خريطة ثقافية جديدة لمصر

10:11 صباحًا الأربعاء 17 يونيو 2015
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في زيارتي الأخيرة للعاصمة الهندية؛ دلهي، كان السائق يعبر الشارع في حي هاديء، حين رأيت مجموعاتٍ من الهنود، معظمها يشكل أفرادُها أسرة واحدة، يرتبون أنفسهم في طوابير أمام فيلا صغيرة مسوَّرة ، مصبوغة باللون الأبيض، تحوطها حديقة متوسطة المساحة.

سألتُ عن المكان فقيل لي إنه بيت أنديرا غاندي في دلهي، المرأة التي ولدت قبل نحو 100 عام (نوفمبر 1917)، وأصبحت أول هندية ترأس مجلس وزراء بلادها، أكملت 3 فترات متتالية، قبل أن تُغتال في الرئاسة الرابعة بيد أحد متطرفي طائفة السيخ، نهاية أكتوبر 1984.

كان الدخول مجانا إلى البيت الذي صاغت فيه صاحبته أهم قرارات بلادها، وقد استسلم جميع الزوار للزحام المرتب ليحظوا بشرف إلقاء نظرة على أرجاء المكان، ومقتنياته، التي تكاد تقول إن صاحبته تركته قبل أيام، وليس قبل أكثر من 30 سنة.

أهم ما يميز البيت مكتبته، التي تسللت إلى أكثر من قاعة، مما يعكس إرثها الكبير وشغفها بالقراءة وقد كانت عائلة جدها الكشميري مزيجا بين الشرق والغرب، تميزه، كذلك، مكتبة كبيرة. كما امتلأ المكان بالصور الشخصية، والمنحوتات، والهدايا التذكارية.

تأملت البيت بنظرة أخرى، خاصة وأن مثله كثير من بيوت كبار رجال السياسة والصناعة والفنون والآداب متناثرة في كل مدينة هندية زرتها، وقد تحولت بدورها إلى متاحف نوعية، كمتحف النسيج في أحمد آباد مثالا، التي جلستُ قربها ببيت غاندي ، إلى جانب مغزله الشهير، مثلما أصبحت بيوت مهراجات حكموا مقاطعات راجستان فنادق ومنتجعات تحتفظ بطابعها الأصلي، وبركن يذكر ضيوفها بقاطنيها ومالكيها ذات يوم، ناهيك عن المدن الغربية التي تحتفظ ببيوت أعلامها لمئات السنين.

كمصري، بادرني سؤال: أين بيوت أعلامنا، في السياسة والأدب والفن؟

صحيح أن بعضها لا يزال “حيا” بفضل جهود كبيرة، ومنها فيلا طه حسين أو “رامتان” التي حولتها وزارة الثقافة إلى متحف يضم متعلقات عميد الأدب العربي، وكتبه، وأوسمته، وجعلت الدخول إليه بمبالغ رمزية، ومجانا خلال أسبوعين يبدآن في 28 أكتوبر من كل عام.

هناك، كذلك، “كرمة ابن هانيء” وهو متحف أمير الشعراء، الذي حولته وزارة الثقافة إلى مركز نشط. والمتحف بيت بناه أحمد شوقي على كورنيش النيل في الجيزة، تحيطه حديقة يتوسطها تمثال الشاعر من البرونز من أعمال الفنان جمال السجيني.

كما حولت وزارة الثقافة عددا من البيوت / القصور التاريخية إلى مراكز ثقافية وفنية مثل بيت السحيمي وبيت السناري وبيت الست وسيلة، وغيرها.  وحاولت مكتبة الإسكندرية أن تنشيء “ركنا” دائمًا للفنان شادي عبد السلام تستعيد فيه رائحة مكان من خلال مقتنيات وأعمال له.

لكن  هذه الأمثلة لا توازي تاريخ مصر العريق ، ولا ترقى ـ كما وكيفا ـ إلى الصورة الحضارية التي عاشتها البلاد، ولا تعكس الصورة الكاملة لمؤسسي مصر، وبناة ثقافتها.

egyptإن دور هذه البيوت في تأصيل الهوية، وجعلها نقطة ضوء تتواصل مع جمهور أكبر يجعلنا نطمح في أن يولد في كل شارع مصري بيت مماثل، ولكن، للأسف بتنا نسمع ـ بين حين وآخر ـ عن مأساة للبيوت التاريخية في مصر، سواء بالهدم، أو بالحرق، أو بالاتلاف، أو بالإهمال.

في فترة ما بين ثورتي 25 يناير و30 يونيو، كنتُ أزور مدينة أصيلة بالمملكة المغربية، حين حلت السيدة سيفرين جيليه  Séverine Giles ضيفة على برنامجي التليفزيوني “الآخر”.

لم تكن تلك زيارة سيفرين الأولى للمغرب، ولم تكن كذلك أصيلة وجهتها الأخيرة، فقد جاءت هذه المثقفة الفرنسية لتنشيء برنامجا تحت عنوان الرحلات الثقافية.

خلال عدة شهور تسبق الزيارة وترافقها، تولت سيفرين جيليه، مع متطوعين، قراءة أعمال أدبية روائية وقصصية مغربية، تختار منها مقاطع تمثل خريطة المغرب، من مدينة طنجة شمالا، إلى واحة ورزازات جنوبا، وتتحول هذه المقاطع، التي تتكون من فقرات أو صفحات، إلى جزء مسموع تحضيري، يمثل ركنا أساسيا من برنامجها السياحي ـ الثقافي الذي تؤسسه.

ثم تزور سيفرين المدن والواحات المغربية التي وقع عليها الاختيارلتربط مسارا، بين مقهى كان يجلس فيه محمد شكري، وبيت كان يسكنه محمد زفزاف، وأسواق ودروب عرج عليها في مسيراتهم كتاب الأدب المغربي وشعراؤه، تُصوِّر وتجهز ما يشبه خريطة للزائر.

ستعود سيفرين إلى باريس، لتكمل ثلاثية العمل، بأن يتم تسجيل ما رأته وقرأته، وليتاح للزوار الذين “اشتروا” هذا البرنامج السياحي الثقافي، أن يأتوا المغرب، فإذا بهم حين يقفون في ساحة جامع الفنا، مثالا، يضعون السماعات، ويضغطون على رقم معين، فيستمعون إلى وصف المكان، بصوت الأديب نفسه، لو توفر، أو بصوت آخر، وربما تحين لهم فرصة اللقاء بالمؤلف ، لو كان لا يزال حيا.

سألتها عن وجهتها التالية، فكانت سردينيا، حيث للفرنسيين هناك ذكريات مشتركة، وقالت إنها زارت مصر، وتتمنى لو أسست برنامجا مماثلا، وقد يكون الأمر ممكنا، بعد أن تهدأ الأمور.

أستعيد هذا الحوار وأمامي خريطة مصر، بأسمائها المكتوبة الظاهرة، وفي عقلي خريطة ثقافية أخرى، بأسمائها المدونة في الذاكرة، تتحول فيها المدن إلى كائنات حية؛ على لسان روائيين وكتاب قصة وشعراء، ألهبوا حماس الأرض التي ولدوا عليها، وعاشوا في شوارعها، حيث كتب هواء المدن والقرى ذكريات يتنفسها الجميع إلى اليوم.

إنني لا أطمح أن يتم إنشاء برنامج مماثل لخريطة مصر الثقافية لفائدة السياح وحسب، وإنما أتمناه أن يتاح للمصريين أيضا، وليست هذه رفاهية، فمن يعرف وطنه حق المعرفة سينتمي إليه حق الانتماء.

أتخيل مدرسة إعدادية أو ثانوية، يقود طلابها معلم لغة عربية نابه، إلى حقل قريب من قرية “رملة الأنجب” التابعة لمحافظة المنوفية، حيث ولد الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر (1935 ـ 2010) ، فيستمعون إلى قصائد بصوته، ويقدمون قراءات مما يناسب من شعره. وهذا نموذج من عدة نماذج مماثلة، بين قاهرة نجيب محفوظ (1911 ـ 2006)، وإسكندرية إدوار الخراط (1926)، ومنصورة فؤاد حجازي (1938)، ونوبة حجاج أدول (1944)، وهكذا. وأعتقد ـ جازما ـ بأن إقامة رحلات بشكل منتظم إلى معالم قاهرة نجيب محفوظ (نموذجا) سترسخ الكثير من المفاهيم والصور عن تاريخ القاهرة المعاصر لدى كثير من الطلاب والمواطنين على حد سواء.

إن آلاف المنتسبين إلى نقابات واتحادات الفنون والآداب المصرية يدورون في فلك ضيق. فالأدباء يقرأون لأنفسهم، وضمن دوائر مغلقة يستمع إليهم نخبة محدودة، وتتداول المطابع الخاصة والحكومية مطبوعاتهم مع المخازن والغرف المغلقة، ولذلك تموت حروفهم قبل أن ترى نور خريطة مصر الثقافية الشاسعة.

والأمر نفسه لفنانين، تشكيليين ومسرحيين وسينمائيين، لا يبرز منهم سوى أعداد قليلة، ويبقى سواهم يتحين فرصة قد لا تأتي، وهي ـ الفرصة ـ متاحة عند عتبات جمهور أوسع.

لقد عرف الشارع المصري الفنون كلها، فقد عرف فن الأراجوز، الذي وثق لتاريخ الأمة، وحفظ شفاهيا شخصيات وأيقونات تمثل القطر المصري من شماله إلى جنوبه، وتجسد أصدقاءه وأعداءه، مما ساهم بتشكي وعي المتلقي في كل حي، كما حكى لي عم صابر المصري (75 سنة) أكبر لاعب أراجوز.

كما كانت الموالد الدينية الشعبية فرصة للقاء رواة السيرة الهلالية، في رحلة كانيل، تفيض من الجنوب إلى الشمال، فتغرس وتروي وتُنبت، وترسخ مفاهيم الانتماء لهذا الوطن.

أستطيع أن أقول إن مصر اليوم بحاجة شديدة لخريطة ثقافية يجتمع فيها الاثنان، الفنان artist والحرفي artisan وأن يتكامل عملهما معا، وأن تقدم النخبة نفسها للعامة، وأن تقرأ كذلك روح مصر في فضائه الأوسع.

ومما يجدر ذكره أن نقول بأن تلك الخريطة الثقافية لا تكتمل إلا من خلال الحرف التقليدية، يكفي أن نذكر مثالين؛ شارع الخيامية في القاهرة، الذي لا يزال يقدم نماذج حية لتراث مصر على القماش الملون، ومصانع الألاباستر في البر الغربي قرب معابد الفراعنة، التي تستنسخ آيات الأعمال الفنية التي نحتها الأجداد. هذان النموذجان وغيرهما مثل صناع السجاد والفخار يجب أن تكون لها خريطة يتم ترويجها يحج إليها المواطن قبل السائح.

لنجعل من خريطة مصر الثقافية الجديدة بقاع ضوء تنيرها تلك الباقات، من الأعلام والفنون والآداب والصناعات الحرفية. إن دولا صناعية كبرى مثل كوريا الجنوبية تروج ثقافتها ـ من الأغنيات والمسلسلات والأفلام ـ بما يدر عليها الملايين من الدولارات ألأمريكية كل شهر، ولمصر زخم ثقافي نوعي وكبير يمكن أن يمثل رافدا جديدا للدخل القومي.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات