باحثة أمريكية توثق فن تلاوة القرآن في مصر

04:05 صباحًا الأربعاء 25 يناير 2017
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

فن تلاوة القرآن

فن تلاوة القرآن

القاهرة تستنشق القرآن. تتنفسه حتى مطلع الفجر. تصل الآذان تلاوته في المساجد والأضرحة، في الشوارع وسيارات الأجرة، كما في المنازل والمحلات. بتلاوة القرآن يستقبلك المصريون الحياة، وبه يودعونها. لذا حين جاءت الباحثة الأمريكية كريستينا نيلسون إلى مصر قبل 35 عامًا، بهرتها هذه الظاهرة الصوتية في الحياة اليومية لأهل القاهرة، العاصمة الرسمية لفن تلاوة القرآن.

رأت نيلسون أن الظاهرة القرآنية تجاوزت إطار الخلفية السمعية لتصبح جزءا من صميم الإخلاص الديني، وقطعة من روح الممارسات الثقافية والإجتماعية، بل وفنا له قيمته الخالصة. واستحوذ عليها فن تلاوة القرآن فاستقرت في القاهرة، لتعيش تجربة فريدة؛ لم تكتف فيها بالرصد عن بعد، بل عاشتها مستمعة وقارئة، متدربة على الفن الذي عرفت أن إجادته – في حد ذاتها – عبادة.
في هذه الأيام، حيث نعيش طقوس شهر رمضان المبارك، تعلو وتيرة الحاسة القرآنية، فالأذن تؤشر لساعات النهار والليل بالقراءات القرآنية، من قرآن الفجر حتى قرآن ما قبل صلاة المغرب، وبعده في صلاة التراويح.

قبل نيلسون لم ينظر علماء الغرب إلى القرآن الكريم إلا كنص ديني مكتوب يماثل النصوص المرسلة التي سبقته، ولذا فإن كتابها (فن تلاوة القرآن) الصادر بالإنجليزية (The Art of Reciting the Qur’an, Kristina Nelson, AUC Press, 2001) يعد المحاولة الأولى لقراءة مغايرة، تحاول الوصول إلى فهم أعمق للقرآن الكريم كظاهرة صوتية في الأساس. وكان سبيلها إلى ذلك، وهي الباحثة في علوم الموسيقى، أن تجد لنفسها مكانا حيث يقرأ القرآن الكريم، لذا كان كتابها الذي (يغير الطريقة التي نفهم بها القرآن مثلما يغير الطريقة التي نستمع بها إليه) كما يقول فيليب دي شيلر.

إثر صدور الكتاب، دار بيني وبين مؤلفته حوار، سألتها عن الجديد في كتابها؛ فن تلاوة القرآن، فأجابت، بتواضع، بأن الأمر ليس أنها (اكتشفت) جديدا، بل الحق أنها استحضرت عددا من الاعتبارات المختلفة معا. وذكرت لي مثالا، كيف أنه ي كثرة ما كتب من أدلة حول قواعد التجويد، لم نقرأ عن الكيفية التي يستفيد بها المقريء من القواعد لأداء تلاوته؛ أين يقف، واختياره إحدى القراءات، وكيف يمكن له أن يقسم النص وفق هيكل قوامه الإعادة، وما سواها، أو ما هو التأثير السمعي للقلقله، على سبيل المثال، وهي عنصر أساس في تشكيل الإيقاع الفريد للغة القرآنية. الإجابة عن كل هذا كان دأبها في هذا الكتاب.

هل الكتاب موجه أساسا للقاريء في الغرب أم أن ترجمته إلى العربية واردة؟ هذا سؤالي الثاني الذي أجابت عنه بأملها في ترجمة كتابها الذي توجهت في سطوره إلى القاريء الغربي الذي لا يمتلك أدنى معرفة بالتقاليد القرآنية، مثلما توجهت به إلى هؤلاء المعتادين عليه كنص مكتوب والعارفين بأنه أساس الإسلام. تقر بميل البشر لإتخاذ دينهم على خطى الأسلاف. وفي كتابها حاولت أن تشرح القوى العاطفية للقرآن الكريم حين يتلى، بما يستحضره من شعرية (تقصد كيف يستحضر إيقاعه المعنى)، التنغيم، السياق الإجتماعي، الجدال الدائر حول الموسيقى في الإسلام، صوتية القرآن الكريم كما تحدث في الحياة اليومية، توقعات المستمع، وغيرها الكثير.

image

كريستينا نيلسون

وحين سألتها إن كانت لديها أفكار تتعلق بالاضافة إليه كل فترة أو في طبعاته الجديدة؟ قالت بأنه من المهم أن تكون هناك إضافات شاملة، توضح كيف أن التلاوة القرآنية المثالية – لا نقول تغيرت، بل – أعيد تفسيرها، تبعا للظروف المتغيرة التي أشرت إليها فيما أضفته للمتن. كم سيكون مهما أيضا بل ومفيدا كذلك أن تكون هناك بعض الدراسات المقارنة، مع المجتمعات الإسلامية الأخرى. والواقع أن كون التفسيرات الثقافية للإسلام تختلف من إندونيسيا إلى الباكستان إلى مصر، لا يمثل أي تهديد لوحدة الإسلام. بل يؤكد شمول ميراثه كدين عالمي.

قدمت كريستينا نيلسون في كتابها عددا من الأشكال الشارحة، حاولت فيها نقل الدرس الصوتي الغربي لتطبيقه على رسم أنساق القراءة عبر أشكال ، سألتها عنها، فقالت: إن الأشكال التي قدمتها، كانت محاولة منها لتنقل إلى ذهنية القاريء مدى التعقيد الذي يتم به تشكيل هذا الطقس الخاص. أرادت أن تحمل حيوية التفسير الثقافي للقراءة المثالية: كيف يمكن لهذا التفسير أن ينشأ ، ويتواصل خلال الممارسة. هناك، بالطبع، كتب كثيرة تتناول (العلوم القرآنية)، من قراءات وتفاسير وقواعد تجويد وغيرها. كما أن هناك مجموعة من سير قراء القرآن الكريم المصريين. وبالرغم من توسع الدرس الغربي للقرآن الكريم حتى أنه يضم ما لا يندرج في قائمة الدرس الإسلامي له، مثل التحليل النغمي، إلا أنه تحليل مرتبط بالنص المكتوب، أي لا يحمل سوى بعد واحد. وفي مقدمة كتابها (فن تلاوة القرآن)، لخصت كريستينا نيلسون ما قدمه هذا الحقل البحثي، حين كتبت فصوله، وعندما قدمت هذه الطبعة أضافت ما تلاه من دراسات اعتمدت على المنهجية ذاتها التي اختارتها.
تقول كريستينا في مقدمة الكتاب (النص المكتوب للقرآن ليس من مهمته الحفاظ عليه من التغيير، فالأساس في الحفاظ عليه هو القراءة الشفاهية. كما أن النص المكتوب ليس هو المرجع المطلق للنص! ) وكان يجب أن أستفسر منها، فأجابتني بأن النص القرآني المكتوب هو جزء واحد فقط من الظاهرة القرآنية، التي من بينها، الصوت، واللوح المحفوظ، وغيرهما. كل هذا يشكل معا القرآن، والمعرفة القرائية ترتكز على مصادر عدة، أكثر من مجرد الكلمة المكتوبة وحسب. والواقع أننا نميل لاضفاء مصداقية أكبر على النص المكتوب، أكبر مما نمنحه لأية معرفة مماثلة. ولكننا ندرك أن أول نص قرآني مكتوب تم توزيعه في الناس مع مقريء، يعلم فن التلاوة.

يقدم كتاب نيلسون فرصة لقراءة مغايرة، ومساحة لاستعادة لحظات الاستماع، التي حاولت كريستينا رسمها على الورق بالكلمات. سألتها عن سبب عدم تقديم صور توثيقية للقراءات الدينية، وما إذا كانت تعتقد في المستقبل أن هذه الدراسة قد تصبح على أسطوانة ومعها تسجيلات حقيقية تسهل الشرح. سردت المؤلفة كيف أنها خلال الجزء الميداني من دراستها إلتقطت الكثير من الصور، إحداها على غلاف الكتاب للشيخ مصطفى إسماعيل، وجمعت العديد من التسجيلات، بل وسجلت الكثير بنفسها، وتمنت، منذ الطبعة الأولى للكتاب، أن تضاف إليه صور، أو شريط كاسيت، أو أسطوانة، فمن لا يعي التجربة لا يستطيع أن (يسمعها) من خلال ما تكتب. ليست لديهم المرجعية. أما هؤلاء العارفون بالتلاوة فسيستفيدون من سماع أمثلة بعينها، قامت بتحليلها. وإذا كانت النوتات الموسيقية هي الأقرب للشرح فهي بدورها تحتاج من يفهمها. وأعتقد أن الصورة والصوت سوف يضيفان إلى معنى النص الذي كتبته، لذلك تطمح أن يتحقق ذلك في المستقبل.

قسمت المؤلفة كتابها (246 صفحة) إلى سبعة فصول، تحدثت في أولها عن القرآن الكريم وقصة الوحي، وإنجاز النص القرآني المكتوب. فيما جعلت الفصل الثاني للتجويد، والثالث للسماع. أما القراءة المثالية للقرآن وقضاياها واصطلاحاتها فقد خصصت لها الفصل الرابع. وعن القرآن المرتل والمجود كتبت فصلا خامسا بعنوان صوت التلاوة القرآنية. وتلته بفصل عن الحفاظ على التلاوة المثالية للقرآن الكريم. أما آخر الفصول فتناول آليات التلاوة والإستجابة، والفصل بين الموسيقى والتلاوة. وفي ملاحق الكتاب التي بلغت نحو 70 صفحة تعرضت المؤلفة لأحرف القراءات السبع، وقدمت طائفة مختارة من المراجع، مع رصد بأسماء من استعانت بهم لهذه الدراسة القيمة.

أزعم أن انطباعا ساورني كلما مضيت في قراءة (فن تلاوة القرآن)، وهو أن المصريين هم حفظة أسرار هذه التلاوة. وهذا ما لم تبح به المؤلفة رغم انسيابه بين السطور. من ناحية أخرى فأنا أرى أن إضافة الحرف العربي للنص الإنجليزي، عند كتابة الآيات القرآنية، وعند كتابة الأعلام، سيكون مرشدا، وعاصما من الخطأ.

بقي أن أؤكد أن في الصفحات التي تناولت سير المقرئين إضافة مهمة وهي وإن لم تكن شاملة لكافة مقرئي مصر، إلا أنني أرى أن يتم النظر فيها باعتبارها نواة لسير هؤلاء الذين قرأوا علينا آيات الذكر الحكيم، لنخشع في رحابها؛ وهم الشيخ محمد عبد الحكم، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الشيخ كامل يوسف البهتيمي، الشيخ هاشم هيبه، الشيخ محمود خليل الحصري، الشيخ مصطفى اسماعيل، الشيخ محمد صديق المنشاوي، الشيخ علي محمود، الشيخ فتحي قنديل، الشيخ محمود رمضان، الشيخ محمد رفعت، الشيخ محمد سلامة، الشيخ أحمد الرزيقي، الشيخ إبراهيم الشعشاعي، الشيخ علي حجاج السويفي، الشيخ محمد محمود الطبلاوي، الشيخ عبد المتعال منصور عرفه، والشيخ عامر السعيد عثمان. وقدمت المؤلفة تحليلا لقراءاتهم، ووصفا لما يفضْلون به، ويفضِّلونه أثناء القراءة.

………….

منشور في مجلة داليدا، العدد الثاني، يوليو – أكتوبر 2016

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات