مدونة للمترجم أحمد العلي تحمل عنوان : نهر الاسبرسّو https://alaliahmed.wordpress.com خص بها نص الروائية التركية إليف شافاق الذي ترجمه إلى العربية: حليب أسود. أرسل بالبريد اليوم الفصل التاسع، نقرأه معًا:
خِلافًا لشخصية آلكس في بلاد العجائب، لا أحتاجُ أن أتجرّع دواءًا سحريًّا كي يتضاءلَ حجمي حتى أصير كإصبعٍ لأتمكّن من الترحُّل في عالمٍ آخر، إذ لم يكُن جسدي من أراد الترحال، بل ذهني. أستطيعُ أن أتّخذ أيّة هيئةٍ أردتها وأبقى في نفس الوقت دونَ هيئةٍ على الإطلاق. وبعد أن فكّرت بذلك، أخذتُ نَفَسًا عميقًا، واختطفتُ الشمعة عن منضدة دورة المياه، ونزلتُ الدرجَ المُغطّى بالطحالب داخلي، إلى حيث تقبع زنازينُ روحي.
لقد حان الوقت لحديثٍ صارمٍ مع نسائي الأربع الصغيرات.
الحريمُ اللواتي بداخلي
المكانُ في الأسفل مظلمٌ وضبابي. تبدو روحي، بمتاهات أزقّتها هذه وممرّاتها السّرية، مَوقعًا مثاليًا لروايةٍ مُرعبة أو فيلمٍ عن مصّاصي الدماء. أدركتُ، ناظرةً يُمنةً ويُسرةً، أنني مشوّشةٌ بالكامل. لقد مشيتُ هذه الطرق المسدودة والشوارع الخلفية المُعتمة مرّاتٍ عِدّة، لكنني أضيعُ فيها حتى الآن.
هناك تقاطع في البُعد، حيث تنشَقُّ عنه أربعة مسالك. وأنا أرمشُ، رفعتُ الشمعة إلى مستوى عينيّ وحدّقتُ في الضباب الثخين غَير المُرحِّبِ بي. أيّ مَسلَكٍ أتخذُ الآن؟ أُحاولُ أن أفكر بآلةٍ ضخمةٍ، آلةٍ دوّارةٍ، بين البوصلة ودولاب الحظ. هذا تمرينٌ ذهنيٌّ أقومُ به عندما أتذبذب. رغم أنني لست واثقةً من أنه يساعدني حقًّا. في عَين عقلي، أدرتُ العَجَلة بأقوى ما استطعته، انطلقَت مُسرعةً، ثم انتظرتها تُبطء وتُبطء، حتى وقفَ مسمارها مُشيرًا على الحرف (غ). قرّرتُ سريعًا أن هذا يعني أن أتجه غَربًا. وبانقيادٍ تام، اتجهتُ لذاك السبيل.
هُناك، في مدينةٍ دقيقة التنظيم مثل بروكسل، في شقةٍ أنيقةٍ وحديثة التصميم، مفروشةٍ باعتدال، تعيشُ الآنسة العمليّة القصيرة. إنها جانبٌ مني، الجانب الذي يتمتّعُ بمنطقٍ سليمٍ وواقعيّةٍ عالية. كبستُ على جرس بابها، وأثناء ما كانت تتحقّقُ من هوّيتي عِبرَ كاميرا المُراقبة على الباب، سمعتُ طنينًا، وانفتح قُفل الباب لأدخل. ها هيَ! تجلسُ إلى طاولتها مُفعمةً بالحيويّة في ملابس رياضيّة. على الصّحن أمامها شطيرةٌ من جُبنة الماعز وشرائح من الدجاج التركي المدخّن على قطعةٍ من الرغيف الأسمر. وإلى جانب الصحن مقدارٌ قليلٌ من شراب الكوكا الخاص بالحِمية. إنها تراقبُ وزنها منذُ عرفتها. بالكاد يبلغ طولها إحدى عشر سنتيمترًا ونصف، وبالكاد تزنُ نصف كيلوغرام. ترتدي ملابس عاديّة ومُريحة: قميصًا مُنشّمًا لونه بيج، ونظّارةً بإطارٍ كاملٍ أحمر، وبنطالاً بُنيًّا كثير الجيوب لتُبقي أشياءها في مطال يدها. تندَسُّ قدماها في صندلٍ جلديّ. شعرُها الأشقر الداكن كان قد قُصّ كي يكون قصيرًا ولا يحتاج لأيّ تصفيفٍ وجُهد؛ يكفيه أن يُغسَل وحسب (سائل الشامبو وسائل ترطيب الشعر ممزوجان في عُلبةٍ واحدة!). أمّا تجفيف شعرها فهو أمرٌ بعيدٌ تمامًا عن الحدوث.
قالت بمرَح:
أجبتُ مُتذمرةً:
سَألَت:
ولسببٍ ما لا أستوعبه، تُحب هذه الفتاة أن تتحدث بسُرعة، كأنها تُطلقُ كلامها من مسدس، تحشُرُ فيه أيضًا تعابيرَ عامِيّةٍ وأخرى سوقيّةٍ أحياناً.
قلتُ:
قالت وهي تربُتُ بمنديلٍ على فمها لتُجفّفه بعد تناولها الطعام:
ثُمّ توقّفَت، وبنظرةٍ شقيّةٍ تقيسُ بها مدى قبولي لِما تقول، وقالت:
أجبتُ:
قالت بغموض:
فورَ أن رأتني قد جفلت، راحت تضحك:
ثم أردفَت:
مرّةً أخرى يُضحي وجهي بلا تعابير. ومرّة أخرى تبتسمُ هي بثقةٍ كأنها تشعر بنبض العالم كله تحت سبّابتها.
قالَت بنخرةٍ في صوتها:
حشَرَت الآنسة العمليّة القصيرة كفّها في إحدى جيوبها ثُمّ قدّمَت لي ورقة:
وبقلبٍ مُثقلٍ سألتها:
قلتُ لها مُمسكةً أعصابي بقدر ما استطعته:
قالت:
فانفجرت مُعترضةً:
ولوهلةٍ صمتنا، ولم يصدر من أحدنا أيّ صوت. كُنّا نعبُسُ ونتجهّم. ثم استأنفتُ الحديث:
قالت الآنسة العمليّة القصيرة بتهكُّم:
فردّت علي:
وفَورَ أن نويتُ سؤالها عن أيّة امرأةٍ تتحدث، خطرَ لي أنها تعني فرجينيا وولف.
مُثقلةً بالفضول، سألتها:
إطّلاعُ الآنسة العمليّة القصيرة يقتصر على نوعين من المواضيع وحسب: الكفاءة والعمليّة؛ عناوين مثل: كيف تكسَبُ أصدقاءًا وقلوبًا، ومفتاحُ النجاح الساحق، وعشر خطوات للوصول للقوّة، وفَنُّ معرفة الناس، وأيقِظ الملياردير بداخلك، وسِرُّ الحياة الهانئة. إنها تلتهم كتب تطوير الذات كَحَبّات الفُشار. لكنها لا تقرأ الروايات إطلاقًا. الخيالُ، في عينيها، ليسَ عمليًّا.
قالت تدافع عن نفسها:
حدجتني بنظرة استصغارٍ قاتمة:
قلتُ خانعةً:
لا أشعُرُ بأنني أريد الشجار معها. في يدها مسطرة، وآلة حاسبة في جيبها، وفي رأسها خطط، هذه هي الآنسة العمليّة القصيرة، لقد اعتادت على القياس والحساب والتخطيط لكل شيء. أخذتُ القائمة التي أعدّتها لي وغادرتها مُسرعةً، ولا زلتُ أشعرُ بالضيق.
أدرتُ العجلة مرّةً أخرى، فتوقّفَت على حرف ال(ش). هذه المرّة، اتجهتُ شرقًا.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.