ماذا لو عاد “طه حسين” من مرقده؟

10:53 صباحًا الثلاثاء 19 ديسمبر 2017
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

جريدة الوطن | بقلم الدكتور : سعيد اللاوندي

9390E6C6-D964-4CD8-BD0B-56B2F58B9F65فى كل مرة أسمع عن عشرات الجنيهات فى المرحلة الابتدائية وما قبلها أجدنى أضرب كفاً بكف وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم متحسراً على مجانية التعليم التى وصفها عميد الأدب العربى بأنها حق من حقوق الإنسان وأن التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء والشمس. وكان، كما ذكرت الدكتورة نادية جمال الدين فى كتابها «طه حسين ومجانية التعليم» الذى ظهر فى سلسلة «من أجلك نكتب»، «لا يريد أن يكون قصارى التعليم هو تخريج موظفين وإنما يهدف إلى أن يكون التعليم قنطرة إلى العلماء والبيولوجيين، فضلاً عن الأطباء والمهندسين والباحثين العلميين فى كل المجالات».

يبدو أن الوزير طارق شوقى قد تنكّر لكل ذلك، وتضحية أجيال كاملة كانت ترى أن التعليم والتجنيد إجباريان، فليست حاجة الشعب للتعليم الصالح بأقل من حاجته إلى الدفاع.

ويبدو أن الوزير قد نسى ما قد كتبه الدكتور طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، فلقد اعترف العميد بأنه كان سعيداً حين تعلم على نفقة الدولة، ولذلك فمن الحق -هكذا يقول- عليه أن يتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر!!

والحق أن وزير التربية والتعليم الحالى يؤمن بأن التعليم سلعة وليس حقاً كما كان يرى طه حسين، بمعنى: من يستطيع شراءها فهى له ومن لا يستطيع فليذهب إلى الجحيم.

يبدو أن السيد طارق شوقى يرى أن طه حسين كان واهماً، أو رومانسياً على أقل تقدير، عندما قال إن من حق الفقراء أن يتعلموا ومن حقهم أن يطمعوا فى أكثر مما يعطيهم التعليم الأوّلى، ومن حقهم أن يطمحوا إلى التعليم العام والتعليم العالى.

والحق أن طه حسين أصبح غريباً فى بلده مصر، فلقد كرست كافة الأجواء التى عاشها فى أرض هبة النيل أو فى فرنسا فكرة المجانية، ولقد قبسها أنواراً تتلألأ فى بلاد الفرنجة التى جعلت التعليم حقاً من حقوق المواطن، فأعلنته بأجر زهيد فى البداية ثم بغير أجر بعد ذلك، وفتحت أبوابه للجميع. وأشهد أن كاتب هذه السطور قد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس بأقل من خمسين جنيهاً!

أما طارق شوقى فلقد باع كل شىء، وإذا كنتَ فى شك مما أقول فانظر للمدارس والجامعات الخاصة التى تزداد كالأميبا وتتضاعف رسومها يوماً بعد يوم.

والمؤسف مثلاً أن المؤسسات التعليمية فى القاهرة وعين شمس، وقد كانت فى أعلى عليين، هى مؤسسات الفقراء الذين لا يجدون مأكلاً أو ملبساً إلا ما يُقيم الأود ويستر الجسد.. وأين هذه المؤسسات من أخرى يركب الطالب فيها السيارات الفارهة ويلبس أزياء ما أنزل الله بها من سلطان.

نعم، لقد أصبح طه حسين غريباً، وأكاد أقول مدحوراً مذموماً، ففى إحدى محاضراتى بجامعة الأزهر وجدتُ بلاهة على وجوه طلبة قسم الإسلاميات الناطقة بالفرنسية عندما ذكرتُ اسم طه حسين، فحرّضنى ذلك على أن أسأل طلبة السنة النهائية عمن يعرف هذا الرجل، فجاءتنى الإجابة ولكن مفجعة وهى أنه «مؤلف فيلم دعاء الكروان»!

الكارثة أن عميد الأدب العربى لم يعد معروفاً فى بلده، وجاء وزير التربية والتعليم الحالى ليتنكّر لمجانيته التى كان يرى أنها ضرورية تطبيقاً لمبدأ الديمقراطية والمساواة ولمسايرة الديمقراطيات الحديثة التى أحسّت إحساساً قوياً بحق الفقراء فى التعلم.

د. نادية جمال الدين

د. نادية جمال الدين

لقد احتفت الدكتورة نادية جمال الدين بمجانية التعليم فى كتابها الذى يحمل هذا الاسم، فبعد أن شرحت شروط ومبادئ وأهداف ونتائج المجانية كما وردت بكلمات طه حسين نفسه على فكرة الزحام فى التعليم ختمت بقولها: «ندعو لإجراء أبحاث فردية أو جماعية أو هما معاً من أجل أن نناقش أمورنا على أسس موضوعية، وبناء على نتائج البحوث العلمية أدعو إلى ذلك والأمل يدفعنى لأن يكون التعليم كالماء والهواء والشمس»!ا

أما طارق شوقى فلقد ظل فى الوزارة لأكثر من عام وأتحدى أن يعرف أحد فى مصر إلى أين يتجه بنا!!

كل ما نعرفه أن فلسفة طه حسين فى المجانية قد أُجهز عليها وأن جيل طه حسين هو جيل مثالى وطموحاته قد انتهت، أما أبناء اليوم فمن يقدر منهم على شراء خدمة التعليم فليدفع ثمنها، ومن لا يقدر فإن أرض الله واسعة!

يبدو لى أن مؤلفة كتاب «طه حسين ومجانية التعليم» واهمة هى الأخرى، فهى لا تزال متمسكة بالرموز القديمة ومؤمنة بفلسفة هذا الجيل وتنعى على التعليم فى مصر تعدد أشكاله وألوانه ووجود مدارس باسم دول العالم، والنتيجة النهائية أننا نجد أنفسنا أمام كوكتيل من شباب نفترض فيهم أنهم ينتمون إلى مصر، لكن للإنصاف ولاؤهم يتجه نحو مدارسهم الأجنبية.

د. طارق شوقي

د. طارق شوقي

لقد أضاع طارق شوقى، سامحه الله، أجيال مصر المقبلة وقضى على طموحات أمة كانت خير أمة أُنزلت للناس، وبدأ الضياع بعروس المدائن «القدس»، وقبلها تمزقت أرجاء أمتنا العربية إرباً إرباً، والعالم من حولنا يسير بالتعليم نحو الرقىّ والرفعة، أما نحن فإلى أسفل سافلين.

طه حسين لم يكن فرداً تحدى المستحيلات وحقق لنفسه بالتعليم شأناً أى شأن، وإنما كان رمزاً لجيل أمثال عباس العقاد وأحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وتطول القائمة، لقد تنكّرنا لهؤلاء وغاب عن بالنا أن من ينسى آباءه وأجداده وأسلافه فلقد أصبح ريشة فى مهب الريح.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات