و بيسند ظهره للحيطة , و بيحاول يشوف ملامحها من تحت شعرها المنكوش حوالين وِشها و إحمرار عينيها و جفونها, كان في بعض خربشات في جبهتها و دراعها بتوضح شكل المقاومة ,عينيها بتزيغ أحيانا , و نفسها عالي و سريع شوية كإنها كانت بتجري .

بص لها بعين متساءلة , و حاول يوصل لأي حاجة جوّة عينيها و هو بيقول “إنتي مين ؟ جيتي هنا إزاي و ليه؟ حكايتك إيه بالضبط؟” فجأة صوت تنفسها هدي و قالت بهدوء و ثقة غريبة إتفاجئ لها حسام “لو بتسأل عن وجودي ذاته ماحدش يعرف يجاوبك, مافيش غاية ليك أو ليّا أو للقطة اللي ربيتها و إنت صغير, وجودنا جريمة مش عارفين الجاني فيها لحد دلوقتي، إحنا الذنب اللي أُجبرنا نتعايش معاه من غير ما نعرف الطريقة الصح , إحنا خطية من غير خلاص, حيطة سد لطريق مالهوش بداية و مش عارفين إذا كانت نهايتنا صح أو خير ولا لأ, فاكر إنك بتعالجني بس إنت مش بتعالج غير نفسك…إنت المرض الحقيقي, و أنا علاج..”

كانت كإنها هتكمل كلامها لكن فجأة برّقت في السقف و بدأت رغوة تتكون عند جنب شفايفها , و وقع جسمها على الأرض و بدأت ترتعش في عنف , لكن حسام كان في حالة صدمة من ساعة ما بدأت الكلام خلته يقف بعيد عنها بمتر و يبص لها بثبات من غير ما يتصرف لمدة ثواني قبل ما ينده على واحد من العمال “يا سيّد …يا سيّد تعالى هنا بسرعة”, و في ثانية كان عامل بجسم ضخم داخل من الباب و بص للي حصل في ذهول ثانية و مد إيده بسرعة يمسك المريضة, و كان حسام ساعتها رجع للحقنة و جهزها و حطها في دراعها و بدأ يضغط..و بدأت حركتها ترتخي و تنام..

– ماكانش لازم نسيب يا دكتور, الحمد لله ربنا ستر.

– معلش كان لازم أجرب علاج تاني معاها.

و إنسحب بصمت كامل من الأوضة و رجع لمكتبه و قفل الباب وراه,لكن رغم إن الباب إتقفل لكنه , كان بتفكيره و بكيانه في الدقايق اللي عدت في أوضة المريضة..

في كلامها..

و في نبرة صوتها..

***

كان يوم أجازة..

لكن صوت ناس كتير كانت في الشارع,بيرددوا جملة موحدة بس مش باينة, الظاهر إنهم جايين من بعيد, قام من السرير و لبس الروب و طلع ناحية الشباك, شاف أخيرا المظاهرة اللي كانت مصدر الصوت, كان طول عمره و دراسته بيسمع عن المظاهرات و يقرأ عنها لكنه عمره ماشاف واحدة قريبة منه كده و قدام عينيه, مش على شاشة تلفزيون أو فيديو من الإنترنت..

الناس كانت بتعدي تحت بيته..

و الهتاف كان واضح جدا , و اللوح كانت مكتوب عليها كلام كتير..

“الشعب يريد إسقاط النظام”

***
– مابتحبيش تتكلمي؟

– …..

– طب أنا مضايقك؟

– …….

– تحبي نروح مكتبي؟

بصّت له, و كإنها أوّل مرة تنتبه لوجوده في الأوضة معاها و قامت من على الأرض من ركن الأوضة و إتحركت ناحية الباب,فهم حسام من حركتها إنه عندها رغبة في زيارة مكتبه, و إن كان مش متأكد إنه هيكمل المحادثة دي هناك, المهم فتح باب أوضة الحجز المعزولة و راح لمكتبه و قفل الباب وراهم كويّس ,نظرة سريعة منها ناحية الباب المقفول و شك لوش حسام .

قعّدها على الكرسي اللي قدام المكتب و قعد هو وراه و مسك قلم و شد كشكول كان قدّامه و بص لها و سألها “هاه بقى يا ستي مش ناوية تتكلمي؟” و رغم إنه كان متوقع صمتها كالعادة فاجئته بصوتها الهادي الواثق “مش عايزة أتكلم,هتتكلم عشان مين؟ كنت لوحدي و هأفضل لوحدي, كلامي مش هيحبب حد في وحدتي, ولا هيخليه يفوق ” , قاطعها حسام “عشاني,..إتكلمي عشاني”, بصت في عينيه و كمّلت بنفس هدوءها :”إنت نفسك رغم إن الفضول هيقتلك تعرف اللي جوّايا لكنك بتعمل كده عشان خايف, خايف على كل حاجة كانت مريحاك و إتعودت عليها, خايف لتكتشف إن 1+1=3 و تحس إنك مخدوع,في غلطات مش عارفة إنها غلطات, و في غلطات بتخاف تتصلح لأحسن تحس إنها مالهاش معنى…مالهاش…..”

فجأة وقعت على الأرض و بدأت في التشنج, و خبطت دماغها جامد في مكتب حسام و وقعت على الارض و بدأ دمها يسيل على الأرض في دايرة حوالين راسها ..

“سيّد!!…سيّد!!” , و هو بيمسكها على الأرض بيحاول يفوقها أو يشيلها لحد ما دمها غرّق إيده, و إفتكر إنه إتخصص في مجاله ده عشان يبعد عن مناظر الدم اللي كان بيكرهها من أيام الكليّة,بعد هرج و مرج وصل الإسعاف و نقلوا المريضة للمستشفى..

و حاول حسام يروح معاها لكن زمايله نصحوه بإنه يروح البيت و هيبلغوه بكل جديد..

***

وصل حسام بدري عن معاده تاني يوم,و دخل المكتب يشرب سيجارته الصباحية المعتادة, عشان يهدي من توتّره ,و خرج قبل ما يكمّلها و راح على أوضة المريضة, آخر مرة إتطمن عليها قبل ما ينام إمبارح الساعة 12 من التعب , و في إيده سمّاعة التليفون.

دخل أوضة المريضة لكنه لقى دكتور تاني زميله مع مريض مختلف, إستغرب حسام جدا و وقف لحظات مش فاهم, سأله الدكتور التاني لما لقاه واقف مش بيتكلم على الباب :”دكتور حسام , أقدر أساعدك في حاجة؟”, لكن حسام من غير مايرد خرج من الباب بسرعة يفتش في كل الأوض و يفتح بيبانها فجأة , الأمر اللي أجى لتضايق بعد زملاؤه , وهو بيردد :”هي فين؟” لحد ما خبط في ممرضة من غير ما يقصد, إتخطاها بسرعة و كمّل طريقه, لكنها جريت وراه,”دكتور حسام, إسمعني بس” , في الأول ما سمعهاش, أو يمكن سمعها و ما إهتمش باللي عندها عشان تقوله , كان كل همه يلاقي الحالة حالا و اللي زاد إهتمامه و فضوله بيها الأيام الأخيره, كإنه حس إنه بيتعلم أو إنه ماشافش كل حاجة في الدنيا.

– دكتور حسام,الحالة إتوفت إمبارح.

وقف حسام في مكانه لحظة و دار بوشه ناحيتها و رجع لها و سألها كإنه بيحاول يتأكد من اللي سمعه.

– نعم؟.

– الحالة يافندم, الحالة بتاعة حضرتك إتوفت إمبارح.

– ما ..ماتـ.., إزاي..أنا كنت لسة متطمن عليها إمبارح بالليل.

– ماتت على الفجر يا دكتور,البقية في حياتك.

– ماينفعش!, أنا متأكد إن في حاجة غلط!.

– الأعمار بيد الله يا دكتور,حالتها بقت وحشة قوي على الفجر و ربنا إفتكرها.

و سابته في حيرته و ذهوله و مشيت.

حسام مش مصدق, إن حالة عشوائية حركت فضول و عدم فهم جوّاه في أيام قليلة بقت هي جثة ما بتتحركش, الشخص اللي وهبه شيء بيحرك الحياة , فقد الحياة, بقى في أبعد مكان يمكن يهتم بالحياة فيه.

رحلت من غير إسم, ولا لقب..رحلت من غير ماتسيب في الدنيا متاع, ولا ورث, غير الحيرة و الإنشغال في حسام, و شوية صور و ذكريات هتتنسي في المستشفى.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات