حكايات شهرزاد كوريا: مدينة اسمها سيول

05:38 مساءً الجمعة 30 نوفمبر 2012
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

حي كانجنام في سيول

كوريا المرسومة في الخرائط القديمة على شكل نمر…عصفت بها ريح عاتية فقسمتها إلى قسمين وحولتها إلى تنين برأسين…جوهرتها وسيدة مُدنها: سيول..المندفعة، السريعة، المتلألئة، المبتلة بالأمطارالآسيوية الثقيلة والمفاجئة…

سيول المزدحمة، النافرة بسرعة غزالة تسابق الريح نحو قمم جبال عالية…سيدة الأمطار والمظاهرات اليومية والشموع والعشاق الصغار والقبلات المسروقة خلسة من نظرات الكبار والتنانير القصيرة المحلقة مع الهواء الآسيوي الحارالمضمخ بالمطر…وفي سيول يضيء ياقوت النسيان العتمة الخفيفة للتساؤل…من غربة لغربة تتكون مناعة من كلمات وضوء وتيه في الشوارع المتداخلة للمدينة الجديدة…حروف اللغة الكورية، تُثقل العين بالحيرة  لتصبح  أليفة  مع الوقت…لكنها  تظل مجهولة المعاني…مدينة لا تهدأ فيها “ماكينة” العمل ولا ترتقب أحدا، مكللة بالسرعة وبكل مفاتيح النجاح  التي تقدمها التكنولوجيا…إن لم تركض في سيول فستسحق…وإن لم تمتلك روح التنافس الكافية للنجاح فستظل في الظل ..

سيول تنهض من نومها كل يوم باكرا…

وسيداتها العجوزات يمضين في طرقاتها عاملات بأظهر محنية ووجوه غطتها تجاعيد السنين والتعب، ينظفن الشوارع منحنيات بسرعة وخفة، أحاول من شباك السيارة المسرعة التقاط صورة لسيدة عجوز، يا الله ستينية وربما قاربت السبعين، كانت تعبر الطريق جارة عربة يدوية مثقلة بأشياء حديدية…كان هذا صادما…مرافقتنا الكورية “شين يونغ” أجابت ببساطة على تعليقاتنا المصدومة والمتسائلة بأن هذا هو عملها إن لم تقم به فلن تجد شيئا لتعيش منه.

سيدات خمسينيات وأخريات على أبواب الستين، بهمة يلتقطن الجرائد في عربات “الميترو”.يكدسنها و يحملنها ” للرسكلة” (لإعادة تصنيعها)…بألبستهن الموحدة وقفازاتهن التي تغطي أيديهن الصغيرة، بخطواتهن القصيرة والسريعة بنشاط لا يخفت، يلتقطن الجرائد التي يتركها الركاب من الصباح إلى المساء…

وفي الخامسة من صباح آخر سيدة خمسينية، تنظف الشارع مع زميلاتها من القوارير الفارغة التي راكمها صخب الليلة الماضية ….

و” سيول…روح آسيا” …( جملة تتكرر على اللافتات السياحية في كل مكان)…

وأعمال تجارية صغيرة منتشرة في كل مكان: عربات بيع أطعمة شعبية سريعة  تُأكل على الواقف قبل أن تبرد…. لحم مشوي يغمس في مرق حاد -الذي سيغمس فيه عشرات الزبائن غيرك- شرائح لحم خنزير على الأغلب …

و في مايو حين وصلنا، كانت بائعات  سلال الورد هن المجتاحات للشوارع …منتشرات جنبا لجنب بنداءاتهن وورودهن والعشاق من مختلف الأعمار يتوقفون ليختاروا ورود محبتهم…وكثيرا ما  تباغت المطر الجميع، فتجمع البائعات سلال ورودهن على عجل ويركض العشاق  للاحتماء تحت الأبنية القريبة…

سيول مدينة المطر والورود والناس المستعجلون دائما باتجاه ميترو الأنفاق الذي يأتي كل ثلاثة دقائق…مدينة الخطى المستعجلة…أغلبها خطى أنثوية…بأحذية كعب عالية جدا ومهرجان من الألوان…

سيول مدينة المرأة: محلات العناية بالبشرة منتشرة في كل مكان ومحلات خاصة فقط بالعناية بالأظافر في كل مكان…والصبيات الجميلات والفاتنات بتنوراتهن القصيرة جدا وبسيقانهن الطويلة …و”أندريس” و”نوررحمات” (المشارك الأندونيسي) يتنهدان كل ما مرت فاتنة كورية فنضحك…

وسيول مدينة لا تنام كثيرا…

بضعة ساعات…بمعدل أربعة أو خمس ساعات نوم…ثم ترى في الصبح الباكر نفس الذين كانوا ساهرين، مسرعين باتجاه أعمالهم…لا وقت لاضاعته…

وفي المساء، بعد الساعة السادسة – ساعة الذروة- بعد الانتهاء من العمل والخروج من المعاهد ترتدي سيول ثوبها الليلي الموشى بالتماعات الأضواء وبصخب وحميمية المطاعم…”أوبا” انتظرني (أوبا هي كلمة لمخاطبة الأخ الأكبر لكنها تستعمل أكثر لمخاطبة الحبيب) والجلوس أرضا للطاولات المنخفضة في المطاعم التقليدية  …والحركة سريعة متواترة، كل يركض باتجاه بيته وحيدا أومجموعة من الصبايا تسبقهن ضحكاتهن وأسرارهن الصغيرة وألوان ثيابهن المرحة يلوحن لبعض وأظافرهن المرتبة بعناية وبألوان مشعة وغريبة….يعبرن من عربة إلى أخرى بأحذيتهن ذات الكعب العالي وألوانها الغريبة وأشكالها المختلفة…تشكيلة لا تنتهي من أحذية خضراء وصفراء وحمراء …عرض لا يتوقف صباحا أو مساءا…كم من مرة ستستعمل الميترو في سيول؟ الوسيلة الأسرع والأرخص للتنقل (مقابل التاكسي الغالية) ستراهن جميلات وأنيقات متحفظات إن كنا فوق سن الثلاثين وصاخبات الألوان والأصوات إن كنا في العشرينات أو أقل…

والعائدون من العمل مساءا بوجوه صامتة ومتعبة …هم نفسهم الذين ستراهم في الصباح التالي وكل صباح من الساعة الخامسة صباحا يتجهون نحو محطات الميترو…المسافات بعيدة وسيول كبيرة..و الوجوه متعبة …والجرائد اليومية المحلية مشرعة منذ الصباح والطلبة النشطون يقرؤون من كتبهم الدراسية…مع سماعات الـmp3   التي تكاد تكون في أذني كل شاب وشابة…mp3  أو ipod لمشاهدة حلقة من حلقات الدراما التي تكون قد فاتتهم مشاهدتها ليلا وفي حمى أيام الألعاب الأولمبية في “بيكين”، انغمس أغلبية ركاب الميترو في مشاهدتها مباشرة على هواتفهم المحمولة، وظلت سيول تغلي بشاشات العرض الكبيرة وبالأفيشاث الكبيرة  المفتخرة بالفائزين …

والأولاد الصغار والمراهقون يلعبون بـ”البلاي ستايشن” والمتسولون يعبرون عربات الميترو بنفس آلة التسجيل التي تبث نفس الموسيقى الحزينة التي لا أفهم كلماتها…وباعة يعرضون أشياء صغيرة باستماتة يكررون هم أيضا نفس الكلمات ومن النادر أن يلتفت إليهم أحد…ومبشرون يعبرون العربة، أو يرتقبون بمطبوعاتهم الوردية الورق، داخل المحطة…وأحدهم، خمسيني، دخل ذات ظهيرة نفس العربة التي كنت فيها وظل يتحدث كثيرا (ماذا كان يقول؟ الله وحده يعلم!) في ظل الوجوه الباردة و اللامبالية …ظل يتخبط في طقم ثيابه الأزرق…أخرج منديلا من جيبه مسح العرق من جبينه ثم نزل بعد محطتين من نقطة صعوده…

شوارع سيول جميلة أكثر في المساء …في الازدحام البشري الذي يشعرني بالتماهي …بالتلاشي…بأنني مجرد انسان ينتمي إلى هؤلاء العابرين…يجعلني أرتقب حبيبا بسلة  ورود ربيعية…قد نتجه إلى مطعم كوري شعبي أو إلى المطعم الياباني الذي أدمنت فيه على أكل “السمك-الأفعى” …أو إن كان يحب “النوديلز” أكثر فنستطيع الذهاب إلى مطعم صيني…وسننتظر أن يجهزوا لنا الأكل متأملين الناس من حولنا…وربما سنتسلى بمقارنات طفولية كـ: ما الفرق بين العيون الكورية و الصينية؟ أو الكورية واليابانية ؟ أو ما الفرق في الملامح ؟ أو من الأطول الكوريات أم اليابانيات؟ ثم سنضحك ونقول “اوه لماذا نتحدث كعنصريين ؟”…

شوارع سيول جميلة بأضواءها وبمبانيها العالية المتلألأة كأنها مرايا تنعكس عليها صورة نهر الهان العابر للمدينة بهدوء لا متناه…شوارعها جميلة بضحكات أول المساء….بالثملين في آخره …كل يمضي في عالمه الخاص دون أي اثارة متاعب.

وفي سيول لم يكن احساسي بالأمان فرديا أو وهميا فهي مدينة آمنة جدا حتى أنه يقال لو نسيت غرضا في مكان وعدت في اليوم التالي ستجده في نفس المكان .ولم أر يوما شجارا بين اثنين في الشارع، لذلك سخرت من أخي حين هاتفني ذات ليلة من باريس، ضاربا عرض الحائط بفرق الساعات السبع، ليسألني دون مقدمات: أين أنت الآن؟ لا تخرجي في الليل أبدا هناك مافيا وعصابات في كوريا…

هذه النصيحة التي سخرت منها ستكررها “شين يونغ” حين سألتها وأجابتني: بالطبع هناك عصابات في كوريا وهم عنيفون متواجدون أكثر في المناطق الخلفية من المدينة….

وفي سيول لا تهدأ الشوارع أبدا…إن لم يكن بسبب تظاهرة طلابية أو ترويجية تقام في أحد الشوارع فبسبب الموسيقى العالية التي تنساب من محلاتها…ومن مقاهيها الأمريكية…(لأن القهوة شراب وافد على كوريا فالشراب الأول والوطني للبلاد هو الشاي)…

شوارع سيول صاخبة الألوان والاعلانات، ألوان اللافتات فيها زرقاء وحمراء وصفراء…والكلمات بأحرفها الكبيرة والملونة تظل مجهولة بالنسبة لنا …حتى حين بدأنا في تهجئتها لم نميز إلا “نوري بانغ” أو “بي سي بانغ” ( كلمة بانغ تعني غرفة) وأضواء “النييُون” تلتمع بأسماء المحلات وكنيسة قريبة من سكننا، عليها صليب ضوئي بمصابيح صغيرة حمراء…يلتمع في الليل ويلف حول نفسه…

والمباني في سيول لها نظام واحد حيث توجد المحلات التجارية في الطابق الأرضي وفي الطابق التحت- أرضي توجد “النوري بانغ”  (قاعات الكاراوكي) وفي الطوابق العليا الحانات والمطاعم …

ونفس الألوان التي تغطي حيطان شوارع سيول بنفس الاعلانات ونفس المحلات نجدها في بقية المدن …لكن شوارعها تختلف سيول مختلفة عنها فهي أوسع أكثر وحركة الناس والسيارات فيها أقل…

وسيول كبيرة جدا ومعرفة الأماكن فيها سهلة إن كنت ستستعمل الميترو وإن كان شخص بانتظارك وصعبة في نفس الوقت إن كنت ذاهبا بالتاكسي ولمكان غير واضح أو غير مجاور لمبنى معروف ويصعبها أكثر جهل السائق بالانكليزية وجهلك بالكورية …

لكنها سهلة إن كان هناك من بانتظارك في الوجهة النقطة المتفق عليها…عليكما فقط أن تحددا ساعة اللقاء و نقطة الالتقاء: المحطة ورقم بوابة الخروج…مرات كثيرة عدت فيها  لوحدي لأمكنة وتهت…أكون نسيت رقم البوابة التي يتوجب علي الخروج منها، فأجد نفسي في منطقة جديدة مظللة بالمباني الشاهقة والناس من حولي يمضون في خطواتهم السريعة…أعود إلى داخل المحطة، وأشتم غباءي معتقدة أنني الوحيدة التي تتوه…لكنني سأعرف في ما بعد أن أبناء سيول يضيعون أيضا في المحطات. أقف في مفترق البوابات وأحاول التذكر…أحيانا أحاول المشي أمام نفس المحلات التي مشيت أمامها لأتذكر البوابة الصحيحة…

والمحطات الداخلية التحتية عالم تجاري متكامل: محلات ثياب وبسطات أكسسوارات نسائية ومحلات عطورومواد تجميل… لا تمل العاملات فيها من النداء ولا من تقديم “أمثلة ” من منتجاتهم…محلات بيع أفلام وأقراص موسيقية، محلات أكلات سريعة وبسطات صغيرة لبيع أشياء مصنوعة في الصين وزهيدة الثمن وحقائب يد نسائية وجرابات وقمصان رجالية …

في مدينة كبيرة مثل سيول لا أستطيع الحديث عن “وسط البلد “، سيول التي تبدو أحياءها ومناطقها متشابكة بطريقة معقدة وغير واضحة…لكنني أحببت خطانا المتسللة ذات مساء، أنا و “يونغهوا” (كانت المنسقة التي وظفت لتكون الوسيط بيننا وبين المكتب المنظم قبل أن تحصل على وظيفة أخرى وتحل محلها “شين يونغ”) إلى أحد الشوراع الشعبية لمنطقة “دونغدامون”…وعلى إيقاع أمطار مايُو، أسرعنا باتجاه مطعم شعبي…بعد أن قلت لها أنني أبحث عن رؤية “الحياة الحقيقية للناس العاديين البسطاء بعيدا عن اللمسة الغربية للمقهى أو للمطعم”…

الزقاق الذي مشينا فيه  كان ضيقا وذكرني بأزقة “المْدينة العربي ” (أو المدينة القديمة) في تونس العاصمة…حين دخلنا للمطعم الشعبي الصغير لفحتنا موجة هواء حاروكأننا دخلنا لصَدفة دافئة…بخار الأطعمة يتصاعد من وسط كل طاولة ومطبخ المطعم نفسه قريب، ما من ستارة تفصلنا عنه… سلمتنا النادلة العجوز مئزرين من البلاستيك لنضعهما كي لا تتسخ ملابسنا ونحن نباشر طبخ الدجاج بأنفسنا…وزبائن المطعم الذين تتطلعوا إلينا بفضول سريع عند دخولنا، عادوا وغرقوا في صخب أحاديثهم و “يونغهوا ” تشرح لي بحماس تفاصيل الأكلة ثم تعود وتتذكر أن تحذرني من السير في “دونغدامون” لوحدي بعد العاشرة…وبفضول أسألها: لماذا؟ لأنني أجنبية أم لأنني فتاة؟ وتجيبني: للسببين في نفس الوقت فهذه المنطقة غير آمنة ليلا، تحدث فيها الكثير من السرقات…تضع النادلة صحن فلفل أحمرمعجون وفيه مذاق الثوم، لنضيفه للطبخة حسب رغبتنا…أستمتع بمذاقه الذي يذكرني بـ”الهريسة العربي”(مقبلات تونسية ) أخلط منه مع الأرز بدلا عن الحساء وفي الخارج تمطر بشدة…دفء المكان يجعلنا نتأخر قليلا…تسألني من جديد عن أسباب الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ومنه نعود للاستعمار الياباني ….ينتهي لقاءنا بأسئلة لا نمتلك أجوبة عليها لنفترق عند أقرب محطة ميترو كل واحدة في اتجاه ….

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات