صرت أسيرة الدائرة الجهنمية التي أدخلتني فيها يا رامي ، لا أستطيع الفكاك من سطوة رسائل هذه المرأة ، لم أكن أعرف أن الدخول إلي عالمك السري بهذه البساطة .
تطالبني زهرة وتلح عليَ : ـ لابد من إغلاق هذه الغرفة والتخلص سريعا من محتوياتها ، وفرم كل ما يحتوي اللاب توب ، وحرق كل ما يذكرك به .
، ولكني كلما قررت تطهير البيت منك ومن عشيقتك ، أبدأ حياة مختلفة بدونك ، تناديني رسائلها ، يحفزني صوتها .
:ـ ماذا تريد مني هذه المرأة ؟ ، العجيب أنها تلح في دفعي لقراءة أسرارها ـ أسرارك ، تكاد أن تدفعني دفعاً ، ولكنك تمنعني بكل قوة من مواصلة القراءة ، اشعر بك تقف أمام باب المكتب تسده بكامل جسمك وتفرد ذراعيك علي اتساعهما تحاول أن تحتجزني خارج حدود الغرفة التي صرت لا أغلقها أبدا ، أتصور أحيانا أنك ستخرج منها غاضباً ، توبخني علي جرأتي لاختراق حدود كهفك العتيق ، ولكنك لم تحكم غلقه جيداً ، فما كان أسهل من الوصول إلي تفاصيل بريدك الالكتروني وكل ما يلزم لفتح صفحتك علي ” الفيس بوك ” ، لم أبحث طويلا ، فقد كانا مدونان في ذاكرة هاتفك ، هل كنت تريد إخباري ؟ ، هل تنتقم مني ؟ ماذا جنيت ؟ ماذا فعلت لك ؟
من رسائلها
في علبة مبطنة بالقطيفة الزرقاء أجمع من فراشي كل الشعيرات التي تسقط من جسدك ، ألملمها وكل أعقاب السجائر التي لامست شفتيك ، والمناديل الورقية التي جففت فيها ماءك الشهي ، واخلطهما معا ، اصنع منهما عطرا ، أتشمم فيه رائحتك وحدك .
أكاد أفقد عقلي ، تعبت بحثاً عن هذه المرأة فتليفونها مغلق ، وحاولت مراسلتها علي بريدها الالكتروني ولم تصل الرسائل ، وصفحتها علي الفيس بوك غير متاحة ، كيف أعرفها ؟ كيف أصل إليها ؟ ماذا تعمل ؟ ما اسمها ؟ فلم تتوافر عنها أي معلومات علي الانترنت سوي اسم ” الهدية ” فماذا يعني ؟ بجنون أبحث في كل الأدراج والأوراق ، ربما وجدت صورة أو عنوانا أو شيئا ما يدلني عليها غير تلك الرسائل اللعينة .
علي حافة الجنون أقف ، إذا امتثلت لنواهي ” زهرة ” عن قراءة الرسائل يقتلني الفضول وتعبث بي الهواجس ، ما الذي تخبئه الرسائل ولم أعرفه بعد ؟ ، وإذا استجبت لأهوائي وقرأتها يطير عقلي ، وتنهار أعصابي وينفلت لساني بشتائم لم أرددها من قبل ، ولا أعرف من أين أتيت بها ، وتنتابني حالة من الرغبة في تحطيم كل صورك بالبيت .
من رسائلها
الأمان قضيتي الأولي والأخيرة معك ، مع كل الدنيا ، خمسة حروف حولت حياتي لجحيم ، أخاف الرحيل ، وأنت لا تفهم معني الرحيل في حياتي ، طفت كل بلاد الدنيا بحثا عن الأمان ، وقتلاً لفراق الأحبة ، تفزعني كلمة ” لا أريدك ” قالها لي أبي ، قالتها لي أمي ، قالها لي زوجي السابق ، أما أنت فقد تفوقت في رجمي بها طوال خمسة عشر عاما .
الأمان … عن أي أمان تتحدثين ! وأنتٍ من زلزلتِ حياتي ، ووضعتني علي فوهة بركان لا ينتهي ، أنتِ من أشعلتِ النيران في بيتي ، وأهدرتِ قيمتي ، ودمرتِ ذكرياتي وأفسدتِ عمري الماضي والقادم ، تبحثين عن الأمان لك وحدك ، وماذا عن أماني أنا وأولادي الخمسة ؟ ، ظالمة أنتِ أيتها المجهولة ، خمسة عشر عاما تعيش هذه المرأة بيني وبينك يا رامي ! ، هل قبل زواجنا أم بعده ، أم بالتوازي معه ؟ ربما عرفتها ليلة عرسنا ، وربما في حفلة زفافنا .
:ـ من تكون هذه المرأة ؟
أنهكت زهرة بتساؤلاتي
: ـ مَن مِن اللاتي حضرن حفل زفافي ينطبق عليها مواصفات المرأة المجهولة ، لها زوج سابق ، مطلقة أذن ، أنكرها أبوها وأمها ، تقص شعرها ، تجيد التلاعب بالكلمات ، جريئة إلي حد الوقاحة .
أعدت تشغيل فيديو حفل زفافي ، فحصت الحاضرات امرأة امرأة حتى الصغيرات منهن ، بحثت في قصة حياة كل واحدة منهن ، فلم يكن غريبات كلهن أقارب مشتركين ، والغرباء من أصدقاء رامي كانوا رجالا بدون أي سيدات .
من رسائلها
تغار فساتيني من ذلك الفستان الأسود ذو الخيوط الفضية فقط لأنك تعشقه ، ومنحته التميز بين أثوابي حينما راقصتني أول مرة وأنا ارتديه ، وعندما خلعته ونهلت من شهدي ، وكان الفستان شاهدنا المتواطئ .
وصل انهياري حدته ، لا لم يعد كافيا حرق هذه المرأة ولا رسائلها ولا اللاب توب بكل ما فيه ، لابد من نسفها كيف أجدها ؟ لن اكتفي بقتلها إلا خنقا بيدي هاتين .
: ـ أيتها الكاذبة العاهرة ، هذا الرجل الأبكم ، أبو الهول المتحجر لا يعرف كيف يرقص ، إما لخجله الشديد ، أما لجموده ووصفه الرقص بالخلاعة سواء للرجال أو النساء فكيف راقصك ؟
أين أهرب منها ؟ كيف أنجو ؟ وهل سأقضي ما بقي من عمري أتساءل من هي ؟
من بين دموعي وصراخي ، اسأل زهرة التي فشلت في تهدئتي أو السيطرة علي دموع أولادي المفزوعين لرؤيتي وأنا ألطم خدودي وأصرخ ، وأجري في البيت فاقدة التوازن ، أفتش كل الإدراج والدواليب والكتب والأوراق ،
:ـ سأقلب العالم كله حتي أجد هذه المرأة الغامضة
: ـ تُري أين كان يخبؤها رجلي الحجري ؟ أين ؟
: ـ هل زارت يوما حجرة نومنا ؟
مزقت ملاءات السرير وشققت الوسائد ، وبسكين حادة استخرجت أحشاء المراتب ، بعثرت قطنها ، اسأل ندف القطن ندفه ندفة
:ـ هل لا مستِ يوما جسد المرأة العاشقة ، هل تشربتِ يوما عرقها ، أتشممها ، استنطقها ، أجيبي .
: ـ هل منحتها مكاني يا رامي أثناء غيابي في الزيارات الطويلة عند أهلي والتي كنت تحثني عليها بدعوي صلة الرحم ولا يهمك طول الغياب ؟
: ـ سأقلب العالم كله حتي أجدك ، من يلهمني الراحة ؟ ، من أستأجرك أيتها المرأة لتفعلي بي ذلك ؟ من حرضك لدفعي إلي الجنون
بين فوضي تمزيق كل شيء في غرفة نومنا اخترت مكاني ، ونمت وتمنيت ألا أصحوا أبدا .
: ـ هل مت فعلاً ؟ أشعر أني في منطقة ما بين السماء والأرض وأصوات هامسة تردد اسمي
فتحت عيني وجدت الجميع حولي ، أخواتي وأولادي ، حتي أبي رغم مرضه وأمي كلهم يحيطون بي .
عرفت أني بالمستشفي ، طلبت من الطبيب أن أعود بسرعة لبيتي ، ولكن زهرة اللئيمة ترفض وتنصح الجميع ببقائي لحين إتمام شفائي ، أعلم تماما أنها تريد أن تنفرد بالرسائل لتتخلص منها ، أنهرها بشدة وأنفجر في نوبة بكاء حارة ، لم تجدي توسلاتي بالعودة لبيتي بعدما حقنني الطبيب بمهدئ نمت علي أثره لا أعرف كم من الوقت .
مابين غفوتي والإفاقة استجدي الجميع
: ـ أرجوكم اعيدوني لبيتي كي لا تنفرد المرأة العاشقة بالرقص فيه ، وربما شاركها رامي الرقصة
: ـ أصرخ أعيدوني أريد أن أفسد عليهم وحدتهم ، أن أتلف رقصتهم .
أري نظرات الشفقة في عيون الجميع و لكن لا أحد يسمعني ، لا أحد يصدقني .
:ـ أعيدي خلفي ما أقول
:ـ هذه امرأة وهمية
أردد : ـ هذه امرأة وهمية
: ـ لم توجد امرأة في حياة زوجي أبداً !!
أردد : ـ لم توجد امرأة في حياة زوجي أبداً
قولي أيضا : ـ سأمتنع عن قراءة هذه الرسائل منذ الآن !!
رددت وراءه
قولي
: ـ سأتخلص من هذا الهاتف حالاً
لم استطع النطق ، تعلقت عيناي بالهاتف المحمول لرامي الذي يمسك به الطبيب النفساني الذي احضروه لي ليساعدني في التخلص من أثر هذه الرسائل التي أوصلتني إلي انهيار نفسي .
فزع الطبيب من صراخي عندما وصفته بأنه كخيال المآته ، وضحك حينما شبهته بدكاترة المجانين في أفلام إسماعيل ياسين ، حاولت إخفاء لهفتي في الحصول علي الهاتف الذي راح يتفحصه بدقة ويقرأ محتوياته ، سألته : ـ من أحضر هذا الهاتف هنا ؟
أجاب بأدب شديد : ـ السيدة أختك
: ـ ومن سمح لك بقراءة محتوياته ؟
: ـ السيدة أختك
: ـ وما رأيك في الرسائل التي قرأتها ؟
: ـ بذهول قال رائعة
وتدارك متراجعا
: ـ اقصد مفتعلة .
سألني : ـ كيف تتأكدين أن هذه الرسائل من امرأة ؟
استغربت سؤاله جداً وهمست لنفسي : ـ يبدو أن الطبيب مجنون .
ابتسم كمن قرأ أفكاري وقال : ـ لست مجنوناً يا سيدتي ، بل زوجك هو المجنون ، والدليل هذه الرسائل المغرقة في الغرام والعشق والرومانسية .
باستخفاف وعدم تصديق سألته : ـ كيف ؟
قال بثقة : ـ لا توجد امرأة تحمل مثل هذه المشاعر ، ولا تستطيع أن تمنح رجلاً كل هذا الحب .
سألني ؟ : ـ هل قرأتِ هذه الرسالة ؟
وقرب الهاتف لمجال رؤيتي ثم أبعده مفضلاً أن يقرأ هو لي .
تقول الرسالة
: ـ ” لا تفزع عندما تجد شفتاي مرسومتين فوق قدميك ، فقط تركت دليل امتناني علي ما منحتني من نشوة دون أن أوقظك ” .
وبحماس أكمل : ـ أرايتي !! لا توجد امرأة في الكون تفعل ما تخبرنا به الرسالة هل صادفتِ يوماً امرأة قبلت قدم رجل ، حتى الملوك والأباطرة لم يحصلوا علي هذه المنحة ، وأنا لست من كارهي المرأة ، صحيح أني أتجنب التورط معهم ولا أطمئن إلي الوثوق بهن ، ولكن لم يذكر تاريخ البشرية بماضيه وحاضره وربما مستقبله هذا الحدث الهام .
وضع الهاتف جانباً وسألني بجدية : ـ هل كان زوجك وسيما ؟ فحلاً مثلاً ؟ ذو ثروة وسلطة وجاه ؟ ألم يكن رجلاً عادياً مثلنا ؟ .
حاولت كتمان ضحكة انطلقت رغماًً عني
: ـ نعم يا دكتور ، كان رجلاً عادياً مثلكم ، ولكن كيف تفسر وجود هذه الرسائل ؟
بنبرة الخبير قال : ـ ببساطة هو الذي يكتبها لنفسه ، كان رجلاً مريضاً ، يبحث عن المغامرة ولا يستطيع ممارستها ، تبهره الإثارة ولا يملك القدرة علي الاقتراب منها ، أراد أن يكون معشوقاً ليمنح نفسه تحققاً لم يستطعه علي أرض الواقع ، وقد تأكدتِ بنفسك بأن المرأة الراسلة لا ترد علي التليفونات ، ولا الرسائل والايميلات حسبما أخبرتني السيدة أختك إن لم أكن مخطئا .
ظللت أحملق إلي الطبيب غير مصدقة لما يقول رغم أن كلامه منطقي ومريح ، وأكثر ما أجبرني علي قبول تفسيره اشتياقي لبيتي وأولادي الذين أهملتهم ، ولا أعلم عنهم شيئا ، وأنا لم اعتد أبداً الابتعاد عنهم تحت أي ظرف.
صرت أتسلي برسائل رامي دون أن آخذها علي محمل الجد ، أسخر منها أحياناً ، أتعاطف معها أحياناً أخري ، وأمنع نفسي من الخوض في أسئلة لن تورثني غير الجنون والحسرة .
من رسائلها
أنت الوحيد الذي يصمني بالغباء ، تضعني في مواجهته تماما ، كلما قررت الهروب ، بدون أسباب محددة ، لم تشفع لي دموعي ولا جروحي ، وهذا التفاني في حبك أن ترحمني ، أن تواجهني ، أن تجلس أمامي وتعلنها صريحة واضحة ، أنك راحل بغير رجعة .
ولكنك تعود ، أعلم أنك ستعود ، تقول صديقتي أنك قدري ، وتلومني لماذا أهرب منك ؟ فأنت قدري بقسوته وجلافته ، بسخائه حين يعطي ، وضرباته الموجعة حين يأخذ .
أدعو عليك بحق أوجاعي ، وامتهان روحي ، بحق سحق أنوثتي ، أدعو عليك بكل جبال الحقد والغضب التي راكمتها بداخلي سنوات عمري .
ما أسهل أن أفجر غضبي واصرخ أني أكرهك ، قد أكون غبية ولكني لست بمخادعة فأنا أحبك .
من أين أتي بالحياد الذي ينصحني به دكتور ” الغبرة ” وأنا أقرأ هذه الرسائل ، حاولت إقناع نفسي بأنها رسائل كتبها زوجي لنفسه ، مستحيل ، نعم لست عالمة في الطب النفسي ولا أحمل إلا مؤهل متوسط ” دبلوم تجارة ” ولكن في هذا الزمن لم يعد العلم قاصراً علي الكتب ، فأبسط قواعد العقل والمنطق أن رجلاً مهما بلغ من القدرة علي انتحال مشاعر الأنثى أن يكتب مثل هذه الرسائل بهذا العمق والصدق والتفاصيل الأنثوية التي لا يعرفها سوي النساء .
ربما كان هذا الطبيب يخدعني اعتماداً علي أن الأصعب قد واجهته ، وأن ما تبقي من الرسائل لن يضيف جديداً ، ولكنه مخطئ ، فلابد من خيط يوصلني إلي تفاصيل حكاية غرام زوجي .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.