قراءة في “ثلاثية ليسبوس” للشاعر نوري الجراح

09:04 صباحًا الجمعة 8 ديسمبر 2017
وليد علاء الدين

وليد علاء الدين

شاعر وروائي ومسرحي من مصر. مدير تحرير مجلة "تراث" ، الإمارات

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
من يتابع تجربة نوري الجراح يدرك أنه منذ البداية ساع إلى تأسيس أسطورته الخاصة بمفردات وحقائق يصنعها هو بشكل حالم ومرهف من أساطير وتاريخ سوريا.

من يتابع تجربة نوري الجراح يدرك أنه منذ البداية ساع إلى تأسيس أسطورته الخاصة بمفردات وحقائق يصنعها هو بشكل حالم ومرهف من أساطير وتاريخ سوريا.

كلما قرأت قصائد الشاعر السوري نوري الجراح، خاصة تلك المنشورة حديثًا: “ثلاثية لسبوس” و”قارب إلى لسبوس” و”ربيع محترق”، ارتجفت شفتاي وشعرت بالخوف. ليس فقط في القراءة الأولى، في كل قراءة تدمع عيناي وأراقب بطرفٍ خفي الكلمات المقبلة كأنني أخشى أن تصطدم روحي بمدية أو تنفجر في قلبي قنبلة.

قد لا يكون الأمر مثيرًا للدهشة مع “الشعر”، لكنّ مدهشًا “إضافيًا” في تجربة نوري الجراح أود الحديث عنه.
يقوم كل تلقٍ للإبداع على أنساق ثلاثة/ محاورات ثلاث رئيسية بين النص والقارئ: جمالية، وعاطفية، وفكرية.
وبقدر نجاح النص في تحقيق التناغم بين المعطيات اللازمة لإدارة هذه المحاوارات -على اختلافها، بقدر ما تنمو حالة التلقي ويتطور انفعال القارئ وتفاعله وتجاوبه مع ما يطرحه النص.

بيان عملي على “الموت”

“الموت” مثلًا- كلمة مجردة، تتضمن –مثلها مثل أي كلمة- الأبعادَ الثلاثة التي تحدثنا عنها، فهي تتضمن الفكرةَ النابعة من مفهوم القارئ وخلفياته الدينية وما تَغذّى عليه من أفكار تتعلق بالموت في بيئته.
إلى جوار ذلك تتضمن عاطفةً مبنية على تجارب القارئ الخاصة وما تعرض له من خبرات بسببها من فقد أحباب أو أصحاب أو حتى أعداء (قد تكون عاطفة قارئ تجاه “الموت” هي السعادة التي حققها له موت أحد أعدائه. في حين يكون الموت مع قارئ آخر مجرد كلمة مغلقة غامضة لم تمسسه من قبل لأنه حتى هذه اللحظة لم يختبر حدوثه في محيط من يشعر بهم).
أما الجانب الشكلي، فهو المتعلق بكل كتابة أو حتى شفاهة باعتبارها وسيلة تواصل. وفي حالة الكتابة/ الشفاهة الإبداعية نُضيف إلى كلمة “الشكلي” بعد “الجمالي” مع مراعاة نسبية المفهوم.
الهدف من هذا الجانب يمكن تحديده في أنه الطريقة التي يسعى المبدع من خلالها إلى تحميل كلمته بالدلالة التي يعنيها -بما في ذلك رغبته في عدم تلوينها بأي معنى. هذا ما يميز كلمة “الموت” في خبر صحفي عنها في نعي مدفوع، عنها في كتاب المطالعة الرشيدة لطلاب الصف الرابع الإبتدائي، عنها في قصيدة شاعر وفي كل قصيدة أخرى للشاعر نفسه أو لشاعر غيره. هناك – بلا شك- دلالة لمفردة “موت” في كل مرة يقوم فيها شخص ما باستخدامها.256BD21F-3421-46A5-A1EB-F11C5430B4A7
والكتابة هي استخدام مفردة “موت” في أكثر شكل يراه الكاتب حاملًا للدلالة التي يريدها في لحظة التعبير. إنه يختار ما يجاورها من مفردات. يحدد موقعها من الجملة، ومن النص، ومن الكتاب. يختار كيفية استخدام المسافات وعلامات الترقيم. قد يختار كاتب عدم استخدام مفردة “موت” من الأساس خشية الوقوع في أسر صورتها المستهلكة؛ فيسهى للتعبير عنها بمجموعة من المفردات يصيغ منها صورة تحاول الاقتراب إلى أقصى درجة متاحة من “موته” الذي يريد التعبير عنه. يا لها من مشقة! إن الكاتب يريد لكلمته، لصورته عن كلمته، أن تظل محتفظة بأقصى طاقتها الدلالية لتنجح في تفريغ حمولتها في موانئ قراء يستقبلها كل منهم بطريقة تختلف عن الآخر. الكتابة هي فن شحن الحمولات الدلالية لتظل قادرة على التأثير في أشد الظروف صعوبة وأكثر احتمالات التلقي سوءًا.
أما القراءة فهي ببساطة شديدة، عملية استقبال ما ينتجه الكاتب من دون أدنى انشغال بكل ما سبق. يأخذ القارئ الكلمة، يغمسها في محلول دلالاته الخاصة، ويتناولها ويهضمها حسب طبيعة عصاراته الثقافية.
فعل مخيف، ليس مخيفًا بالطبع إلا إذا فكر الكاتب في القارئ، لكنه مخيف . . . يدفع بالكثير من الكتابة -بلا وعي من كاتبها أحيانًا- إلى التخفف من الذات الكاتبة طمعًا في مخاطبة ذوات الآخرين، هنا يبدأ استسهال استخدام الوعي الجمعي بصوره ومفرداته وأشكاله؛ إنه الركون المثالي إلى طمأنينة المشترك.
من ناحية أخرى، هذا أمر صحي للغاية، فرز مبدئي لمن يقررون اللعب خارج ملعب الإبداع والاكتفاء باللقب. الألقاب سهلة، أما الكتابة فشئ آخر.

عودة إلى الفكرة

عودة إلى فكرة المحاورات الثلاث؛ تنبع إشكالية تلقي الإبداع من حساسيته كنصٍّ “يرتدي القناع ويشير إليه في الوقت نفسه”” “، تتعقد آليات ضبط توازن المحاورات الثلاث/ الأنساق الثلاثة المكونة له: الجمالية والعاطفية والفكرية. وهي حالة لا ينفرد بها النصّ كنائبٍ عن مبدعه، إنما يشترك فيها بالأساس القارئ بثقافته ومعارفه وخبراته القرائية السابقة.
هذه الحساسية تتضخم مع الشعر، فالشعر لا يسمح بفرص أخرى، أي خلل في معيار التناغم بين الحوارات الثلاثة كفيل بإخراج المتلقي من عالم القصيدة. في السرد هناك فرص أكثر.
خلال القراءة تعمل المحاورات معًا للوصول إلى حالة التناغم؛ يسوقك الشكل. تبدأ العاطفة في التحرك. يراقب العقل الأمرَ عبر تفكيك النصوص إلى مكوناتها لكشف مدى اتساق الشكل مع المضمون. وظيفة العقل تأجيل العاطفة ومقاومة فعل آليات الجمال عبر الانشغال المتّقد بمحاولة معرفة كيفية عملها، معرفة ما الذي يجعل الإبداع بديعًا، ما الذي يجعل الشعر شعرًا، والسرد سردًا.
هذا التناغم ليس مجرد صنعة يديرها مُنتِج النص؛ الشاعر في حالة القصيدة، وإن كنا لا ننفي دور الصنعة، لكن الأساس أن يكون هذا التوازن أو التناغم خلاصة طبيعية -أو يُشترط أن تكون طبيعية- منعكسة عن صدق الشاعر ودرجة تصالحه مع نفسه بما يجعل نصه الإبداعي معبّرًا بصدق وبلا ادعاء أو تكلف عن ذاته.
الصدق هنا يعنى التعبير عن هموم الذات الحقيقية. وليس ارتداء هموم من خارجها. الصدق هنا وسيلة للحذر من السقوط في خدعة المشترك. الصدق يعني استنطاق محتوى الذات الثقافي والفكري والمعرفي بشفافية من دون خجل يقود إلى ادعاء. الصدق -بهذا المعنى- هو وحده القادر على إدارة محاورات النص مع المتلقي وصولًا إلى حالة التناغم. أي اتزان ما تبثه الذات في نصوصها الإبداعية على مستوياتها التركيبية الثلاثة: الشكل والفكر والعاطفة، وصولًا إلى حالة الشعور بالجمال، فيتحقق للقارئ ما يمكن أن نسميه “الإشباع” وهي الحالة التي تنجح فيها الحمولة الإبداعية للنص في تخطي العقبات والتفاعل مع حمولات القارئ.
لا تستعجلني . . . إما أن تصبر أو ترحل. هذا ما يقوله النص الذي لا يتوسل بسذاجة بالمشترك للوصول إلى القارئ. ولكي يتجرأ نصٌّ على مثل هذا القول عليه أن يحمل/ يُقدّم ما يبرر ذلك؛ جماله الخاص مثلًا.
النص السهل الذي يتوسل بالمشترك يحرص على سدّ كل الثغرات في الجسر الذي يقوده إلى القراء، أما النص المختلف فيستعين بجماله الخاص لفعل ذلك.
المنطقي – وفقًا لآلية التلقي التي حددناها- أن كل ثغرة في الأنساق/ المحاورات المركبة للنص، تؤدي إلى خلل في اكتمال الحوار بين بقية الأنساق، الخلل في اختيار مفردة خاطئة مثلًا قد يصيب العاطفة بالعطب لأن العقل سوف يمرر إحساسًا بعدم الاتساق فلا تتحق حالة الإشباع.

المفردات المصمتة

من المعوقات المبدئية التي يمكن الحديث عنها كمثال، والباب مفتوح لاجتهادات وأمثلة أخرى، هو ما أسميه بـ”المفردات المصمتة”.من ذلك اتكاء النص على اسم شخصية تاريخية أو أسطورية، أو واقعة تاريخية محددة، أو اسم عّلَم بعينه، أو غير ذلك من المفردات أو العبارات المصمتة التي لا تحتمل التأويل؛ إما أن تعرف أو لا تعرف.
هذه المفردات مغلقة الدلالة تُوقف معادلة الوصول إلى التناغم. عندما تُحيل المتلقي إلى خارج النص، لأنها تتطلب معرفةً من خارجه، من دون هذه المعرفة الخارجية يتوقف دورها في المحاورة العقلية التي يريد النص نقلها إلى المتلقي.
الفشل في توظيف المفردات المصمتة يغلق على القارئ –غير العارف بدلالتها- بابَ التأويل داخل السياق، فيبقى التواصل مع النص مشروطًا بالخروج منه للحصول على المعلومة ثم العودة، وهو ما لا يليق بنص إبداعي، خاصة الشعري.
يدخل في باب “المفردات المصمتة” أيضًا اتكاء النص في بنيته الكلية على أسطورة بعينها من دون تذويبها في سياقه، فتصبح المعرفة الخارجية بالأسطورة شرطًا للدخول إلى سياق النص.
الخروج من النص من أجل معلومة يشبه قراءة نص مترجم، لا يجد القارئ -الأجنبي هنا- غضاضة في الخروج منه إلى الهوامش للإحاطة بما عجزت اللغة الوسيطة عن نقله.
هناك فروق بين ذائقة تلقي نصٍّ في لغته الأصيلة وتلقيه عبر لغة وسيطة. قارئ النص شعري في لغته الأصيلة ينفر من استخدام مرجع خارجي لمساعدته في القراءة، في حين (قد) يجد قارئ الشعر المترجم بعض المتعة في قراءة شروح وإحالات مرجعية وهوامش تكشف مدى غنى وثراء الصورة الأصيلة للنص الذي يقرأه.
الشعر- لقارئه في لغته- رسالة جمالية تنبع متعتها من اتزان أنساقها/ محاوراته: الشكلية والفكرية والعاطفية. بينما الشعر للقارئ في لغة وسيطة مجرد محاولة تواصل لنقل أكبر قدر ممكن من المعاني والمعارف، والتعبير عن أكبر قدر ممكن من جمال “كان” يحمله النص الأصيل.
هنا تتجلى قيمة القدرة على الإيحاء من داخل سياق النص نفسه، من دون إشعار المتلقي بالحاجة إلى الاستعانة بمصدر خارجي، أو ما يمكن تسميته تذويب الدلالة الأصيلة في دلالة سياقية جديدة، حتى لو كانت الأخيرة هي ذاتها الأولى.
هذه المقدرة وثيقة الصلة بمقدرة الشاعر الثقافية واتساع وتعدد معارفه من ناحية. وبمدى إيمانه وقناعته بما يطرح من أفكار من ناحية أخرى. تدني المعرفة، أو ادعاؤها، أو تبني رؤية لم تصل إلى مرحلة الإيمان . . . كلها أمور لا يمكن أن ينتج عنها نص بشحنة عاطفية قادرة على تحقيق حالة التناغم وصولًا للإشباع. هذا تحديدًا ما يستحق التوقف عنده في تجربة نوري الجراح، ونصوصه الحديثة على وجه الخصوص.

تجربة الجراح الشعرية

استدعاء التاريخ بحوادثه وشخوصه. محاورة هذه الشخوص، أحيانًا محاكمتها أو إنصافها يكاد يكون أحد مقومات تجربة نوري الجراح الشعرية. الأمر الذي يعني أنها تتضمن قدرًا كبيرًا من “المفردات المصمتة”؛ فنصوصه تنهل من المعين الأسطوري أو التاريخي وأحيانًا المعاصر أسماء شخوص ومدن وقصص وإحالات لحضارات قديمة ووقائع وأمثولات.
ما يلفت الانتباه ويستدعي البحث في تجربة الجراح، أنها رغم ذلك تنجح –عادة- في إحداث التوازن اللازم بين سياقات/ محاورات التلقي الثلاثة ولا تكسر تواصلها مع القارئ.
ربما يشعر القارئ بعد انتهائه من القراءة بميل إلى معرفة المزيد حول بعض هذه المفردات، لكنه ميل إيجابي، قيمة مضافة للنص، ليست ناتجة عن انقطاع التلقي، بل عن رغبة في إرواء ظمأ معرفي نجح النص في إثارته.
على الرغم من شيوع المفردات مغلقة الدلالة في نصوص نوري الجراح، وهي مفردات بطبيعتها تحتاج لفض دلالتها إلى معرفة من خارج النص، فإن نصوص الجراح حققت نجاحًا لافتًا في الإبقاء على شحنتها العاطفية.
هذا الأمر لا يتحقق إلا عندما تكون أفكار الشاعر حقيقية إلى حد الإيمان، ليشيع هذا الإيمان العميق والحقيقي في كل مفاصل القصيدة ولا تعود مفردة أو جملة بعينها في حاجة إلى معرفة من خارج السياق لاستقبال التيار العام للنص، ولكن بعيدًا عن افترضات تتعلق بشخصية الشاعر، ما نملكه هو محاولة البحث عن آليات تحقق ذلك في النصوص نفسها.

ثلاثية ليسبوس

تظل المقطوعة الأولى “قارب في ميناء” من ثلاثية ليسبوس للشاعر نوري الجراح هي المحببة إلى نفسي. وتظل جملتي المفضلة فيها: “أُطلّ على قاربي من صخرة في شرفة وأرى حطامي كاملا..”. تليها: “وما صورتي في المرآة عند المغسلة في نُزُلٍ على الميناء سوى وجه من أبحرَ ولم يعد..”.
أشعر معهما بحزن شفيف يرفرف بين أضلعي ويستدعي دموعي في كثير من الأحيان. إلا أن هذا الحزن ينجح في البقاء، بل والتجلي مع متابعة الصورة الكلية التي ترسمها المشاهد المكونة للثلاثية: “قارب في ميناء”، “شخص في غرفة”، “المسامرة الواحدة والأربعون”. ليكتشف القارئ في الختام أن الحزن مبني في الأساس من تفاصيل تلك المشاهد رغم تناثر عدد ليس صغيرًا من المفردات المصمتة التي تمثل بطبيعتها عوائق أمام استكمال محاورات التلقي الثلاث.
هنا حصر لأبرز تلك المفردات: “ليسبوس، لقيانوس السميساطي، سميساط، الفرات الأعلى، الهيلينيين، قائد المائة المقدوني، الأغارقة”. تجمع المفردات بين أسماء وأماكن وشعوب مرتبطة بأحداث تاريخية ومفاصل حضارية بعينها تتطلب قدرًا أدنى من المعرفة لتصبح ذات معنى/ دلالة تساعد على استكمال تلقي النص.
والسؤال: كيف يمكن تحقيق هذه المعرفة من داخل النص الشعري من دون اضطرار القارئ إلى مراجعة مصدر خارجي لحل الغموض؟
يبقى السؤال معلقًا. وهو ليس حكم قيمة مطلق، قد يمتلك كثير من القراء المعرفة فلا تعود المفردات مصمتة بالنسبة إليهم. لذا فإن الأمر محاولة لمناقشة آليات التلقي وكيفية تشكلها بين النص والقارئ مع افتراض أن الأخير من غير الملمين بهذه المفردات، فهي بالنسبة إليه مصمتة.
افتراض معرفة مسبقة – كشرط لتلقي النص- مخاطرة، أو سمّها تصنيفًا وحصرًا للمنتج في مساحة تلق مشروطة على أقل تقدير.
البديل إما الوضوح الشديد –عبر الاتكاء المباشر على المشترك والوعي الجمعي- فيتخلى النص بذلك عن جماله الخاص. أو أن يحمل النص تيار عاطفة شديد الجمال لينجح في تذويب الدلالات المصمتة في دلالته السياقية وبالتالي ينتفي شرط المعرفة المسبق، ولا يشعر القارئ بضرورة “آنية” للخروج من النص بحثًا عن المعلومة.

عودة إلى ثلاثية ليسبوس

المفردة المصمتة الأولى في ثلاثية ليسبوس هي “ليسبوس” نفسها؛ كم قارئًا يمتلك معرفة واضحة الدلالة بالكلمة من دون استعانة بمصدر خارجي؟
ما فعله الجراح، هو أنه لم يترك الكلمة مصمتة طويلًا. يبدو لي أنه بنى مشهده الأول كله -بما في ذلك العنوان “قارب في ميناء”- من أجل تذويب هذه المفردة المصمتة وتعبئتها بالدلالة السياقية، حتى إذا جاء موعد ظهورها الثاني باتت مفتاحًا دلاليًا يصلح للبناء عليه من داخل النص.
(1) قارب في ميناء:
أنام في جزيرة
وأستيقظ في جزيرة
هل وصلتُ أمس، أم مازلت في سراب الطريق إلى نفسي؟

يا لهذا العذاب
إلهي وماكر.
بشري وأحمق.
أطل على قاربي
من صخرة في شرفة
وأرى حطامي
كاملا..
هو ذا أنا، هناك، كما لو أنني شبح أو طيف أو خيال،
أثر
من
صيحة
غريق
وما صورتي في المرآة عند المغسلة
في نزل
على الميناء
سوى وجه من أبحر ولم يعد.
لكنني في ميناء صغير هنا، “في ليسبوس”
هائم برائحة البحر
شعري مسبل على وجهي
ويداي المثقوبتان بالضوء تسألان سياحاً ولاجئين عن وجهي الهارب
وعيني المسمولتين.

كل هذه البراعة، يخيل لي أنها كانت من أجل تعبئة “ليسبوس” بالروح التي أرادها الشاعر. هل ما زلت في حاجة إلى المزيد عن ليسبوس؟ أظنها حاجة معرفية –ليست شعرية- يمكن استيفاؤها بعد تمام التلقي. وهي بذلك قيمة مضافة للنص وليست عائقًا دون تلقيه.
نجح الجراح في استبقاء القارئ الذي لا يحمل أي دلالة للكلمة إلى درجة تبدو له مجرد بقعة مصمتة رغم مركزيتها الشديدة في النص، استبقاه إلى لحظة التنوير، وخلال ذلك مرر الروح إلى تلك البقعة بشفافية تليق بالشعر، شحنات بارعة تصنع المشهد وتصعد من دراميته إلى أن تحين لحظة التنوير التي رأى فيها أن الكلمة اكتسبت دلالة -آنية سياقية – صالحة للتعامل معها كجزء يمكن تأويله سياقيًا أثناء القراءة. هنا فقط وضعها مرة أخرى، حين لم تعد مفردة مصمتة.
الآلية ذاتها التي طبّقها الجراح على مفردة واحدة: “ليسبوس” إذ حشد لتحريرها من الصمت ثلثي مشهده الأول، طبّقها بتوسع ناجح على المشهد الأخير من الثلاثية، الذي احتشدت فيه بقية المفردات المصمتة: لقيانوس السميساطي، سميساط، الفرات الأعلى، الهيلينيين، قائد المائة المقدوني، الأغارقة.
ست مفردات وعبارات مصمتة يبدو معها أن عملية التلقي قد تحتاج إلى مراجع خارجية أو على الأقل هوامش شارحة كالتي يحتاجها الشعر المترجم. لكن الشحنة العاطفية والتوجه الإنساني والحالة الشعورية التي تم تمريرها بنجاح أسهمت في اختراق صمت تلك المفردات وتذويبها في السياق. وقد استعان الجراح بالآلية نفسها تقريبًا؛ فكما خلا ثلثا المشهد الأول من أية مفردة مصمتة، واكتفيا بالعمل ببراعة على شحن مفردة “ليسبوس” بدلالتها السياقية. خلا كذلك المشهد الثاني “شخص في غرفة” بأكمله من تلك المفردات، فبدا وكأنه تمهيد لاستقبال المشهد الثالث بعنوانه “المسامرة الواحدة والأربعون” والذي تتناثر فيه المفردات المصمتة، والتي لم تعد كذلك في تصاعد عملية التلقي بعد أن استمدت شحناتها الدلالية المبدئية، الصالحة لتذويبها في الدلالة السياقية، مما كرس له المشهدان: الثاني، وقبله الأول.
(2) شخص في غرفة:
أمس وصلت،
قدمي التي وطأت الأرض
تنعمت
أخيراً،
بصخرة ملساء.
أمس وصلت،
قادني شاب ملتح ووسيم بين صخور يخفق فيها ماء أخضر
ووصلنا إلى هذا النزل
والآن
سريري مرتب
ونظيف
ومنشفتي لم تمس.
جالس في غرفةٍ
تطل على مراكب يمرح فيها ضوء غارب
ونوارس مجنونة
تزعق.
رأسي مطرق
وعيناي غائرتان في بئر بعيدة
حفائي الضاحك يدمي الغروب،
وذراعي التي أفلتت من كتفي
تقطر دماً.

هذه البراعة الحادة هي السبب في نجاح القارئ في الوصول إلى المشهد الثالث والتواصل معه رغم احتشاده بعدد غير قليل من المفردات المصمتة. تلك الشحنة العاطفية الجمالية التي تم تمريرها عبر المشهد الثاني، وقبله الأول، هي سرّ نجاح عملية التلقي. قامت بفعل ضابط الاتزانبين المحاورات الثلاث الجمالية والعاطفية والفكرية وذوبت المفردات المصمتة في دلالات السياق فاستقبلها العقل كإشارات موحية ذات أثر وليس بقع سوداء مصمتة الدلالة. وهو ما يحتاج إلى انتباه: كيف نجح الشاعر في ذلك؟
(3) المسامرة الواحدة والأربعون:
أين أنت يا لقيانوس السميساطي من سميساط
على الفرات الأعلى،
أين أنت
هات قرطاسك وقلمك،
وتعال
لتتهجى لهؤلاء الهيلينيين المولعين بك
إسمي السوري.

الشهود لم يتعرفوا وجهي
وقائد المائة المقدوني في الميناء
تفحص على ملابسي الأصداف والطحالب وهشيم الأشنات..

القاضي الذي قلّب شفتيه في الأمر
خرج وتركني
في عهدة حراس لهم عيون من المرمر.

لوقيانوس، أيها القانط الهازيء، أولستَ المواطن الهيليني
ولك في أثينا كلمة لا ترد؟
تعال،
إذن
وتشفَّع لي..
ولو لم يقبل هؤلاء الأغارقة التياهون بالموبايلات
على الميناء
دراخماتي القديمة،
فلترسل معي، إذن، إلى العالم الآخر، دليلاَ في زورق،
ولتكتب لأجلي هذه المسامرة.

في المشهد الثالث، المعنون بـ”المسامرة الواحدة والأربعون”، تتساءل: لماذا 41 مسامرة؟ سؤال يقود الخيال ولا يُغلقه، يصبح السؤال عائقًا إن لم يفتح باب الخيال، ويصبح حافزًا إذا وعد بالمزيد من المغامرة من أجل الحصول على جواب.
الخدعة هي أن الشاعر استمر في طرح الأسئلة مغذيًا الشعور أو الإيحاء الذي خلقه العنوان، مستفيدًا من حالة البحث والانتظار التي صنعها وراهن على قدرتها على تحمل عدد آخر من المفردات المغلقة:
“أين أنت يا لقيانوس السميساطي من سميساط؟”
فلا ضير -طالما أثير الفضول- أن يحمل على متنه القليل من الغموض، على أمل أن تفك شفرتهما معًا. وهو حين بدأ في تمرير معطيات فك الشفرات، صنع ذلك على مهل؛ أضاف إلى “لقيانوس” ملامح شخصية تمنح القارئ معرفة تدريجية، في لعبة إرجاء تبدو محسوبة، وإن كان ذلك قد بدأ في العبارة نفسها حين لم يكتف بوصفه بالسميساطي بل أضاف “من سميساط” في إيحاء إلى أن الاسم نسبة إلى مكان، بعد ذلك جاءت الإضافة الثانية:
“هات قرطاسك وقلمك وتعال”
نعرف الآن أن “لقيانوس السميساطي” هو رجل من “سميساط” له علاقة وثيقة بالكتابة، فهو صاحب قرطاس وقلم، منسوبان إليه، لم يقل النص: القرطاس والقلم، إنما: قرطاسك وقلمك. إنهما وسيلة تعريف وليسا مجرد أداتين من أدوات الكتابة.
ثم ها هو النص يكشف لنا شيئًا عن الفترة التاريخية التي عاش خلالها هذا اللقيانوس، بل ويحدد قيمته الاجتماعية لدى مجتمعه المولع به:
“أولستَ المواطن الهيليني
ولك في أثينا كلمة لا ترد؟”
يسبق ذلك بإشارة إلى سبب هذا الولع الذي يبدو متصلًا بالمعرفة، هذا اللقيانوس يعرف ما لا يعرفه الهيلينيون وهو هجاء الاسم السوري:
“لتتهجى لهؤلاء الهيلينيين المولعين بك اسمي السوري”
بذلك أسس النص أول علاقة سياقية يمكن تلمس رائحتها بين هذه الاستدعاءات التاريخية والحدث السوري الراهن. توقيت مذهل ولا شك، فهو يُحيل ببراعة كل شحنة الشجن والحزن والألم التي تخزنت عبر القراءة ليربطها الآن دفعة واحدة بالمشهد السوري.
بعد هذا الكشف، يجرؤ الجراح فيلقي في طريق القارئ بمفردة مصمتة جديدة في استكمال محسوب للعبة، إنه يضع اللمسات النهائية لإغلاق المشهد على دلالاته السياقية:
“الشهود لم يتعرفوا وجهي/
وقائد المائة المقدوني في الميناء/
تفحص على ملابسي الأصداف والطحالب وهشم الأشنات”
من “قائد المائة المقدوني” هذا؟ كالعادة لم يتركنا النص غفلًا من معلومة تقطع التلقي فنضطر للبحث خارجه. يكفيك الآن على الأقل- أن تعرف -من داخل النص- أنه شخص صاحب سلطة ليست قليلة، فمن حقه أن يتفحص ملابس الشاعر بهذا الشكل اللافت للانتباه.
والنص نفسه يدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة هذه السلطة، إنه يطور السؤال ولا يغلقه، فسرعان ما يبحث العقل عن موقع لكون هذا القائد “مقدونيًا” في تلك الصورة التي يقطع نموها بشكل يبدو مقصودًا ظهور شخص آخر يوحي النص بأن سلطته تكفي لحماية الشاعر من سلطة قائد المائة، لكنه لا يفعل ذلك بل يتركه في عهدة حراس “لهم عيون من المرمر”:
“القاضي الذي قلب شفتيه في الأمر
خرج وتركني
في عهدة حراس لهم عيون من المرمر”
هنا صورة اكتملت دفقتها الشعورية إلى حد استغنت معه- سياقيًا- عن كل التعريفات المعجمية لما حملته في نسيجها من مفردات مصمتة. وما يضيفه الشاعر بعد ذلك عن “لوقيانوس” يكشف الستار قليلًا عنه، لكنه لا ينتهك “حرمته الشعرية” ولا يجعله متاحًا إلى حد الإخلال بالدفقة التي نجح في تصعيدها عبر المشاهد الثلاثة، فرغم أنه يطلب منه التشفع له عند “الأغارقة التياهون بالموبايلات”، فهو يصفه بـ”القانط الهازئ”، ويشكك بجرأة في قدرته حين يضع له بديلًا في حال رفضوا شفاعته أن يرسل معه إلى العالم الآخر دليلًا في الزورق، وأن يكتب لأجله “هذه المسامرة”، إنها المسامرة الواحدة والأربعون إذن التي طرح العنوان الفضول بشأنها.
في كل مرة أقرأ هذه المشاهد الثلاثة، أقاوم رغبتي في البكاء، حدث ذلك قبل البحث عن “مفرداتها المصمتة” واستكمال معرفتي الناقصة بتاريخ سوريا ورموز حضاراتها. وما زال يحدث، ظلت تبكيني، وتبث في أوصالي خوفًا ورهبة.
من يتابع تجربة نوري الجراح يدرك أنه منذ البداية ساع إلى تأسيس أسطورته الخاصة بمفردات وحقائق يصنعها هو بشكل حالم ومرهف من أساطير وتاريخ سوريا. داخل هذا السعي هو حريص تمامًا على إعادة تشكيل كل المعطيات باعتبارها تراثه الخاص والحميم، أليس قارئًا لها، ولكل قارئ تراثه مما قرأ؟
الجراح لا يتوقف في شعره –كما فعل كثيرون- عند حد القراءة والاستلهام، بل يعمد دومًا إلى إعادة توزيع الأدوار التي لعبتها شخصيات تلك الأساطير على محورين: الأول يتجلى في خلق صلة ما بين شخصيات العصر ومثيلاتها في الأسطورة. أما المحور الآخر فهو أخلاقي وشعري معًا إذ يذهب الجراح إلى الشخصيات التي يرى أنها لم تنل حظها داخل بنية الأسطورة، تلك الشخصيات التي عانت عذابات التهميش وعدم الاهتمام بمصيرها طوال قرون، فيعيد الحكاية من عندها ولأجلها ولأجلنا. إنه أحد شعراء حالنا العربي.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات