إذا منعتَ نشرْتَ ، وإذا راقبتَ خسِرتَ ، وفضحتَ نفسَكَ كرقيبٍ ، وكبلدٍ يُراقبُ ، وبدلا عن أن تُروِّجَ لوطنٍ أو لأمَّةٍ ، فأنتَ هتكتَ سُمعتَها ، وعرَّضتَ بتاريخها الثقافيِّ والسياسيِّ ، خُصوصًا إذا كان بلدًا كبيرًا ومُتحضِّرًا كمصر ، له جُذورٌ قديمةٌ في ترسيخِ الديمقراطيةِ ، وتأسيسِ فكرة حرية التعبيرِ عبر سنواتٍ من النضالِ والمُجاهدةِ ، إذ سبق بلدانًا كثيرةً تنتمي الآنَ إلى ” العالم الأول ” ، صارت تضحكُ من جهلِ الرقابةِ ومُمارساتها في بلدٍ عريقٍ كمصر ، بل إنَّ صُحفَ العالم الأوَّل هذا ، سُرعانَ ما تنشرُ أخبار الحجْب والمنع والمُصادرة والرقابة والتوصية والمطالبة بعدم النشر أو عدم التوزيع أو عدم الترويج لكتابٍ أو فكرٍ ما ، يخالفُ وجهةَ نظرِ الرقيب ، الذي هو أساسًا ليس مُفكِّرًا ولا كاتبًا ولا أديبًا ولا شاعرًا ولا مُثقفًا ، بل هو مُوظفٌ عاديٌّ ، ساقته الأقدارُ لأن يكون مسؤولا عن جهازِ الرقابةِ ، ويرأسُ أيضًا مُوظفين ، صارُوا يتحكَّمُون في الكُتبِ بأنواعها ، وكذا الصحف الأجنبية التي ترِدُ إلى مصر، بحجَّة أنَّهم تخرجوا في كليات الآداب ، كأنَّ المتخرج يحملُ رُخصةً ثقافيةً تجعلُهُ فوق الذي كتب الكتابَ الفلسفيَّ أو الدينيَّ أو الفكريَّ أو الشعريَّ أو الروائيَّ .
إنَّ كلَّ حدٍّ من حرية التعبير ” حرية القول أو الصحافة أو الكتابة الأدبية ” هو انتقاصٌ من شخصيةِ الأمَّةِ ، وفرضُ حظرٍ على العقل الذي يُفكِّرُ ويبدعُ ، رغم أنَّ المُسلَّم به أن يُدافعَ المرءُ حتى الموت عن كتابٍ ما يرفضُهُ أو ضد عقيدته وفكرهِ ، فالدفاع عن حقِّ التعبيرِ فريضةٌ واجبةٌ ، وليستْ من السُّننِ ، أو الأعرافِ الغائبة .
ولا يحتاجُ المرءُ أن يُذكِّر بالمادةِ التاسعةِ عشرة من الإعلانِ العالميِّ لحُقوقِ الإنسان ، الذي أصدرته الأممُ المتحدةُ عام 1948 ، والتي تقُولُ : ” لكلِّ إنسانٍ الحق في حرية الرأي والتعبيرِ ، ويشملُ هذا الحق حرية اعتناقِ الآراء دُون أيِّ تدخلٍ ، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقِّيها وإذاعتها بأيةِ وسيلةٍ كانت دُون تقيُّدٍ بالحدودِ الجغرافيةِ ” .
لكنَّ الوهَنَ والضَّعفَ الباديين ظاهريًّا في جسدِ الأمَّة ، هما اللذان يجعلان الرقيبَ يخرُجُ شاهرًا سيفَ المنعِ ، في صلفٍ معهُودٍ فقط في خُطب الديكتاتور وسلوكه في التاريخيْن القديم والمعاصر .
كأنَّ علينا أن نتفرغَ طُوال الوقت لحماية حريةِ الكلامِ ، وهُو حقٌّ طبيعيٌّ ، وليس منحةً أو اكتسابًا ، بل الدين وكتاب الله يقُولان بحرية التعبير والاعتقاد ” ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)) سورة هود آية {118} ، و(قال عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)
فإذا كنا نُريدُ مِصْرًا جديدةً ، ومُجتمعًا ديمقراطيًّا ، فينبغي ألا يكونَ هُناك مكانٌ لجهازِ الرقابةِ على الكتب والمطبوعات .
لأنَّ هذا أمرٌ مُثيرٌ للسخريةِ ، إذْ من المعرُوف أنَّ كلَّ شيءٍ مُتاح بعد أن صارتْ وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في أيدي العامة ، وليست فقط عبر أجهزة الكمبيوتر الثابتة أو المحمُولة ، وأنَّ فكرة الحجْب والمُصادرة والمنع صارتْ من مُخلَّفات العُهودِ البائدة ، والعُصورِ المُظلمة ، ولا أدري هل يُمكنُ أن يثقَ المرءُ في حكومةٍ ألغت وزارة الإعلام ، ومع ذلك ماتزال مُبقيةً على جهاز الرقابة الذي كان تابعًا لها .
فالحكومة التي تُقرُّ الرقابة بأشكالها المتعددةِ ، هي عندي حُكومةٌ غير شرعيةٍ وغير ديمقراطية ، ولا يُعوَّلُ عليها في أمورٍ كثيرةٍ أخرى ، وهذا ليس مطلبًا يخُصُّ المُثقفين الأفندية أو البكوات أو الباشوات ، لأنَّ نارَ المنع تنتشرُ ، وتشعلُ الحرائقَ ، وتسيءُ السُّمْعة كالتحرُّشِ بالنساء ، حيث صارت مصرُ مضربَ المثَلِ في المنْعِ والهتْكِ ، ومن يسافر إلى العالم يعرف كم هي سيرتُنا غير حسنةٍ في هذين الأمرين ، لأنَّ كُلَّ كتابٍ تمنعُهُ الرقابةُ ، يصبحُ حديث الصحف الأجنبية ، إذ يدافعُ الكاتبُ الأجنبيُّ عن زميله الذي يكتبُ بالعربية ، وتعرَّضَ إلى ” اضطهادٍ ” ما من سُلطة الرقابة ، التي تتسلَّطُ على رقبةِ الكاتبِ ، وقد تُودي بها إلى القطعِ مثلما رأينا في محاولة ذبح نجيب محفوظ عام 1994 .
فوجود جهاز يُراقبُ الكُتبَ والمطبُوعاتِ الأجنبيةَ ، يعني أن البلدَ ما زال قاصرًا ، وفي حاجةٍ إلى التربية والتعلم والرعاية والوصاية ، وأنه ما زال في سنِّ الرُشدِ ، ويحتاجُ إلى معاملةٍ خاصةٍ ، كي لا يتأثرَ بالأفكارِ المسمُومة الواردة ، التي من شأنها أن تُزعزعَ عقيدته ، أو تُلوثَ عقله ، أو تجعله يعتنقُ أفكارًا شاذةً .
إنَّها رقابةٌ غيرُ مرغُوبٍ فيها ، وعلى من يعملُ بها أن يخجلَ من وظيفةٍ كهذه لا أن يتباهى ، ويتعالى على من هُم أعلى منه وأعمقُ فكرًا وثقافةً وإنتاجًا .
إنَّ المنعَ اليوميَّ أو الأسبُوعيَّ للكُتبِ والمطبُوعاتِ في مصر لهو نحْرٌ تدريجيٌّ في سواحلَ الحُريةِ الجديدةِ التي نحاولُ بناءَها ، أو إعادة الحياة إليها بعد موتٍ زادَ على نصفِ القرْن .
لا أريدُ لبلدي أن تكُونَ ضِمْنَ القائمةِ الشهرية أو رُبع أو نصف السنوية أو السنوية التي تنشرُ أسماء البلدان التي تُجرِّمُ وتُحرِّمُ الكُتبَ ، وتضعُ القيُودَ والحُدُودَ أمام ضفافِ الكتابةِ التي هي أساسًا بلا أسقُفٍ أو ضِفافٍ لها ، وأنَّ الخيالَ وحده هو متنُها وعمادُها الرئيسيُّ .
وليعلم الرقيبُ أن المَحظُورَ محمُودٌ ، وأنَّ الصَّوتَ الممنُوعَ أو المقمُوعَ مسمُوعٌ ، وهو الأكثرُ شُهرةً وانتشارًا ، وما مُنع صوتٌ إلا وَوَصَلَ إلى قطاعاتٍ عريضةٍ في أنحاء مُتفرقةٍ من البلاد ،والأدلةُ أكثرُ من أن تُحصى.
ولو استعرضتُ تاريخَ حرية الكلام في مصر ، لوجدتُ أمثلةً عديدةً تشيرُ إلى المُمارسات المُضادة لحرية الكاتبِ وفكرِه وإبداعِه ، وأنَّه كلما عمَّ الجهلُ وانتشر زاد الحجبُ والمنعُ ، وكلما وقعت سُلطة البلاد في يد جماعةٍ أو تيارٍ ضاعت الحريةُ وغُيِّبتْ وتُرِكَتْ عمدًا ، بل لم يعُد لهذه الكلمةِ مكانٌ في الكُتبِ والقواميسِ ومناهجِ التعليمِ ، وكذا قد تُلغَى من التداولِ بقانونٍ ، وقد يُعَاقَبُ كُلُّ من ينطقُ هذه الكلمة ، أو حتَّى يتذكَّرَها ، أو تجُولَ بخاطرِهِ .
عندما أسمعُ من رقيبٍ ما مُفرداتٍ كهذه : الضوابط ، الاحتجاز ، المُصادرة ، الاشتباه ، تقليل فُرص دُخُول الخطر إلى مصر ، ضرُورة وجُود ضوابط على الكتابِ والإبداعِ ، عليَّ أن أتحسَّسَ رأسِي ، وأسألَ نفسي : هل أنا طفلٌ صغيرٌ ، أم مواطنٌ ناضجٌ يقرأ ويُدركُ ويعرفُ ويفهمُ ويفقهُ ويعي ويغربلُ وينخُل ، ويستطيعُ الفرزَ وتقويم الأمُور ، ولا يحتاجُ إلى وصايةٍ من أحدٍ ، خُصُوصًا من جهاز للرقابة تأسس سنة 1936 .
هل مصرُ بلدٌ مُتخلفٌ يحتاجُ إلى رقابةٍ ؟
وهل من المُناسب إسكاتُ الآراءِ التي تختلفُ معها أو تمقتُها أو تكرهُها ؟
أظنُّ أنَّ أهلَ مصر ينظرُون إلى أنفسهم على أنَّهم أحرارٌ ، لا يحتاجُون إلى سيدٍ ، ليختارَ لهُم ما ينبغي قراءته من عدمِهِ .
أحمد الشَّهاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.