يا أمةً ضَحكتْ من رقَابتِها الأمم

08:11 صباحًا الأربعاء 7 يناير 2015
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

إذا منعتَ نشرْتَ ، وإذا راقبتَ خسِرتَ ، وفضحتَ نفسَكَ كرقيبٍ ، وكبلدٍ يُراقبُ ، وبدلا عن أن تُروِّجَ لوطنٍ أو لأمَّةٍ ، فأنتَ هتكتَ سُمعتَها ، وعرَّضتَ بتاريخها الثقافيِّ والسياسيِّ ، خُصوصًا إذا كان بلدًا كبيرًا ومُتحضِّرًا كمصر ، له جُذورٌ قديمةٌ في ترسيخِ الديمقراطيةِ ، وتأسيسِ فكرة حرية التعبيرِ  عبر سنواتٍ من النضالِ والمُجاهدةِ ، إذ سبق بلدانًا كثيرةً تنتمي الآنَ إلى ” العالم الأول ” ، صارت تضحكُ من جهلِ الرقابةِ ومُمارساتها في بلدٍ عريقٍ كمصر ، بل إنَّ صُحفَ العالم الأوَّل هذا ، سُرعانَ ما تنشرُ أخبار الحجْب والمنع والمُصادرة والرقابة والتوصية والمطالبة بعدم النشر أو عدم التوزيع أو عدم الترويج لكتابٍ أو فكرٍ ما ، يخالفُ وجهةَ نظرِ الرقيب ، الذي هو أساسًا ليس مُفكِّرًا ولا كاتبًا ولا أديبًا ولا شاعرًا ولا مُثقفًا ، بل هو مُوظفٌ  عاديٌّ ، ساقته الأقدارُ لأن يكون مسؤولا عن جهازِ الرقابةِ ، ويرأسُ أيضًا مُوظفين ، صارُوا يتحكَّمُون في الكُتبِ بأنواعها ، وكذا الصحف الأجنبية التي ترِدُ إلى مصر، بحجَّة أنَّهم تخرجوا في كليات الآداب ، كأنَّ المتخرج يحملُ رُخصةً ثقافيةً تجعلُهُ فوق الذي كتب الكتابَ الفلسفيَّ أو الدينيَّ أو الفكريَّ أو الشعريَّ أو الروائيَّ .

رقابة

إنَّ كلَّ حدٍّ من حرية التعبير ” حرية القول أو الصحافة أو الكتابة الأدبية ” هو انتقاصٌ من شخصيةِ الأمَّةِ ، وفرضُ حظرٍ على العقل الذي يُفكِّرُ ويبدعُ ، رغم أنَّ المُسلَّم به أن يُدافعَ المرءُ حتى الموت عن كتابٍ ما يرفضُهُ أو ضد عقيدته وفكرهِ ، فالدفاع عن حقِّ التعبيرِ فريضةٌ واجبةٌ ، وليستْ من السُّننِ ، أو الأعرافِ الغائبة .

ولا يحتاجُ المرءُ أن يُذكِّر بالمادةِ التاسعةِ عشرة من الإعلانِ العالميِّ لحُقوقِ الإنسان ، الذي أصدرته الأممُ المتحدةُ عام 1948 ، والتي تقُولُ : ” لكلِّ إنسانٍ الحق في حرية  الرأي والتعبيرِ ، ويشملُ هذا الحق حرية اعتناقِ الآراء دُون أيِّ تدخلٍ ، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقِّيها وإذاعتها بأيةِ وسيلةٍ كانت دُون تقيُّدٍ بالحدودِ الجغرافيةِ ” .

لكنَّ الوهَنَ والضَّعفَ الباديين ظاهريًّا في جسدِ الأمَّة ، هما اللذان يجعلان الرقيبَ يخرُجُ شاهرًا سيفَ المنعِ ، في صلفٍ معهُودٍ فقط في خُطب الديكتاتور وسلوكه في التاريخيْن القديم والمعاصر .

كأنَّ علينا أن نتفرغَ طُوال الوقت لحماية حريةِ الكلامِ ، وهُو حقٌّ طبيعيٌّ ، وليس منحةً أو اكتسابًا ، بل الدين وكتاب الله يقُولان بحرية التعبير والاعتقاد ” ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)) سورة هود آية {118} ، و(قال عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)

فإذا كنا نُريدُ مِصْرًا جديدةً ، ومُجتمعًا ديمقراطيًّا ،  فينبغي ألا يكونَ هُناك مكانٌ لجهازِ الرقابةِ على الكتب والمطبوعات .

لأنَّ هذا أمرٌ مُثيرٌ للسخريةِ ، إذْ من المعرُوف أنَّ كلَّ شيءٍ مُتاح بعد أن صارتْ وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في أيدي العامة ، وليست فقط عبر أجهزة الكمبيوتر الثابتة أو المحمُولة ، وأنَّ فكرة الحجْب والمُصادرة والمنع صارتْ من مُخلَّفات العُهودِ البائدة ، والعُصورِ المُظلمة ، ولا أدري هل يُمكنُ أن يثقَ المرءُ في حكومةٍ ألغت وزارة الإعلام ، ومع ذلك ماتزال مُبقيةً على جهاز الرقابة الذي كان تابعًا لها .

فالحكومة التي تُقرُّ الرقابة بأشكالها المتعددةِ ، هي عندي حُكومةٌ غير شرعيةٍ وغير ديمقراطية ، ولا يُعوَّلُ عليها في أمورٍ كثيرةٍ أخرى ، وهذا ليس مطلبًا يخُصُّ المُثقفين الأفندية أو البكوات أو الباشوات ، لأنَّ نارَ المنع تنتشرُ ، وتشعلُ الحرائقَ ، وتسيءُ السُّمْعة كالتحرُّشِ بالنساء ، حيث صارت مصرُ مضربَ المثَلِ في المنْعِ والهتْكِ ، ومن يسافر إلى العالم يعرف كم هي سيرتُنا غير حسنةٍ في هذين الأمرين ، لأنَّ كُلَّ كتابٍ تمنعُهُ الرقابةُ ، يصبحُ حديث الصحف الأجنبية ، إذ  يدافعُ الكاتبُ الأجنبيُّ عن  زميله  الذي يكتبُ بالعربية ، وتعرَّضَ إلى ” اضطهادٍ ” ما من سُلطة الرقابة ، التي تتسلَّطُ على رقبةِ الكاتبِ ، وقد تُودي بها إلى القطعِ مثلما رأينا في محاولة ذبح نجيب محفوظ عام 1994  .

فوجود جهاز يُراقبُ الكُتبَ والمطبُوعاتِ الأجنبيةَ ، يعني أن البلدَ ما زال قاصرًا ، وفي حاجةٍ إلى التربية والتعلم والرعاية والوصاية ، وأنه ما زال في سنِّ الرُشدِ ، ويحتاجُ إلى معاملةٍ خاصةٍ ، كي لا يتأثرَ بالأفكارِ المسمُومة الواردة ، التي من شأنها أن تُزعزعَ عقيدته ، أو تُلوثَ عقله ، أو تجعله يعتنقُ أفكارًا شاذةً .

إنَّها رقابةٌ غيرُ مرغُوبٍ فيها ، وعلى من يعملُ بها أن يخجلَ من وظيفةٍ كهذه لا أن يتباهى ، ويتعالى على من هُم أعلى منه وأعمقُ فكرًا وثقافةً وإنتاجًا .

إنَّ المنعَ اليوميَّ أو الأسبُوعيَّ للكُتبِ والمطبُوعاتِ في مصر لهو نحْرٌ تدريجيٌّ في سواحلَ الحُريةِ الجديدةِ التي نحاولُ بناءَها ، أو إعادة الحياة إليها بعد موتٍ زادَ على نصفِ القرْن .

لا أريدُ لبلدي أن تكُونَ ضِمْنَ القائمةِ الشهرية أو رُبع أو نصف السنوية أو السنوية التي تنشرُ أسماء البلدان التي تُجرِّمُ وتُحرِّمُ الكُتبَ ، وتضعُ  القيُودَ والحُدُودَ أمام ضفافِ الكتابةِ التي هي أساسًا بلا أسقُفٍ أو ضِفافٍ لها  ، وأنَّ الخيالَ وحده هو متنُها وعمادُها الرئيسيُّ .

وليعلم الرقيبُ أن المَحظُورَ محمُودٌ ، وأنَّ الصَّوتَ الممنُوعَ أو المقمُوعَ مسمُوعٌ ، وهو الأكثرُ شُهرةً وانتشارًا ، وما مُنع صوتٌ إلا وَوَصَلَ إلى قطاعاتٍ عريضةٍ في أنحاء مُتفرقةٍ من البلاد ،والأدلةُ أكثرُ من أن تُحصى.

ولو استعرضتُ تاريخَ حرية الكلام في مصر ، لوجدتُ أمثلةً عديدةً تشيرُ إلى المُمارسات المُضادة لحرية الكاتبِ وفكرِه وإبداعِه ، وأنَّه كلما عمَّ الجهلُ وانتشر زاد الحجبُ والمنعُ ، وكلما وقعت سُلطة البلاد في يد جماعةٍ أو تيارٍ ضاعت الحريةُ وغُيِّبتْ وتُرِكَتْ عمدًا ، بل لم يعُد لهذه الكلمةِ مكانٌ في الكُتبِ والقواميسِ ومناهجِ التعليمِ ، وكذا قد تُلغَى من التداولِ بقانونٍ ، وقد يُعَاقَبُ كُلُّ من ينطقُ هذه الكلمة ، أو حتَّى يتذكَّرَها ، أو تجُولَ بخاطرِهِ .

عندما أسمعُ من رقيبٍ ما مُفرداتٍ كهذه : الضوابط ، الاحتجاز ، المُصادرة ، الاشتباه ، تقليل فُرص دُخُول الخطر إلى مصر ، ضرُورة وجُود ضوابط على الكتابِ والإبداعِ ، عليَّ أن أتحسَّسَ رأسِي ، وأسألَ نفسي : هل أنا طفلٌ صغيرٌ ، أم مواطنٌ ناضجٌ يقرأ ويُدركُ ويعرفُ ويفهمُ  ويفقهُ ويعي ويغربلُ وينخُل ، ويستطيعُ الفرزَ وتقويم الأمُور ، ولا يحتاجُ إلى وصايةٍ من أحدٍ ، خُصُوصًا من جهاز للرقابة تأسس سنة 1936 .

هل مصرُ بلدٌ مُتخلفٌ يحتاجُ إلى رقابةٍ ؟

وهل من المُناسب إسكاتُ الآراءِ التي تختلفُ معها أو تمقتُها أو تكرهُها ؟

أظنُّ أنَّ أهلَ مصر ينظرُون إلى  أنفسهم على أنَّهم أحرارٌ ، لا يحتاجُون إلى سيدٍ ، ليختارَ لهُم ما ينبغي قراءته من عدمِهِ .

أحمد الشَّهاوي

ahmad_shahawy@hotmail.com

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات