البشروش / الجزء الثاني / الفرائس / الريس مصطفى

09:02 صباحًا الجمعة 18 يوليو 2014
السيد الخميسي

السيد الخميسي

شاعر وروائي ومسرحي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مساء الأحد 15 رمضان – 13 يوليو، وفي حديقة الخالدين بالسيدة زينب، القاهرة، أقامت الهيئة العامة لقصور الثقافة حفل توقيع لرواية الأديب السيد الخميسي … ” البشروش “. تهنئة من (آسيا إن) للكاتب المصري الكبير، تتواكب مع نشر هذا المقطع من الرواية الذي يحمل الرقم (28). الصورة أعلاه من حفل التوقيع، والغلاف في متن النص.

جلست بجانب الريس “مصطفى” على اللوح الخشبي العريض ، أمسكت بالمجداف ، الصمت يلف الجميع ، جلس “رجب” في مقدمة “الفلوكة” مستنداً إلى كومة الغزل وقد وضع كفه فوق جبينه ينظر في السماء ، يرقب الطائرات , و”العباسي” خلفنا يهتز في رتابة كمن يركب جملا .
ما إن اقتربنا من البر حتى قفز الريس “مصطفى” إلى الماء يدفع معنا المركب فوق الرمال البيضاء .
نفس الرمل .. نفس الماء ، لماذا أرتعد كلما لمست قدمي هذه الأرض ؟
– إيه يا رجل ، أنا أنادى عليك ، أترك الشعر الآن ، لا وقت لدينا ، انتبه جيدا ، قال “رجب” وهو يشد خطوته : سأذهب في هذا الاتجاه ومعي “العباسي” ، وأنت والريس “مصطفى” في هذا الاتجاه ، الأوامر أن نعود بسرعة
بدأوا يرصدون هذه الفلايك الصغيرة في طلعاتها المتكررة ، في البداية لم تكن الطائرات تلتفت إلينا ، بالأمس حومت فوقنا واحدة ، أخذت وضع الهجوم ثم أطلقت رصاصها ، سقطت دفعة “الفيكرز” جميعها في الماء .
قال الريس “مصطفى” : ربما أراد هذا الكلب أن يتسلى
قال الضابط : أو ربما بدأوا ينتبهون إليكم كونوا على حذر
– ابن من من الصيادين يا بنى ؟
– ابنك يا ريس “مصطفى”
– صحيح ابن من أنا لم أرك في البحر من قبل
– أبى حلواني يا ريس “مصطفى”
– سبحان الله ظننتك واحدا منا
– أنا منكم يا ريس “مصطفى” خالي له مركب كبيرة في البحيرة
كان الأحياء يدفنون الموتى ويجمعون سلاحهم ومتعلقاتهم , حتى لو بقي واحد فقط ، فإنه يقوم بالأمر .

غلاف الرواية

لا يتكلمون ، فقط يومئون برؤوسهم المشعثة ، وجوههم التي حرقتها الشمس جامدة متشابهة ، لم أر أبداً فرحة النجاة في أي وجه .. بعد أن يأكل ويشرب يجلس مطأطئ الرأس ينظر في قاع القارب ، ويظل صامتا حتى نصل .
مركز التجمع مدرسة “الفتح الابتدائية” فيها أخواتنا : “سعاد الخميسي” و”أحلام الألفي” واختها فاتن و “فاطمة” و”زينب” .. فتيات في عمر الزهور يقمن بتنظيفهم وتضميد جراحهم ، ويستبدلون ملابسهم .. بعد يومين أو ثلاثة تعود لهم وجوههم ، يسافرون إلى قراهم ومدنهم .
قالت أختي “سعاد” : صدقني يا آخي لا أتذكر أي وجه منهم ، أراكم فيهم أنت و”العباسي” و”رجب” و”عبد السلام الألفي” .. لو رأيت واحداً منهم في الطريق لن أعرفه .
قلت لها : لقد رأيت نفسي في كل شخص دفنته في سيناء .. إنني ميت يسير على قدمين ، ولن تهدأ روحي حتى أثأر لشهدائنا , أوأعود إلي قبرى , هناك في سيناء .
منكفئا على وجهه في الرمل ، دمه لا يزال طازجا
– قال رجب : أين سلاحه ؟
– ليس معه سلاح
– السلاح موجود ابحثوا في المنطقة .. لا توجد سوى آثار قدميه
نظرت إليه ، قبضته اليمنى منقبضة في تشنج ، قريبا من وجهه الذي اختفى نصفه الأيسر في الرمال ، يده اليسرى مختفية بكاملها تحت جسده الضخم ، عندما “عدلناه” وجدنا يسراه تحتضن السلاح في صدره ، في وقت واحد نظرنا إلى قبضته اليمنى .
– قلت : نأخذ السلاح وندفنه كما هو
– قال “العباسي” : نرى ما في قبضته أولا .. ربما نجد شيئا هاما
أخرجنا الصورة الصغيرة بحذر , من بين أصابعه المتشنجة .. فتاة ريفية شابة ، آخر شئ رآه قبل نومته الأخيرة ، لا أتذكر من بكى أولا ، انفجرنا مرة واحدة وفى وقت واحد ، ربما رأى كل واحد منا نفسه في هذا المسجى ، رأى حبيبته ، وطنه في هذه الورقة الصغيرة ، احتواها في قبضته الكبيرة ، يحميها من الموت ، من الأعداء ، رسالة واضحة ، وطنكم عرضكم ، خذوا بثأري ، لا تقعوا في هذه الورطة مرة أخرى .
ما إن استقرت المركب فوق سطح الماء , في الغاطس خلف الأمواج حتى صرخ “رجب” : هذه الطائرة ستطلق علينا
دارت الطائرة فوقنا دورة كاملة قبل أن تأخذ وضع الهجوم .. انفجر الدم الأحمر في وجهي مثل نافورة حمراء ، احتضن “العباسي” الريس “مصطفى” ، ربط ذراعه تحت الإبط بحبل قديم من حبال الصيد ، ارتعشت عندما لمست كفي الكف المبتورة ، التقطها من بين أقدامي ، خلع “رجب” قميصه لفها فيه واحتضنها و هو يرتجف كطائر فزع ، الوحيد الذي ظل مطمئنا وهادئا هوالريس “مصطفى” كان يطمئننا ويهدئ من روعنا و يشجعني وقد جلست بين المجدافين .
إنها النار التي أحرقتني عند شاطئ البحيرة الجنوبي تحرق الآن كل ذرة في بدني ، بدأت بذراعي ثم اشتملت جسدي كله ، اللحظة الحرجة التي عرفتها في الملاحات ، أين لسع النار ؟
.. توقف الإحساس بالألم إلا من تلك الرجفة عند ملامسة الكف الطرية المخضبة ..
كفاىّ .. مضغتان من اللحم والدم .. دمى ودم الريس مصطفى .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات