هُم إلى الدعايةِ أقربُ من الدَّعوة

07:55 صباحًا الثلاثاء 6 يناير 2015
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في الحديثِ { مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } ،

و يفْقَهُ معناه أنه يفهم ويفطِنُ ويعِي ويدركُ ويعرفُ ويستوعبُ ، ويلُمُّ بالمُتون قبل أن يقفَ أمام الهوامش مغرُورًا مزهُوًا بنفسه .

وقد لخص المصريُّ بحكمته التي فُطِر عليها منذ قديم الزمانِ ، حيث اعتاد التلخيصَ والإيجازَ والتكثيفَ فقه الأولويات بأن قال ” اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع ” ، وهذا ليس فقط حكمةً أو قولا مأثُورًا صارَ  مثلًا سائرًا بين الناس ، لكنَّه فهمٌ عميقٌ للدين ، حيث منح المصريون الدينَ الإسلاميَّ واللغةَ العربيةَ ” باعتبارأن مصر من الدول المفتُوحة أو المغْزُوة من قبلِ العرب المسلمين ” سماتِ السماحةِ واليُسر والسُّهولة والوسطيَّة ، التي هي أساسًا من صميمِ الدين ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” ..

فلا تشدُّد ولا مُغالاة عند المصري الذي رُوحه من رُوحِ نهرِ نيلِه الذي ينسابُ على مقربةٍ منه ، لذا نجدُه مبسُوطًا وليس مُعقدًا ، وسطيًّا وليس مُتشدِّدًا ، مُعتدلا وليس مُغاليا .

فالمصري الذي هو ابنُ التوحيدِ منذ الأزلِ ، اعتنى بوضعِ الأمُور في نِصابها ، بمعنى أنَّ الشأنَ الصغيرَ لا يتقدَّمُ شأنًا يكبرُه ، كما أنَّ الفطرةَ علَّمته أنْ يضعَ كلَّ شيءٍ في مرتبتِه دُونَ زيادةٍ أو نقصانٍ ،  وهذا هو صميمُ الفقهِ الذي نعرفُهُ في الدين ،  فلا يُؤخِّرُ ما ينبغي تقديمُهُ  ، ولا يُقدِّمُ ما يسْتوجبُ التأخير .

فهو  يُوازنُ بين ما يُصْلِحُ وبين ما يُفسدُ ، كيْ يستقيمَ أمرُه  ، وتعتدلَ حياتُهُ ،  يهتمُ بالجوهريِّ وليس بالعارضِ والمنسيِّ ، لا يمنحُ الشكليات أكثر من طولِ إشارةِ إصبعِه  يؤمنُ بالقولِ الذي  لا ينساهُ كلُّ من لهُ عقلٌ يفقهُ به

” ليكُن درهمُكَ حلالاً وصَلّ في الصفِّ الأخير “. لأنه لا فرقَ بين من يُصلِّي في الصفِّ الأولِ وآخرُ يُصلِّي في الصفِّ الأخيرِ إلا بالتقوى والمُجاهدة  في الحبِّ  ، والسُّمو عمَّا يُدنِّسُ النفس ويُديسُ الرُّوحَ ، والعُلو عن الصغائر .

لا يقفُ المصريُّ أمام الجُزئيات ولا ينشغلُ بها  ، ويمنحُ وقتَه وذهنَه للكلياتِ والضَّرُورياتِ، فهو يَعرفُ جيدًا ما سُلَّم الأولويات لديه .

ولأنَّ فقهَ الأولويات يكادُ يغيبُ  أو هو قد غابَ بالفعل عن المصريِّ سواء أكان من العوام أو من المُشتغلينَ بالدين ، وهؤلاء عندي ليسوا من العلماء المتفقهين ، ولكن هم من المتاجرين به ، والمتكسبين المتربحين الذين يعيشُون في ترفٍ وعزٍّ وبحبوحةٍ من العيشِ الرغدِ ، وهم دعاةٌ جُددٌ ، أشبه بالنجومِ أكثرمنهم بالعلماءِ والفُقهاءِ من الأسلافِ لا يُولون القراءةَ والتفقُّه في العلم والمعرفة ما ينبغي لعارفٍ عالمٍ أن يكونَ في زمانه ، ولذا هم ينعمُون في كثيرٍ من الجهلِ والبُعدِ عن الأولوياتِ في الدينِ ، وهُم إلى الدعايةِ أقرب من الدَّعوة ، وإلى الترفِ أقرب من الشَّظفِ ، وإلى الفهلوةِ أقرب من الفقهِ ،  وإلى السرِّ أقرب من الجَهرِ ، يفعلون ما يُنافي قولهم ويُجافيه .

هل فات عليهم مثلا أنَّ النبيَّ محمد ” ص” كان همُّه الأول  أن يبني ويُعلِّم ويفقِّهُ المسلم الأول ، قبل أن يكسرَ صنمًا ، أو يقتلَ يهوديًّا ، أو يحاربَ جاهليًّا لم يدخل في الإسلام ، لقد ظل ثلاث عشرة سنة يُؤسِّسُ ، ويفتحُ صفحةً في كتابِ حضارةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ ، ومن يقرأ يعرفُ أنه صلَّى  والأصنام منصوبةٌ من حوله ، لأنه كان يبني دولةً ، ولم يلتفت إلى ماهو شكليٌّ ، ويمكنُ لهُ تجاوزه ، لأنه من كان له إلهٌ فليعبده ، ومن كان له صنمٌ فليسجد له .

الآن صرنا نرى النوافلَ تُقدَّمُ على الفُرُوض ، وفُرُوض العينِ تسبقُ فُرُوضَ الكفايةِ ، بل بات الدعاةُ من التجَّارِ وهم كُثرٌ في بلادي ويحشِرُون أنفسهم فيما يعرفُونَ وما لا يعرفُون مشغُولينَ بسفاسفِ الأمور ، حيث كثرُت الفتاوى دُونَ علمٍ ، ومن المعرُوف والمُسلَّم به في التاريخ الإسلاميِّ على مرِّ العصُور أنه في الفتراتِ التي يسُود فيها غياب فقه الأولوياتِ ، تنتشرُ الخُرافاتُ ، ويحلُ الجهلُ محلَّ العلمِ ، والظلامُ محل النُّورِ ، وتكثرُ الخزعبلاتُ ،  وتسقطُ الأممُ والممالكُ وتتحاربُ وتتعدَّدُ الطوائفُ وتتقاتلُ  ، وكم من عُرُوشٍ هوتْ ، وممالكُ زالتْ ، حيث كان الشكلُ هو المُسيطرُ عن المبنى والمعنى ، والكم غالب على الكيف .

وعليَّ أن أسوقَ مثالا لدواعش العصرِ من الخوارجِ الجُدد ، هو عندي يلخصُ كيف يفكِّرُ هؤلاء المُشوِّهون للدينِ ، والذين يُسدِّدون  طعناتٍ للدين الصحيحِ مع كلِّ طلعةِ شمسٍ بما يفعلونَهُ عن جهلٍ وبلادة حسٍّ ، فقد سُئلَ يومًا عطاء بن رباح مفتي مكة عن حكم قتل الذباب في الحرم ،  فأجاب : ممَّن القوم ؟ قالوا : من العراق ، فقال : الله الله يا أهل العراق ، قتلتم الحسن والحُسين ، وتأتون الآنَ ، لتسألوا عن حُكم قتل الذباب في الحرم ؟

فالدين يضرِبُهُ نفرٌ ممن يؤمنونَ به  ، ويشتغلونَ بالفقهِ والدعوةِ ،  ويدَّعُونَ أنَّهم أصحابهُ ومالكُوه ، وكم من العلماء  الذين أقروا أنَّ أكثرَ من يُسيءُ إلى الدين هم من يحملُونَ راية الدين شعارًا برَّاقًا لهم ، يمنحهم سلطةً ما ، وللأسف أنَّ هؤلاء لا يتبعون الأولوياتِ ، وتركوا أنفسهم  نهبًا للتفاسيرِ الشاذةِ والمهجُورةِ والمغلُوطة .

فالحسن البصري يقولُ لنا : العاملُ على غير علمٍ كالسَّالكِ على غير طريقٍ، ومن قبله قال عليُّ بن أبي طالب : حدِّثوا الناسَ بما يعرفُون ، و دعُوا ما يُنكرُون ، تريدون أن يكذب الله و رسوله .

ولا أحد ينسى القولَ الفصلَ والمُهم للراغب الأصفهاني (توفي 502 هجرية ) : من شغلهُ الفرضُ عن الفضْلِ (النفل) فهو معذُورٌ، ومن شغله النفلُ عن الفرضِ فهو مغرُورٌ .

ولأنَّ الخلافَ شرٌّ بين الناس ، واختلافُ الأئمة رحمةٌ بالعالمين ، علينا أن ننقذ الغريقَ من الغرقِ بدلا عن أن نذهبَ إلى الصلاة ، ونقفَ على الشاطىءِ نتجادلُ هل ننقذ الغريق أم نلحق بالصلاة  ، في حين يكون الغريقُ قد صار طعاما لأسماك البحر ؟.

الأولويةُ دومًا تكُونُ لإنقاذِ نفْسٍ من الموْتِ عمَّا دُونها من أولوياتٍ .

وتكُونُ لإنقاذِ وطنٍ هُو شغلُنا وشاغلُنا ، دُون أن تنازعنا فيه نفُوسنا الشَّرِهةُ التواقةُ للربحِ والاكتنازِ .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات