أحمد العلي يترجم رواية إليف شافاق الجديدة: حليب أسود

09:57 صباحًا الإثنين 2 مارس 2015
مدونات

مدونات

مساهمات وكتابات المدونين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مدونة للمترجم أحمد العلي تحمل عنوان : نهر الاسبرسّو https://alaliahmed.wordpress.com خص بها نص الروائية التركية إليف شافاق الذي ترجمه إلى العربية: حليب أسود. أرسل بالبريد اليوم الفصل التاسع، نقرأه معًا:

 

خِلافًا لشخصية آلكس في بلاد العجائب، لا أحتاجُ أن أتجرّع دواءًا سحريًّا كي يتضاءلَ حجمي حتى أصير كإصبعٍ لأتمكّن من الترحُّل في عالمٍ آخر، إذ لم يكُن جسدي من أراد الترحال، بل ذهني. أستطيعُ أن أتّخذ أيّة هيئةٍ أردتها وأبقى في نفس الوقت دونَ هيئةٍ على الإطلاق. وبعد أن فكّرت بذلك، أخذتُ نَفَسًا عميقًا، واختطفتُ الشمعة عن منضدة دورة المياه، ونزلتُ الدرجَ المُغطّى بالطحالب داخلي، إلى حيث تقبع زنازينُ روحي.

لقد حان الوقت لحديثٍ صارمٍ مع نسائي الأربع الصغيرات.

أغلفة حلقات النصوص المترجمة ـ مدونة أحمد العلي

أغلفة حلقات النصوص المترجمة ـ مدونة أحمد العلي

الحريمُ اللواتي بداخلي

المكانُ في الأسفل مظلمٌ وضبابي. تبدو روحي، بمتاهات أزقّتها هذه وممرّاتها السّرية، مَوقعًا مثاليًا لروايةٍ مُرعبة أو فيلمٍ عن مصّاصي الدماء. أدركتُ، ناظرةً يُمنةً ويُسرةً، أنني مشوّشةٌ بالكامل. لقد مشيتُ هذه الطرق المسدودة والشوارع الخلفية المُعتمة مرّاتٍ عِدّة، لكنني أضيعُ فيها حتى الآن.

هناك تقاطع في البُعد، حيث تنشَقُّ عنه أربعة مسالك. وأنا أرمشُ، رفعتُ الشمعة إلى مستوى عينيّ وحدّقتُ في الضباب الثخين غَير المُرحِّبِ بي. أيّ مَسلَكٍ أتخذُ الآن؟ أُحاولُ أن أفكر بآلةٍ ضخمةٍ، آلةٍ دوّارةٍ، بين البوصلة ودولاب الحظ. هذا تمرينٌ ذهنيٌّ أقومُ به عندما أتذبذب. رغم أنني لست واثقةً من أنه يساعدني حقًّا. في عَين عقلي، أدرتُ العَجَلة بأقوى ما استطعته، انطلقَت مُسرعةً، ثم انتظرتها تُبطء  وتُبطء، حتى وقفَ مسمارها مُشيرًا على الحرف (غ). قرّرتُ سريعًا أن هذا يعني أن أتجه غَربًا. وبانقيادٍ تام، اتجهتُ لذاك السبيل.

هُناك، في مدينةٍ دقيقة التنظيم مثل بروكسل، في شقةٍ أنيقةٍ وحديثة التصميم، مفروشةٍ باعتدال، تعيشُ الآنسة العمليّة القصيرة. إنها جانبٌ مني، الجانب الذي يتمتّعُ بمنطقٍ سليمٍ وواقعيّةٍ عالية. كبستُ على جرس بابها، وأثناء ما كانت تتحقّقُ من هوّيتي عِبرَ كاميرا المُراقبة على الباب، سمعتُ طنينًا، وانفتح قُفل الباب لأدخل. ها هيَ! تجلسُ إلى طاولتها مُفعمةً بالحيويّة في ملابس رياضيّة. على الصّحن أمامها شطيرةٌ من جُبنة الماعز وشرائح من الدجاج التركي المدخّن على قطعةٍ من الرغيف الأسمر. وإلى جانب الصحن مقدارٌ قليلٌ من شراب الكوكا الخاص بالحِمية. إنها تراقبُ وزنها منذُ عرفتها. بالكاد يبلغ طولها إحدى عشر سنتيمترًا ونصف، وبالكاد تزنُ نصف كيلوغرام. ترتدي ملابس عاديّة ومُريحة: قميصًا مُنشّمًا لونه بيج، ونظّارةً بإطارٍ كاملٍ أحمر، وبنطالاً بُنيًّا كثير الجيوب لتُبقي أشياءها في مطال يدها. تندَسُّ قدماها في صندلٍ جلديّ. شعرُها الأشقر الداكن كان قد قُصّ كي يكون قصيرًا ولا يحتاج لأيّ تصفيفٍ وجُهد؛ يكفيه أن يُغسَل وحسب (سائل الشامبو وسائل ترطيب الشعر ممزوجان في عُلبةٍ واحدة!). أمّا تجفيف شعرها فهو أمرٌ بعيدٌ تمامًا عن الحدوث.

قالت بمرَح:

  • “يا هلا! الكبيرة وصلت..”. ما الذي جَرَى عليكِ؟ شكلُكِ مُريعٌ للغاية.

أجبتُ مُتذمرةً:

  • بَلَى، شكرًا.

سَألَت:

  • “طيّب، وش جديدك؟”

ولسببٍ ما لا أستوعبه، تُحب هذه الفتاة أن تتحدث بسُرعة، كأنها تُطلقُ كلامها من مسدس، تحشُرُ فيه أيضًا تعابيرَ عامِيّةٍ وأخرى سوقيّةٍ أحياناً.

قلتُ:

  • آه، يا آنستي العمليّة الصغيرة، يجبُ أن تُساعدينني.
  • “نوبروبلم!” النجدة في طريقها إليكِ!
  • هل تناهى إلى سمعك السؤال الذي ألقته عليّ السيّدة آؤلو؟ لا أعرف كيف أُجيبُ عليه، هل من الممكن أن أكون أُمًّا جيّدةً وكاتبةً رائعة في نفس الوقت؟ هل أنا راغبةٌ بالإنجاب؟ إذا كان الجوابُ لا، فَلِمَ لا؟ وإذا كانَ نعم، فمتى ولماذا وكيف؟

قالت وهي تربُتُ بمنديلٍ على فمها لتُجفّفه بعد تناولها الطعام:

  • “أوووه، يا بنت! الموضوع سهل! لا تعملي من الحَبّة قُبّة!” تستطيع الفتاة أن تصير كاتبةً و “ماما” أيضاً، لِمَ لا؟ كل ما تحتاجينه هو أن تضعي كامل ثقتك بي.
  • حقًّأ؟
  • نعم. إليكِ ما ستقومين به. ستقسمين وقتكِ إلى شطرين: وقت للكتابة ووقت للحضانة.

ثُمّ توقّفَت، وبنظرةٍ شقيّةٍ تقيسُ بها مدى قبولي لِما تقول، وقالت:

  • هذا يعني أن عليكِ البدء بارتداء ساعة اليد!

أجبتُ:

  • أنت تعرفين أنني لم أرتد ساعة يدٍ قط؛ الساعات، واللون الأبيض، والفجل، ثلاثة أمورٍ سأبقى هاربةً منها إلى الأبد.

قالت بغموض:

  • حسنًا، هناك أمرٌ والحالة هذه قد تُرحّبين به. يحدُث وأن يكون هذا الأمر هو حَلُّ مُشكلتك.
  • ما هو؟
  • الانفصام!

فورَ أن رأتني قد جفلت، راحت تضحك:

  • فَصلُ حبوب الحنطة عن قشرتها.

ثم أردفَت:

  • ذاك بالضبط ما عليكِ القيام به.

مرّةً أخرى يُضحي وجهي بلا تعابير. ومرّة أخرى تبتسمُ هي بثقةٍ كأنها تشعر بنبض العالم كله تحت سبّابتها.

  • “يا بنتي شوفي الموضوع كذه”: العقلُ الإنساني يُشبه أدراج المطبخ؛ الأواني الفضيّة في دُرج، والمناديل في آخر، وهكذا. اتبعي نفس التصميم. عندما تدخلين وقت الحضانة، إفتحي دُرجَ الأمومة، وعندما تدخلين وقت الكتابة، إفتحي دُرجَ الرواية. هكذا ببساطة. أغلقي دُرجًا وافتحي الآخر. بلا اشتباهٍ ولا تناقض. ودون أن يَبْريكِ الهَم. كل الشكر للانفصام!.
  • واو! كان ذلك رائعًا. بيد أن هناك تفصيلٌ صغيرٌ لم تأتِ عليه. أثناء انشغالي بالكتابة، من سيعتني بالأطفال؟

قالَت بنخرةٍ في صوتها:

  • وكأنّ هذه مُشلكة تُذكَر! مرحبا! هنا عصر العولمة! بحركةٍ صغيرةٍ من إصبعك تستطيعين أن تجدي مُدبّرة منزل؛ فلبينية أو من المالديف، أو حتى بلغارية.. بإمكانك اختيار جنسيتها إن أردت.

حشَرَت الآنسة العمليّة القصيرة كفّها في إحدى جيوبها ثُمّ قدّمَت لي ورقة:

  • أنظري، أعددتُ لكِ قائمةً بكُلّ المعلومات التي تحتاجينها؛ أرقامُ هواتف وكالات تأجير مُدبّرات المنازل وجليسات الأطفال و أيضًا أرقام حضاناتٍ وأطباء أطفال. عليكِ أيضًا أن تجدي مُساعِدَةٍ لتُجيب على رسائلك الإلكترونيّة. ستجعلُ من حياتك جَنّة. ولو فكرتي في إيجاد سكرتيرة والحصول على مُسَجِّلة صوت، فستتوقفين عن الكتابة باليَد مرّةً واحدة! “شُفتي كيف؟”.

وبقلبٍ مُثقلٍ سألتها:

  • ما الذي تقصدينه؟
  • أقصدُ أنك بدل أن تكتبي رواياتك، إحكيها لهم وحسب. المُسجّلة ستُسجّل صوتك. ولاحقًا، ستطبع سكرتيرتك النَصّ كُلّه. أليس هذا عمليًّا؟ هكذا تستطيعين أن تُنهي روايةً دون أن تُضطّري لمُغادرة أطفالك.

قلتُ لها مُمسكةً أعصابي بقدر ما استطعته:

  • من باب السؤال فقط، كيف سأتمكن بالضبط من تحمُّل نفقات مُدبّرة منزل ومساعدة وسكرتيرة؟

قالت:

  • أوه، تبدين سلبيّةً جدًا. أنا هُنا أُقَدّم حلولاً عمليّة لمشاكل حقيقية وأنتِ لا تنظرين إلّا للتوافه.

فانفجرت مُعترضةً:

ولوهلةٍ صمتنا، ولم يصدر من أحدنا أيّ صوت. كُنّا نعبُسُ ونتجهّم. ثم استأنفتُ الحديث:

  • وزيادة على ذلك، حتى لو كنتُ أملكُ المال، لا زلتُ لا أستطيعُ القيام بما اقترحته. إنه ضد قِيَم العدالة والحرية اللتان أؤمن بهما بشكلٍ مُطلَق. لا أستطيعُ أن أُجيّش كل هؤلاء الناس لخدمتي، وكأنني مِهراجا.

قالت الآنسة العمليّة القصيرة بتهكُّم:

  • الآن تتحدثين بلا منطق. ألا تعرفين أن كل كاتبة ناجحة، هي مهراجا؟
  • كيف جازَ لك أن تقولي ذلك؟

فردّت علي:

  • كيف لك أنتِ أن تُنكري ذلك؟ تذكّري تلك الكاتبة الذّئبة التي تُجلِّينها كثيرًا!

وفَورَ أن نويتُ سؤالها عن أيّة امرأةٍ تتحدث، خطرَ لي أنها تعني فرجينيا وولف.

  • هل تظُنين أن سيّدتك تلك لديها “غُرفَةٌ تخصها” وحسب؟ بالطبع لا. كان لديها طبّاخةٌ تخصها، وخادمةٌ تخُصّها، ومُزارعٌ يخُصّها، دون ذكر مُدبّرة شؤونها الخاصة! إن مُذكراتها مليئة بالاعتراضات على خَدَمِها الكُثُر.

مُثقلةً بالفضول، سألتها:

  • منذ متى تقرأين عن حياة الكاتبات؟

إطّلاعُ الآنسة العمليّة القصيرة يقتصر على نوعين من المواضيع وحسب: الكفاءة والعمليّة؛ عناوين مثل: كيف تكسَبُ أصدقاءًا وقلوبًا، ومفتاحُ النجاح الساحق، وعشر خطوات للوصول للقوّة، وفَنُّ معرفة الناس، وأيقِظ الملياردير بداخلك، وسِرُّ الحياة الهانئة. إنها تلتهم كتب تطوير الذات كَحَبّات الفُشار. لكنها لا تقرأ الروايات إطلاقًا. الخيالُ، في عينيها، ليسَ عمليًّا.

قالت تدافع عن نفسها:

  • إذا كان من فائدةٍ فيها، فأنا أقرؤها.
  • وما هي فائدة المرأة الذئبة تلك؟

حدجتني بنظرة استصغارٍ قاتمة:

  • اعتادت سيّدتك على كتابة أوامرها لخَدَمها على قُصاصاتٍ من ورق الخُردة؛ المهام التي تريدهم إنجازها، والأطباق التي تريدهم أن يُعدّوها، والثيابُ التي تريدها أن تُغسَل. كل ذاك تكتبه لهم. هل تتخيّلين؟ لقد عاشوا معها تحت سقف واحد، وبدل أن تتحدث إليهم، قامت بالكتابة لهم.

قلتُ خانعةً:

  • حسنًا، لكننا لا نعرفُ الحكاية كما تراها هي.
  • كُلّ شيءٍ كان دوماً ما تراهُ هي من الحكاية. هي وحسب. “لأنها يا حبيبتي الكاتبة”.

لا أشعُرُ بأنني أريد الشجار معها. في يدها مسطرة، وآلة حاسبة في جيبها، وفي رأسها خطط، هذه هي الآنسة العمليّة القصيرة، لقد اعتادت على القياس والحساب والتخطيط لكل شيء. أخذتُ القائمة التي أعدّتها لي وغادرتها مُسرعةً، ولا زلتُ أشعرُ بالضيق.

أدرتُ العجلة مرّةً أخرى، فتوقّفَت على حرف ال(ش). هذه المرّة، اتجهتُ شرقًا.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات