عن الرواية “أرجوك اعتن بأمي ” : ما بعد رحيل النهر …

10:50 صباحًا الأربعاء 9 ديسمبر 2015
أمل ممدوح

أمل ممدوح

ناقدة مسرحية وباحثة أنثروبولوجية وصحفية حرة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

12312527_10153153439971143_1128381889_nأي جليد سكن بركانها فأطفأه ؟؟ أي سد أوقف شلالها الدائم ؟؟ كيف خفتت هذه الروح الثرية وملئت خواء ؟؟ فجأة تختفي هذه القارة من العطاء فتصير ذرة تتوه بين جموع الناس ..

هي “بارك سو نيو” .. أم لخمسة أبناء ..تبتلعها المدينة فتتوه في محطة سول للأنفاق حين أتت مع زوجها من بلدتهما ليحتفلا بيوم ميلادهما مع أبنائهما في يوم ميلاد الأب .. فقد ضحت بيوم ميلادها لتخفف عن الجميع.. كان يمشي أمامها غير متلفت وراءه حتى ركب القطار واكتشف بعد وقت عدم وجودها .. لقد فقدها ..خمسون عاما ظلت تطلب منه أن لا يسبقها ..” كأن هناك قانون يحتم عليه أن يسيء معاملة زوجته”  ،يفزعون جميعا ويبحثون عنها في كل مكان دون جدوى .. يصرخون في وجه بعضهم ويصفقون الأبواب ويدخنون بشراهة .. يغوصون في أنفسهم وذكرياتهم  ليتسع حجم الدائرة من حدود الحادثة الأخيرة إلى عمر بأكمله ..

تأخذنا لهذا المأزق الموجع الكاتبة الكورية “كيونغ سوك شين” في روايتها ” أرجوك اعتن بأمي ” التي أصدرتها الدار العربية للعلوم ناشرون وترجمها إلى الإنجليزية تشاي يونغ كيم وقام بالتعريب أفنان محمد سعد الدين وقد حصلت الرواية على جائزة ” مان ” للآداب في آسيا  عام 2012 وتمت ترجمتها لعدة لغات ولاقت صدى كبيرا.. ولا أكاد أشك أنها مست عند قارئيها عمقا موجعا . الرواية قدمت في أربعة فصول معنونة سردت خلالها الأحداث حتى الخاتمة .. كل فصل منها يتناول فردا في العائلة يسرد ذكرياته وما يشعر به تجاه غياب الأم ، فمرة الإبن الأكبر ” هايونغ تشول ” ومرة الإبنة الكبرى الصيدلانية ومرة الزوج ..أما “تشاي هون “الإبنة الثالثة الكاتبة فتحتل المساحة الأكبر من السرد طوال الوقت ، ونجد أن البناء السردي يعتمد على راوٍ يخاطب الجميع ويروي أغلب الأحداث ..وقد يثير هذا الأسلوب ارتباكا لدى القارىء إلا أنه يتيح عرضا تفسيريا أوسع ..ويظل السؤال ” من هذا الراوي ؟ “من الواضح أنها الإبنة الكاتبة كتبتها كنوع من الاعتراف والمواجهة الجالدة للجميع بما فيهم نفسها التي لم تستثنها من صيغة المخاطب مما يوحي أننا نقرأ روايتها عن أمها التي كتبتها بعد الأحداث.

“تشاي هون” هي الأبنة الصغرى الكاتبة التي يستمر معنا سردها طوال الرواية وفي بدء تعرفنا عليها نجد أن حرفتها في الكتابة لا تسعفها لتكتب إعلانا مؤثرا عن أمها التي فقدوها .. وتكتشف أنها تجهل أبسط المعلومات عنها كعام ميلادها ومعرفتها القراءة وللمفارقة فإن أول كتاب اشترته كان ” كثير من الإنسانية ” وأول كتبها كان ” اكتمال الحب ” لكنها نفسها من تبحث عن أم ضيعتها وهي نفسها من بحثت أمها عمن يقرأ لها كتبها دون أن تعلم .

أما “هايونغ تشول ”  فهو الابن الأكبر الذي كان مفضلا لدى أمه .. يتذكر مواقف صاخبة التضحية لأمه ثم يتذكر بأسف أنه  عند وصول والديه كان في حمام الساونا وبينما كانت أخته في الصين تشاهد تحليق الطائرات الورقية كانت أمها تنهارعلى رصيف المحطة .

ويأتي دور الزوج الصامت فيتذكر كيف صارت تنسى تفاصيل روتينية دون أن ينتبه.. وأنه حتى حين رآها تضع رأسها في طست من الثلج أو في الثلاجة من شدة الألم والصداع تجاهل ذلك ..ويسترجع تقصيره معها كان يراها كالشجرة الثابتة التي لا تتحرك من مكانها إلا إذا اجتثت .. لكنه الآن يناديها دون مجيب .

أما الإبنة الكبرى فتزرع أخيرا جذور شجرة البرسيمون التي أعطتها لها أمها وألحت لتزرعها عندها لتتذكرها حينما تطرح الثمار لكنها تجاهلت الأمر فقد رأتها هزيلة لا ترضيها لكنها فوجئت بتمدد جذورها ونموها بشكل غريب ..إنها أرادت أن تشجعها على التحمل وتدفعها لتذكر أمها المنسية ..فهي شجرة تشبه هذه الأم .

نجحت الرواية في جر القارىء بهدوء ودون افتعال لحلقة الندم المفرغة المريرة التي سقط فيها الأبناء بفقدان هذه الأم التي تجسد الأمومة بأدق صورها وأيضا أوسع معانيها .. فهذه الأم المعطاءة جسدتها الرواية كالأرض الخصبة مصدر الحياة والتي تضم جميع الكائنات .. فهي شخصية واهبة للحياة ككوكب تدور في فلكه الكائنات بشكلها الأشمل فهي تزرع الحقول وتقطف ثمارالباذنجان والملفوف والثوم والبصل وتجمع الأرز وتقشره وتصنع صلصة الفلفل الحار ومعجون الفاصوليا والصويا حتى لنكاد نشم رائحة الأرض والثمار وأنفاس الطبيعة ورائحة التوابل ..تحمل الثمار والسلال على ظهرها ورأسها وفي جيوبها وعلى رأسها منشفتها المتسخة لكن رنين ملاعق أبنائها في الصحون يطربها وينسيها التعب ..طعامها مطهو بالحب كما يقول الجميع .. تحمل لمسة ميداس الذهبية فتجعل كل شيء حولها خصبا ذو قيمة..تقدم الحياة دورات متعاقبة فتطعم بقايا الطعام للدجاج وبقايا الدجاج تذهب للأرض وتبيع المصابيح القديمة للسائحين وتبيع جراء كلبها في السوق والقمح المخمر لمصانع الشعير ، بل وتحيي طقوس الأسلاف على كثرتها رغم مشقتها.

توالت روايات من رأوها فأجمعوا أنها ترتدي صندلا بلاستيكيا أزرقا وجرح متقيح عند إصبعها..لكن الأب كان الوحيد الذي قال أنه صندل عاجي ..وكان الوحيد المخطىء، ورآها البعض  تأكل من القمامة يطن حولها الذباب .. لتكمل هذه الصورة لأم مثلها جلد أعماقهم .. ويستمر التذكر وتدفق معلومات لم يعرفوها عن أمهم كقطع “بازل” تصطف شيئا فشيئا .. كالزوج الذي يعرف مؤخرا أن النقود التي كان يرسلها أبناؤهم كانت تتبرع بها لدار أيتام يحتاجون عطاءها .

الكاتبة الكورية كيونغ سوك شين

الكاتبة الكورية كيونغ سوك شين

يتدفق السرد الغزير والمليء بالتفاصيل الحية والصور البصرية والدلالات وتفاصيل الحياة الكورية متنقلا من الماضي إلى الحاضر والعكس..وتلمس الرواية سلكا عاريا بإظهار أثر الحداثة والمعاصرة في البعد عن الأصالة والقيم الموروثة والتي تمثلها هنا الأم مما يولد فجوة واغترابا وتفككا يضيع الأم ..ويتضح هذا المعنى في موقف تعبيري عن البئرالقديمة الفياضة التي ردمت أسفل الإسفلت في الظلام حين ركبت مضخة حديثة وفي عدم الاستجابة للإعلان إلا بتحديد مكافأة مالية .

وأخيرا رسالة مشابهة تبعثها لابنتها الكاتبة حيث طلبت منها أن تشتري لها مسبحة من خشب الورد من أصغر بلاد العالم ، لتذهب بالصدفة إلى الفاتيكان فتكتشف أنها أصغر بلاد العالم ..تبحث عنها بين الناس وتشتري لهاالمسبحة التي طلبت منها يوما أن تشتريها لها من أصغر بلاد العالم كما تشعر بنفسها.. فدفعتها لتذكرها تستمر رسائل الأم حتى تصل لتمثال في كنيسة سان بيتر يذهلها لأم تحمل ابنها بحزن موجع فتختتم الرواية بأن تجثو على ركبتيها تعض شفتيها يأسا وندما داعية الله  في تسليم : ” أرجوك اعتن بأمي “… لتكون الجملة الخاتمة هي عنوان الرواية بعد أن فسرته أحداثها السابقة .. وقد تدرج انتقال هذه الجملة التي تحمل طلب العناية مع أحداث الرواية من الأم لأبنائها أن يعتنوا بأنفسهم ثم بين الأبناء وبعضهم بعضا بعد فقدان الأم ثم من الأب للإبنة أن تعتني بأمها.. لتطلب أخيرا الإبنة اليائسة هذه العناية من الله لأمهم .. فيعتني بها كما تستحق .. وكما لم يفعلوا .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات