الفن في الشارع

10:42 مساءً الأحد 26 مارس 2017
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

تاريخيا ارتبطت الفنون التي ظهرت خارج المرسم بحرفيي الفن artisans والأشخاص العاديين، الذين أرادوا تسجيل الحدث اليومي على الجدران، سواء كانت تلك جدران الكهوف أم البيوت أم الأسوار أو حتى أنهار الأرصفة والشوارع نفسها. وفي مدن عالمية كثيرا ما نرى حرفيي الفن يعرضون مهاراتهم ومواهبهم أمام الجمهور.

لكن ما حدث في العقود الأخيرة يمثل ثورة فنية، دفعت الفنان إلى الشارع، خارج الإطار، وبعيدا عن الأستوديو، وأجواء الجاليري، ليتماس مع جمهور آخر بشكل حي، وليحول الشارع إلى معرض عملاق يتبنى قضيته الفنية، سواء كانت جمالية أم نضالية أو دعائية.

ولدي اعتقاد بأن شبكات التواصل الاجتماعي، وبواباتها مثل فيسبوك وانستاجرام، كانت بمثابة شارع افتراضي تجرأ فيه الفنان ليقدم فنه في مجال أكثر اتساعًا، وتلقيا مما جعلها تشجعه لينطلق إلى الشارع الحقيقي.

من هنا علينا أن ننظر إلى تجربة ملتقى البرلس الدولي للرسم على الحوائط والمركبات في سياقها الجديد، الذي يتحدد أولا في ذهاب الفنان إلى الجمهور.

فإذا كان زوار الجاليريهات الضيقة أو المتسعة جمهورا نوعيا، أو نخبويا، أو ينتمي لطبقة الذوّاقة للفن، وربما يكون أغلبه من الأثرياء، أو المتخصصين، فإن جمهور الشارع هو الجمهور الحي والطبيعي والإنساني والأشمل تعبيرا عن المجتمع بتقاطعاته ولا أقول بفئاته.

ليس الجديد وحده هو ذلك الميلاد لعمل فني أمام جمهور مختلف، ولكنه بالمثل درس حي في فن الرسم، حين يتابع الجمهور ـ مارة وسكانا، أطفالا وكبارا، تلاميذ ومعلمين، باعة وموظفين، تَشَكُّل اللوحة الجدارية العملاقة، يومًا بعد يوم، وكأنها الجنين الذي يكبُر أمامَهم في رحم الحياة المفتوح، ولكنه سيلقى الرعاية اللازمة ممن حوله حتى يكبر، ويصبح قادرا على مخاطبة الجمهور المتلقي، بعيدا عن مبدعه الفنان.

إن هذا الملمح بالذات قادر على تكوين ذائقة نوعية تشبه العناية ببذرة حتى تثمر، لدى المزارع، وهو يخلق جمهورا له حساسية فنية مختلف عن جمهور آخر لا يحدث له ومعه مثل ذلك التواصل والتواشج مع العمل الفني.

لكن التأمل الأكبر، في الفن الموجه لجمهور الشارع، يجب أن يولَى للموضوعات التي تقدمها هذه الجداريات.

فبجانب ما تجتمع عليه هذه الجداريات من “تكبير” ورسم “بالحجم الطبيعي” لكائناتها، وبقدر ما تحرص على حضور عامل الزخرفة أساسيا في كيان العمل، في الكتلة أو الموتيف، وبين قلبه أو قالبه، لتخاطب الحس الفطري للمتلقي، فإنها مثل النصوص الشعرية والسردية حمَّالة أوجه، وحاملة معان، لأنها لا تقدم الفن وحسب ولكنها تقدم بشكل كبير الفنان أيضا.

من هنا، ورغم توحيد الخامات المستخدمة، إلى حد كبير، إلا أننا أمام كنوز حية تنقل تراثا وثقافات نوعية متعددة. لذلك تتجاور الحروفية مع التجريد، وتتماس الرمزية مع التأثيرية، وينهل الفنان من تاريخه الشخصي قدر ما يغترف من تاريخ وطنه. ويمكننا في هذا الفضاء اللوني، سواء كان على الجدران، حول النوافذ، وفوق الأبواب، أو محيطا بجسد المركب كبشرة حضارية، تمثل راقات متعددة، أن نقرأ تواريخ مصر والهند وكوريا ودول من أوربا والوطن العربي.

وتعلو لغة الحوار التشكيلي بين العمل والفضاء المحيط به حين تتماس ـ نموذجا ـ رسوم الأسماك مع أفق المياه، وحين تتراص كراسي المقهى المتخيل مع طاولات المقهى الحقيقي، وحين تقفز أساطير من الذكريات والخيال لتجلس بجوار المتسامرات أمام الأبواب، وحين تلهو الكائنات الحية على الجدران بجوار لعب الأطفال في الشوارع، وهو حوار لا يهدأ وتتعاقب عليه الشمس والقمر، ليجدد نفسه في بعث جديد.

جاء هذا الحدث السنوي المتجدد في موعده، بعد أن تعرضت مصر إلى آفة خلال نصف القرن الماضي، حين بدأ الناس يتركون جدران واجهات بيوتهم دون صبغ، فتواجهك قوالب الطوب وأسلاك الخرسانة تصرخ في الوجوه بقبح وعنف، كانت نتيجته عموم القبح والعنف في المجتمع الذي يواجه ذلك السرطان بلامبالاة.

لقد صدمتنا هذه البلادة، نحن الذين عشنا زمنا كانت مصر تفخر بواجهات بيوتها، بدءا من زخرفة حليات قصورها في حواضرها، وصولا إلى رسوم بيوتها الطينية في الجنوب والريف خصوصا، بالمناسبات الموسمية.

والنتيجة الآن كانت أن عم الخراب البصري في فوضى غير خلاقة، جعلتنا نعيش في مكب نفايات مفتوح. لذلك تأتي أهمية تلوين بيوت قرية مصرية كجزء من استعادة الهوية المعمارية للوطن.

من هنا تأتي أهمية تجربة مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن لتتحاور مع التكوين الإنساني من داخله، ليعشق الفن، ويدرك أهميته، ويقلل من كم اليأس الذي يأتي برفقة القبح والعنف.

ما أود أن أختتم به هو ذلك المعرض الاستثنائي متعدد الطبقات الذي يستضيفه قصر الفنون للمركبات التي أبحرت من شمال الدلتا إلى جنوبها، لتقدم أعمال فناني مصر والعالم المرسومة على الفلوكات الصغيرة، في بحر قصر الفنون.

عليّ أن أبدي احترامي وإعجابي بأسلوب العرض البديع الذي حوَّل هذه المراكب إلى أعمال تركيبية مجسمة في الفراغ، يمكنك أن تدور حولها، وتتأمل تفاصيلها، وأن تستجيب لها حين تشي لك بقصص أصحابها، أو حين تقص عليك حكايات وتفاصيل حملتها فوق ظهورها وفي باطنها. هنا المعنى أصبح في قلب المركب، بعد أن غادر يد الفنان وصدره.

حين نتجوّل هنا، فكأننا نبحر مع كل فنان، نرافقه كشراع غير مرئي، وهو يضرب موج الفن بيديه، ليشكل هذا المنتج الفني الفريد.

لقد شاهدتُ، من قبل، كيف لوّن فنانو العالم الدببة في برلين، وكيف شكلوا الأسود في ميونخ، وكيف رسموا على أجسام الخيول والجمال في الكويت والإمارات لكنها المرة الأولى التي يتم فيها الرسم على جماد لنعطيه روحًا جديدة. هذه المراكب تحولت ـ على أيدي هؤلاء الفنانين والفنانات ـ إلى كائنات تتنفس، وتتحدث، وتتحاور، نصغي إليها بعيوننا، ونحلم بغد أفضل.

………..

نص كلمتي في ندوة االفن في الشارع، دار الأوبرا المصرية ـ قصر الفنون، 26 مارس 2017

Qasr 1 Qasr 4 Qasr 5 Qasr 7 Qasr 8 Qasr 9 Qasr 11

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات