الكتابة تقول: لا

08:50 صباحًا الخميس 1 مارس 2018
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

DWAapXAXkAE5V2Eلا تستطيع أن تقرأ مقالات الدكتور زياد  آل الشيخ بمعزل عن شعره، مثلما لا يمكن أن تحاور نصوصه بعيدا عن مسيرته العلمية والإبداعية.

ربما هنا أعارض ما تحدث به مكسيم جوركي عن أديب روسي رائد، حين قال إن الطاهي ليس عليه أن يضع نفسه في الإناء ليصنع الحساء، وأن أطباقه ليس هي ذاته، بل هي محض صورة من صوره، لأنني في هذا الكتاب بين يدي وجدتُ زياد آل الشيخ؛ الواقع  بحضْرة الخيال، والشاعر بكَنَف السرد، والعلم يسبُر المجتمع، واليوميّ يسائل التاريخ.

د. زيادآل الشيخ

د. زيادآل الشيخ

الكتابة تقول: لا” هو أحدث إصدارات الشاعر السعودي،الذي صدرت له أربعة دواوين؛ هكذا أرسم وحدي (2004)، سنابل حبٍ (٢٠٠٧)، مدوَّنة لبيروت (٢٠٠٨)، مدونة ميدان التحرير وقصائد أخرى (٢٠١١)، وهو الحاصل على درجة الدكتوراة في هندسة البرمجيات، ويعمل  الآن باحثا في معهد بحوث الحاسب في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم و التقنية في الرياض.

في هذا الكتاب نحن أمام شاعر حررته الكلمة، فحلق خارج حدوده، ليعالج هموما أشمل، كمواطن عربي، لأنه يدرك ـ بوعي الباحث ومنطق العلم ـ أنها هموم مشتركة؛ أن تكون من قلب الجزيرة العربية، أو من جناحيها في الشرقين، لأن التاريخ وحركته تفيضان في مسارات تشبه الأواني المستطرقة، وما حدث في الربيع الشيطاني ليس ببعيد عن الأذهان.

آمن زياد آل الشيخ بأن الكتابة، كفعل حضاري، لم تأتِ لتؤدي دورَ صفحة الماء، فتنقل الصورة إلا قليلا، ولكنها تحضر كحصاةٍ تشاكس ذلك السطح المائي الهاديء، فتثير دوراتٍ حول سهمها النافذ، لتتسع، وتتسع معها الأسئلة، لهذا يتجه الشاعر في مقالاته ـ التي ضمها كتابه الأحدث ـ إلى زوايا أخرى من الصور المكرورة، بعيدا عن الإكليشيهات، إنه يقف على مسرح الكتابة، في مونولوج يحفر الأسئلة دمًا:

“كيف يقول الشهيد عند الوداع الأخير لوطنه الذي يحبه: شكرا؟

كان يبحث عن فيلسوف يشرِّح مفهوم (الحب) و(الوطن) و(الوداع الأخير) معاً، لعله يجد كلمات مناسبة ليسرَّ بها في نفسه أو يبوح بها لأقرب جريح قبل نطق الشهادة. هل الروح كافية؟ يقول، وهل هي سدرة منتهى العشاق؟

كيف يستدير اسم الشهيد حين يمر في الذاكرة: مثل قمر أو قصيدة؟

كان يتذكر زملاءه الذين استشهدوا ويعلق أسماءهم مرة على عينينة أبي ذؤيب الهذلي، ومرة يعلق أسماءهم على مراثي متمم بن نويرة، وكان بعضهم يشع في قلبه قمرا فيستدير وجهه ألقا قبل أن يجهش بالبكاء.

هل الحب وردة تفترُّ من القلب، أم سكين يولد في الخاصرة؟” (الكتابة تقول: لا، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2017، ص 32)

لم يعد بيت عربي يخلو من هذا السؤال، سواء ممن نزلوا إلى الميادين، أم شاهدوا الأحداث على الشاشات، إنه سؤال متجدد بتجدد ألم الذكرى، ووجع الفراق، وحزن الموت، وقسوة الحياة.

في قطعة سردية من أكثر مجموعة مقالات (الكتابة تقول : لا) سخرية وألما يوجز الكاتب المشهد والسنوات والأدوار:

“البيروقراطية تخنق العالم العربي بيديها. وعندما تفتَّح ورد الربيع العربي، اتخذت البيروقراطية ركناً قصياً من مقهى قريب من ميدان التحرير. وجلست واضعة قدماً على الأخرى، تشرب الكوكاكولا وتأكل الفشار المملح بالزبدة وهي تشاهد عجلة الثورة تدور. ستبقى البيروقراطية بلا عمل حقيقي بانتظار أن ينتهي الشباب من صيحاتهم. لكنها ستعود إلى العمل ريثما تنتهي الصحافة من قياس المسافة بين السياسة والإقتصاد، وحتى ينتهي أستاذ الاجتماع من تفكيك الثورة نظرياً في مقابلة صحفية قصيرة-اختاره الصحفي لأن في صوته أمل مبحوح أعجبه لسبب غير مهني؛ وريثما يبدأ الجيش في حك تاريخه المذهب بمخلب السبابة ليرى نور المستقبل الذي يجيء من بعيد. ستقوم فجرا كعادتها كل يوم، لتبحث عن نفسها في مرايا المدن العربية قبل الخروج، ثم تراجع سجل المواليد، فربما فاتها ولادة مؤسسة في منتصف الليل وهي مشغولة، تنقح معجمها في أصول الإدارة بقلم الرصاص وهي تنعس. تجلس البيروقراطية خلف مكتبها الكبير لتعد اللجان التي تتشكل من لاشيء لتحكم في اللاشيء تقريبا. وتربت على رؤوس البيروقراطيين الصغار كالسناجب وهي تطعمهم فستقا مقشرا، قبل أن تطلقهم إلى الحديقة الوطنية في يوم يفرق سحابه صحو مؤقت. البيروقراطية تربي شجيرات الفساد الصغيرة في أصص من الفخار، وتنشرها في زوايا المدينة، ثم توهم أنها نبتت هكذا، كعشب يطل على العابرين من شقوق الرصيف. وهي وإن كانت مدربة في الانضباط العسكري فإنها قادرة أيضا على التنكر والتمويه بين حشائش الماضي والتدفق من ثقوب أحلامنا إلى المستقبل. فتستطيع البيروقراطية أن تتنكر في زي علم الأحياء الدقيقة-إذا لزم الأمر-لتمر من نقطة تفتيش تحول بينها وبين مؤسسة حديثة تطل من شبابيك مبادئها ورود الحرية الفردية. وهي قادرة على إعادة هندسة الأنظمة، فكلما أرخى مفكر مِـرْود النظام بأنامله المجعدة بالطباشير، شدته البيروقراطية بمفك الخصوصية والمصلحة العامة (ص ص 27، 28).

هكذا سنلمح تلك السخرية المنسلة ـ مرة بعد أخرى ـ من جراب النقد، للشاعر المهذَّب والسكين المشذّبة، إنها تشرح بنصلها، بهدوء، المشهد المعتاد، برؤية شاملة لطائر يحلق فوق الميادين والأحداث.

لا ينسى، ولا يجب أن ننسى نحن، أن الشاعر لديه قضية موازية، هي قضيته مع الإبداع الشعري نفسه، لذلك سنراه يوزع آراءه في القصيدة والشعر، تحت أكثر من سماء للكتاب: شباك القصيدة (ص 57)، الثقل الجمالي للقصيدة (ص 73)، الشعر قبضة نثرية (95) منأجل حديقتنا الوطنية (ص 92) وعشر نصائح لكتابة الشعر (ص 59):

“أولا، ضع الكلمات مثل الورود على شرفة الذاكرة واجلس بانتظار غيمة سكوب كنخلة طويلة بين هلالين رمليين متقابلين. قد تعصف بك ريح شديدة فتميل معها، وقد يحط على أكتافك سرب من اليمام ولا يطير بك معه، وقد تمر بك غُييمات كقطيع من الماعز ولا تمطر شيئا، ولكنك تبقى طويلا تستهدي بك القوافل والرعاة في البادية.

ثانيا، سر كل يوم في معجم قديم وحدك، تطيل النظر في الكلمات حتى تعرف سلالتها، وتجلس تحت ظلال المعاني، لترى كيف يصيد الشعراء ظباء القوافي الشاردة في براري اللغة. ستعرف كيف تصنع من فحمة لؤلؤة سوداء، وكيف تفرق بعصا الإيقاع النحيلة بين الحصى والزبرجد.

ثالثا، مرن قلبك على الامساك بمبرد وجدك المتوقد لتنحت من اللغة ما يسيل من قبة خيالك الفلكية من صور ثلاثية الأبعاد. هكذا سيصبح صوتك صافيا كمرآة نبع تصقلها أنفاس الربى.

رابعا، اقطف من كل كتاب تقرؤه تفاحة واحدة على الأقل، لتقضمها فرس القريحة من راحة يدك المبسوطة وأنت مغمض العينين. لعل صهيلك يصبح أعلى في بهو قصيدتك الخضراء.

خامسا، دع نبض القصيدة يقودك في الطريق إلى ظلمة ما لا تعرف، فالقصيدة تنقش دربك بالقناديل الصغيرة. ومثل كل مرة، ستجلس في نهاية القصيدة مع نفسك كأنك تلتقيها أول مرة.

سادسا، فتش عن الشعر في الشعراء القدامى، ولا تفتش عن الشعراء القدامى في الشعر. ستسمع كلاما كثيرا عن الشعر والشعراء، كيف يعلقون القوافي على أكتافهم كالجدائل، وكيف يصنعون من المعاني سيوفا مرصعة بالجواهر، لكن ابحث فيهم عن نفسك حيث تكون، ففيك غمد المعنى.

سابعا، سر وحدك لكن اخطُ بقدميك خطوات من سبقوك. فقد تكون أنت نسيجا وحدك، لكنَّ مغزل شعرك مشترك.

ثامنا، لا تفتش عن سر العاطفة، ودع غموضها يبني أشجاره رويدا رويدا في حائط قلبك حتى تذلل فيك عناقيدها الدانية. عندها ستشع العاطفة منك في ظلام حزنك كنجمة ساطعة.

تاسعا، تترك الوزن يرسم حدوده على خرائط الكلام، ولا تقف عند النزاع الحدودي بين الشعر والنثر، وكن سائحا يصافح الجميع ويمر بسلام.

عاشرا، انصت جيدا لنداء الموهبة.” (ص ص 59، 60)

وقد كان زياد آل الشيخ وفيا لنصائحه، ولم يكن ذلك بينا في شعره وحده، بل وفي نثره أيضا، فقد اختلط الشعر بالمقال، حتى عبر أجناس الكتابة إلى جنس كتابي جديد، يعيد الاعتبار لفن المقال، ولا يمنع ذلك من تضمين القصائد، فالشعر مُبلِغٌ وبليغ، كما في آخر نصين بالكتاب وقد أهداهما إلى طارق أبو عبيد ومحمود درويش، على التوالي:

” أين أينك الآن؟

إلى محمود درويش

أ

امرؤ قيسنا الجديد،

هكذا كنا نراه دائماً، خصما شعرياً،

الضاغط الجمالي على المعنى وهو يتفتح على راحة كفك وردةً، تجعلها في جيبك خشية أن يراها أحد فيقلد تدلي تويجها وحمرة خدها، وتخشى أن تسقط من جيبك وتدوس عليها دون أن تنتبه من فرط الزحام في الكافيتريا، يحدث كل ذلك حتى تمر وأنت منشغل بالساعة تقيس نبض الوقت، لترى الوردة معروضة في محل درويش للزهور.

ب

كيف لي أن انتصف لنفسي من شعره المبرّح، وكيف لي أن اتكئ على عصا قافيتي دون أن أشير إليه حين يسألني عابر: من أين لك هذه؟

ج

كنا نقول:
له الأرض ونحن لنا اللاشيء، يكتب عن الزيتون فنكتب نحن عن اللازيتون، يكتب عن شجر الزنزلخت، فنكتب عن شيء أسهل نطقاً، يكتب عن العناب فنترك الحشف البالي.
لكننا رغم كل ذلك نعد قافيته متكأً ونجلس نقشر فاكهة المعنى كالبرتقال، ونختلف معه على الزبد وقد قطّعنا أصابعنا، لنخرج إلى قصائدنا سالمين.

د

المارون بين الكلمات نائمون، فمن سيوقظ النائمين بين الكلمات العابرة؟ من سيوقظهم ليكملوا مرورهم ويخرجوا من ملحنا ومن بحرنا، ومن جغرافيتنا الناقصة. ومن سيدق بالهاون بنّ الكلمات كل صباح حتى يوقظهم، ويسقيهم من ريحنا المرة حتى الثمالة؟

هـ

إذاً، نحن من نحن في الميسسيبي يا أبا سليم،
أخ يقتل أخاه، وسكين يجرح نفسه، وحرف يخون الوزن والقافية.

و

أين أينك الآن؟
فأنت منذ الآن غيرك!
أنت في رجل زرع سروة لأنه أحس بأن السماء ناقصة بعد أن جلس في حديقته الخلفية وقرأ : السروة انكسرت. لابد أن عدوك ذا الحاجبين الكثيفين يمسك الغليون الآن في يد وكتابك في يد ويقول لزوجته وهو يضحك: هذا الشقي يقصدني. وعدو آخر يهرول على رصيف في نيويورك إلى مطعم إيطالي مجاور، يتذكر: اخرجوا من أرضنا من برنا من بحرنا.. إلخٍ إلخٍ، ومن فرط انشغاله بالكلمات سقط في بالوعة. أنت في طفل يركض حول البئر وينظر في مائه ويقول: أين قمري الثاني؟ كلماتك التي تعصر القلب ليمونةً، في فتاة في انتظار عبّارة تقشر برتقالة بسكين سويسرية وتبكي: لا شيء لا شيء أكثر من نحلة عبرت في دمي. أنت في مذيعة تخون كلماتك الداكنات بخدشٍ طفيفٍ على خد اللغة العربية. أنت في مكتبة أنيقة وسط المدينة، يقف عندها باص مدرسة وينزل منه أقمار صغار منضودين لؤلؤةً لؤلؤةً في طابور طويل يدخلون كالعسكر باسمين.

أنت منذ الآن حرُّ..
وحرُّ وحرُّ” (ص ـ ص 100 – 102)

أعمال الشاعر

أعمال الشاعر

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات