الكلام الذي يُحْي ويُميت

08:26 مساءً الجمعة 2 يناير 2015
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أحْرِقْ كُلَّ أفعالِ الماضي

وثبِّتْ مكانها أفعالَ المُضارعِ المستمرِ ، ودعْكَ من سوف وتسويفاتها ، لأنَّها لن تُسعفكَ كثيرًا في مستقبلٍ لن تراه ، فالمضارع هو من سيحملُكَ إلى حيثُ تحلمُ ، وحيث ترى عيناك في الظلام النقطةَ الأبعدَ للنجمةِ الهاربةِ ، والتي إنْ راودتها – عن حقٍّ وعزيمةٍ – ستأتك بما حملتْ من فتنةٍ .

وإنْ كنتَ ستحزنُ كثيرًا على أفعالِ الماضي فاصنعْ منها آنيةً لتشربَ منها فتوحاتك وهزائمك السابقةَ .

لم أكتبْ لأحقِّقَ مالا ، أو أجدَ ما يُحققُ لي حياةً كريمةً عند التقاعدِ أو قبله ، أكتبُ فقط ، لأنَّني لا أعرفُ سوى أن أكتبَ ، وحيثُ لا مهنةَ لي غير الكتابةِ ، أما الآنَ وبعد الآن فيكتبُ المهندسون والأطباءُ والصيادلةُ ومرتادو المقاهي ولاعبو الكرة ، والعاطلون عن الحلمِ وعن العملِ وعن المواهب ، والسماسرة وربات البيوت و….

لكنَّ دائمًا هناك نُقصانًا في كتاباتهم لا يدركُهُ سوى الخُلصاء من أهلِ الكتابةِ ، إذْ ليس كلُّ كتابٍ ، هو بالضرورةِ كتابٌ حتَّى لونُشِرَ ونَشرتْ عنه الصحافةُ ، وتناوله النقادُ والعارفون بقصد التحية والمجاملة والتكريم وأداء الواجب.

الكتابةُ هي التي تُغيِّرُ ، وهي القادرةُ على إحداثِ ثُقبٍ غائرٍ فيمن يقرؤها ، بحيث يصيرُ إنسانًا آخرَ أثناء وعقبِ الانتهاءِ منَ القراءةِ .

فرغم مُرور سنواتٍ على الإمساكِ بالقلمِ ، ومُمارستي الكتابةَ طُوالَ العُمر ، ما زلتُ أخشى الورقَ والحبرَ ، وأهرُبُ من الكتابة ذاهبًا نحو القراءة ، إذ كلُّ كتابةٍ مسؤوليةٌ جسيمةٌ ، ومحفوفةٌ بخطرِ مُساءلة الذاتِ وتقويمِ الآخر .

الكتابةُ صعبةٌ ومرهقةٌ ، والله يُحبُّ من عباده من يقرؤن أكثر ممن يكتبونَ ، ولذا خاطبَ نبيه ب ” اقرأ ” ، ولم يقلْ له ” اكتبْ ” .

فرُبَّ كتاب واحد أهمُ من مئةٍ ، وكما أنَّ للذهب ميزانًا خاصًا ، فإنَّ للحرفِ ميزانًا أكثر حساسيةً ، لأنَّ الكلامَ يُحي ويُميتُ ، ولو أحصينا الذين ماتوا ب” سكتة الكلام ” سنجدهم الأكثرية ، وعلى رأسهم صلاح عبد الصبور ، إضافةً إلى البشرِ الذين لا نعرفُهم ، كما أنَّ الذين يحيونَ بالكلام نسبة من أهل الأرضِ لا يُستهانُ بها .

فنحن من يخلُقُ الأحلامَ ، ونشرِكُ قارئنا فيها ، وندعوه لأنْ يكونَ مكان الكاتبِ ويتوحدَ معه ، وهذا لا يتحققُ إلا في حال الصدقِ والحقيقةِ، وبدونهما يكُونُ فعلُ الكلام ناقصًا وغيرَ مُجْدٍ ، ولا يُعَوَّلُ عليه ، والحلم الذي يحلمُ المبدعُ به ، هو من كان حلما حيًّا ودائمًا ، حتى لو كان من المستحيلِ تحقيقه ، إذْ كلُّ أمرٍ نراه الآنَ ونُمارسُهُ كان قبل لمسِه خيالا شاطحًا ، ومن المستحيلات الأربعة كما هو شائع بين الناس .

والكتابةُ كالحُبِّ لا يمكنُ التخطيطُ لها مُسبقا ، لكن لابد لها من رُوحٍ ونفسٍ وقلبٍ ، تتسمُ جميعها بالشفافية والصحة من أمراضٍ كالغيرةِ والحسدِ والحقدِ والكآبةِ التي تصيبُ البشر من ناقصي العقول والنفوس ، لأنَّ نصفَ نفسٍ لا يمكنُ لها أن تنتج كتابةً سويَّةً .

فالفلاح في قريتنا عندما يدفنُ بذورَه تحتَ الأرض يعرفُ أنها ستنبتُ ، ولكن على أي شكلٍ؟ لايعرفُ ، لكنَّهُ يحدسُ ، ويُمَنِّي نفسه أنَّ الترابَ سيطرحُ له تبرا ، مثلما يُقال في كتبِ الأسبقين ، هو أكثرُ البشرتفاؤلا ، ولديه آمالٌ غالبا ما تتحققُ جميعها ، إذ يعرفُ أنه في نهاية الدورة الزراعية سيحصدُ محصُولا ، الكاتب – الشاعر أيضًا لن تطرحَ أرضُه إلا إذا حرثها بمحراثِ القراءة والفهم والوعي ومعرفة الذات أولا قبل معرفة الآخر .

الكاتبُ يلدُ ، ويُولدُ ، وإذا باضَ فلنْ تكونَ بيضتَهُ كبيضةَ الديكِ ، واحدةً منسيةً ، لا يذكرُها سواه .

وهناك من الكتَّاب من يكتبُ لسنواتٍ طويلةٍ دُونَ أن يكشفَ سرَّهُ ، ولذا ينبغي لنا ساعة الكتابة من النظرِ عميقًا إلى الداخل ، والتمهل ، والتأمل ، والتركيز .

فهناك من يتزوجُ لنصف قرنٍ من الزمان ولا يعرفُ ما الحبُّ وما المرأةُ وما أسرارُ جسدها ، هو فقط يفعلُ ما حكته له قبيلتُه في ليالي الصيف والشتاء ، حيث فضُّ الأسرار والثرثرةُ الفارغةُ عن الفحولةِ الجوفاء ، تمامًا كالكلام الذي لا يلدُ ولا يستطيعُ أن ينكِح العقولَ إذا ما استخدمتُ هنا تعبير الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي .

فمنْ لم يُنصت إلى قلبه المُتسارع أو الخفيض أو المضطرب ، كيف له أن يُشخِّصَ من هم مصابون بأمراض القلب .

واعلمْ أنَّ كلَّ الذين عاشوا من الكتَّاب قد نجحوا واستمروا في الضميرِ ، لأنهم كتبوا عما يعرفون فقط ، دُون ادعاءٍ أو مُعاظلةٍ ، أو القفزِ في فراغٍ لا يعرفونَ هاويتهُ أو هويتهُ .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات