في أزمنة الارتياب والشك ، يظهر الطفيليون والممرُورون من سفلة القوم ، الذين يملأ صدورهم الطمع والجشع ، ويعتلون المقاعد ، ويحتلون أماكن لا يمكن أن تكون لهم ، لو أن الأمور موضوعة في نصابها ، وأن كل شيء في مكانه الصحيح ، ويظهر معهم أيضًا بشرٌ لديهم قدرٌ من العلم يدَّعُون بالكذب والضلال والغرُور بالنفس أشياء لا يمكن تصورها أو قبولها ، وأعتبرها ضربًا من الخبل والجنون ، والشُّعور بعظمة النفس ، لديهم حب المنصب والسيادة والوجاهة وجمع المال ، ومنها ادَّعاء النُبوَّة ، متصورين أنهم يرتفعون على الأرض والبشر معًا ، بما أوتوا من بعض العلم ، وغالبًا ما يكونون من أهل الدين أو قريبين منه ، ومن ثم يمكن للناس أن يصدِّقُوهم ، ما دام قد صدَّقوهم في الدعوة المباشرة من فوق من منبرٍ أو غيره من وسائل الدعوة والاتصال بالأنصار والمؤيِّدين .
وابن خلدون يقول لنا إنه ” عندما تنهار الدول ، يكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون ، وتعم الإشاعة ، وتطول المناظرات ، وتقصر البصيرة ، ويتشوش الفكر ” .
وقد حدث ذلك منذ الجاهلية ، وفي صدر الإسلام ، وفي عصر الدولة الأموية ، وفي عصر الدولة العباسية ، وحتى زماننا هذا ، وقد حصرتُ ما يزيد على خمسين ممن ادَّعوا النبوَّة من الذين اشتُهروا وعُرفوا ،وذاع صيتهم بين القبائل ، وصدَّقهم الناس أو بعضهم ، ومنهم من صار له أتباع ، يصل أعدادهم إلى الملايين .
فمنهم من رأى نفسه ” مدينة العلم ” ، أو أنه الواسطة الكبرى بين الله والناس ، أو أنه مبعوث من الله ، وأنه الباب الأول والنهائي للجنة ، ولا جنة من دون الاعتماد عليه وتصديقه ، والدخول في ” دينه ” ، أو أنه مُصطفى من الخالق من دون سائر الخلق ، وأنه السفارة بين الله وعباده ؛ المرتفع عن سواه من الخلق ، وأنه يحمل رسالةً من الله ، وينبغي عليه تبليغها ؛ ولذا يعلن لمن حوله ، بعد أن يستيقظ من نومه ، أنه صار نبيًّا ؛ لأنه شُرِّف عليهم ، باعتباره مرتفع الشأن والقدْر ، وأن لديه رسالةً حتميةً ، وعلى الناس تصديقها ؛ كي ينجوا من الشرور والأسقام والمهالك ، وأنه مختارٌ من الله للإخبار عن الحقائق الإلهية ، كأنهم لا يعرفون أن النبي هو من يصطفيه الله ، لا من يفرض نفسه بالقوة والجهل والتطاوس على الله والناس ؛ بحجَّة أنه العارف العالم ، ولا يجُوز له أن يكون كالكافة من الناس ، وعليه أن يكون مميزًا ، فيختار لنفسه أن يكون إلهًا أو نبيًّا أومهديًّا منتظرًا ، سواء من وازع لفت الانتباه ، أو تصوُّر أنه نائبٌ عن الله ، أو أنه ليس أدنى من النبي محمَّد في شيءٍ ، ومعظم – إن لم يكن كل – من حصرتُهم ممن ادَّعوا النبوَّة على مدار التاريخ ، لديهم معرفة وعلم بالدين ، بل منهم من بلغ مرتبة وشأوا .
ومع ذلك كأنهم لا يدركون أن ” النبوة هبةٌ لا تنال بالكسب ” { وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } سورة الأنعام ، الآية 124 .
ففي أزمنة التشدُّد والغُلو ، يكفُر الناس ببعضٍ ممن يدَّعُون الألوهية أو النبوَّة ، أو أنهم قريبون أو ممثلون عنهما ، ويدسُّون السمَّ في الدسم ، من فرط ما يرونه من أعمال الجهالة والخداع والحيل والسخف ، وغريب سلوك هؤلاء المُدَّعين ، المُصابين بمسٍّ في عقولهم ، المُسيئِين لأنفسهم وللدين الذي يعتنقونه ، وعادةً ما يصاحب الادَّعاء التزوير والتزييف والكذب والبُهتان والتلفيق ؛ لأن أمر الدين شأنٌ لا التباس فيه ولا غموض ، إذْ كل شيء جليٌّ وواضح ، مكشوفٌ لا نقصان فيه ، وعلى الرغم من أن الآية الثالثة من سورة الجمعة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا ﴾ ، قاطعة وحاسمة ولا ريب فيها ، ولا حِجاج حولها أو جدال ، فإن دعاوى النبوَّة لم تتوقف ، ويبدو أنها لن تتوقف في أزمنةٍ غاب فيها الحق ، واختفت الحقيقة ، وعمَّ الهرج والمرج ، وتم تمويه الباطل وتزيينه ، وتفشَّي الباطل والكذب والرياء والنفاق ، والافتراء ، والتحريف ، وانتشر الجهل والدجل والشعوذة والظلم والاستبداد ، لكن علينا ألا ننسى أبدا مقولة علي بن أبي طالب ” لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه ” ، والذي يدَّعي بشيء ليس فيه ، هو عندي فقيرٌ في عقله ورُوحه ، فاسق ، والفاسق من عصى وجاوز حدود الشَّرع ، وخرج عن طاعة الله ، وانغمس في الملذَّات ، والضلال ، وعلى هؤلاء أن يفرِّقوا بين النبوَّة والمُبشِّرات أي الرؤيا الصالحة التي يراها الرجل أو تُرى له .
وأنا لا أتصور أن مؤمنًا عابدًا ورِعًا تقيَّا يمكن أن يدَّعي النبوَّة ؛ لأن المؤمن الحقَّ لا يهدف إلى التكسُّب والشهرة ولفت الأنظار ولا يتقن الادِّعاء والكذب ، ولا يُسيِّس الدين ، ولا يُديِّن السياسة ، وليس قبليًّا أو عرقيًّا ، وصدق علي بن أبي طالب حين قال : ” آخر ما يخرج من قلب المؤمن حب الجاه ” ، ولا يمكن له أن يقول إن النبي فلانا خرج من قبيلة كذا ، وقبيلتي أفضل من قبيلته ، وأنا أعلى منه شأنًا ومرتبة ، وأغنى منه مالا ، فلماذا لا أكون أنا النبي ؟ والرسول نفسه قال في حديث له ” … سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبيٌّ ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبيَّ بعدي … ” ، فاستشراء الطائفية والقبلية والشعوبية في مجتمع ما ، من شأنه أن يصيبه بالانقسام والفوضى والتصدُّع والتفكُّك والانهيار ومن ثم الزوال ، وتتخذ كل قبيلة صنمًا تقف عنده لتعبده ، كما كان العرب في جاهليتهم الأولى ، التي صرنا نرى جانبًا منها على يد قُساة القلوب من تجَّار الدين وبائعيه ، ولكن بصورٍ أكثر غلظةً وجلافةً وشراسةً ودموية ، لا تعرف غير الذبح والسَّفك واستحلال أرواح المسلمين ، كأنهم مبعُوثون لتشويه الدين ، وتسويد صفحات النبوَّة ، وتقديم إسلامٍ آخر جديدٍ لا علاقة له بالقرآن والسنَّة الصحيحة ، أو أن من ورائهم قوى أخرى – وهذا مؤكَّد ومُثبت – تهدف إلى الحرق والتدمير والتشويه للدين وأهله .
نحن نعيش زمانًا يذكِّر بالجاهلية ، حينما رأت أن محمدًا صار نبيًّا وهو من قبيلة قريش ، فقال بعضهم : لماذا لا يكون لكل قبيلة نبي ، فلسنا أقل أو أدنى من قريش ، وعندنا من هو أكثر ثروةً ووجاهةً من محمد ، فبتنا الآن نرى مئات الفرق والمِلل والجماعات والعصابات والتنظيمات والتيارات ولكل منها أمير أو خليفة ، تقاتل بعضها بعضًا ، وكل فرقة تُكفِّر الأخرى ، مما يُولِّد الضغينة ، ويُورِّث الكيد ، حتى يظن المرء أن هناك أكثر من قرآن وليس قرآنًا واحدًا ، من فرط التعسُّف والتحريف والجهل في تفسير بعض آياته التي لا تحتاج إلى تأويلٍ غير مما تحمل ، إذ الأمر واضحٌ ولا لبسَ فيه ، ولكن هؤلاء صِنفٌ من البشر ” عاجز عن الوصول إلى الإدراك الروحاني ” – بحسب تعبير ابن خلدون ، يتسمون بالحماقة ، ويتصورون أنهم يستطيعون من فرط غرُورهم بأن يُطْلِعوا الشمس من المغرب تارةً ، ومن المشرق تارةً أخرى إذا أرادوا ، إذ تربُّوا في أواني من السفسطة والحِجاج الفارغ .
أحـمـد الـشـهـاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com
المقال الأسبوعي المنشور اليوم الأحد في جريدة المصري اليوم
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.