التُّرجُمان : الفصل 13 من أحدث روايات أشرف أبو اليزيد الصادرة عن مؤسسة بتانة

07:35 صباحًا السبت 18 مارس 2017
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

26168968_1636521429746089_3987970874942216953_n|13|

 

“ماذا نفعل لقلوب أسكتها شتاء الجفاء؟”

 

 

 هناك حكمة يا “داليدا” وراء ما أصابني. أعرف أنك تتألمين. تلك النظرة المستكينة الصامتة أراها أعلى صوتا من الرعد، وتخبرني، كما أدرك بما بقي لي من وعي، أنك حائرة. لكن علينا أن نستسلم للقدر. كان يمكن أن يكون بجانبنا اليوم ابن لنا أو ابنة، يساعدنا أحدهما، لكننا لم ننجب، هذا قدر. ورضينا به. ولكن لو كنا أنجبنا الأبناء والبنات، وغابوا عنا في مرضنا، لكانت المحنة النفسية أشد. 

 تعرفين، في كل حين أحدّث نفسي بأننا أنجبنا أكثر مما فعل أي أب وأم. فهذا المكان، وهذه الكراسي وتلك الصوفا، بجانب المائدة، مر عليها أبناء جيلين ـ على الأقل ـ من الكتاب والشعراء والرسامين. هنا جلسوا جميعا، وأعطيناهم من عطف الأبوة وحنان الأمومة ما فاض، حتى أفاض في بحر مارية.

 أذكركِ تحملين إليهم، في الشتاء، المشروباتِ الساخنة، تختفين في غمرة الكلام، وتعودين كملاك بجناحين من نور تضيئين جلساتنا. وفي الصيف ترسلين “ملاكا” ابن أختك ليأتي بجيلاتي عزة، في علبة ديناصورية عملاقة، ثم توزعينه في كؤوس الطقم الكريستال الذي اشتريناه من اليونان في رحلة شهر العسل. هل تذكرين، من كثرة ما كررنا الرحلة إلى أثينا، أطلقوا عليّ اسم “دانيال الاجريجي”. حتى هؤلاء الذين أحبوا نبيذنا، لم نبخل على أحد منهم.

 وتعرفين يا “داليدا” أنني لم أصُدْ شابا قصدني ليأخذ رأيي في كتاب أو مخطوط، ولم أرد فتاة عربية أو مصرية، تتلمس الطريق نحو الأدب والفن. هؤلاء هم أبناؤنا يا “داليدا”. لكن ـ أرجوكِ ـ  لا تسأليني أين هم الآن. هم يمرون، ولا يجلسون طويلا، ولكنهم موجودون. ربما ألهتهم الحياة عنا … فالحياة أصبحت صعبة جدا، عليهم، وعلينا. 

 أشعر بأذى نفسي كبير، حين يسألني زائرٌ منهم عن مخطوط أعطاه لي في زيارة سابقة، فلا أتذكر. بل إني أحيانا لا أتذكر حتى اسم الضيف. لولاكِ يا “داليدا” لكان الأمر أسوأ. أنت تتكتمين الأمر، تحاولين إفهامهم أنني متعب في تلك الليلة. ثم تسألين الضيف عن اسم مخطوطه، وتذهبين إلى المكتب، ثم تعودين بما يخص ضيفنا.   

 تباعدت زيارات الأهل، وندر مرور الأصدقاء، ويبدو أن حكاية الإصابة بنوبات ألزهايمر قد شاعت، فما عاد الشباب يقصدني، حتى وزارة الثقافة، اعتبرتني ميتا. لا أعتقد أنهم مهتمون بالسؤال عني، وقد بلغت عمرا لا ينفع فيه التكريم، لأنني ربما سأنسى موعده، وقد لا أذهب لأصافح مسؤولهم الكبير، وإذا ذهبت فلن يكون للتكريم الشكلي أي معنى. المعنى الحقيقي كان هنا، في تلك الجلسات الدافئة.

 لكن ماذا نفعل لقلوب أسكتها شتاء الجفاء؟

 ماذا أقول عن وزارة الثقافة؟ لقد استخدموني بالمجان، في كل مؤتمر: تعال يا “دانيال” واكتب يا “دانيال”. راجع يا “دانيال”، وقدم يا “دانيال”. ربما ينتظرون الآن وفاتي لكي يأتي بعضهم يلتقط الصور في الجنازة ليقول حضرت مشهد الوداع للناقد الراحل “دانيال خيرت”. امسحي دموعك “داليدا”. هذا أمر لا يدفع للبكاء، وإنما هي حكاية تدعو للرثاء.  

 موجة واحدة فقط في هذا البحر الهائج كانت حانية، تلك المرأة الكويتية “فوز” التي لم ينقطع مرورها علينا، كلما هبطت أرض مصر، ولا يتوقف اتصالها بي، حين تكون في الكويت. هذه ابنتنا التي لم ننجبها يا “داليدا”. إنها ليست “فوز العبدالله”، بل هي “فوز دانيال خيرت”.

 تلك الومضات التي تأتي بذكرياتنا معها تبدو مثل بروق عاصفة تحمل لي مشاهد لا أنساها. كان آخرها قصة حبها مع ابني النجيب “محسن حلمي”؛ تلك القصة التي ولدت هنا.

 كانت روح “فوز” قلقة، وكانت روح “محسن” معذَّبة، وقد وجدا الراحة من العذاب والقلق، فحلقا معا. ومثلما جاءني ابننا “محسن”، وحكى لي، جاءت هي أيضا، وحدثتني مطولا عنه. حتى أنني، من شدة الهيام بالحكايتين المتوازيتين، سجلتهما في قصة ستجدينها ـ يا ملاكي ـ بمجموعتي الأخيرة التي صدرت الشتاء الماضي.

 جاءاني في يومين مختلفين، جلست هي على يميني، وجلس هو في اليوم التالي على يساري، وكأنني القس الذي يصغي لاعترافاتهما من وراء ستار.

 حدثتني عن الصبر الطويل، الذي يشبه صحراء شاسعة، سارت فيها لا تظلها سوى ذكريات مع زوج شاب لم تجمعهما إلا الشهور. بينما حدثني هو عن غابة الأشواك التي خاض بها حتى أدمت عقله، بعد قدميه.

 كلاهما كان يبحث عن واحة يسكنها، عن فيء يُظِلُّه، عن أذن تستمع لصوته وحده بعيدا عن ضوضاء الحياة التي وصمتْ القلوب والآذان:

 “أنا لا أتحدث إليك باعتبارك أستاذي، ولكنك أعتبرك أبي المصري. قد لا أستطيع أن أنقل لك حساسية موقفي الاجتماعي في الكويت. فالأمور هناك متشابكة، بل معقدة. عندنا المرأة لا تتحرك وفق ما تشعر، ولا تأخذ قرارها بفضل ما تفكر فيه، وإنما يفكر المجتمع بدلا منها، ويأخذ القرار عنها، وكل ما عليها هو أن تنفذ.

الخروج عن ذلك المسار يعني الخروج على شعائر القبيلة وتقاليدها وطقوسها. لا يغرنك أننا نظام سياسي موزع، بين أمير وحكومة ومجلس أمة، كل هذا شكلي، مجرد زخرفة سياسية، نحن لا نزال نتحدث بلغة القبائل، ونفرّق بين البدوي والحضري، وننحاز للمواطن ضد الوافد، بل إننا لا نطيق فئة البدون، هؤلاء الذين ولدوا فلم تكن لهم سماء غير سماء الكويت، بل يقترح بعضنا عليهم أن يأخذوا جنسية جزر القُمُر، ويرحلوا.

المرأة في هذا المجتمع بين نارين؛ أن تنصاع له فتفقد شخصيتها، وتصبح مجرد شاة في قطيع ذكوري، أو تتمرد عليه فيصيبها ما يصيب امرأة ناشزا.

لقد تواءمت مع المجتمع لأنني كت أعيش كأم يتيم، وكأرملة شهيد، لكنهم كانوا ينظرون بريبة لحياتي كأديبة، والآن سآتي لأقول لهم أني امرأة تعشق، وتتزوج. يالها من كارثة بالنسبة إليهم. سيحمل كل الأبالسة أحجارا ليرجمونني بها”.

حدثتُها كيف أن المواقف المماثلة لا تختلف كثيرا في الصيغ الاجتماعية المتعارف عليها، لدى كل المجتمعات التقليدية:

“يا فوز، يا ابنتي، نحن لا نسأل الناس كيف نحب، ومتى نحب، وأين نحب، والأهم أننا لا نسألهم مَنْ نحب. وأنا هنا لا أرى أن حبك مجرد علاقة نمطية بين رجل وامرأة. واسمحي لي أن أقول أن الأمر لا يتعلق بمشاعر حسية جسدية. أشعر أن حياتكما كانت بمثابة نصٍّ شعري كلاسيكي، صدرُه يبحث عن عَجُزه، مُعلقة على جدار الكعبة في سوق عكاظ تبحث عمن يقرأها ويفهمها، أو هو حساسية لتيارجديد لا شعوري يبحث عن الاسترسال في فضاء مناسب.

أنتما التقيتما لتكملا حياة لم تعيشاها بعد. لذلك، وأيّا كانت التبعات، هذه هي فرصتكما لتستعيدا حياتكما. لا يفوِّت عاقلٌ طريقًا مماثلة، وأنت العاقلة التي عرفتُها. عليك اجتياز الصحراء بلا خوف من خيام القبيلة، ستنسيك الواحة كل شيء.”

حين جاءني “محسن”، بدا حائرا. كانت “فوز” قد عرضت عليه السفر إلى الكويت. كان قلقا من الفكرة برمتها؛ فكرة الخروج من مصر:

“لقد أبعدتُ عني فكرة السفر منذ تخرجي في الجامعة، وكنت أرى في المسافرين للعمل أو الهجرة محض هاربين، أو جبناء، لا يستطيعون مواجهة الواقع. أو هم بمثابة ناكري جميل لوطن نشأوا فيه، وعليهم أن يؤدوا رسالتهم تجاهه. وهنا حفرتُ اسمي في صخر الحضور، دون أن تساندني مؤسسة ثقافية رسمية، ومن غير أن تمهد لي الطريق نجمة أو نسر على كتفي مسؤول.

كنت وحدي، ولعشرين سنة، حتى استطعت أن أصنع اسما، ولو كان متواضعا، لكنه عصامي. الآن، يأتي السفر مثل ركوب السبنسة في قطار البتروـ دولار. أخيرا سيصبغ مال النفط هاتين اليدين النظيفتين، ولعلي لا أجد الوقت بعدها كي أغسل آثاره. ساعتها لن يتحدث أحد عن تجربة حبي إلا باعتبارها فرصة انتهازية، اقتنصتها كي أتسلق على ثروة امرأة خليجية”.

“مهلك يا محسن. لا تعذب نفسك ولا تجلد ذاتك قبل أن يحاكمك الآخرون. ثم قل لي؛ ومن هم الآخرون ليحاكموك؟ أنت صاحب قرارك، أنت الذي اخترت الابتعاد عن المؤسسة الرسمية بقرار من ذاتك. وأنت الذي فضلت ألا تسلك طريق الواسطة. لقد تركت الأرض تحتلها النباتات الشيطانية، لكن ذلك كله لم يمنعك من أن تزرع بستانك الخاص”.

كانت أمامي مجموعة من آخر ترجماته المنشورة، أمسكت بها، وقلت له:

“هذا البستان هو الذي سيبقى، بينما يفنى الموظفون، والانتهازيون، وعبيد السلطات. القصة الخالدة لجحا وابنه وحماره هي عنوان المرحلة؛ لو بحثت عن إرضاء الآخرين، فستخسرهم، وتخسر نفسك. ولن يرضى عنك أحد، ولو أشعلت أصابعك شموعا”.

ولكن يا “داليدا”، مثل قصص الحب الأسطورية، تبدأ كحلم، ثم تتحول إلى كابوس.

في المكالمة الأخيرة كانت “فوز” تبكي. حكت لي بالتفصيل عما حدث لابننا “محسن”. بعد مكالمتها دمعت عيناي وأنا أتأمل ذلك القدر الذي لا يرحم، فلا يترك البسطاء يعيشون حياتهم، ولا يغفل عن الحالمين بغد أفضل. إنه يختبرهم بقسوة، وعنف، وكأنهم سبب شرور ذلك العالم.

كانت لدى “محسن” أحلام كبيرة حدثني عنها في المرات التي سبقت سفره. لقد أراد أن يتزوج، ويعود لمصر كي يؤسس دار نشر كبيرة، بعد أن يعمل لبعض الوقت. كان يريد أن تكون “فوز العبدالله” معه، سواء في القاهرة والكويت، شريكة للقلب والعقل معا.

أراد أن يكمل طموحه بأن يعلّم أجيالا جديدة أسرار وعلوم وفنون الترجمة، وأن ينخرط معهم في إنشاء بيت حكمة جديد، يراهن على نقل أمهات المعرفة والفلسفة، مثلما يسعى لتعريب نصوص الآداب والفنون. كان يؤمن أن جسد الطائر المسافر للمستقبل لن يدفعه لأعلى غير هذين الجناحين، كنت أستمع إليه وهو يتّقِد حياة كصبي يتابع طائرة ورقية في السماء، يمد لها الحبل، لترتفع حتى تكاد تصل القمر.

حين وصل إلى الكويت، كان يحدثني مساء الثلاثاء من كل أسبوع. يعرف أنني سأستقبل ضيوف الجلسة طيلة الأربعاء، وكأنه يقول لي إنه موجود قبلهم، ووصل لبيتي أولا، وكنت أحس أثناء الجلسة أن أنفاسه بيننا، وأن كلماته التي قالها بالأمس يتردد صداها بين الجالسين حولي.

سألته يومًا عن “مصطفى سند”، فأنا أعلم أنه معه في المؤسسة نفسها، بل وسبقه للعمل فيها، رغم أنه لا يفقه لغة ما، لكنه كان يتمتع بخصال أخرى، وأعرف أن نصف جلسته معنا كان يخصصها ليخزِّن ما نقول لينقل عنا، وقد منعني الحرج من حظر وجوده.

صمت ابننا “محسن” طويلا، وعرفت أن ألاعيب “سند” تواصلت خارج الحدود.

لكن ما حزَّ بقلبي كثيرا، ما فعله “مصطفى سند” معي أنا شخصيا. فأنا الذي أحرجت من منعه الحضور إلى بيتي، في الوقت الذي لم يمنعه ما يحوي صدره من قتامة أن يمنع عني خيرا، لم يكن له يدٌ فيه.

جاءتني “فوز العبدالله” قبل شهور، وأخبرتني أنها سترشحني للتكريم من قبل المؤسسة العربية للترجمة، مكافأة للجهد المبذول للتراث الأدبي الذي نقلته عن الفرنسية، من مسرح معاصر، ودراسات نقدية طليعية. سألتني قبولي لأنها قالت لي إنها لا تريد ترشيحي دون موافقتي، لأن بعض الكتاب يجدون حساسية من تلقي أموال من مؤسسات خليجية. قلت لها إنني لا أجد غضاضة، ويكفي أن الكويت ستتذكرني في الوقت الذي نسيتني فيه بلدي.

قبل السفر بشهر، حان وقت إعلان المكرمين، وكنت قد استعددت نفسيا للرحلة، حتى أنني ذهبت لتجديد جواز السفر، فوجئت أن اسمي ليس بين الأسماء المعلنة!

في المساء جاءني صوت “فوز العبدالله” حزينا. قالت لي إنها ستبحث عن السبب، فهي تعرف أن مدير المؤسسة الدكتور “سلمان الإبراهيم” لا يؤخّر لها طلبا، وكان آخر ما طلبته، قبل طرح اسمي للتكريم، مسألة سفر ابننا “محسن” للعمل بالكويت. ثم عادت بعد أيام، وصوتها متبدل على الهاتف، يختنق من الحنق والحزن، وقالت لي أن “مصطفى سند” هو السبب، وأنه هو الذي منع عني التكريم.

تخيلي يا “داليدا” أن هذا الرجل، الذي أكل وشرب معنا، وفتحنا له بيتنا، كل أسبوع، لسنوات، هو البعبع الذي قفز في وجه “سلمان الإبراهيم” محذرا له من مغبة اختياري للتكريم!

صدقت كلام “فوز”، فأنا أعرفها … لم تكذب عليّ أبدًا. لكن ما زاد من مرارة الأمر تلك التفاصيل التي حكاها لي ابننا “محسن”، بعد إلحاح مني.

لقد عرف من الدكتور “سلمان الإبراهيم” الأسباب التي ساقها “مصطفى سند” كي يقنع رجلا  يدير مؤسسة كبرى للترجمة ليمنع تكريم واحد من جيل الرواد. قال له إن التيار الإسلامي في الكويت قوي النفوذ، وأنه  قد يفقد منصبه إذا كرّم شخصا مسيحيا، وتبرع بوصف حالتي الصحية السيئة، وكيف أنني عبرت عتبات الكهولة بمحطات، فلا أستطيع الخروج من البيت، فما البال بالسفر البعيد والطائرة.

أتعرفين يا “داليدا”، مثل حالة “مصطفى سند” ليست استثنائية. الاستثناء هو أن يوجد أناس كابننا “محسن” وابنتنا “فوز العبدالله”. هذا العالم الشرس أصبح فكا عملاقا يلتهم كل شيء طيب، ومثل “مصطفى سند” هم الأنياب التي لا تعرف سوى النهش.

أنا من جيل كانت المعارك الأدبية فيه تدور علانية، فهناك مدارس فكرية تتصارع بالبرهان والحجة، أدباء ونقاد ملتزمون، وآخرون متمردون، ولكننا نسعى معًا. كان هناك أفراد أقوى انتاجا من مؤسسات اليوم، منهم المترجم الذي يترهبن في معبد الحرف، لنقل الفكر العالمي لقراء لا يتقنون لغاته الأم.

وكان هناك من يقرأ ويهضم الأدب الأجنبي، ثم يلخصه وينشره للكبار والشباب. بدأنا السينما لأننا رأيناها جماعا للفنون، وناصرنا المسرح لأننا عرفنا تأثيره الكبير. اليوم لم تعد السينما غير مشاهد مزرية، ولم يعد المسرح سوى اسكتشات، والاستثناءات قليلة.

تعلمين “داليدا”، لقد بدأ الانهيار بعد ما سمي خطأ بالنكسة، لأنها كانت هزيمة كبرى لم نعترف بها فلم نتجاوزها. ثم عادت الموجة أقوى، وزاد جدار القيم الفنية والجمالية تصدعا بعد أفلام المقاولات في سنوات السبعينيات، أما الآن فهم يصنعون سينما يخاطبون بها الغرب، يقدمون بها النماذج التي غذاها الاستشراق، باعتبارنا مجتمعات لاهية عابثة، لا تفكر بغير نصفها السفلي، وهم كذلك ينتجون المسرح للباحثين عن فسحة من الضحك بين السياح القادمين من دول الخليج العربية.

حتى الأدب بات للتصدير. حين كنت أقرأ النصوص الروائية أجدها تعيد إنتاج ألف ليلة وليلة بركاكة وفجاجة، وكأنها خلطة كنتاكي الأدبية الجاهزة، التي تناسب الاستهلاك الغربي، الباحث عن عالم الغرائز، والألاعيب، والغارق في ملذات نسائه المتعريات للمصورين الرحالة في الشرق، والشواذ بين شعرائه الجوالة.

أشعر أن ما سعينا لتأسيسه من حساسيات مرتبطة بجذورنا لم ينجح، وبات استخدامه بمثابة فَلْكَرَة، وليس فولكلورا؛ مجرد قشور براقة لكنها مزيفة تسبح على السطح، تخفي ذلك الدود الناهش  لباطن التربة الخصب والثري، دود من أمثال “مصطفى سند”، يتكاثر كالبكتيريا أحادية الخلية، ينشطر ويتعدد بلا نهاية، بلا أب أو أم.

هل علينا يا “داليدا” أن نعيد الكَرّة، أم علينا الاستسلام؟ أعتقد أن أواننا فات، وربما كنا ننتظر من جيل ابننا “محسن” الكثير، لكن ذلك الجيل اللاحق نفسه تدهسه الآن طاحونة الزمن، وصار يسقط مبكرا.

نحن بانتظار معجزة، في زمن بلا معجزات.

أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

 

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات