كان الصديق الكبير الراحل المؤرخ ” نقولا زيادة ” قد أهداني كتابه الهام : ” المسيحية و العرب ” وتزداد أهمية الكتاب في خضم الأحداث التي تعصف اليوم بالعالم , وفي إطار محاولة الإيحاء و التصريح بأن الحروب الأمريكية ضد الإرهاب القادم من العالم الإسلامي إنما هي حروب للدفاع عن الحضارة اليهودية – المسيحية المشتركة , كما صرح بذلك عدد من الزعماء ورجال الفكر الغربيين وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي .
والمؤرخ نقولا زيادة رجل أكاديمي من الطراز الرفيع , وباحث موضوعي , وهو قبل ذلك كله عربي صميم , ووطني غيور , وصاحب فكر مستنير .
يقع الكتاب في ستة فصول , ويبدأ الكاتب حديثه بتعريفنا بالإطار الجغرافي و التاريخي الذي يشكل الوعاء الزماني والمكاني لنشأة المسيحية .
فمن حيث الإطار التاريخي يتحدث الكاتب عن العمق الحضاري الممتد لآلاف السنين قبل المسيحية في هذه الرقعة الجغرافية التي تضم نشوء الحضارات البشرية في حوض النيل وفي حوض الرافدين , والشعوب التي ساهمت في إغناء تلك الحضارات وتطويرها وتقديمها للبشرية , وصولاً إلى المرحلة الإغريقية والسلوقية و الرومانية التي تم فيها الاحتكاك بين الشعوب الأصيلة في المنطقة , وبين الوافدين من أوربا سواء أكانوا من الإغريق أم من الرومان .
وفي القرن الرابع للميلاد , اعترف الإمبراطور الروماني قسطنطين بالمسيحية كدين في الإمبراطورية سنة 313 م ثم اعتبرها ذات مكانة خاصة عام 324 م , ومنذ عام 380 م تصبح المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية .
يؤكد المؤرخ نقولا زيادة على قضية فائقة الأهمية تتصل بالوعاء المكاني و الزماني لانتشار المسيحية , هذه القضية هي أن الرقعة الجغرافية الممتدة من الرافدين حتى النيل كان يغلب عليها العنصر المشرقي العربي منذ عدة قرون قبل الميلاد , ويأتي بأمثلة على ذلك منها :
– مملكة ” جندب ” العربية ومملكة ” الحضر ” العربية .
– الإمارة العربية في منطقة الرها في أعالي الفرات منذ القرن الثاني ق.م .
– الإمارة العربية في منطقة إنطاكية في الفترة نفسها وكان أميرها يسمى ” عزيز ”
– مملكة تدمر العربية
– مملكة الأنباط العربية
– الإمارات المتناثرة في حوض العاصي الأوسط والشمالي
– الأدوميون في فلسطين
– العرب في مصر في المنطقة بين البحر الأحمر و النيل , إلى درجة أن البطالمة أطلقوا على هذه المنطقة تسمية ” المنطقة العربية ” .
وهكذا كانت المنطقة مع شبه الجزيرة العربية يغلب عليها الوجود البشري العربي بثقافته وحضارته , إلى جانب الثقافة الهلنستية الرسمية , والآرامية التي بقيت عدة قرون لغة الحضارة والتجارة ثم تحولت إلى السريانية مع انتشار المسيحية .
ويتوقف الكاتب عند رجال مؤثرين مثل : آريوس , يوحنا الذهبي الفم , أفرام , مارون , سمعان , نسطوريوس , كيرللس , يعقوب البرادعي , ,, الخ .
ويلاحظ الكاتب أن الخلافات اللاهوتية كانت لها أرضية ثقافية تمثلت بالصراع بين الثقافة اليونانية من جهة والثقافة الآرامية من جهة أخرى , وحينما امتد النساطرة شرقاً نحو بلاد فارس لقوا تسامحاً وحرية عبادة منحهم إياها الفرس الساسانيون , أكثر مما كانوا يلقونه لدى الرومان .
هذه الأرضية الثقافية من التميز و الاختلاف , جعلت المسيحيين من سكان البلاد الأصليين في الشام و العراق ومصر يرحبون بالفتح العربي الإسلامي لأنهم اعتبروا هذا الفتح تحريراً لهم من النير البيزنطي القاسي مذهبياً ولغة وعنصراً كما حصل مع الغساسنة و الأقباط وبعض القبائل العربية مثل تغلب وتنوخ وسواها .
وبخاصة أن العهدة العمرية التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب لمدينة القدس ضربت مثلاً في التسامح والحرية و العدالة جعل السكان يرحبون بالفاتح العربي , فقد تحررت كنائسهم من التسلط البيزنطي , كما تحررت ثقافتهم من الهيمنة الهلنسية .
ويعرض نقولا زيادة بتفصيل و موضوعية إلى أوضاع المسيحيين في دولة الخلافة فيستعرض وضع الأقباط في مصر , ثم اليعاقبة , ثم النساطرة , ثم الموارنة , وهو يوضح كيف أن هذه الفئات تمتعت بحرية واسعة , وكان لها بطاركتها وكنائسها وأديرتها , ويتحدث عن الدور الكبير الذي قام به العلماء من أصول مسيحية في تطوير النهضة العلمية و الثقافية وبخاصة أيام بيت الحكمة في بغداد , ودور هؤلاء العلماء في النقل والترجمة والتأليف , مما يدعو إلى الفخر والإعجاب .
ثم يتحدث الكاتب عن الآثار المدمرة التي تركتها الحروب الصليبية في المشرق العربي , تلك الحروب التي تستند أساساً إلى موقف أوربي فيه الصلف و الغرور ورفض الآخر , موقف يعتبر الأوربيون فيه أنفسهم قيمين على تراث المسيح وأوصياء على مسيحيي العلم .
ثم يتحدث نقولا زيادة عن محاولات التبشير الأوربية في أوساط المسيحيين الشرقيين سواء أكانت حملات التبشير كاثوليكية أم بروتستانتية , وما أحدثه ذلك من آثار سلبية لدى المسيحيين العرب من نواح مختلفة , وذلك حتى العهد العثماني .
يختم نقولا زيادة كتابه بقوله : ” فأنا العربي المسيحي الأرثوذكسي , عربي في ثقافتي -البسيط منها والمعقد , الحديث منها والقديم – عربي في نظرتي إلى الأمور أي أنني أراها من منظار عربي أداته وآلته هي اللغة العربية و ومن هنا كنت أشعر ببعض الفرق بيني أنا المسيحي العربي و بين المسيحي الأوربي .. هذا النوع من الشعور كان واحداً من العوامل التي أثرت في السبل التي سلكتها في اكتشافي للمجتمع الجديد الذي وجدتني فيه عام 1935 وما تلا ذلك . والواقع أن هذا الفارق قوىّ شعوري الأصلي الذي كنت أول به دائماً , والذي ما فتئت أقول به منذ ذلك اليوم وبشكل أقوى : وهو أن المسيحية العربية , مسيحية العرب , بصرف النظر عن المذهب أو المكان أو الزمان هي مسيحية لها صورتها وطعمها ونكهتها ومقوماتها الخاصة , وهي بشكل عام تختلف عن المسيحية الغربية , ولو كان بعض جماعتها العرب من المذهب نفسه المنتشر في الغرب .” .
إن الدعوات المضللة باسم صراع الحضارات لن تستطيع فك اللحمة التاريخية و الثقافية بين أبناء العرب مسلمين كانوا أم مسيحيين . ولن تستطيع الهجمات الطائشة في فلسطين والعراق انتزاع السكان المسيحيين من أرضهم الأصيلة وتراثهم العظيم .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.