ارتبط عالم الفنان التشكيلي محمد عبلة بكل ما يموج في أرض مصر من أحداث كبرى، ومن يعيش على أرضها من أبطال شعبيين، إذا شئنا التسمية، لأنه يلتقط هؤلاء البسطاء ليحتلوا مكانة الصدارة، ويصبحوا أبطالا من ألوان، في أعماله الفنية.
والخاصّة الجميلة التي تربط سلاسل أعمال التشكيلي الكبير هو الإخلاص حتى النخاع في موضوع مجموعات أعماله، وكأنه يعصر ثمرة الفكرة حتى البذرة، ليهبنا عصير الفن المعتق في إطار غالبا ما يكون غير تقليدي، رغم أنه يغوص في عالم المعتقدات والتقاليد الشعبية. لقد عالج جداريات الثورة المصرية النوعية “الجرافيتي” بطريقته الخاصة حين مزج بين التوثيق والابتكار ليقدم جداريته الخاصة والمؤطرة.
ولكي أعطي مثلا على ذلك الدماغ المبتكر والذي يحمل الروح المصرية العبثية مولدة القفشات، أتذكر أنني حضرت افتتاح معرض له عن الزفاف لعموم شعب مصر، ليفاجئ عبلة جمهوره بأنه نصب كوشة عروسين، في صدر المعرض، وجلس فيها هو وزوجته، والموسيقى الخاصة بالزفة البلدي تعلو مع الابتسامات. لم يرسم محمد عبلة صور الزفاف بل أعاد تمثيله لجمهور معرضه.
والفنان، مثل زملاء كبار له، مهموم بما هو خارج عالمه من أجل وطنه، ليس فقط دفاعا عن الحقوق، وإنما للحفاظ على ذاكرة هذا الوطن الخالد، لذا أنشأ متحف الكاريكاتير، وهو ما كان يجب أن تقوم به مؤسسة، لكنه يثبت أن الفرد الفنان المؤمن بأحلامه يمكنه أن يصبح مؤسسة، وأنشأ بالمثل مسابقة في التصوير، ليقدم نموذجا في رعاية التشكيليين الشباب، وهو ما يدفعنا للسؤال عن دور رجال الأعمال في رعاية الفن بمجتمع يعيشون فيه ويكسبون من أبنائه.
سينتقل محمد عبلة بأفكاره المجددة بين أحداث وأماكن وشخوص مصرية، لكنه سيفاجئنا حين يعود هذا العام من الهند بفكرة تسيطر على كيانه: طريق الحرير. فهناك قرأ كتابا ألهمه، وأراد أن يتعمق، بالقراءة والمشاهدة والدراسة والتجريب. ومن بين ما تبحر فيه ليشكل به مكتبة طريق الحرير الخاصة به اقتنى كتاب (الحكايات الشعبية لشعوب اسيا) من ترجمة عبد الرحمن عبد الرحمن الخميسى، الذي يضم مختارات من الحكايات الشعبية لدى بعض شعوب اّسيا وشعوب بحر البلطيق، وبرارى روسيا وغابات اوكرانيا وبيلاروسيا، وجبال القوقاز ، وصولا إلى وسط اسيا وبلاد التتر، بحكايات أبطالها من الكرد والغجر ومن بلاد الشيشان وغيرها.
ثم أعجب محمد عبلة في رحلته الباحثة والمتأملة على طريق الحرير بالقصيدة الملحمية التي ولدت في جورجيا؛ الفارس في إهاب جلد النمر، وهي تتضمن أكثر من 1600 رباعية، كتبها في القرن الثاني عشر الأمير الشاعر الجورجي شوتا رستافلي، أمين الصندوق في بلاط الملكة تامار. وعلى الرغم من أن روستافيلي يقول إنه اقتبس موضوع قصيدته من قصة فارسية قديمة تدور أحداثها بين ديار العرب والهند، إلا أنه يُخفي القصة الحقيقية التي تصور ملك جورجيا الذي تنازل لابنته تامار عن العرش، وهي الملكة نفسها التي عشقها الشاعر، إلا أن استحالة الجمع بين العاشق والملكة أفضت إلى درامية الفراق. وربما هي ـ بصورة وطنية، استحالة اتخاذ الحب والشباب لمستقبل المملكة.
وكان مما أسعدني أن مكتبة الفنان الكبير ضمت موسوعتي العربية “طريق الحرير” التي أصدرتها مكتبة الإسكندرية قبل 3 سنوات، وبها أكثر من 400 مادة مصورة عن مدن ومعالم،وفنون وآداب، وممالك وأعلام طريق الحرير.
لكن الكتب وحدها لم تمثل سكة الفنان ودربه التشكيلي لمعالجة فكرة وعالم وأساطير وحكايات طريق الحرير، لأنه أراد أن يعود معاصرا لذلك العالم بخامته الأشهر؛ الحرير، وباستخدام تقنية تشكيل فنية تغوص عميقا في عالم طريق الحرير. إنها تقنية الرسم على الماء.
حكى لي الفنان التركي رسام الإبرو الأشهر حكمت باروتشوجل كيف تأتي ألوان الرسم على الماء من أكاسيد الطين الطبيعية، تلك المساحيق يم تحضيرها بالمزج مع الماء، وتحفظ بإضافة الأكسيد على شكل لزج، أما الماء فيتم تحضيره بخلط المرارة، تلك التي تجعل من سطحه بمثابة مانع لسقوط الألوان أو ذوبانها حين يتم رشها على وجهه. لقد استخدمت هذه التقنية منذ عشرة قرون، وظهرت بداية في عصر السلاجقة، وانتشرت من بغداد والقاهرة إلى العالم كله، لكنه ربطت بالعثمانيين ـ وهم الذين نقلوها في عام 1300م ـ لأن الأوربيين وجدوا هذا الفن، الذي استخدم في تزيين لوحات الخط العربي، في القرن الخامس عشر ، بعد فتح القسطنطينية. هناك عرف بفن الإبرو، أو الرسم على الماء، ويترجم بأنه ترخيم الأوراق باللون paper marbling ، لكن محمد عبله يرده إلى أصله المصري وتعريفه بأنه فن رمش العين.
ما فعله محمد عبلة بفن رمش العين بعث طريق حرير خالصا، سواء في الخلفيات التي استلهمها من مشاهدات وقراءات وخبرات حياتية، أو الأبطال الذين يجلسون كما يجلس المتصوفة تحت أغصان الشجر، يستظلون بالحكمة، ويضيئون بالمعرفة. إنها لغة الجمال التي يعيد اكتشافها في معرضه الجديد الذي سيفتتح في 28 نوفمبر الحالي، لينضم عبلة إلى كوكبة فناني طريق الحرير وبحاثته، الآملين في قيم السلام والحب والجمال.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.
Mohamed Abla
25 ديسمبر, 2016 at 10:02 م
مقال جميل. أشكركم