أنبياء مُزيَّفُون

08:47 صباحًا الإثنين 28 نوفمبر 2016
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في أزمنة الارتياب والشك ، يظهر الطفيليون والممرُورون من سفلة القوم ، الذين يملأ صدورهم الطمع والجشع ، ويعتلون المقاعد ، ويحتلون أماكن لا يمكن أن تكون لهم ، لو أن الأمور موضوعة في نصابها ، وأن كل شيء في مكانه الصحيح ، ويظهر معهم أيضًا بشرٌ لديهم قدرٌ من العلم يدَّعُون بالكذب والضلال والغرُور بالنفس أشياء لا يمكن تصورها أو قبولها ، وأعتبرها ضربًا من الخبل والجنون ، والشُّعور بعظمة النفس ، لديهم حب المنصب والسيادة والوجاهة وجمع المال ، ومنها ادَّعاء النُبوَّة ، متصورين أنهم يرتفعون على الأرض والبشر معًا ، بما أوتوا من بعض العلم ، وغالبًا ما يكونون من أهل الدين أو قريبين منه ، ومن ثم يمكن للناس أن يصدِّقُوهم ، ما دام قد صدَّقوهم في الدعوة المباشرة من فوق من منبرٍ أو غيره من وسائل الدعوة والاتصال بالأنصار والمؤيِّدين .

IMG_3387

ابن خلدون : تنهار الدول فيكثر الأفاقون

وابن خلدون يقول لنا إنه ” عندما تنهار الدول ، يكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون ، وتعم الإشاعة ، وتطول المناظرات ، وتقصر البصيرة ، ويتشوش الفكر ” .
وقد حدث ذلك منذ الجاهلية ، وفي صدر الإسلام ، وفي عصر الدولة الأموية ، وفي عصر الدولة العباسية ، وحتى زماننا هذا ، وقد حصرتُ ما يزيد على خمسين ممن ادَّعوا النبوَّة من الذين اشتُهروا وعُرفوا ،وذاع صيتهم بين القبائل ، وصدَّقهم الناس أو بعضهم ، ومنهم من صار له أتباع ، يصل أعدادهم إلى الملايين .

فمنهم من رأى نفسه ” مدينة العلم ” ، أو أنه الواسطة الكبرى بين الله والناس ، أو أنه مبعوث من الله ، وأنه الباب الأول والنهائي للجنة ، ولا جنة من دون الاعتماد عليه وتصديقه ، والدخول في ” دينه ” ، أو أنه مُصطفى من الخالق من دون سائر الخلق ، وأنه السفارة بين الله وعباده ؛ المرتفع عن سواه من الخلق ، وأنه يحمل رسالةً من الله ، وينبغي عليه تبليغها ؛ ولذا يعلن لمن حوله ، بعد أن يستيقظ من نومه ، أنه صار نبيًّا ؛ لأنه شُرِّف عليهم ، باعتباره مرتفع الشأن والقدْر ، وأن لديه رسالةً حتميةً ، وعلى الناس تصديقها ؛ كي ينجوا من الشرور والأسقام والمهالك ، وأنه مختارٌ من الله للإخبار عن الحقائق الإلهية ، كأنهم لا يعرفون أن النبي هو من يصطفيه الله ، لا من يفرض نفسه بالقوة والجهل والتطاوس على الله والناس ؛ بحجَّة أنه العارف العالم ، ولا يجُوز له أن يكون كالكافة من الناس ، وعليه أن يكون مميزًا ، فيختار لنفسه أن يكون إلهًا أو نبيًّا أومهديًّا منتظرًا ، سواء من وازع لفت الانتباه ، أو تصوُّر أنه نائبٌ عن الله ، أو أنه ليس أدنى من النبي محمَّد في شيءٍ ، ومعظم – إن لم يكن كل – من حصرتُهم ممن ادَّعوا النبوَّة على مدار التاريخ ، لديهم معرفة وعلم بالدين ، بل منهم من بلغ مرتبة وشأوا .

ومع ذلك كأنهم لا يدركون أن ” النبوة هبةٌ لا تنال بالكسب ” { وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } سورة الأنعام ، الآية 124 .

ففي أزمنة التشدُّد والغُلو ، يكفُر الناس ببعضٍ ممن يدَّعُون الألوهية أو النبوَّة ، أو أنهم قريبون أو ممثلون عنهما ، ويدسُّون السمَّ في الدسم ، من فرط ما يرونه من أعمال الجهالة والخداع والحيل والسخف ، وغريب سلوك هؤلاء المُدَّعين ، المُصابين بمسٍّ في عقولهم ، المُسيئِين لأنفسهم وللدين الذي يعتنقونه ، وعادةً ما يصاحب الادَّعاء التزوير والتزييف والكذب والبُهتان والتلفيق ؛ لأن أمر الدين شأنٌ لا التباس فيه ولا غموض ، إذْ كل شيء جليٌّ وواضح ، مكشوفٌ لا نقصان فيه ، وعلى الرغم من أن الآية الثالثة من سورة الجمعة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا ﴾ ، قاطعة وحاسمة ولا ريب فيها ، ولا حِجاج حولها أو جدال ، فإن دعاوى النبوَّة لم تتوقف ، ويبدو أنها لن تتوقف في أزمنةٍ غاب فيها الحق ، واختفت الحقيقة ، وعمَّ الهرج والمرج ، وتم تمويه الباطل وتزيينه ، وتفشَّي الباطل والكذب والرياء والنفاق ، والافتراء ، والتحريف ، وانتشر الجهل والدجل والشعوذة والظلم والاستبداد ، لكن علينا ألا ننسى أبدا مقولة علي بن أبي طالب ” لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه ” ، والذي يدَّعي بشيء ليس فيه ، هو عندي فقيرٌ في عقله ورُوحه ، فاسق ، والفاسق من عصى وجاوز حدود الشَّرع ، وخرج عن طاعة الله ، وانغمس في الملذَّات ، والضلال ، وعلى هؤلاء أن يفرِّقوا بين النبوَّة والمُبشِّرات أي الرؤيا الصالحة التي يراها الرجل أو تُرى له .

وأنا لا أتصور أن مؤمنًا عابدًا ورِعًا تقيَّا يمكن أن يدَّعي النبوَّة ؛ لأن المؤمن الحقَّ لا يهدف إلى التكسُّب والشهرة ولفت الأنظار ولا يتقن الادِّعاء والكذب ، ولا يُسيِّس الدين ، ولا يُديِّن السياسة ، وليس قبليًّا أو عرقيًّا ، وصدق علي بن أبي طالب حين قال : ” آخر ما يخرج من قلب المؤمن حب الجاه ” ، ولا يمكن له أن يقول إن النبي فلانا خرج من قبيلة كذا ، وقبيلتي أفضل من قبيلته ، وأنا أعلى منه شأنًا ومرتبة ، وأغنى منه مالا ، فلماذا لا أكون أنا النبي ؟ والرسول نفسه قال في حديث له ” … سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبيٌّ ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبيَّ بعدي … ” ، فاستشراء الطائفية والقبلية والشعوبية في مجتمع ما ، من شأنه أن يصيبه بالانقسام والفوضى والتصدُّع والتفكُّك والانهيار ومن ثم الزوال ، وتتخذ كل قبيلة صنمًا تقف عنده لتعبده ، كما كان العرب في جاهليتهم الأولى ، التي صرنا نرى جانبًا منها على يد قُساة القلوب من تجَّار الدين وبائعيه ، ولكن بصورٍ أكثر غلظةً وجلافةً وشراسةً ودموية ، لا تعرف غير الذبح والسَّفك واستحلال أرواح المسلمين ، كأنهم مبعُوثون لتشويه الدين ، وتسويد صفحات النبوَّة ، وتقديم إسلامٍ آخر جديدٍ لا علاقة له بالقرآن والسنَّة الصحيحة ، أو أن من ورائهم قوى أخرى – وهذا مؤكَّد ومُثبت – تهدف إلى الحرق والتدمير والتشويه للدين وأهله .

نحن نعيش زمانًا يذكِّر بالجاهلية ، حينما رأت أن محمدًا صار نبيًّا وهو من قبيلة قريش ، فقال بعضهم : لماذا لا يكون لكل قبيلة نبي ، فلسنا أقل أو أدنى من قريش ، وعندنا من هو أكثر ثروةً ووجاهةً من محمد ، فبتنا الآن نرى مئات الفرق والمِلل والجماعات والعصابات والتنظيمات والتيارات ولكل منها أمير أو خليفة ، تقاتل بعضها بعضًا ، وكل فرقة تُكفِّر الأخرى ، مما يُولِّد الضغينة ، ويُورِّث الكيد ، حتى يظن المرء أن هناك أكثر من قرآن وليس قرآنًا واحدًا ، من فرط التعسُّف والتحريف والجهل في تفسير بعض آياته التي لا تحتاج إلى تأويلٍ غير مما تحمل ، إذ الأمر واضحٌ ولا لبسَ فيه ، ولكن هؤلاء صِنفٌ من البشر ” عاجز عن الوصول إلى الإدراك الروحاني ” – بحسب تعبير ابن خلدون ، يتسمون بالحماقة ، ويتصورون أنهم يستطيعون من فرط غرُورهم بأن يُطْلِعوا الشمس من المغرب تارةً ، ومن المشرق تارةً أخرى إذا أرادوا ، إذ تربُّوا في أواني من السفسطة والحِجاج الفارغ .

 

 

أحـمـد الـشـهـاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com

المقال الأسبوعي المنشور اليوم الأحد في جريدة المصري اليوم

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات