الدائرة الجهنمية / فصل من رواية آخر المحظيات

01:12 مساءً الأربعاء 12 نوفمبر 2014
سعاد سليمان

سعاد سليمان

كاتبة روائية، معدة بالتلفزيون المصري

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

غلاف الرواية

صرت أسيرة الدائرة الجهنمية التي أدخلتني فيها  يا رامي ، لا أستطيع الفكاك من سطوة رسائل هذه المرأة ، لم أكن أعرف أن الدخول إلي عالمك السري بهذه البساطة .

تطالبني زهرة  وتلح عليَ : ـ لابد من إغلاق هذه الغرفة والتخلص سريعا من محتوياتها ، وفرم كل ما يحتوي  اللاب توب ، وحرق كل ما يذكرك به .

 ، ولكني كلما قررت تطهير البيت منك ومن عشيقتك ، أبدأ حياة مختلفة بدونك ، تناديني رسائلها ، يحفزني صوتها .

:ـ  ماذا تريد مني هذه المرأة  ؟ ، العجيب أنها تلح في دفعي لقراءة أسرارها ـ أسرارك ، تكاد أن تدفعني دفعاً ، ولكنك تمنعني بكل قوة من مواصلة القراءة ، اشعر بك تقف أمام باب المكتب تسده بكامل جسمك وتفرد ذراعيك علي اتساعهما تحاول أن تحتجزني خارج حدود الغرفة التي صرت لا أغلقها أبدا ، أتصور أحيانا أنك ستخرج منها غاضباً ، توبخني علي جرأتي لاختراق حدود كهفك العتيق ، ولكنك لم تحكم غلقه جيداً ، فما كان أسهل من الوصول إلي تفاصيل بريدك الالكتروني وكل ما يلزم لفتح صفحتك علي ” الفيس بوك ” ، لم أبحث طويلا ، فقد كانا مدونان في ذاكرة هاتفك ، هل كنت تريد إخباري  ؟ ، هل تنتقم مني ؟ ماذا جنيت ؟ ماذا فعلت لك ؟

                                   من رسائلها

 في علبة مبطنة بالقطيفة الزرقاء أجمع من فراشي كل الشعيرات التي تسقط من جسدك ، ألملمها وكل أعقاب السجائر التي لامست شفتيك ، والمناديل الورقية التي جففت فيها ماءك الشهي ، واخلطهما معا ، اصنع منهما عطرا ، أتشمم فيه رائحتك وحدك .

   أكاد أفقد عقلي ، تعبت بحثاً عن هذه المرأة فتليفونها مغلق ، وحاولت مراسلتها علي بريدها الالكتروني ولم تصل الرسائل ، وصفحتها علي الفيس بوك غير متاحة ، كيف أعرفها ؟ كيف أصل إليها ؟ ماذا تعمل ؟ ما اسمها ؟ فلم تتوافر عنها أي معلومات علي الانترنت سوي اسم ” الهدية ” فماذا يعني ؟ بجنون أبحث في كل الأدراج والأوراق ، ربما وجدت صورة أو عنوانا أو شيئا ما يدلني عليها غير تلك الرسائل اللعينة .

علي حافة الجنون أقف ، إذا امتثلت لنواهي  ” زهرة ”   عن قراءة الرسائل يقتلني الفضول وتعبث بي الهواجس ، ما الذي تخبئه الرسائل ولم أعرفه بعد  ؟ ، وإذا استجبت لأهوائي وقرأتها يطير عقلي ، وتنهار أعصابي وينفلت لساني بشتائم لم أرددها من قبل ، ولا أعرف من أين أتيت بها ، وتنتابني حالة من الرغبة في تحطيم كل صورك بالبيت .

                                           من رسائلها

 الأمان قضيتي الأولي والأخيرة معك ، مع كل الدنيا ، خمسة حروف حولت حياتي لجحيم ، أخاف الرحيل ، وأنت لا تفهم معني الرحيل في حياتي ، طفت كل بلاد الدنيا بحثا عن الأمان ، وقتلاً لفراق الأحبة ، تفزعني كلمة ” لا أريدك ” قالها لي أبي ، قالتها لي أمي ، قالها لي زوجي السابق ، أما أنت فقد تفوقت في رجمي بها طوال خمسة عشر عاما .

  الأمان … عن أي أمان تتحدثين ! وأنتٍ من زلزلتِ حياتي ، ووضعتني علي فوهة بركان لا ينتهي ، أنتِ من أشعلتِ النيران في بيتي ، وأهدرتِ قيمتي  ، ودمرتِ ذكرياتي وأفسدتِ عمري الماضي والقادم ، تبحثين عن الأمان لك وحدك ، وماذا عن أماني أنا وأولادي الخمسة  ؟ ، ظالمة أنتِ أيتها المجهولة ، خمسة عشر عاما تعيش هذه المرأة بيني وبينك يا رامي ! ، هل قبل زواجنا أم بعده ، أم بالتوازي معه ؟  ربما عرفتها ليلة عرسنا ، وربما في حفلة زفافنا .

:ـ من تكون هذه المرأة ؟

أنهكت زهرة  بتساؤلاتي

: ـ  مَن مِن اللاتي حضرن حفل زفافي ينطبق عليها مواصفات المرأة المجهولة ، لها زوج سابق ، مطلقة أذن ، أنكرها أبوها وأمها ، تقص شعرها ، تجيد التلاعب بالكلمات ، جريئة إلي حد الوقاحة .

أعدت تشغيل فيديو حفل زفافي ، فحصت الحاضرات امرأة امرأة حتى الصغيرات منهن ، بحثت في قصة حياة كل واحدة منهن ، فلم يكن غريبات كلهن أقارب مشتركين ، والغرباء من أصدقاء رامي كانوا رجالا بدون أي سيدات .

  من رسائلها

 تغار فساتيني من ذلك الفستان الأسود ذو الخيوط الفضية فقط لأنك تعشقه ، ومنحته التميز بين أثوابي حينما راقصتني أول مرة  وأنا ارتديه ، وعندما خلعته ونهلت من شهدي ، وكان الفستان شاهدنا المتواطئ .

       وصل انهياري حدته ، لا لم يعد كافيا حرق هذه المرأة ولا رسائلها ولا اللاب توب بكل ما فيه ، لابد من نسفها كيف أجدها ؟ لن اكتفي بقتلها إلا خنقا بيدي هاتين .

: ـ أيتها الكاذبة العاهرة ، هذا الرجل الأبكم ، أبو الهول المتحجر لا يعرف كيف يرقص ، إما لخجله الشديد ، أما لجموده ووصفه الرقص بالخلاعة سواء للرجال أو النساء فكيف راقصك ؟

أين أهرب منها ؟ كيف أنجو ؟ وهل سأقضي ما بقي من عمري أتساءل من هي ؟

من بين دموعي وصراخي ، اسأل زهرة  التي فشلت في تهدئتي أو السيطرة علي دموع أولادي المفزوعين لرؤيتي وأنا ألطم خدودي وأصرخ ، وأجري في البيت فاقدة التوازن ، أفتش كل الإدراج والدواليب والكتب والأوراق ،

:ـ سأقلب العالم كله حتي أجد هذه المرأة الغامضة

: ـ تُري أين كان يخبؤها رجلي الحجري ؟ أين ؟

: ـ هل زارت يوما حجرة نومنا ؟

 مزقت ملاءات السرير وشققت الوسائد ، وبسكين حادة استخرجت أحشاء المراتب ، بعثرت قطنها ، اسأل ندف القطن ندفه ندفة

:ـ  هل لا مستِ يوما جسد المرأة العاشقة ، هل تشربتِ يوما عرقها ، أتشممها ، استنطقها ، أجيبي .

: ـ  هل منحتها مكاني يا رامي أثناء غيابي في الزيارات الطويلة عند أهلي والتي كنت تحثني عليها بدعوي صلة الرحم ولا يهمك طول الغياب ؟

: ـ  سأقلب العالم كله حتي أجدك ، من يلهمني الراحة ؟ ، من أستأجرك أيتها المرأة  لتفعلي بي ذلك ؟ من حرضك لدفعي إلي الجنون

 بين فوضي تمزيق كل شيء في غرفة نومنا اخترت مكاني ، ونمت وتمنيت ألا أصحوا أبدا .

 : ـ  هل مت فعلاً ؟ أشعر أني في منطقة ما بين السماء والأرض وأصوات هامسة تردد اسمي

 فتحت عيني وجدت الجميع حولي ، أخواتي وأولادي ، حتي أبي رغم مرضه وأمي كلهم يحيطون بي .

عرفت أني بالمستشفي ، طلبت من الطبيب أن أعود بسرعة لبيتي ، ولكن زهرة  اللئيمة ترفض  وتنصح الجميع ببقائي لحين إتمام شفائي ، أعلم تماما أنها تريد أن تنفرد بالرسائل لتتخلص منها ، أنهرها بشدة وأنفجر في نوبة بكاء حارة ، لم تجدي توسلاتي بالعودة لبيتي بعدما حقنني الطبيب بمهدئ نمت علي أثره لا أعرف كم من الوقت .

مابين غفوتي والإفاقة استجدي الجميع

: ـ أرجوكم اعيدوني لبيتي كي لا تنفرد المرأة العاشقة بالرقص فيه ، وربما شاركها رامي الرقصة

: ـ  أصرخ  أعيدوني أريد أن أفسد عليهم وحدتهم ، أن أتلف رقصتهم .

أري نظرات الشفقة في عيون الجميع و لكن لا أحد يسمعني ، لا أحد يصدقني .

 :ـ أعيدي خلفي ما أقول

:ـ هذه امرأة وهمية

أردد : ـ هذه امرأة وهمية

: ـ لم توجد امرأة في حياة زوجي أبداً !!

أردد : ـ لم توجد امرأة في حياة زوجي أبداً

قولي أيضا : ـ سأمتنع عن قراءة هذه الرسائل منذ الآن !!

رددت وراءه

قولي

: ـ سأتخلص من هذا الهاتف حالاً

لم استطع النطق ، تعلقت عيناي بالهاتف المحمول لرامي الذي يمسك به الطبيب النفساني الذي احضروه لي ليساعدني في التخلص من أثر هذه الرسائل التي أوصلتني إلي انهيار نفسي .

    فزع الطبيب من صراخي عندما وصفته بأنه كخيال المآته ، وضحك حينما شبهته بدكاترة المجانين في أفلام إسماعيل ياسين ، حاولت إخفاء لهفتي في الحصول علي الهاتف الذي راح يتفحصه بدقة ويقرأ محتوياته ، سألته : ـ  من أحضر هذا الهاتف هنا ؟

أجاب بأدب شديد : ـ السيدة أختك

: ـ ومن سمح لك بقراءة محتوياته ؟

: ـ السيدة أختك

: ـ وما رأيك في الرسائل التي قرأتها ؟

: ـ بذهول قال رائعة

وتدارك متراجعا

: ـ اقصد مفتعلة .

سألني : ـ كيف تتأكدين أن هذه الرسائل من امرأة ؟

استغربت سؤاله جداً وهمست لنفسي : ـ يبدو أن الطبيب مجنون .

ابتسم كمن قرأ أفكاري وقال : ـ لست مجنوناً يا سيدتي ، بل زوجك هو المجنون ، والدليل هذه الرسائل المغرقة في الغرام والعشق والرومانسية .

باستخفاف وعدم تصديق سألته : ـ كيف ؟

قال بثقة : ـ لا توجد امرأة تحمل مثل هذه المشاعر ، ولا تستطيع أن تمنح رجلاً كل هذا الحب .

سألني ؟ : ـ هل قرأتِ هذه الرسالة ؟

وقرب الهاتف لمجال رؤيتي ثم أبعده مفضلاً أن يقرأ هو لي .

تقول الرسالة

: ـ ” لا تفزع عندما تجد شفتاي مرسومتين فوق قدميك ، فقط تركت دليل امتناني علي ما منحتني من نشوة  دون أن أوقظك ” .

وبحماس أكمل : ـ أرايتي !! لا توجد امرأة في الكون تفعل ما تخبرنا به الرسالة هل صادفتِ يوماً امرأة قبلت قدم رجل ، حتى الملوك والأباطرة لم يحصلوا علي هذه المنحة ، وأنا لست من  كارهي  المرأة ، صحيح أني أتجنب التورط معهم ولا أطمئن إلي الوثوق بهن ، ولكن لم يذكر تاريخ البشرية بماضيه وحاضره وربما مستقبله هذا الحدث الهام .

وضع الهاتف جانباً وسألني بجدية : ـ هل كان زوجك وسيما ؟ فحلاً مثلاً ؟ ذو ثروة وسلطة وجاه ؟ ألم يكن رجلاً عادياً مثلنا  ؟ .

حاولت كتمان ضحكة انطلقت رغماًً عني

: ـ نعم يا دكتور ، كان رجلاً عادياً مثلكم  ، ولكن كيف تفسر وجود هذه الرسائل ؟

بنبرة الخبير قال : ـ ببساطة هو الذي يكتبها لنفسه ، كان رجلاً مريضاً ، يبحث عن المغامرة ولا يستطيع ممارستها ، تبهره الإثارة ولا يملك القدرة علي الاقتراب منها ، أراد أن يكون معشوقاً ليمنح نفسه تحققاً لم يستطعه علي أرض الواقع ، وقد تأكدتِ بنفسك بأن المرأة الراسلة لا ترد علي التليفونات ، ولا الرسائل والايميلات حسبما أخبرتني السيدة أختك إن لم أكن مخطئا .

ظللت أحملق إلي الطبيب غير مصدقة لما يقول رغم أن كلامه منطقي ومريح ، وأكثر ما أجبرني علي قبول تفسيره اشتياقي لبيتي وأولادي الذين أهملتهم ، ولا أعلم عنهم شيئا ، وأنا لم اعتد أبداً الابتعاد عنهم تحت أي ظرف.

صرت أتسلي برسائل رامي دون أن آخذها علي محمل الجد ، أسخر منها أحياناً ، أتعاطف معها أحياناً أخري ، وأمنع نفسي من الخوض في أسئلة لن تورثني غير الجنون والحسرة .

                                         من رسائلها 

أنت الوحيد الذي يصمني بالغباء ، تضعني في مواجهته تماما ، كلما قررت الهروب ، بدون أسباب محددة  ،  لم تشفع لي دموعي ولا جروحي ، وهذا التفاني في حبك أن ترحمني ، أن تواجهني ، أن تجلس أمامي وتعلنها صريحة واضحة ، أنك راحل بغير رجعة .

ولكنك تعود ، أعلم أنك ستعود ، تقول صديقتي أنك قدري ، وتلومني لماذا أهرب منك ؟ فأنت قدري بقسوته وجلافته ، بسخائه حين يعطي ، وضرباته الموجعة حين يأخذ .

أدعو عليك بحق أوجاعي ، وامتهان روحي ، بحق سحق أنوثتي ، أدعو عليك بكل جبال الحقد والغضب التي راكمتها بداخلي سنوات عمري .

ما أسهل أن أفجر غضبي واصرخ أني أكرهك ، قد أكون غبية ولكني لست بمخادعة فأنا أحبك .

           من أين أتي بالحياد الذي ينصحني به دكتور ” الغبرة ” وأنا أقرأ هذه الرسائل ، حاولت إقناع نفسي بأنها رسائل كتبها زوجي لنفسه ، مستحيل ، نعم لست عالمة في الطب النفسي ولا أحمل إلا مؤهل متوسط ” دبلوم تجارة ” ولكن في هذا الزمن لم يعد العلم قاصراً علي الكتب ، فأبسط قواعد العقل والمنطق أن رجلاً مهما بلغ من القدرة  علي انتحال مشاعر الأنثى أن يكتب مثل هذه الرسائل بهذا العمق والصدق والتفاصيل الأنثوية التي لا يعرفها سوي النساء .

ربما كان هذا الطبيب يخدعني اعتماداً علي أن الأصعب قد واجهته ، وأن ما تبقي من الرسائل لن يضيف جديداً ، ولكنه مخطئ ، فلابد من خيط يوصلني إلي تفاصيل حكاية غرام زوجي .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات