عز الدين قنون … قَمَرُه طاح … فانتهت الجنازة بالتصفيق الحاد

08:21 صباحًا الأحد 19 أبريل 2015
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

انتهت الجنازة و كافة مراسم الدفن بقراءة جماعية لفاتحة الكتاب أعقبها تصفيق جدي حاد ترددت في بادئ الأمر عن المشاركة فيه .. أنا القادم من ثقافة أقامت لجلال الموت أهرامات شاهقة و مقابر مهيبة .. إلا أنني شاركت الحضور التصفيق بعد لحظات عندما تذكرت مقولة ” شكسبير ” عن أن ” الدنيا مسرح كبير ” المنسوبة خطأ لفنان الشعب ” يوسف بك وهبي ” ربما من كثرة ما رددها .. بالفعل حياة كل منا ليست إلا عرض مسرحي ينتهي بإنتهاء دوره على مسرح الحياة .. أما الذي يخلد أدوارنا فتبقى في القلب و الذاكرة أو تنسى و تندثر هو جودة الأداء و الفعل على مسرح الحياة و قد ملأ صديقي العزيز القديم المسرحي التونسي الكبير ” عز الدين قنون ” هذا المسرح فعلا و صخبا و ضجيجا و رحل بطريقة درماتيكية و هو في أوج عطاءه و هو ما أصاب الجميع بصدمة قاسية أقرب لضربة على الرأس أفقدت جميع أصدقائه و محبيه توازنهم بما فيهم كاتب السطور الذي تأخر نسبيا عن تلبية دعوة كريمة من الصديق رئيس التحرير للكتابة عن ” قنون ” فقد إستغرق إستيعاب تلك الفاجعة أسبوعا كاملا لم يفلح “معرض الكتاب ” في تونس الذي إفتتح أول أيامه الفعلية بوفاة ” عزالدين قنون ” ؛ ولم يكن حضور ” أدونيس ” أو ” نوال السعدواي ” طاغيا لدى النخبة إلى درجة طمس الحدث بما في ذلك الأزمة التي وقعت بين الصحفيين التونسيين و ” نوال السعداوي ” التي إتهمت بالغرور و التعالي و عدم الإنضباط في المواعيد إلى درجة أن بعضهم هاجمها لأنها إنشغلت عنهم بتكريم رئيس الجمهورية ” الباجي قائد السبسي ” !! .. قائلين أن ” التوانسة ما يكبر في عينهم حد ” ؟!

عزالدين قنون

عزالدين قنون

مع بداية مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بدأت معرفتي و صداقتي القوية ب ” عزالدين قنون ” و فرقته المسرحية التي كانت تسمى آنذاك ” فرقة المسرح العضوي ” و أهم أعضائها رفيقة درب النضال المسرحي ” لقنون ” الفنانة التونسية الكبيرة ” ليلى طوبال ” التي كانت تلعب دور البطولة في عروض الفرقة التي كانت أول عروضها في القاهرة مع عرض ” الدالية ” ثم العرض المسرحي ” قمرة طاح ” 1991 من إخراج ” عز الدين قنون ” .. ؛ آنذاك كان الحضور المسرحي التونسي قويا لافتا حداثيا بصورة ملفتة يحصد جوائز المهرجان ؛ و مع هذا الشكل المسرحي الجديد الناجح الذي قدمه التونسيون كان إهتمام المثقفين المصريين بالحركة المسرحية في تونس و تاريخها .. فضلا عن متابعة مشاريع الجيل الثاني من الكبار الذي يمكن إعتباره إمتدادا للجيل الذهبي

فقد بدأت النهضة الحقيقية للمسرح التونسي مع مشروع ” المسرح المدرسي ” الذي وقف ورائه أحد رواد المسرح التونسي العظام ” علي بن عياد ” الذي تولى فرقة ” بلدية تونس للتمثيل العربي ” بعد مرحلة التأسيس التي قام بها الفنان الكبير ” زكي طليمات ” و التونسي ” عبد العزيز العقربي ” ؛ و من تلك النواة كان إنطلاق المبعوثين إلى ” باريس ” و ” لندن ” و ” ستراسبورج ” لتشهد تونس تطورا مسرحيا كبيرا مع أسماء مثل ” محمد إدريس ” و ” الفاضل الجزيري ” و ” المنصف السويسي ” و ” فاضل الجعايبي ” و ” توفيق الجبالي ” محمد رجاء فرحات ” و ” رؤوف بن عمر ” .. ثم يلحق بهذا الجيل الذهبي من الناحية التاريخية الفنانة الكبيرة ” رجاء بن عمار” و فرقتها ” فو ” و ” عزالدين قنون ” بفرقته ” المسرح العضوي ” التي تحولت فيما بعد إلى ” فرقة الحمراء ” بعد أن حول سينما ” الحمراء ” القديمة التي أنشئت في عشرينات أو ثلاثينات القرن الماضي إلى مسرح

كان تأثير ” فاضل الجعايبي ” واضحا في تكوين “عزالدين قنون ” و ربما كان ذلك من أسباب إهتمام ” قنون ” بمسرح الجسد و جماليات الحركة لكن ذلك لم ينسه قيمة النص المسرحي إلى حد أنه يمكن القول أنه أحد أنجح المسرحيين في تونس في المزج ما بين جماليات الحركة و جماليات النص دون أن يطغى أحدهما على الأخر كما حدث لدى الكثيرين .. بل تناغما إلى حد أن كل منهما أصبح مكملا للأخر بحيث أصبح أي نقص في أحدهما يمثل إخلالا واضحا لا يمكن أن يخطئه ناقد أو متذوق للمسرح و هو ما لم يحدث بفضل تمكن المخرج ” عزالدين قنون ” من أدواته ..

حصل ” قنون ” على ديبلوم مركز الفن المسرحي بتونس عام 1976 ؛ ثم حصل على دورة تدريبية بالمسرح الوطني بستراسبورج عام 1977 تحت إشراف ” جان بيير فانسان ” ؛ ثم ليسانس الدراسات المسرحية من جامعة السوربون الجديدة عام 1980 .. ؛ و كانت أعماله المبكرة مع “المسرح المدرسي” و “مسرح الهواية” بين عامي 1970:1975 ؛ ثم جاءت مرحلة الأعمال الكبرى و أهمها إخراجه لمسرحيات : “الصفقة “1981 ؛ ” ليلة ضائعة تعود ” 1982:1983 ؛مسرحية “خرفني يعيشك”1985 ؛ ” الدالية “1988 ؛ تأليف و إخراج ” قمره طاح ” ؛ تأليف و إخراج ” المصعد ” التي كان عرض القاهرة أول عروضها الدولية ؛ تأليف و إخراج ” طيور الليل ” 1996 ؛ تأليف و إخراج ” حب في الخريف ” 1997 و فيها أعاد ” عزالدين قنون ” إكتشاف جمالية أحد الجدران القديمة في مسرحه بعد سقوط ” طبقة المحارة ” ليصبح ظاهرة في العروض المسرحية العربية و الدولية مما جعل إدارة المسرح تحرص على إبقائه و الحفاظ عليه في تلك الحالة بعد أن أصبح جزء من ديكور ” مسرح الحمراء ” و شخصيته ..

إستأنف ” قنون ” رحلته بتأليف و إخراج مسرحية  ” نواصي و عتب ” في عام 2000 ؛ و لم يتوقف طموح “عزالدين قنون ” عند التمثيل و الإخراج فأسس في 2001 ” المركز العربي الأفريقي للتكوين و البحوث المسرحية ” الذي تخرج من ورشاته عددا معتبرا من الممثلين العرب و الأفارقة فألف و أخرج النص العربي الإفريقي ” لنتكلم بصمت ” في 2003 ؛ ثم دراماتورج وإخراج عرض ” رهائن ” في 2006 ؛ ثم عرض ” آخر ساعة ” ؛ و قد واصل ” قنون ” رحلته مع “فرقة الحمراء ” و ” المركز العربي الإفريقي للتكوين ” تأليفا و إخراجا وتدريبا و إدارة حتى آخر لحظة في حياته إلى أن رحل في عمر ناهز ال63 عاما و قيل أن هجمة مفاجئة لمرض السكري اللعين كانت السبب ..

تكوين من الممثلين الشبان خلال ورشة في مركز التكوين العربي الأفريقي بمسرح الحمراء  الذي أسسه عز الدين قنون ..

تكوين من الممثلين الشبان خلال ورشة في مركز التكوين العربي الأفريقي بمسرح الحمراء الذي أسسه عز الدين قنون ..

و ربما يعرف البعض خارج تونس المخرج و المؤلف ” عزالدين قنون ” بدرجة أكبر من الممثل ” قنون ” الذي كانت له أدورا مميزة في أعمال درامية هامة خاصة في مجال السينما في أفلام مثل ” شيشخان ” بطولة ” جميل راتب ” 1991 “لمحمود بن محمود” و ” فاضل الجعايبي ” ؛ ” موسم الرجال ” ” لمفيدة التلاتلي ” 1999 ؛ ” خميسة ” 2000 ؛ ” أوديسة ” ” لإبراهيم باباي ” ؛ و قد أشرف على عدد كبير من الورشات المسرحية و تدريب الممثل في العديد من الدول العربية و الإفريقية و الأوروبية كانت أحدها في مسرح الهناجر بالقاهرة خلال فترة إدارة ” د/ هدى وصفي ” له ..

الفنانة سيرين قنون ابنة الراحل الكبير التي عملت معه في المسرح

الفنانة سيرين قنون ابنة الراحل الكبير التي عملت معه في المسرح

أما الجانب الذي غاب في الظل عن الكثيرين داخل و خارج تونس هو النضالات السياسية ” لعز الدين قنون ” منذ عهد ما قبل الثورة التونسية في 2011 و الذي تواصل بعدها خاصة في فترة صعود الإخوان أو ” حركة النهضة ” إلى سدة الحكم

لم يخش ” قنون ” أن يقدم العون للمعارضة في وقت حكم ” زين العابدين بن علي ” و منحهم مسرحه كمقر إنتخابي ؛ و خلال الفترة الإنتقالية بعد اندلاع الثورة واجه وزير الثقافة آنذاك بخطاب مؤلم و لم يتوقف دوره ” كمثقف عضوي ” يليق أسمه بأن يبدأ رحلته الفنية في عالم الكبار بتأسيس فرقة ” المسرح العضوي ” التي أصبحت ” الحمراء ” ؛ كنا دائما نتبادل المزاح كأصدقاء ” ألداء ” عندما يشاكسني مع المخرج البحريني الكبير ” عبدالله السعداوي ” حول وجهة نظرهما في ضرورة الإنعتاق من سطوة الثقافة المصرية و التبعية للقاهرة فأجيب بأنني لن أطلق سراحهما .. ؛ و صدقا وقع ” قنون ” في غرام القاهرة الفاطمية ربما لأنه من نسل مؤسسيها .. كان أول عروضه المسرحية في “وكالة الغوري ” ثم وقع في غرام ” زينب خاتون ” و ” بيت الهراوي ” حيث كان يشترط أن تكون عروضه هناك بالقرب من الحسين حيث نحتسي الشاي بعد العشاء لنذهب ” لنفرغل ” بعد ذلك “حسب تعبيره ” حيث كان ذلك المصطلح يعني تناول عصير المانجو عند ” فرغلي ” ؛ كان ” عزالدين قنون ” عاشقا للقاهرة الإسلامية و القبطية بنفس براعته في تذوق القاهرة الأوروبية حيث إكتشف خباياها وحده ليفاجئني ذات يوم بدعوة على العشاء في ” إستوريل ” و كنت أظن معرفته عصية عليه .. لكن كيف يتأتي ذلك مع أبن المصاهرة الحضارية في تونس .. ذلك الأندلسي الأخوال .. بعد أن ألقيت نظرتي الأخيرة على جسد صاحبي المسجي حانت مني إلتفاته إلى اللافتة الموضوعة على المقبرة تحمل لقب ” صانشو ” .. لتذكرني بأن صاحبي قال لي أن عائلة والدته أسبان مسلمين .. سكان أصليون لم يفدوا على الأندلس و رغم ذلك طردوا منها لأنهم مسلمون في حروب الإسترداد  فنزلوا إلى تونس شأنهم في ذلك شأن ملايين الأندلسيين الذين وفدوا إلى المغرب الكبير .. إذن عاد صاحبي إلى حضن أمه ..

الكاتب والشاعر المصري أشرف أبو اليزيد حرص على وداع عزالدين قنون قبل أن يشارك في فعاليات معرض الكتاب في تونس

الكاتب والشاعر المصري أشرف أبو اليزيد حرص على وداع عزالدين قنون قبل أن يشارك في فعاليات معرض الكتاب في تونس

قمره طاح :

طاح القمر أو قمره طاح هكذا كتبت على صفحتي في الفيسبوك و أردفت الكلمتين بأن صديقي ” عز الدين قنون ” قد غاب .. لكن العجيب أنني فوجئت أن رفيقة الرحلة الفنية ” لعز الدين قنون ” ” ليلى طوبال ” مديرة البرمجة في ” فرقة الحمراء و المركز العربي الأفريقي ” قد كتبت الكلمات التالية في توارد خواطر عجيب ملخصا لأسماء أعماله و عمله الإنساني :

ما تقولولي أوراق الدالية طاحوا… الموت جاتك قمره طاح عزالدين قنون… طيور الليل تبكي والحبّ في الخريف صعيب… نواصي زهدي ومهدي تسلّم عليك… صحت على قوّة جهدكلنتكلّم بصمت… تفجعوا إلّي شادين الرهائن… آخر ساعة ما جاتش في وقتها يا قنون… غيلان البلاد ما زالت مسيّبة… وبعدك آش كون مازال يعمل مسرح؟؟؟

أشار إلي المسرح الكبير ” محمد رجاء فرحات ” قائلا : كلما سرت في القاهرة كان هذا السيد يقول لي مشينا هنا أنا و ” قنون ” و قال لي .. و قفنا هنا أنا و ” عزالدين ” و حكى لي .. حسنا يا ” رجاء ” ماذا سنفعل الأن و ” قمره طاح ”

 المسرحي التونسي الكبير نورالدين الورغي و لحظة صمت بليغة

المسرحي التونسي الكبير نورالدين الورغي و لحظة صمت بليغة

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات