” الدم يقطر ما بين الوديان… نموت و نحيا ما بين الوديان”
تلك الأغنية التونسية الرائعة إن لم تسمعها بصوت الراحل العظيم ” إسماعيل الحطاب” فإعلم إنك لم تسمعها ..، و قد إرتكبت خطيئة كبرى عن غير عمد عندما نسيت ذكر تلك الأغنية ضمن ” ريبريتوار” الأغاني التونسية التي تناولتها في دارسة حول التراث الشفاهي نشرتها لي مجلة العربي الكويتية الغراء..
و سواء كانت تلك الأغنية ذات بعد ” إيروتيكي ” كما يرى البعض .. أو أنها تعبر عن واقع وحشي عاشته تونس ذات يوم فيما بين فيافي الجنوب المهجورة و وديان الشمال الغربي السحيقة .. فقد عاشت تونس واقعا صعبا في زمن مضى .. خاصة في المناطق البعيدة نسبيا عن ساحل البحر حتى عهد الإستقلال و حكم الزعيم التونسي الكبير ” الحبيب بورقيبة ” ..
فقد كان عهد ما قبل الإستقلال محفوفا بمخاطر الصراعات القبلية ” العروشية” .. و العرقية و الجهوية ، و كان نظام حكم ” البايات ” يتعامل مع هذا الواقع المحتقن من خلال ” باي الأمحال” جمع ” محلة” و الذي يشغل منصب ولي العهد في دولة ” البايات الحسينية ” .. و نادرا ما كان يتعامل ” الباي الحاكم ” مع هؤلاء الذين إن كفوا عن صراعاتهم البينية تمردوا على الباي الذي يسارع بقمعهم أو إرضائهم مع حرصه الدائم على نثر بذور الشقاق بينهم .. ، فقد يعطي مثلا ” قايد دريد ” في جبال ” خمير” التي تسكنها تلك القبائل البربرية شديدة المراس وضعا خاصا لكي تكون قبائل ” دريد” العربية الهلالية صمام أمان لعرشه في مواجهة قبائل ” خمير” البربرية مستفيدا هو من إنشغالهم في الصراع بينهما .. و ما أكثر أسباب الصراع حول مناطق النفوذ لتأمين المياه و الكلأ لقطعان الأغنام و الماشية الكبيرة التي تملكها تلك القبائل ، و لطالما إستفز ” قايد دريد” ” قياد قبائل خمير ” و هو يمر أمامهم راكبا ” البرداعي ” على دابته .. و ركوب ” البرداعي” أي ركوب الدابة من جانب واحد هو شكل من أشكال التعالي لدى المجتمعات القبلية و الريفية .. و يعرف في الريف المصري بالركوب ” جونيبي”.. و الذي كان يحلو ل ” قايد دريد” قوي الشكيمة زعيم تلك القبائل القوية ..
كان نظام حكم البايات الحسينية يعتمد نسق ” القياد” جمع قائد في الدارجة التونسية ( و ينطق حرف القاف جيم) .. كنسق ضامن لإستقرار العرش الحسيني .. حيث كان الجهل متفشيا آنذاك و عند إستقلال تونس لم تزد نسبة التمدرس عن 3% كما تذكر بعض المصادر ..
لم يتغير هذا الواقع جذريا إلا بعد الإستقلال و تولي الزعيم الحبيب بورقيبة سدة الحكم .. بطبيعة الحال لم يكن عصر البايات شر مطلق فقد عرف بايات مخلصين و بعض المصلحين مثل حمودة باشا و الجنرال حسين و خير الدين باشا التونسي و الباي الوطني الشهم المنصف باي .. الذي يذكره التونسيون القدامى مسبوقا بلقب ” سيدي المنصف باي” تقديرا و إجلالا له .. ، و حتى الباي الأخير ” محمد الأمين باي” و الذي كان ” الحبيب بورقيبة” رئيسا لوزرائه لا يتحدثون عنه بمثالب تذكر..
لكن الطفرة الكبرى كانت مع ” الحبيب بورقيبة” الذي كان بدون شك من طراز الزعماء الكبار .. و الزعماء الكبار لهم أيضا أخطاء بالغة الكبر ليس من حق أحد الحكم عليها سوى شعوبهم أو من أضير منها..
تمثلت الطفرة في أجلى صورها في التعليم و الصحة و الثقافة خلال الحقبة البورقيبية ، و مع نهاية تلك الحقبة كانت تونس هي الأعلى عربيا في نسبة التمدرس ..
لكي تعرف تونس المعاصرة و كيف أصبحت .. لابد أن تفهم كيف كانت و لابد أيضا من التوقف عند ” الحبيب بورقيبة” الذي نقل تونس نقلة نوعية إتفقت معه أو إختلفت..
تونس الحقيقية ليست في ” المنازه” و ” المنارات” أو ” اللاك” و ” حي النصر ” .. ، إنها في ” باب سويقة و الحلفاوين” و في الربط الآخر حيث “باب الجديد و باب منارة” حتى لو كان قنديل ” باب منارة” ( يضوي عالبراني) .. في ” باب الجزيرة و المدينة العربي” .. ” مونفلوري ” و ” باب الخضراء” حيث تجد حوم ” المطاوى” قريبة من ” حومة المالط في مالطة الصغيرة .. الحنينة” .. في ” باب العسل” غربا و إلى الشمال قليلا ” لافاييت” إمتداد المدينة الأوروبية حيث يسكن ما تبقى من اليهود التوانسة في العاصمة بعد أن غادروا ” الحفصية ” تقريبا .. و لم يتبق منهم في العاصمة إلا بعض سكان ” لافاييت” و ” حلق الوادي” في الضاحية الشمالية .. أما بقيتهم فيعيشون في ” الحارة.. بجزيرة جربة بولاية مدنين”..
و كانت الطبقات الميسورة لديها مساكنها و مصايفها الخاصة في “المرسى” و ” سيدي بوسعيد .. منذ كانت قرية” .. في الضاحية الشمالية ، أو في الضاحية الجنوبية في ” حمام الأنف” و ” رادس” التي ينطقها ” بلدية تونس” أي أهل تونس الأصليين بترقيق الراء كما في قراءة ” ورش” ..
بطبيعة الحال لا يتسع المجال لحصر كل الأماكن التي تحمل عبق تونس الحقيقية لكننا أشرنا إلى أهم الأماكن و أبرزها ..
و لن نخرج من الضاحية الجنوبية قبل أن نشق ” المراح” ونحن نترنم بأغنية المطرب الكبير ” علي الرياحي” ” يا شاقة لمراح” ، و لن نصل إلى ” غابة رادس” دون إلقاء التحية علي ” سي / أحمد بن صالح” الوزير الأول الأسبق الذي تولى إلى جانب منصبه الرفيع سبع وزارات في عهد ” بورقيبة”.. و الذي صاحب ” المنصف باي” في منفاه الفرنسي في الفترة الأخيرة من حياته.. تبقى ” لسي / أحمد بن صالح” من كل هذا الهيلمان عصا ” المنصف باي” يتوكأ عليها في الكبر و ” برنوس” أهداه له الزعيم الجزائري العظيم ” هواري بومدين” ليقيه برد الشتاء و ليحتضن الذكريات الطويلة.. و قبل هذه و ذاك تبقى له كرم الضيافة و الخلق الرفيع الذي يليق برجال مثله ” فسي / أحمد بن صالح يخجلك بأدبه الجم” و كذلك عائلته الكريمة..
– في تونس العاصمة أنتمي عاطفيا إلى ” باب سويقة .. الحلفاوين” و ما حولهما .. ربما كان السبب في ذلك محبة و إجلالا كبيرين لسلطان المدينة “سيدي محرز بن خلف” ، و هو ما دفعنا لمحبة خالصة لأماكن بعينها مثل ” سوق البلاط” حيث تسكن قلبه ” خلوة سيدي بلحسن” أي ” سيدي أبو الحسن الشاذلي” و له قصة كبيرة في تراثنا العائلي ، أيضا زاوية ” سيدي بن عروس” بالقرب من سوق ” الشواشين” حيث حوانيت بيع و صناعة “الشاشية” غطاء الرأس التونسي الشهير و الذي إنتشر مغاربيا و في إفريقيا السوداء وصولا إلى محافظات مطروح و الإسكندرية و البحيرة و الفيوم في مصر المحروسة ، و لا يمكن لمحب للسادة الصوفية أن لا يقرئ ” سيدي إبراهيم الرياحي” السلام قبل أن يعرج على ” نهج الباشا”.. ، و بالمناسبة ” سيدي إبراهيم الرياحي” هو الجد الأعلى للملحن و المطرب الكبير ” علي الرياحي” .. و كلاهما كان عالي المقام في مضماره ، فالفنان ” علي الرياحي” هو من عرفت تونس على يديه الحفلات الموسيقية على المسرح بالصورة التي نراها اليوم فقد إقتصرت تلك الصورة على حفلات الموسيقى الأوروبية قبل زمن ” الرياحي” الفنان..
من الصعب أن تمر من “نهج الباشا” بعد صلاة العصر دون أن تلحظ مظاهرة صغيرة للمتحلقين حول “برويطة الحلوى” من كافة الأعمار حيث يقف “الشاذلي” مجردا سكين الحلوى يقطع و يقسم و يكيل الوزن بالقسط لراغبي شراء الهريسة الحلوة بأنواعها “هريسة لوز .. هريسة بوفريوة .. هريسة جلجلان أو سميد” و البوفريوة هو البندق.. و الجلجلان هو السمسم في المشرق ، كما يبيع أيضا ” الحلقوم.. الملبن” و حلوى ” التكوا” ، و لايمكنك تجاوزه قبل أن تشتري لنفسك و لمن تحب من كل هذه الأصناف فهو من أمهر منتجيها في تونس على الإطلاق..
– عاشق لأولياء الله الصالحين من كل الملل و النحل .. و ” موالدي” إن شئت .. أتنقل بين الموالد من مولد العذراء أم المسيح إلي مولد أم هاشم رئيسة الديوان المشيرة السيدة زينب وصولا إلى أخيها البطل أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب .. عبر مولد البطل الأخر الشهيد مارجرجس مرورا بمولد أم الغلام و الأمير تادرس .. ، و كذا أفعل في تونس فمن سيدي محرز السلطان إلي سيدي علي عزوز في زغوان وصولا إلي سيدي المازري في المنستير حيث ” تحل البيبان ” من جديد إلي ” سيدي أبي سعيد الباجي.. رايس للأبحار ” في ” جبل المنارة” لنمر ” بسيدي عبد العزيز” في المرسى ، ليقذف الشوق بنا إلى ” أم الزين الجمالية ” في ” جمال ” لنعود من جديد إلى ” السيدة المنوبية” ..، و ما دمنا في ” نهج الباشا” فيمكننا الخروج من جهة ” باب الجديد” لعلنا نصيب بعض نفحات ” للا عربية” ساكنة ” باب الجديد” .. و لأنها كما يقول التونسيون ” زيارة و نيارة” .. تنكشف الحجب المادية التي تغلب على حياتنا و ” تخف الطينة” رحم الله الشيخ ” سيد المصري” صاحب المقولة و رضي عنه و أرضاه ..
من جديد تغلبنا الدنيا و ” تثقل الطينة” خففها الله .. يدركنا ” كلب الجوع” .. الأن علينا أن نختار بين الدخول من ” باب منارة” حيث ينتظرنا ” مطعم العابد ” بعد ضريح الشهيد المجهول..، أو نعود أدراجنا إلى ” باب سويقة ” حيث يتصدر ” مطعم الإستقلال ” الركن الشمالي من بطحاء ” باب سويقة ” ..
أصحاب المطعمين فيهما من خصال الأولياء الطيبة و الأمانة و النظافة و القناعة .. ، عز علي الذهاب إلى ” مطعم العابد” بعد أن غيب الموت صاحبه و مساعده .. و بالرغم من أن نجل صاحب المطعم صديق عزيز .. لكن وجوده ليس مؤكدا .. ، نتوكل على صاحب الأمر عائدين ” لباب سويقة” ” عم / الطاهر حمو ” صاحب ” مطعم الإستقلال” يروي قصة تأسيس المطعم الأول و الثاني .. القديم و الجديد .. ، ” الكوفي شانتات” التي كانت السمة المميزة ” لباب سويقة ” ، السهرات الرمضانية وقتما كانت مطاعم ” باب سويقة” تقدم وجبات السحور .. أما اليوم فالأمر لم يعد كذلك .. و إندثرت ” الكوفي شانتا” التي كانت تقدم للرواد الموسيقى و الغناء و الفكاهة و الاستعراض ..
ذهب زمن ” الكوفي شانتا” و تبدلت بطحاء ” باب سويقة ” القديمة بعد أن تم إزالتها بحجة التحديث ، و لولا ” البلدية من أهل تونس ” و ” جمعية صيانة المدينة” ، و قصة تروى أقرب للأساطير حول تهديد ” سيدي محرز ” ” لبورقيبة” إذا أقترب من ضريحه و حي ” باب سويقة” لما وجدنا الحي القديم الذي لم يتبدل فيه إلا بطحائه..
إحتفظ ” مطعم الإستقلال” من شكله القديم بأبوابه التي تفتح على الشارع الخلفي ” نهج الكبده ”
كان مكتب المحاماة الخاص ” بالحبيب بورقيبة” يواجه ” مطعم الإستقلال” في بطحاء ” باب سويقة” .. يقابله مكتب المحاماه الخاص بصديقه و رفيقه و غريمه فيما بعد الزعيم ” صالح بن يوسف” ..
كان الزعيم ” بورقيبة” و رفاقه من الحزب الحر الدستوري الجديد و إتحاد الشغل يتناولون وجبة غذائهم في ” مطعم الإستقلال” تحت مراقبة سلطات الإستعمار الفرنسي ، و كانوا يتعمدون التلكؤ أحيانا في تناول التحلية و كؤوس الشاي الأخضر ثم ينسلون الواحد تلو الأخر من الأبواب الخلفية منطلقين من ” نهج الكبدة ” إلى ” نهج الكشباطي” و يتفرق بعضهم ليعود أدراجه نحو ” الحلفاوين” و ” باب سعدون” مضللين سلطات الإستعمار .. كما يروي لنا ” عم الطاهر حمو” الشاب الذي جاوز الثمانين .. كان آنذاك أصغر من ذلك بكثير .. و قد أطلق على مطعمه إسم ” مطعم الإستقلال ” تيمنا بحصول تونس على إستقلالها الذي كافحت طويلا من أجله وسقط من أجله الشهداء تلو الشهداء جيلا وراء الأخر .. إلى أن حصلت تونس على إستقلالها الداخلي أولا ثم الإستقلال الكامل بعد ذلك .. و كان للزعيم ” الحبيب بورقيبة ” و رفاقه الدور الأكبر في ذلك ..
– لكن من وجهة نظرنا المتواضعة كان الدور الأعظم للزعيم ” الحبيب بورقيبة” في الصحة و التعليم و الثقافة ، و تحقيق ما حلم به ” الطاهر الحداد” أو أكثر من حقوق المرأة .. و لولا وقوف ” الحبيب بورقيبة ” وراء إنجاز ” مجلة الأحوال الشخصية” .. لظلت النساء تختطف ملفوفة داخل حصيرة أو ” زربية ” ليتزوج أحدهم بها عنوة في طقس أشبه بالإغتصاب كما كان يحدث في عهود سبقت حقبة حكمه لتونس .. ، ولولا الإستقلال و جهود أولئك المناضلين الذين كافحوا من أجله .. لظل الإحتراب القبلي و العرقي و الجهوي و حروب المياه و الكلأ .. التي تذكر بحرب البسوس و داحس و الغبراء..، و لظل الدم المهراق ” يقطر ما بين الوديان” ..
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.