في الحديثِ { مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } ،
و يفْقَهُ معناه أنه يفهم ويفطِنُ ويعِي ويدركُ ويعرفُ ويستوعبُ ، ويلُمُّ بالمُتون قبل أن يقفَ أمام الهوامش مغرُورًا مزهُوًا بنفسه .
وقد لخص المصريُّ بحكمته التي فُطِر عليها منذ قديم الزمانِ ، حيث اعتاد التلخيصَ والإيجازَ والتكثيفَ فقه الأولويات بأن قال ” اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع ” ، وهذا ليس فقط حكمةً أو قولا مأثُورًا صارَ مثلًا سائرًا بين الناس ، لكنَّه فهمٌ عميقٌ للدين ، حيث منح المصريون الدينَ الإسلاميَّ واللغةَ العربيةَ ” باعتبارأن مصر من الدول المفتُوحة أو المغْزُوة من قبلِ العرب المسلمين ” سماتِ السماحةِ واليُسر والسُّهولة والوسطيَّة ، التي هي أساسًا من صميمِ الدين ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” ..
فلا تشدُّد ولا مُغالاة عند المصري الذي رُوحه من رُوحِ نهرِ نيلِه الذي ينسابُ على مقربةٍ منه ، لذا نجدُه مبسُوطًا وليس مُعقدًا ، وسطيًّا وليس مُتشدِّدًا ، مُعتدلا وليس مُغاليا .
فالمصري الذي هو ابنُ التوحيدِ منذ الأزلِ ، اعتنى بوضعِ الأمُور في نِصابها ، بمعنى أنَّ الشأنَ الصغيرَ لا يتقدَّمُ شأنًا يكبرُه ، كما أنَّ الفطرةَ علَّمته أنْ يضعَ كلَّ شيءٍ في مرتبتِه دُونَ زيادةٍ أو نقصانٍ ، وهذا هو صميمُ الفقهِ الذي نعرفُهُ في الدين ، فلا يُؤخِّرُ ما ينبغي تقديمُهُ ، ولا يُقدِّمُ ما يسْتوجبُ التأخير .
فهو يُوازنُ بين ما يُصْلِحُ وبين ما يُفسدُ ، كيْ يستقيمَ أمرُه ، وتعتدلَ حياتُهُ ، يهتمُ بالجوهريِّ وليس بالعارضِ والمنسيِّ ، لا يمنحُ الشكليات أكثر من طولِ إشارةِ إصبعِه يؤمنُ بالقولِ الذي لا ينساهُ كلُّ من لهُ عقلٌ يفقهُ به
” ليكُن درهمُكَ حلالاً وصَلّ في الصفِّ الأخير “. لأنه لا فرقَ بين من يُصلِّي في الصفِّ الأولِ وآخرُ يُصلِّي في الصفِّ الأخيرِ إلا بالتقوى والمُجاهدة في الحبِّ ، والسُّمو عمَّا يُدنِّسُ النفس ويُديسُ الرُّوحَ ، والعُلو عن الصغائر .
لا يقفُ المصريُّ أمام الجُزئيات ولا ينشغلُ بها ، ويمنحُ وقتَه وذهنَه للكلياتِ والضَّرُورياتِ، فهو يَعرفُ جيدًا ما سُلَّم الأولويات لديه .
ولأنَّ فقهَ الأولويات يكادُ يغيبُ أو هو قد غابَ بالفعل عن المصريِّ سواء أكان من العوام أو من المُشتغلينَ بالدين ، وهؤلاء عندي ليسوا من العلماء المتفقهين ، ولكن هم من المتاجرين به ، والمتكسبين المتربحين الذين يعيشُون في ترفٍ وعزٍّ وبحبوحةٍ من العيشِ الرغدِ ، وهم دعاةٌ جُددٌ ، أشبه بالنجومِ أكثرمنهم بالعلماءِ والفُقهاءِ من الأسلافِ لا يُولون القراءةَ والتفقُّه في العلم والمعرفة ما ينبغي لعارفٍ عالمٍ أن يكونَ في زمانه ، ولذا هم ينعمُون في كثيرٍ من الجهلِ والبُعدِ عن الأولوياتِ في الدينِ ، وهُم إلى الدعايةِ أقرب من الدَّعوة ، وإلى الترفِ أقرب من الشَّظفِ ، وإلى الفهلوةِ أقرب من الفقهِ ، وإلى السرِّ أقرب من الجَهرِ ، يفعلون ما يُنافي قولهم ويُجافيه .
هل فات عليهم مثلا أنَّ النبيَّ محمد ” ص” كان همُّه الأول أن يبني ويُعلِّم ويفقِّهُ المسلم الأول ، قبل أن يكسرَ صنمًا ، أو يقتلَ يهوديًّا ، أو يحاربَ جاهليًّا لم يدخل في الإسلام ، لقد ظل ثلاث عشرة سنة يُؤسِّسُ ، ويفتحُ صفحةً في كتابِ حضارةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ ، ومن يقرأ يعرفُ أنه صلَّى والأصنام منصوبةٌ من حوله ، لأنه كان يبني دولةً ، ولم يلتفت إلى ماهو شكليٌّ ، ويمكنُ لهُ تجاوزه ، لأنه من كان له إلهٌ فليعبده ، ومن كان له صنمٌ فليسجد له .
الآن صرنا نرى النوافلَ تُقدَّمُ على الفُرُوض ، وفُرُوض العينِ تسبقُ فُرُوضَ الكفايةِ ، بل بات الدعاةُ من التجَّارِ وهم كُثرٌ في بلادي ويحشِرُون أنفسهم فيما يعرفُونَ وما لا يعرفُون مشغُولينَ بسفاسفِ الأمور ، حيث كثرُت الفتاوى دُونَ علمٍ ، ومن المعرُوف والمُسلَّم به في التاريخ الإسلاميِّ على مرِّ العصُور أنه في الفتراتِ التي يسُود فيها غياب فقه الأولوياتِ ، تنتشرُ الخُرافاتُ ، ويحلُ الجهلُ محلَّ العلمِ ، والظلامُ محل النُّورِ ، وتكثرُ الخزعبلاتُ ، وتسقطُ الأممُ والممالكُ وتتحاربُ وتتعدَّدُ الطوائفُ وتتقاتلُ ، وكم من عُرُوشٍ هوتْ ، وممالكُ زالتْ ، حيث كان الشكلُ هو المُسيطرُ عن المبنى والمعنى ، والكم غالب على الكيف .
وعليَّ أن أسوقَ مثالا لدواعش العصرِ من الخوارجِ الجُدد ، هو عندي يلخصُ كيف يفكِّرُ هؤلاء المُشوِّهون للدينِ ، والذين يُسدِّدون طعناتٍ للدين الصحيحِ مع كلِّ طلعةِ شمسٍ بما يفعلونَهُ عن جهلٍ وبلادة حسٍّ ، فقد سُئلَ يومًا عطاء بن رباح مفتي مكة عن حكم قتل الذباب في الحرم ، فأجاب : ممَّن القوم ؟ قالوا : من العراق ، فقال : الله الله يا أهل العراق ، قتلتم الحسن والحُسين ، وتأتون الآنَ ، لتسألوا عن حُكم قتل الذباب في الحرم ؟
فالدين يضرِبُهُ نفرٌ ممن يؤمنونَ به ، ويشتغلونَ بالفقهِ والدعوةِ ، ويدَّعُونَ أنَّهم أصحابهُ ومالكُوه ، وكم من العلماء الذين أقروا أنَّ أكثرَ من يُسيءُ إلى الدين هم من يحملُونَ راية الدين شعارًا برَّاقًا لهم ، يمنحهم سلطةً ما ، وللأسف أنَّ هؤلاء لا يتبعون الأولوياتِ ، وتركوا أنفسهم نهبًا للتفاسيرِ الشاذةِ والمهجُورةِ والمغلُوطة .
فالحسن البصري يقولُ لنا : العاملُ على غير علمٍ كالسَّالكِ على غير طريقٍ، ومن قبله قال عليُّ بن أبي طالب : حدِّثوا الناسَ بما يعرفُون ، و دعُوا ما يُنكرُون ، تريدون أن يكذب الله و رسوله .
ولا أحد ينسى القولَ الفصلَ والمُهم للراغب الأصفهاني (توفي 502 هجرية ) : من شغلهُ الفرضُ عن الفضْلِ (النفل) فهو معذُورٌ، ومن شغله النفلُ عن الفرضِ فهو مغرُورٌ .
ولأنَّ الخلافَ شرٌّ بين الناس ، واختلافُ الأئمة رحمةٌ بالعالمين ، علينا أن ننقذ الغريقَ من الغرقِ بدلا عن أن نذهبَ إلى الصلاة ، ونقفَ على الشاطىءِ نتجادلُ هل ننقذ الغريق أم نلحق بالصلاة ، في حين يكون الغريقُ قد صار طعاما لأسماك البحر ؟.
الأولويةُ دومًا تكُونُ لإنقاذِ نفْسٍ من الموْتِ عمَّا دُونها من أولوياتٍ .
وتكُونُ لإنقاذِ وطنٍ هُو شغلُنا وشاغلُنا ، دُون أن تنازعنا فيه نفُوسنا الشَّرِهةُ التواقةُ للربحِ والاكتنازِ .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.