الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر | صلاح مطر

06:53 صباحًا الأحد 13 نوفمبر 2016
صلاح مطر

صلاح مطر

كاتب وروائي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

IMG_3226

15
اصطحبني أبي من عند برج الشيطان إلى القصر. كنت قد قضيت أياماً عند سفح الجبل مع الخليل ورفيقيه بيتر وإيزاكا، ولما علم أنني صعدت أنا وهو إلى قمة البرج سارع ومعه الكهنة إلينا. في اليوم السابق لصعودنا قلت للخليل:
– إنني أريد أن أعيش راهباً في حب الله، فلا آكل ولا أشرب، ولا أقرب النساء.
فقال:
– الله لا يريدنا رهباناً في أرضه، بل عمّاراً لها.
ثم أشار إلى عبيد يعملون عند واحدة من عائلات الكهنة في وادي الشيطان، وقال:
– اجعل رهبانيتك في هؤلاء، وفي أولئك الكادحين بالحقول.
كنا نمضي ذات يوم في طريقنا إلى رادان، فاعترض طريقنا متسول وأنا أتحدث إلى الخليل، فأعرضت عنه، وواصلت حديثي، ولما ألح في السؤال نهرته، فتجهّم الخليل، وقال:
– أيصطفيك الله ويرسل إليك رسولاً، فتُعرض عنه؟.. لقد جاء ليأجرك به، فنهرتَه، وعصيت أمر ربك “وأما السائل فلا تنهر” (1)
حين قال الخاليلو إن الله أرسل إليّ رسولاً؛ لاحظت الاهتمام على وجه مارجو، وهمّ بسؤال الخليل عن ذلك الرسول، لولا أنه أتم حديثه، ففهم ما يقصد. ولكنه كان أكثرنا تحمساً حين قال الخليل:
– علمت أن ربكم مريض، فهل تحبون زيارته؟
عقدت الدهشة ألسنتنا، وربطت خطواتنا على الطريق. ومضى الخليل، فتبعناه، حتى توقف عند كوخٍ قريبٍ من كوخ العم راحوم، ونادى. ولما جاءنا صوت الرجل من الداخل ضعيفاً دخلنا، وجلسنا معه قليلاً، ثم انصرفنا وتركناه باكياً، وظننت أن وحدته هي سر بكائه. ولكن ثاباتو قال لي عند الباب إنه الرجل الذي وشى به يوم كان يتنكر في هيئة أبيه، وإنه يعيش وحيداً بعد موت زوجته وزواج ابنتيه، وإنه بكى لأنه زاره في مرضه على رغم أنه كان سبب سجنه. وأما مارجو فلم يطِق صبراً، وقال منفعلاً:
– خرجنا كما دخلنا، ولم نرَ الله!
فردّ الخليل:
– يعاتب الله عبده يوم القيامة: “يا ابن آدم، مرضتُ فلم تعُدني. فيقول: ياربّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟. فيقول الله: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعُدْه، أما علمت أنك لو عُدتَه لوجدتني عنده” (2)
بدت خيبة الأمل على وجه مارجو، وحين انتحينا جانباً قال إنه تمنى أن يرى الله ويكلمه كما كلم موسى، فيطلب منه أن يردّه إلى حبيبا. كانت في يده عصا اقتطعها من الشجر، وصرنا نراه بها حيثما ذهب. سألته عنها فقال إنه يأمل أن يباركها له إيزاكا، فتصير كعصا موسى التي فعل بها المعجزات. أشفقت عليه حين رأيته ذات يوم، من دون أن يراني، وهو يضرب البحر بعصاه ناظراً صوب جزيرة الأرامل.
***
أرى في الخليل موسى وعيسى ومحمداً وكل الأنبياء الذين حكى لنا كثيراً عنهم، والذين قال إنهم كانوا يمشون في الأسواق، ويأكلون ويشربون، ويأتون النساء. ولكني حقاً زهدت كل شيء، بعد جرحين أصابا قلبي، وجعلاني في حاجة شديدة إلى اعتزال الناس: جرح جديد لغياب أوريا فجأة، وتواترت إلينا الأخبار متسارعةً عن عزلها وحبسها، وقيل إنها قُتلت؛ لأنها أحبتني، وكانت تسعى كذلك إلى ردّ طاليس إلينا.. ربما لو توقف الأمر عند حبها لي ما كانت أخواتها فعلن بها ما فعلن. وأما الجرح القديم المتجدد فقد استلت سكّينهُ يارا نوري، ودخلت قصرنا زوجةً شرعية لأبي وذبحتني، وصارت أماً لأخوين؛ أحدهما يملأ الجناح الملكي صراخاً وبراءة، والآخر ينتظره أبي ونبوءةٌ بقدوم الجراد.. آهٍ يا سابيني، كم كنت قاسية في تدبيرك لتلك الزيجة! وكم غيّرتك غيرتك، وأنساك إخلاصُك لإلهك نادو حبك لي وتبتلك عند قدميّ! لو كنت لا أزال على عبادة إلهكم هذا لقلتُ إنه استجاب لدعواتك التي لا تنقطع، ففرّق بيني وبين أوريا. وإن كانت غيرة؛ فكيف تجلبين إلى القصر من تعلمين أنني أحببتها إلى درجة اللوعة؟!
لن أعيش لأجتر الحسرة تلو الحسرة، فقد عرفت طريقي، وأيقنت بأن مغزى وجودي في هذه الحياة أن يكون حبي لله ولخلقه.. الخليل علمني أن أكون بشوشاً مثله حين يقابل الناس، وأن ابتسامتي في وجوههم صدقة، وأن الإيمان هو أن تحب الله ورسوله أكثر من حبك لنفسك، وأن تحب الناس، كل الناس، وتكون أنفعهم لهم. وهو بحدسه يدرك أنني عرفت هذا الطريق، ووضع قدمي عليه منذ قرر أن يزيح قروناً من الأوهام التي غشيت عيوننا فأغشتنا.. ذات يوم، وكنت لم أسلم معه بعد، مررنا بأطفال يلعبون ويسردون الحكايات، فقال الخليل:
– إنكم مثلهم بعبادتكم للقمر وإيمانكم بالأشياء والمخلوقات؛ حباً في الأسطورة واللعب، وقد آن لكم أن تكبروا وتعرفوا الطريق إلى الخالق.
تضايقت يومذاك من تشبيهه إيانا بأطفال يلعبون، ولكن حين مضت بي الأيام في صحبته خبرت عمق إدراكه لحياة الإنسان على الأرض، وأنها ليست إلا شيئاً قليلاً جداً في حياته الحقيقية بعد أن نموت. سألته عن الروح التي كثيراً ما يتحدث عنها، فقال:
– هي من أمر الله، يملكها ويسيّرها كيف يشاء، بينما ترك لك ملكية جسدك حتى إشعار الموت.. عندئذ يعود الجسد إلى أصله، تحلله يد الخالق التي خلقته من الأرض.
***
صدقت نبوءة الخليل، ووضعت ريمي آريات توءمين جميلين، عيسى وماري، وكان الخليل حين يحمل ماري يدعوها “مريم”، ويردد صلاةً على النبي عيسى وأمه التي قال عنها إنها “صدّيقة”. بعد أن باركهما الراهب بيتر بماء النهر، حملهما الخليل، وأخذ يتأملهما كثيراً، ويشم رائحة جلدهما، قائلاً: إن رائحة المولود لا تعدلها عطور أمهر العطارين في الدنيا روعةً وإبهاجاً للنفس.. إنها رائحة الفطرة.
من جديد يلح على رأسي ذلك القابع في بطن يارانوري، وأقول لنفسي: لو وهبت نفسها لي هذه الفتاة العنيدة لكان هذا ابني بدلاً من أن يكون أخي. أحاول طرد هذا اللحوح من رأسي، وأتذكر رسماً خطه الخليل في أوراقٍ وفد بها إلينا، ووجدته حين صعدت إلى قمة برج الشيطان يشبه إلى حد كبير حدود جزيرتنا. ولكني رغماً عني أجدني أقارن بين رسم الجزيرة ووضعية الجنين التي وصفها الخليل ذات مرة؛ حين كان يحدثنا عن خلق الإنسان. سألته عن مغزى تلك الوضعية، فقال:
– حين نكون في بطون أمهاتنا تعلن أجسادنا السجود لخالقها، رغم أنوف آبائنا وأمهاتنا مؤمنين وكفاراً ومشركين وملحدين.. تتجه رؤوسنا إلى أسفل استعداداً للنزول إلى أمنا الكبرى؛ الأرض. وحين تفارق أرواحُنا أجسادنا نعاد إليها، ولكن غير ساجدين.. أتدري لماذا؟
ردّدت سؤاله، فأجاب:
– لأننا جميعاً، حتى أشدنا إيماناً، نكون ضيعنا كثيراً من حيواتنا في المشي منتصبين وكأننا نريد أن نخرق الأرض أو نبلغ الجبال طولاً، ثم نغادر دار العمل غير قادرين على ركوع أو سجود، إلى دارٍ نحاسَب فيها على ما ضيّعنا من ركوع وسجود.. وحياة.
***
كنا نأكل غداءنا حين جاء جانتانو، ووجهه مصفرّ، وأخبرنا بأن معركة وقعت في قرية راويس بين أتباعنا وأتباع الراهب بيتر، وقُتل فيها واحد من كل طائفة، وحُرقت زراعات وأكواخ، ونفقت ماشية، وكان بعض أتباع إيزاكا يتابعون من بعيد. توقف الخليل عن الطعام، وبدا على وجهه الحزن والغضب الشديدين، ثم أردفته على حصاني، وانطلقنا.. كان ذلك اليوم بداية معارك لم تتوقف، أجّجها خدام للمعبد عرفت وجوههم منذ وجدتهم موزعين بين الطائفتين. شممت مع رائحة دخان الحرائق رائحة روش راوس الكريهة، ورأيت نظراته الثعبانية في عيون من أشعلوا نار الفتنة بين سكان القرى الذين كانوا بالأمس وُدعاء متحابين، على رغم الفقر الذي صفّر وجوههم، وأحال كتانهم أسمالاً لا تكاد تستر من أجسادهم شيئاً.
صار الخليل منذ ذلك اليوم محزوناً، ولم تختلف حال الراهب بيتر عن حاله. كنت جليسهما، وقال بيتر بحسرة:
– “وسوف تسمعون بحروبٍ وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا. لأنه لا بد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد. لأنه تقوم أمةٌ على أمة ومملكةٌ على مملكة، وتكون مجاعاتٌ وأوبئةٌ وزلازل في أماكن. ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع”. (3)
كان ثاباتو يتطلع إلى وجه بيتر متأثراً بحزنه، وأفصح عن خوفه مما تحمله الأيام المقبلة، لاسيما مع تزايد أعداد التابعين لرجال الدين الثلاثة وانتشارهم في القرى، وعدم قدرة أي منا على جمع رجال طائفته دفعةً واحدةً لنصحهم وتحذيرهم من الانجراف في هذه المعارك، فقال بيتر ولوعةٌ تكاد تخنق صوته:
– “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت” (4)
كان جانتانو يقف بعيداً حينذاك ينظر نحونا بحذر، وهمس لي أحد أتباعنا بأنه يعلم شيئاً عن أسباب تلك الفتنة، ولكنه يخفيه، فاستدعيته، ووقف أمامنا. جانتانو يبجّل الخليل، ويحمل في عينيه اعترافاً دائماً بجميل العفو عنه. سألته ماذا يخفي، فقال إنه لا يعلم شيئاً. انتحى الخليل جانباً، ودعاه إليه، ربما أراد ألا ينصحه على الملأ. وبدا أن جانتانو راوغه في الحديث، فسمعته يقول له وقد علا صوته قليلاً:
– إنك حين تكذب لا تغير الحقيقة، بل أنت الذي تنزع ثوبها عنك، فتتعرى أمام ذاتك.. يا جانتانو لا تنزع الثوب.
بكى جانتانو، واعترف لي بأن شقيقه خادم المعبد هو الذي أشعل تلك الفتنة، ثم فرّ بمساعدة أحد الكهنة الموالين لروش راوس، وكان من قبل فراره قد جيّش عدداً كبيراً من شباب الفلاحين المتحمسين، وأمدهم بالمشاعل، ورسم لهم خطة لحرق الأكواخ والحقول بتسلسل يدمر أكبر مساحة منها.
وذكر لي جانتانو شيئاً آخر أحزنه، وهو أن شقيقه الثاني “راندو” قاطعه لأنه رفض الانضمام إلى “جماعة أنصار الحق” التي كوّنها مع شباب متحمسين من طائفتنا، وزرع في نفوسهم أنه لا يؤمن بالله من لا يعادي الحكام وأتباع الطوائف الأخرى، وأن نُصرة الدين تبيح لهم، لو اقتضى الأمر، الحرق والتخريب وحتى القتل. وكان أكثرُ من استمالهم إليه الفلاحين المعدمين والمتسولين والمشردين؛ بعد أن أغراهم بالثمار والأموال التي استحل سرقتها من الأسواق ومن بساتين وبيوت أتباع الحكام والكهنة والتجار بالقرى، وصاروا ذراعه التي تدمّر وتحرق، يأمرهم فيطيعونه من دون تردد ولا تفكير، وكأنهم تركوا عبادة “نادو” ليعبدوا “راندو”.
أحزنني ما سمعته من جانتانو في ذلك اليوم، وما علمته ورأيته من تربص أتباعنا وأتباع بيتر وإيزاكا كلٌّ بالآخرين. ورأيت في عيني الخليل حزناً لم أرَه فيهما منذ وفد قبل نحو خمس سنوات إلى الجزيرة التي تبدل فيها كل شيء. صار يصلي أكثر، ويطيل السجود داعياً ربه بصوت عالٍ بهداية الناس إلى الصواب.
ذات يوم رأيته يهم بالصلاة، وقبل أن يدخل فيها حانت منه التفاتة، فرأى الراهب بيتر يجلس بالقرب منه، فانتقل إلى مكان بعيد. لما فرغ من صلاته، جلس شارداً، فذهبت إليه، وسألته إن كان شيء من تلك الفتنة قد طاله، فكره الراهب بيتر، فانزعج الخليل، وأوضح لي أنه لما رآه جالساً وبيده الصليب ظن أنه يصلي، فابتعد عنه خشيةَ أن يشوّش عليه ويُخرجه من تبتله.
حدثته عما يدور في القرى من الفتن، فقال:
– هذا بعض تأويل رؤياك من قبل.. السحب أمطرت جراداً أصفر يأكل كل شيء.
سألته عن تفسير بقية الرؤيا، فاسترسل في الحديث عن الفتنة:
– إنهم يصلبون المسيح في السماء.. أراه يتألم من أنهار الدم التي لطخ أنصاره صليبه بها. وأرى موسى يبكي وهو يرى أتباعه يسيرون خلف الشيطان عمياناً، فيقودهم إلى تيه لا رجعة منه. وأرى محمداً يخر تحت العرش مستغفراً لما فعل السفهاء باسم دينه. وأرى الخليل إبراهيم يتمنى لو ينزل إلى الأرض، فيعيد تحطيم أصنام من دم ولحم غير أن قلوبها قُدّت من حجارة، وملأت الأرض ناراً لا برد فيها ولا سلام.
ولما أبديت تعجبي من الفلاحين الذين يحرقون أرضهم، نظر إلي نظرةً فيها من الحزن أكثر مما فيها من لوم، وقال:
– أنتم زرعتم فيهم الخوف وأطعمتموهم القهر وسقيتموهم الهوان، فكيف تطلبون منهم أن يحبوا أرضاً شهدت خوفهم وقهرهم وهوانهم؟!
عندئذ تقاطرت أمام عينيّ صور أشباح آدمية كنت أراها في رادان وعلى امتداد الطريق إليها، وصرت أراهم الآن في رافدان وراويس ويمان وكياتو وسعدان وقرى أخرى، وارتسمت في الأفق أمامي صورة الطفلة التعسة موما وجدّيها، والعم ماريسو والعم راحوم والخالة نوري داتي وغيرهم، وأوجعت قلبي من جديد موتة رجلٍ ركبه حارس السجن بدلاً من بغلته، وعجوز تصلبت من البرد، وشيخ وحفيده دُفنا تحت أنقاض كوخهما، وآلاف من الأرامل نفيناهن، ولم نرحم ضعفهن، بل زدنا إلى محنة فقدهن أزواجهن محنةً جديدة، ووهماً بأن مصيرهن في الحياة الأخرى هو الذوبان في نار الشمس بعد طردهن من عند باب جنة لا يدخلها إلا الرجال، وحتى بعدما احتُلت طاليس، ولم يعد النفي إليها ممكناً؛ صرن قعيدات البيوت.. تذكرت قول الراهب بيتر حين ذُكرت أرامل طاليس “لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلةٍ تطيلون صلاتكم” (5)، واختنق صدري بالبكاء، ولكني لم أبكِ.. هل حين تشتد المصائب وتكثر تحتبس الدموع في عيوننا؟!
***
لقد صدقت مارجي حين قالت إن الخليل حررنا، على رغم أنني أنا الذي أخرجته وآخرين من السجن. أخذت له ثماراً من بيض الشيطان وهو لا يزال سجيناً، وكنت يومذاك أزوره في كتان الراهب داموسو، فقال:
– “وما بكم من نعمة فمن الله” (6).. إن الشيطان لا يبيض، بل هي أسماء سميتموها أنت وكهنتكم.
وسكت قليلاً قبل أن يردف:
– يوم يتحرر أبوك من الكهنة تنالون حريتكم، ويوم تعطون العبيد الحرية تنالون حريتكم.
قرأت في ثنايا كلامه رسالةً ما، وتذكرت يومها وعداً قطعته على نفسي للخالة نوري داتي بأن أبحث لها عن ابنها العبد سانتابو، ولكني لم أفِ بوعدي بعد، فالعبيد في الجزيرة أكثر من أحرارها، وقد أُخذ سانتابو قبل سنوات بعيدة.
أعود إلى رسالة الخليل الضمنية في كلامه، وأشفق على أبي الذي أوحى إليه الكهنة أني انشققت عليه وعلى عبادة إلهه، لاسيما حين عدت إلى صحبة الخليل بعدما أتى أبي واصطحبني إلى القصر يوم هبطت معافىً من أعلى قمة برج الشيطان. لما سألت الخليل: كيف نضرب تلك الحلقة الحديدية الكهنوتية المضروبة حول أبي الملك؟ لم يكن يخطر ببالي لحظة واحدة ما دبره هو ومارجي لي من حيلة للتسلل إلى معقل عائلات الكهنة في وادي الشيطان.
كما نكّرتني في هيئة الراهب داموسو، ونكّرت من قبلي ثاباتو في كتان وطاقية أبيه؛ حولتني مارجي إلى عبد كالح اللون، مختومةٍ جبهته بخاتم العبودية، سوف يتسلل بليلٍ إلى وادي الشيطان، ويندسّ بين العبيد.. في هذه المرة لم أكن بحاجة إلى غسل جسمي جيداً لأزيل ما علق به من عطور وزيوت؛ فقد زهدت ما أُترفت فيه عمراً في قصر أبي.
عندما انتهت مارجي من تلوين نصفي العلوي ووجهي، سمعت ضحكة الخليل للمرة الأولى. أخرج مرآةً من جرابه، وأطلعني على صورتي فيها، فقهقت غير مصدق. وعندما حل المساء ودّعاني بدعاء خرج من عيونهما وقلبيهما. وفي اليوم التالي فاجأني بصورة رسمها لي من الذاكرة، وجدتها مطابقةً لما رأيته في المرآة، ولكنه رسمها بقلم أسود، وليس بالأقلام الملونة التي جلبها معه، وصار يرسم بها السماء والبحر والشجر والجبل والوجوه.
اكتشف في أيام قليلة كم من سنواتٍ وقرون مضت ونحن نعيش في خديعة كبرى، نصب خيوطَها الكهنة وعشيرتهم منذ عهود أجدادهم القدامى، وأن وادي الشيطان الذي احتكروه لسكناهم هو اسم على مسمى، غير أن الشياطين الذين يزعمون وجودهم في الجبال المحيطة بالوادي هم ملائكة إذا ما قورنوا بهم وبأفعالهم، فكما احتكروا التجارة في السوق الكبير القريب من المعبد، وفي الأسواق الفرعية في القرى حتى بعد استقلال كل منها بالحكم، بنوا لأنفسهم مملكة خاصة داخل الجزيرة.
في أول ليلة تسللت فيها إلى الوادي بمساعدة بعض حراسي وخدامي المخلصين بالقصر؛ كانت السماء قد عجّلت بقبول دعاء الخليل ومارجي؛ فقد رأيت على ضوء الشموع ذلك الوجه الذي تميزه علامة قلما تتكرر، وعرفت على الفور من يكون، وقفز قلبي في صدري غير مصدق.. إنه سانتابو ذو الشامة المستديرة تحت عينه اليمنى، وكأنها عين ثالثة كما وصفها أخوه ثاباتو. حينها أشفقت على قلب أمه عندما أردّه إليها، وخشيت أن أكشف له عن حقيقتي، أو عن أنني عرفته فتفسد الخطة. ولكنني خشيت في الوقت نفسه أن يرتاب في أمري، فتدفعه سنوات العبودية الطويلة إلى جعلي قرباناً يقدمه لأحد الحراس لينال رضاه، فانتحيت به مكاناً لا يرانا فيه أيٌّ من رفاقه. حككت صدري، فبدا له من تحت الدهان الأسود رسم صغير من رسوم القمر الموشوم بها صدري، فصدّق أنني لست عبداً مثله، ووعدته بتحريره من العبودية، من دون أن أذكر له شيئاً عن أهله وكأنني لا أعرفهم. قبل أن نمضي نبهني إلى أن الرسم على صدري صار مكشوفاً، فاضطربت، ولكن سانتابو أخذني من يدي إلى ركن قريب به فحم، وفي لحظات عاد صدري أسود، ومن بعدها صار يدهن لي بتراب الفحم وجهي وما تغير لونه من جسمي.
خلال أيام قليلة قضيتها في وادي الشيطان لم أذق النوم إلا لماماً، ولقيت الضرب وألواناً من الإهانة، ولكنني تحملت حتى عرفت وشاهدت الكثير. أطلعني سانتابو على أفران الصهر والأكيار التي تُحمى بها النار، وكذلك المنافيخ من البوص والصلصال، والمطارق والمثاقب والملاقيط. وتسللت إلى محبس الصاغة، الذين يسخّرهم الكهنة في صناعة الذهب والفضة بقوالب من الحجر الصخري تُصب فيها قطع الحلي والنقود، ورأيت مكاييل وقوارير من الزجاج لم أعرف ماذا يكيلون بها أو بماذا يعبئونها. وقال لي سانتابو إن القوارب تأتي من حين إلى آخر، فيحملون إليها ما يصنعونه من الذهب، وأما المشغولات الفضية فتنقلها الدواب إلى خارج الوادي، وغالباً ما تكون على هيئة قلادات وحلي ونماذج صغيرة ومتوسطة الحجم لنادو وتماثيل سوما نيبالي. وأكد لي أنه رأى أناساً ليسوا من أهل الجزيرة أتى بهم الكهنة لينقّبوا في الجبل عن المعادن، وألبسوهم كتاننا حتى لا يُعرفوا.
قرون كثيرة مضت ونحن نمقت كل شيء أصفر، لأننا لا نحب الشمس وما يذكّرنا بها، حتى الذهب، بينما يستعبد الكهنة كل هؤلاء في استخراجه وتصنيعه، ولكن إلى أين يذهبون به؟.. أتذكّر فجأةً ما قاله لي مارجو عن أعماله في خدمة المعبد، ومنها تلميع تماثيل وحليّ فضية وذهبية، وسيوف وخناجر وحراب تحمل أسماء الملوك والكهنة وقادة الجيش، وتماثيل صغيرة لراقصات وعازفات على آلات وترية. وكان الكاهن يجعله يرصها بعد تلميعها في صناديق خشبية مزخرفة، ثم يخبئها في قبو خاص اكتشفه مارجو مصادفةً، ولكنه أقنع نفسه بأن الكاهن يحمي الجزيرة من شرور هذه الحلي بجمعها وإلقائها في البحر. وقال لي مارجو إن الفضول دفعه ذات يوم إلى التجوال في القبو، فاكتشف أنه متصل بالمعبد عن طريق نفق في الأرض تحت الجبل، ويوصل في الوقت نفسه إلى شِعب لا يدخله غير الكهنة لأداء “صلوات التمجيد”، كما لاحظ أن تلك المشغولات الذهبية تختفي من شهر إلى آخر، وتحل مكانها أخرى لم يرَها من قبل.
مما أطلعني عليه سانتابو وما قاله مارجو من قبل؛ بدأت أجمع خيوطَ شبكةٍ كبيرة تحيط بالجزيرة كلها، فقررت التسلل إلى خارج الوادي ذات ليلة، واستدعيت نوتياً قديماً كنت أراه يقود بنا المركب؛ عندما كان أبي يأخذنا في نزهات بحرية. واعترف لي الرجل، الذي ابيضّ شعره كله، بأن الكاهن روش راوس هو وبعض أبناء عشيرته يبحرون صوب جزيرة دات مادي في الليالي التي يغيب فيها القمر، وقبل أن يبلغوها تلتقيهم مراكب من هناك، فيتبادلون صناديق مقفلة لا يعرف ما بها، ثم يعودون قبل أن يطلع النهار. لقد كان الكاهن يخدعنا، إذاً، بصلواته الوهمية في الليالي المظلمة في عرض البحر؛ مدّعياً أنه يؤنس ما كنا نؤمن بأنه إله صغير وحيد بائس، محرِّماً على غيره – حتى خدام المعبد – أن يشاركوه صلواته المزعومة.
لونت لي مارجي وجهي ونصف جسمي، وعدت إلى وادي الشيطان. تلقّاني سانتابو بلهفة، ولم أشأ أن أضيع الوقت في اكتشاف المزيد من خِدع الكهنة. أطلعني سانتابو على زاوية بها نباتات رأيت الكاهن كثيراً من قبلُ يقدمها لأبي في سهراتهما معاً، فيأكل بعضها ويشرب الماء المغلي ببعضها الآخر، فتنتابه حالة عجيبة من النشوة والضحك، ثم يأوي إلى سريره ولا يفيق إلا آخر النهار مجهداً مثقل العينين، وفي المساء يأمر باستدعاء الكاهن لاستئناف السهر.
لما أطلعت الخليل على ما اكتشفته من أمر الكهنة في وادي الشيطان؛ فاجأني أنه لم يندهش كما توقعت. وحين أخبرته بما قاله النوتي عن صلة قرابة تجمع بين روش راوس وكيت راوش كبيرة الراهبات في دات مادي، قال:
– اكتملت الحية إذاًّ، ليكتمل تأويل رؤياك.
تعجبت مما يقوله من طلاسم، فنبّهني إلى أن اسم الكاهن يعني “رأس الثعبان” واسم الكاهنة يعني في لغتهم “ذيل الأفعى”، ولكني لم أفهم كيف سوف يكتمل تأويل رؤياي. ولما أدركت من تلميحاته أن الاثنين وأتباعهما هنا وهناك ربما يدبرون شراً لأبي وللجزيرة، بعدما احتلوا طاليس، ذكرت للخليل أن روش راوس رسّخ في أذهان الناس، هو وأجداده من قبله، كراهية دات مادي وشعبها، وإنه يعيش في فزع منذ حكى له مارجو أول رؤية رأتها أخته، فكيف يتآمر مع أعدائنا علينا؟ فردّ الخليل:
– لأن الجراد لا صديق له، وأول ما يأكل هو من فتح له الباب.
يخيفني كلام الخليل كثيراً على أبي والجزيرة، لاسيما بعد أن توافدت إلينا أنباء بأن جيوش دات مادي تتأهب لاحتلال قرية أخرى، بقيادة الملكة جورجينا الثانية، وبأسلحة استطاعوا تصنيعها وأننا لن نصمد أمام تلك الأسلحة وقاذفات النار بسيوفنا وحرابنا. يبدو أن الدور على قرية رافدان، التي أعلن حاكمها، وهو ابن عم أبي، أنه يعد العدة لتحرير طاليس مهما يكلفه هذا من ثمن. عندما علم مارجو بذلك جهز نفسه للرحيل إلى رافدان والانضمام إلى جيشها، ولكن إيزاكا أقنعه بالبقاء للجهاد في سبيل نشر دينه، حتى إذا تحررت طاليس فاز بالقرب من حبيبته، وضمن حياته التي قد يخسرها في الحرب.
دعوت أن ينتصر جيش رافدان في حربه المنتظرة، فأمّن الخليل على دعائي، ولكنه قال إن النصر لا يكون لقرى مفككة، اختار أبناؤها “الجهاد في الداخل”، فصاروا يقتلون أنفسهم.
***
صارت مارجي حديث الجزيرة كلها، وموضع حب واحترام الكثيرين، حتى من أتباع الراهبين بيتر وإيزاكا. غير أن راندو عاب عليها اختلاطها بالرجال ولو في سبيل الدعوة إلى الله، على رغم أن معظم لقاءاتها كانت بالنساء، وكانت تترك للخليل وجانتانو مهمة دعوة الرجال.
أرى في عيني جانتانو إعجاباً بها لا يستطيع إخفاءه، ولم أره مرةً متقززاً من كفها المنقوصة الأصابع. ولاحظ الخليل أيضاً ذلك الإعجاب، ولمس من مارجي القبول، وصارحها بالأمر، فلم ترفض.. لعله أراد دحض نبوءة اسمها “تموت عذراء”.
في تلك الأيام بدأت مارجي تشعر بالألم المعهود كلما اقتربت رؤيا لها من التحقق، غير أنها هذه المرة شعرت بألم في موضعين؛ ما يعني اقتراب نمو أصبعين دفعةً واحدة: الأولى لتحقق حلم اجتماع أهل الجزيرة لزراعة نبتة صارت شجرة لها ثلاثة فروع، وفسره الخليل بأنه اتباع معظم الناس للديانات الثلاث. وأما في الرؤيا الثانية فكان الخليل يُلبسها عقداً أزرق، ما يعني ارتباطاً بمن تآلفت روحها مع روحه، وقد تحققت رؤياها، حسب تفسيره، بخطبتها على يده إلى جانتانو.
رؤيا أخرى لهذه الفتاة العجيبة، ولكنها زرعت الخوف في قلبي، وظلت هي أياماً قبل أن تفصح عنها واجمةً، حتى سألها الخليل عما أصابها. وبعد أن أقسم عليها حكت لنا مارجي مترددةً أنها رأت جرادة صفراء تحلق في سماء دات نادو، ثم تطير إلى جهة الغرب، لتتوقف فوق جزيرة دات مادي، ووصفت الجزيرة (وهي التي لم ترَها من قبل) كما رأيتها بنفسي من فوق برج الشيطان امرأة بلا رأس. وقالت إن الجرادة التقت جرادة مثلها ولكنها بيضاء، وتلاقحتا في السماء، فأنجبتا في اللحظة نفسها جراداً أبيض لا يحصى، أخذ يتكاثر بسرعة، ثم يعود كالأمواج، فيغطي دات نادو ويأكل كل شيء أمامه، ورأت الخليل يقف وسط الناس، ويهتف باللجوء إلى النهر للاعتصام من الجراد. وفي أثناء ذلك رأت ريمي آريات تضع مولوداً، وكان الناس يحملونها وهم وسط الماء على أيديهم في أثناء الوضع، وأخذت تتلوى من آلام المخاض، ثم تذكرت ألواحها والأشعار التي على الشجرة، فصارت تصرخ في الناس خشية أن يأكل الجراد الألواح ويقرض الشجرة، فتُمحى قصة حبها وثاباتو. ورأتها بمجرد أن لفظت جنينها تنطلق خارجةً من النهر صوب الأيكة، فتجد الجراد لم يأكل الألواح ولا الشجرة نفسها من دون كل الشجر، فتعود فرحةً سليمةً إلا من خدوش طفيفة. وحكت مارجي، بتلعثم وبعد قليل من الصمت، أنها رأت في الحلم نفسه جرادة كبيرة أخذت تحوم في السماء، ثم استقرت متصلبةً في الفضاء كصقر يستعد للانقضاض على فريسة في الأرض، ولكنها لم تنزل، بل قذفت شيئاً من جوفها فوق الخليل والراهبين بيتر وإيزاكا، وكانوا متشابكي الأيدي ينظر ثلاثتهم إلى السماء، ثم نظرت، فرأت الدماء تمتزج بماء النهر.
لما أتمت مارجي قص رؤياها انقبض قلبي، ورأيت على وجه جانتانو الخوف، ولكني لم أستطع قراءة ما يفكر فيه الخليل.. كان صامتاً، ولكنه لم يكن جزعاً. تذكرت أنه قال لي قبل أيام، وكأنه كان يعلم برؤيا مارجي وما تنبئ به:
– إن المصيبة رزق يسوقه الله إليك كالطعام والمال والولد.
تعجبت وسألته: كيف؟.. فقال:
– لأنك إن صبرت كان خيراً كثيراً لك، وهي درجة الإحسان في الطاعة، ولكن لا تتمنَّ رزقاً كهذا، فإنك لا تضمن من نفسك الصبر على المصيبة.
ولدت يارا نوري أخاً جديداً لي، وسارع الكاهن إلى تدوينه في سجلات القصر تحت الرقم 2003. بعد أيام من مولد “مادومو” ونبوءة اسمه “يولد وهو يتكلم” ذهبت إلى القصر، ودعوت الخادمة، فأتت به تحمله. عندما وضعته بين يديّ تذكرت كلام الخليل عن رائحة المواليد الجدد التي لا تضاهيها أي عطور، ووسوس إلي الشيطان بأن هذا الرضيع نذير بقدوم الجراد حسب نبوءة قديمة، فاستعذت من شيطاني في نفسي، وقبّلت أخي، ثم رددته إلى الخادمة. سمعت وأنا أهمّ بالانصراف صوت يارا نوري تناديها من مخدعها بالجناح الملكي، فتداعت إلى ذاكرتي أيام قضيتها متنكراً في كتان سانتابو.
مضت أيام وشهور، وكبر ابن يارا نوري الثاني، وكبر معه القلق والانتظار، وتناقل الناس أخبار الفتن والقتل كل يوم في قرى الجزيرة، لاسيما في راويس ويمان. وجاء خبر مقتل الكاهن داموسو على يد مجهول ليزيد من حزننا جميعاً، على رغم أنه ظل محايداً، ولم يعلن انتماءه إلى دين جديد. في ذلك اليوم قال الراهب بيتر، وكان يحب داموسو كثيراً:
– “لأنه حيثما تكن الجثة، فهناك تجتمع النسور”. (7)
توالت الصباحات والمساءات، ومع كل صباح كنت أرى ما ظللنا قروناً نسميها “الإلهة مادي القاسية” تطلع من بداية الأفق، وفي المساء أراها تتأهب لرقدتها اليومية في سريرها الغربي في نهاية الأفق، فأتذكر أيام كنت أولّيها ظهري في طفولتي مطارداً ظلي، فكان يمعن في الهروب منّي كلما أوشكت على اللحاق به. ولما كنت أذهب إلى الشاطئ كان الكاهن يتناول محارة رقيقة كالزجاج، ويعرّضها لشمس الظهيرة، مركزاً أشعتها اللاهبة على ورقة شجر جافة فتحرقها، ويقول لي: أرأيت، هكذا تقسو على إلهنا الصغير. وفي القصر أسأل أمي: لمَ يضعون التراب الأسود في مزاول الوقت، ولا يملؤونها برمل الشاطئ المبهج؟ فتقول: لأن الإلهة مادي تصبغ الرمل بلونها. وأحتج بأنه أقرب إلى البياض، فلا ترد بإجابة شافية لفضولي.
الآن أتذكر ما قاله الخليل ويقوله عن حكمة الله في خلق القمر، فكلما أتم دورة من دوراته الشهرية تجدد خلايا جسم الإنسان نفسها. وحين أتلو كتاب الله أتوقف كثيراً عند الآيات التي تتحدث عن الشمس والقمر المسخّؤين، فأجدها كأنها نزلت فينا لتصف ما نحن وأهل دات مادي فيه من جهل.. أحدث الخليل بهذا الخاطر، فيقول:
– إنك حين تقرأ القرآن ترى أنه نزل في كل وقت وفي كل مكان، وإنه يدعو إلى الإسلام الذي هو دين كل الأنبياء، بل هو عقيدة السماوات والأرض، وحتى طائفة من الجن.
حين سمع بيتر وإيزاكا هذا الكلام احتجا، فذكر لهم الخليل آيات كثيرة أعلن فيها الأنبياء أنفسهم قبل محمد أنهم مسلمون: نوح، وإبراهيم وابنه إسماعيل، ويعقوب، وسليمان، وموسى، ويوسف، وعيسى. كما قال بها سحرة فرعون الذين آمنوا مع موسى، وحتى فرعون نفسه حين أدركه الغرق، والحواريون أتباع عيسى، وبلقيس ملكة سبأ لما آمنت مع سليمان. (8)
وقال:
– بل إن التوراة نفسها أنزلها الله من قبل “يحكم بها النبيون الذين أسلموا” (9)، فمن كان يهودياً حقاً فهو مسلم، ومن كان نصرانياً حقاً فهو مسلم، والقرآن مصدّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وهو الرسالة الخاتمة إلى كل الناس.
على رغم النقاش الذي دار بينهم، افترق الثلاثة ليجتمعوا في جلسات أخرى ضمتني إليهم أنا ومارجي وجانتانو ومارجو وثاباتو وبعض الشباب والرجال، وكان الحزن يخيم علينا لما آلت إليه الأمور من اقتتال ودماء.
بعد إحدى هذه الجلسات سألني الخليل عن سانتابو، وكنت ظللت أياماً لم أزره متنكراً، فقلت له إنني سأذهب إليه هذه المرة لا لأزوره فقط، بل لأعود به إلى أمه، ولكني أخشى عليها صدمة رؤيته بعد سنوات طويلة من الفراق.. قبل أن يحل الظلام سبقنا ثاباتو إلى كوخ أمه الخالة نوري، وكنا اتفقنا على أن يتحدث إليها عن أخيه سانتابو، ويذكّرها أيام كنت أتنكر في زي راعٍ خادم يحمل اسمه، وأنها ظنت في بادئ الأمر أنني هو، ثم يمهد لها أنني عثرت عليه بين عبيد وادي الشيطان، وأنني لست متأكداً إن كان هو أو لا، وأريد منها أن تتحقق بنفسها في الصباح. ولكنها ما إن سمعته يقول ذلك حتى هبت واقفةً، وخطفت غطاء رأسها، وهرولت إلى خارج الكوخ وهي تقول لثاباتو إنها سوف تذهب إليّ، حتى لو كنت في قصر الملك، لآخذها إلى ابنها. لما خرجت وجدتنا أمامها، توقفت قليلاً، ودارت عيناها بيننا، حتى استقرت على وجه سانتابو، اقتربت منه وبقايا النهار تلقي ضوءاً خفيفاً على وجهه. ولما رأت الشامة الكبيرة تحت عينه لم يعد لديها شك في أنه ابنها، فانقضت عليه، واحتوته في حضنها وجسدها كله يهتز ببكاء أبكانا جميعاً.. حانت مني التفاتة إلى باب الكوخ، فوجدت ريمي آريات تحمل أحد أطفالها، وقرأت في وجهها سؤالاً عن أخويها الغائبين.
في تلك الليلة قررت، بمباركة من الخليل، ردّ كل من اتخذهم الكهنة عبيداً إلى أهليهم، ولكن كان عليّ أن أستعين بالمخلصين من خدامي وحراسي بالقصر، وبالرجال من أتباعنا، لأنني لا آمن مكر الكهنة، وهم أدرى بوادٍ يحفظون ثناياه، ويخفون فيه من الذهب والفضة ما يفرضون به سطوتهم على الجزيرة وأهلها، وهم لا يتورعون عن فعل م يجعلهم لا يفقدونه. ولما علم ثاباتو بالأمر أبدى استعداده وبعض أتباعه للتحالف معنا.
بعد أيام من التجهيزات، التي أشرف عليها الخليل ومارجي، خرجنا ذات صباح إلى وادي الشيطان. كنت أتقدمهم على ظهر حصان من بين خيول يركبها الحراس المسلحون، ولم تمضِ إلا ساعة واحدة حتى عدنا ومعنا العبيد ومفاجأة لم نكن نتوقعها؛ إذ وجدنا شعاب الوادي وأكواخ الكهنة وعائلاتهم خاوية، إلا من بعض عجائزهم وخدامهم. وجاءني أن روش راوس لما علم أنني تسللت متنكراً إلى وادي الشيطان وأعدت سانتابو إلى أمه، جمع أهله وما استطاعوا حمله من الذهب والفضة، من الوادي والمعبد، وهربوا عبر البحر. وقيل إن معظمهم فروا إلى دات مادي، وبعضهم أبحر إلى طاليس.
حزنت ريمي آريات كثيراً لما لم تعثر في العبيد على أحد من أخويها الغائبين، فبعث ثاباتو الأمل في نفسها حين تمنى أن نجدهما في أيٍّ من قصور القرى الأخرى، أو لدى أيّ من كهنتها، وإن كان عددهم قليلاً جداً مقارنةً بمن كانوا في وادي الشيطان.

***
في الأيام الأخيرة صرت أتردد على القصر من جديد، أعود أبي الذي طعن في السن أكثر، وترك هروب روش راوس في نفسه ندبة كبيرة، وفراغاً جعله يطيل الجلوس وحده في شرفات القصر، غير أنه لم يعد يقضي النهار نائماً كما كان من قبل، فصار يجد الوقت للقاء أخواتي في زياراتهن له، ومداعبة أخويّ الجديدين، لاسيما أصغرهما الذي مضى من شهره الرابع يومان، وخطر لي أن يخشى أحدهم تحقق نبوءة الجراد به، فيقتله؛ ما جعلني أشدد الحراسة عليه.. لما كنت أحمله نام بين يديّ كملاك، فوضعته في مهده وأنا أوصي الخادمة ألا تفارقه. دخلت يارا نوري حينذاك، وبدا أنها لم تكن تعلم بوجودي. أدهشني أنني لم أعد أحقد عليها، وأنني رأيت فيها تلك الفتاة القروية المسكينة، لا زوجةً لملك.
من يمان إلى سعدان إلى غيرهما من القرى كنا ننتقل أنا والخليل، وأحياناً كان يصحبنا جانتانو الذي انشغل في الأيام السابقة بالتجهيز للزواج. وصار من أتباعنا كثيرون ممن كانوا عبيداً بوادي الشيطان، إلا أن الأيام القليلة التي عاشوها أحراراً لم تفلح في محو الانكسار في عيونهم من أثر سنوات طويلة من العبودية، وكأنهم يستكثرون على أنفسهم أن يجالسهم الناس، أو حتى أن يلبسوا الكتان كغيرهم.
لما كنا في رادان تجمّع الناس حولنا، وبينما كان الخليل يتحدث إليهم كنت أجول بعينيّ بينهم، فرأيت عينين لم تستطع السنوات محوهما من ذاكرتي.. رأيت موما بين الواقفين، تتطلع نحوي بعينيها الجاحظتين قليلاً، ولكنها لم تعد حليقة الشعر، بل كان شعرها الأصفر يتدلى على كتفيها، ولم تعد تلك الطفلة النحيلة، فقد صارت فتاة مكتملة الأنوثة ممتلئة الجسد قليلاً. دعوتها إليّ، فجاءت مرتبكة الخطى. حيت الخليل، وجلست بالقرب منا. قبل أن نمضي سألتها عن جديها وأمها، فقالت إن جدها مات بعد أن عاش عاميه الأخيرين أعمى، ولحقت به جدتها بعد شهور، وأما أمها فمازالت في سجن رافدان. أسررت في نفسي أن أحرر لها أمها، حتى لا تعيش وحيدة بعد ذلك، وأوعزت إليها أن تمكث في كوخ مارجي وتعينها على تجهيزات العرس حتى أنجز وعداً لم أُطلعها عليه، غير أن والي رافدان كان قد أصدر أوامره بعدم دخول أحد القرية، وشدد الحراسة على الطرق المؤدية إليها.
في صباح اليوم التاسع من شهره الرابع تفقدت الحراسة على أخي الصغير، ووجدته في الشرفة يتأمل السماء مستلقياً في حجر أبي، الذي صحا مبكراً على غير عادته. على الصدر الصغير رأيت قلادة فضية تحمل الرقم 2003، كان الراهب روش راوس قد أشرف على صنعها بنفسه في وادي شياطينه. تركتهما، وانضممت إلى الخليل وثاباتو وأخيه سانتابو وجانتانو، ومارجي التي بدت كفها مكتملة، وموما، وعدد من الشباب والرجال المحرَّرين. في الطريق تداعت إلى ذاكرتي كلمات قالها لي الخليل يوم أفصحت له عن خوفي من أن تتحقق رؤياي ونبوءة أخي ويأكلنا الجراد، فالناس في الجزيرة إما فقراء معدمون وإما جبناء لم يصدقوا بعد أنهم صاروا أحراراً، فقال: “أنتم ربيتم الناس على الخوف، فلم يتعلموا كيف يحبون جزيرتهم، ومن ثم لم يعرفوا، أو لم يشاؤوا أن يعرفوا، كيف يحمونها!.. وأما أنتم، الكهنة وأبناء الملوك، فكيف لمن عاش على ماضٍ من البطولات الزائفة والأمجاد الوهمية أن يصنع حاضراً أو يفكر في مستقبل؟!.. إن أرضاً غراسُها العسس ونبتُها الكهنة هي أرض لا خير فيها”.
قبل الظهيرة بلغنا مشارف رافدان. وبينما كان واليها يكرر تهديده ووعيده لجورجينا الثانية، ملكة دات مادي، بتحرير طاليس وسحق محتليها؛ جاءتنا أنباء عن حرائق وقتلى جدد في معارك بكلٍّ من يمان وراويس، وقرى أخرى امتدت إليها ألسنة الفتنة. تطلعت صوب البحر فرأيت مارجو يتجه إلى الشاطئ مشرعاً عصاه، ثم توقف متطلعاً في الأفق إلى جزيرة الأرامل، وضرب الماء بالعصا بضع مرات، وفي كل مرة تزداد قوة ضربته، فلما لم يستجب له البحر، ولم ينشق عن طريق يابس إلى الجزيرة المحتلة المسبية فيه حبيبته حبيبا؛ ألقى العصا من يده، وقفز في قارب، وجدف بقوة حتى ابتعد، ولم يلتفت إلينا ونحن ندعوه إلى العودة.
وتطلعتُ إلى السماء.. من بعيد رأيت سحابة كبيرة داكنة، أخذت تقترب، وتقترب أكثر، فتكاد تسد عين الشمس في وسط السماء، عابرةً من الغرب إلى الشرق، وبينما كان الخليل والراهبان بيتر وإيزاكا يقفون متجاورين عند النهر، وعلى مقربة منهم مارجي وجانتانو وثاباتو يتضرعون؛ كانت عيون موما وسانتابو ورجال ونساء في أسمال من الكتان تتعلق مذعورة بالجراد الذي غطى سماء رافدان والجزيرة كلها، وزكمت أنوفنا رائحة دخان نيران أشعلها المتناحرون في القرى؛ دخان متصاعد يظن من يراه أنه لصدّ الجراد، ولكنه كان يثير شهيته أكثر للهجوم واحتلال السماء من فوقنا. تحسست جيب كتاني، وقبضت على خريطة الجزيرة بقوة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة “الضحى” الآية 10
(2) من حديث قدسي رواه النبيّ صلى الله عليه وسلم
(3) إنجيل متى 24/6 و7 و8
(4) إنجيل متى 12/25
(5) متى 23/14
(6) سورة “النحل” الآية 53
(7) إنجيل متى 24/28
(8) من سور القرآن (البقرة: 112، 128، 132، 133، 136. آل عمران: 20، 52، 64، 67، 80، 81، 84، 102. المائدة: 111. الأعراف: 126. يونس: 72، 84، 90. هود: 14. يوسف: 101. الحج: 78. النمل: 31، 38، 42. القصص: 53. العنكبوت: 46. الذاريات: 36. الجن: 14)
(9) سورة المائدة، الآية (44)

الكاتب والروائي صلاح مطر

الكاتب والروائي صلاح مطر

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات