إضاءة للمسرح التتاري المعاصر

06:20 مساءً الثلاثاء 6 نوفمبر 2012
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
الأزياء الشعبية في مسرح التتار

الأزياء الشعبية في مسرح التتار

 

كان النهار يودعنا ونحن نقف بالساحة المطلة على بحيرة قابان، وكنا نستطيع أن نرى بوضوح وجه الجليد يتشظى وتذوب ببطءٍ طبقته التي تغطي سطح البحيرة الفاصلة بين شطري مدينة قازان؛ القديم والحديث. نحن في عاصمة جمهورية تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية؛ وبالتحديد في قلب قازان التي تقع على نهر الفولجا، عند تقاطعه بنهر كاما، ونبعد ـ جنوبا ـ عن العاصمة الروسية موسكو، بنحو 800 كيلومتر.

تحمل المدينة في ذاكرتها رحلة العربي أحمد بن فضلان، الذي أرسله من بغداد الخليفة العباسي المقتدر بالله ليعرِّف أقوام الشمال بالدين الإسلامي، أو إن شئنا الدقة ليفقههم به، فقد ورثوه حين دخل الدين الحنيف إلى تلك المنطقة التي سميت ببلغاريا الكبرى، أو البُلغار كما جاء ذكرها في رسالة ابن فضلان، وهم أحفاد الخاقانات التركية التي كان يحكمها قوبرات خان، أحد أحفاد جنكيز خان، قبل أن تتفكك إلى خمسة ممالك في القرن السابع الميلادي، ليدخل الإسلام بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين ويصبح تاريخ قدوم ابن فضلان إلى المدينة ببعثته التي ضمت فقهاء و علماء دين و مترجمين في العام 922 ميلادية تأريخا رسميا لدخول أبناء التتار إلى الإسلام. وما أشرت إلى هذا التاريخ البعيد إلا لكي أؤكد على عمق الإسلام في الهوية التتارية، ولاحقا في آدابها وفنونها، ومنها المسرح.

على أنَّ الحدث الأكثر ضراوة في تاريخ تتارستان، وقازان تحديدًا، كان حملة إيفان الرهيب إلى تلك المدينة المسالمة في العام 1552ميلادية، حين أراد القيصر الروسي إيفان أن يضم أرض التتار إلى إمبراطوريته، مثلما طوَّع قبلها الممالك الشمالية، ليوسع خريطته الجغرافية، وفي المتحف الوطني بالمدينة تتقابل لوحة وصول ابن فضلان مع لوحة مذابح إيفان الرهيب وكأنهما شهادتان بين السلام والحرب، أو بين قناعي المسرح؛ المبتسم والباكي، ونحن نستعد لدخول المسرح الأكاديمي المطل على البحيرة، والذي يحمل اسم أحد أعلام هذا الفن، علي عسكر كمال.

هذه الجذور التي تعبر عنها فنون تتارستان، بين الحرف العربي الذي كتبت به اللغة التتارية قديما، قبل أن يستخدم الحرف الروسي الحديث، وبين الإسلام قبل مرحلة تغييبه خلال فترة الثورة البلشفية وحتى جلاسنوست (مكاشفة) جورباتشوف، ثم ترميم مساجدها في عهد رئيس جمهوريتها الأول شامييف الذي شيد أجمل مساجد أوربا بمدينته، مسجد قول شريف، ونال جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، وبين حضور المسيحية بجمهورية تتارستان التي تعد نموذجا سمحًا على تعايش الديانتين معًا، ولا ننسى الوجه العصري للمدينة، التي تقيم مهرجانا سنويا لسينما العالم الإسلامي، وتتفوق في الرياضة، بلعبتي كرة السلة والقدم، حتى أنها ستستضيف العام القادم الأولمبياد الشتوي. هذا الموزاييك يلخص صورة المشهد قبل رفع الستار.

على وجه البحيرة ذابت قطعة الجليد الأخيرة، وكأنها مؤشر لذوبان الجليد بين المشاهدين والثقافة التي سيكونون بمعيتها على مدى الساعات التالية.

مسرح كمال في قازان

مسرح كمال في قازان

• مسرح علي عسكر كمال

في الثاني والعشرين من ديسمبر 1906ميلادية قُدم أول عرض مسرحي علني في قازان، واعتبر ذلك التاريخ ميلادًا للمسرح التتاري، على أيدي رواده خوداشيف أشكازارسكي، وجزاء الله فولزسكايا، وشاملسكي وغيرهم من رواد ذلك الفن على رأسهم أبي المسرح التتاري عبد الله كارييف، الذي عمل بالتمثيل والإخراج، واحتفلت الثقافة التتارية به العام الماضي بمناسبة مرور 125 سنة وشامل قاسم وبولجارسكايا جولسوم، وسلطانوف زيني وفاطمة إلسكايا، وكان وراء تأسيس مدرسة للتمثيل المسرحي. في العام 1926 أنشيء المسرح الأكاديمي الذي حمل بعد ذلك في العام 1939 ميلادية اسم علي عسكر كمال (1879-1933) وهو أول من كتب عملا مسرحيا تتاريا، وكان ذلك في العام 1898 بعنوان (شاب سيء الطالع).

في مسرح علي عسكر كمال كان هناك احتفاء خاص بالممثلة المخضرمة نائليه كراييفا، وهي تحتفل بعيد ميلادها السبعين، أمضت خلال سنوات عمرها خمسة عقود على خشبة المسرح في أدوار رئيسية. ومثلما قدمت أعمالها لجمهور المسرح التتاري، أنجبت أيضا المخرج فرات بيكشانتاييف، الذي يعمل في المسرح نفسه. عرفت أن تلك العائلة المسرحية، وصداقات خشبة المسرح، تمتد إلى الحياة نفسها. حتى أن بعض الأعمال المسرحية تستوحى من سير ذاتية لهم، أو تلقي بظلالها على بعض سطور الدراما التي يشاركون في صياغتها.

ربما تمضي حياة الإنسان في طرق متشعبة، تختلف من شخص لآخر، ومن حياة إلى سواها، لكن الجميع يهرمون، يشيخون، تلك هي الحقيقة المؤكدة التي تفضي إليها الطرق جميعًا.

على عكس الأجواء الربيعية في قلب الصيف، حيث تعد قازان أقل العواصم الإسلامية في درجة الحرارة، تصل إلى 35 تحت الصفر بالشتاء، فإن المؤلف المسرحي الشاب إلجيز زاينييف، يقدم مسرحيته (صيف هندي) التي تقوم ببطلوتها ممثلتنا المخضرمة في دور (حليمة أميروفنا) الفاتنة رغم عمرها. لذلك لا يدور الحديث في المسرحية عن تقاعد، ومعاش، وعزلة لحياة، بل يتنفسون حياة جديدة، لأن “الحب لا يعرف عمرًا محددًا”، قيمة الحياة في ذلك الحب وقيمة العطاء، وهي القيمة التي تقدم نفسها في البداية حين نعلم أن ابنة (حليمة) السيدة جيزيل (تقوم بدورها الفنانة فينيرا شاكيروفا) تستعد لمغادرة مسقط رأسها إلى مدينة فلاديفوستك، لأنها حصلت على فرصة عمل أفضل. تحث السيدة أمها (حليمة) وابنها الشاب على الاستعداد بحزم الحقائب، ولكن الفتى تؤرجحه رغبتان، فإما الذهاب مع أمه وجدته، أو البقاء مع جارته وحبيبته.

مشهد من مسرحية تترية تاريخية

مشهد من مسرحية تترية تاريخية

• لن تُبنى أوطان بهجرة أبنائها

ويبدو أن الحل الذي استعصى على الشاب قد وجده المخضرمون، وأقصد بهم الممثلون الثلاثة أصدقاء حليمة، فهؤلاء يختلفون تمامًا عن بعضهم البعض إلا أنهم يتفقون في أمرين، أنهم في مثل عمر حليمة، وأنهم يحبونها جميعهم، ولذلك فهم يفكرون في إبقاء السيدة العجوز، حتى لو تطلب الأمر بأن يعرض كل منهم الزواج عليها، دون معرفة رفيقيه، وهي الأحداث التي أشعلت فتيل الكوميديا في العرض البديع.

الممثلون الكبار: أصغر شاكيروف (فؤاد) ورافييل شرفي (أنصر)، وإيريك باجمانوف (جودت) يفشلون بالأمر، ولكن تنجح الفتاة (علية) ـ التي قامت بدورها الممثلة نفيسة خير الله ـ في إقناع الفتى بالبقاء، ومن ثم عائلته، لأن البلد تحتاج إلى سواعد الشباب. هذه هي القضية، لن تُبنى أوطان بهجرة أبنائها، ولن تعيش أيضا على ذكريات الماضي وحده. وقد استطعنا أن نتابع العرض بفضل سماعتي الأذن اللتين قدمتا لنا صوت مترجمة النص، على الهواء مباشرة، الدكتورة إلميرا بيرم علي، فلم تغب عنا جملة حوارية واحدة، وكان الأداء السماعي معززا للصورة المسرحية العصرية، مع موسيقى عازف الكمان فؤاد أبو بكر، وعازف الأكورديون أحمد كريموف.
محطات مهمة بين العرض الأول الذي عرض رسميا في 22 ديسمبر 1906، والعرض الذي نشاهده بعد مائة وست سنوات، فالعرض الأول قدم باللغة التتارية، وكان في الحقيقة عملين حملا اسم (مشاكل سببها الحب)، و(طفل بائس)، وفي الثالث من أبريل خلال العام التالي قدمت أول فرقة مسرحية محترفة عروضها في مدينة أورنبورج، بإخراج خوداشيف أشكازرسكي، وكان العمل الذي كتبه أوستروفسكي وأخرجه عبد الله كارييف قد شهد انضمام أول ممثلة في العام التالي هي شهيب جمال جزاء الله فولزسكايا. وقد أصبح كارييف رئيسا للفرقة في العام 1911، وسميت بفرقة عبد الله طوقاي، وهو الشاعر القومي للتار، الذي طوَّر من الأدب المعاصر، ونقل الشعر تقلة كبيرة، واستلهم تراث أمته في أعماله للكبار والصغار. ثم تنشيء الممثلة شهاب جمال فرقة خاصة بها في مدين أوفا سنة 1915 تسميها (نور)، وهو العام نفسه الذي شهد تأسيس فرقة أخرى سميت (شركة) بمدينة أورنبورج.

من أجل استعادة بريق مسرحه يدعو عبد الله كارييف الممثلة فاطمة إلسكايا لتكون نجمة مسرحياته، وفي عامي 1916 و 1917 تنظم أعمال كبار الشعراء والموسيقيين وتطوف فرصة (سيَّار) البلاد لتقديمها. في 19 مارس 1917 بمدينة قازان، وبعدها بشهرين في موسكو وخلال مؤتمر أبناء الإسلام، تعرض بنجاح كبير مسرحية زليخة، وتتألق بولجارسكايا في دور زليخة، قبل أن يسدل الستار على المسرح لثلاث سنوات بسبب الحروب الأهلية، وعمل كثير من الممثلين على الجبهة مع الجنود أثناء الحرب. يرحل عبد الله كارييف في 20 يناير 1920، وتؤسس في أكتوبر من العام نفسه أول مسرح دولة للتتار، وتفتتح بعدها بثلاثة سنوات بمدينة قازان أول مؤسسة تعليمية للمسرح باسم مدرسة المسرح الفني للتتار، قبل أن ينال المسرح صفته الأكاديمية في 1926، وتعرض في ختام تلك السنة مسرحية غنائية كتب موسيقاها سعيداشيف، وأدى الدورين الأساسيين فيها كوشلوفسكايا وتنشورين.

متابعة رسمية وشعبية

متابعة رسمية وشعبية

• أوبرا عبد الله طوقاي

وعلى ذكر المسرح الغنائي، سنشهد بعد ذلك العرض بأيام أوبرا تمثل رحلة عبد الله طوقاي نفسه في سيرة شعرية مسرحية كتبها الشاعر التتاري المعاصر رينات خاريس، ومثل سابقه حضر رستم ميننيخانوف رئيس جمهورية تتارستان ذلك العرض الأوبرالي الذي أقيم بدار أوبرا قازان التي تحمل اسم المسيقار موسى جليل، وهو يؤكد استمرار دعم الدولة لهذا الفن. في السادس والعشرين من أبريل الماضي حلت الذكرى 125 لميلاد الشاعر عبد الله طوقاي، الذي اتخذ يوم مولده في موطنه جمهورية تتارستان عيدا قوميا للأدب. ورغم عمره القصير (1886 ـ 1913م) استطاع عبد الله طوقاي أن يصوغ عدة ملاحم شعرية مستلهما فيها روح أمته.
وقد ترجمت هذه الأعمال إلى مختلف لغات العالم، وتحول بعضها إلى أعمال فنية في السينما والمسرح والباليه. وتحتفل جمهورية تتارستان وكافة مناطق روسيا الاتحادية وجميع الشعوب التركية بهذه المناسبة تخليدا لعبدالله طوقاي الذي ارتبط اسمه بنشوء الأدب التتاري المعاصر في أوائل القرن العشرين وبروزه على مستوى روسيا والعالم. وقد ترجمتُ ـ عن الإنجليزية ـ ملحمة طوقاي (شورالي) إلى اللغة العربية، تحت عنوان (حكاية الحطاب وشريرة الغاب).

ولد عبد الله بقرية كوجماكتي التتارية في مقاطعة قازان. وكان ابوه محمد عارف طوقاي شيخا، وأمه من جمهورية بشكيريا (عاصمتها مدينة أوفا، وهي مثل تتارستان إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية). يموت الأب حين يبلغ عمر الطفل أربعة اشهر ونصف الشهر، فيمارس منذ طفولته عمل الفلاح الشاق. ينشر طوقاي اول قصائده العام 1904 ميلادية في مجلة “العصر الجديد” الصادرة باللغة التتارية، ويترجم إليها قصيدة نوم الفلاح للشاعر الروسي كولتسوف، وبعد فشل التجربة الثورية الديمقراطية في روسيا عام 1907 يكتب قصيدة “لن ننسحب” التي يدعو إلى الصمود بوجه الرجعية. وينتقل إلى قازان خريف عام 1907 ليتعاون مع صحف ودوريات “الاصلاح” و”البرق” و”الفجر” بسلسلة من الآراء التي تقدم صورة لنضاله بالكلمة، وبالرغم من تدهور صحتة يسافر طوقاي قبيل وفاته بعامين عبر البلاد الروسية، ويزور مدن نهر الفولغا، وهي المشاهد التي نتعرف عليها في الأوبرا التي تفيض بالحياة وتنقلنا من ظلمة الحجرات المغلقة التي يعتمها المرض، إلى سفينة الحياة التي تصارعها أمواج الموت، إلى الأسواق الشعبية التي وجد فيها طوقاي مادته.

ربيع عام 1912 يزور طوقاي مدينة بطرسبورغ فيلتقي بالكاتب الشعبي التتاري غفوري والثائر ملا نور وحيدوف، وبعد الأسبوعين يغادرها من وطأة المرض، ليستشفى بسهول كازخستان، لكنه يرحل في الثاني من أبريل 1913.

هذه الأوبرا لم تكن الوحيدة التي استلهمت حياة طوقاي، الذي ـ كما أسلفنا ـ قدمت أعماله بكافة وسائط المسرح والسينما، حيث عرضت كذلك مسرحية (بيتشان بازار) وهو اسم سوق تقليدية في مدينة قازان يعد نموذجا للتجمعات الثقافية والتجارية التتارية. وفي هذا السوق ذكرى أليمة بحياة طوقاي، حيث اضطر كفاف العيش وشظفه عائلته إلى ترك طوقاي الصبي ليربيه معارف لأهله، وحدث ذلك في تلك السوق نفسها.

المهم أنه مع تعدد موضوعات ذلك المسرح التتاري، فإننا نضع أيدينا على أمر مهم في وجوهه، وهو احتفاظه بخصوصيته التي تجمع بين موضوعات شعبية، وهوية إسلامية، وأشكال إخراجية معاصرة، فضلا عن روح الشباب المتوقدة، وهي الروح التي ميزت آباءه قبل أكثر من قرن، وتعود اليوم لتحييه من جديد.

 

One Response to إضاءة للمسرح التتاري المعاصر

  1. Lisia رد

    2 أبريل, 2014 at 3:28 ص

    What a plrasuee to find someone who thinks through the issues

اترك رداً على Lisia إلغاء الرد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات