منار حسن فتح الباب: تموت الأجنة في رحم السحابة

06:14 صباحًا الإثنين 11 يونيو 2018
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أعرف إبداع منار حسن فتح الباب ربما قبل أن تكتبه، فقد بدأتْه بأبجدية اللون، وهي ترسم، واحتفى بهذه الريشة المبكرة أبوها الصديق الكبير والشاعر الراحل د. حسن فتح الباب، حتى إذا سبحت الابنة في فلكه، وحلقت في مدار كوكبه وسكنت مكتبته، نما جناحا الكتابة لديها، وهي المهمومة بقضايا إنسانية ووطنية كثيرة، وهي كذلك المقيمة والمسافرة بين وطنها مصر وأوطانها الثانية في الشمال العربي الإفريقي.

منار حسن فتح الباب

منار حسن فتح الباب

كانت بنوّتها للشاعر الراحل البذرة التي غرست في أرض خصبة،وأثمرت كثيرا، ولكن إذا كان الأب قد أخلص للشعر والنقد وحسب، فقد أججت جذوة الإبداع لدى منار الكتابة بأبوابها؛ بين الشعر والقصة القصيرة والرواية، والنقد، وأدب الطفل، كما أنها أصبحت اليوم  رئيسا للتحرير بقناة النيل الثقافية، حيث تعد بإخلاص وعمق حلقات عدة برامج تسجيلية وحية.

ولعل بداية ما قرأت لمنار رسالتها للماجستير، التي تناولت فيها عبر دراسة أسلوبية، الخطاب الروائي عند غسان كنفاني، وهي دراسة نادرة وضخمة تجمع بين النقد الأدبي والأنثروبولوجيا، تحلل فيها الخطاب الروائي عند المبدع الشهيد الفلسطيني الكبير.

وكنتُ كلما بادرت بالكتابة عن أحد أعمال منار حسن فتح الباب استوقفتني، أو أقول أوقفتني، تلك الصداقة العريقة معها ووالدها،في زمن غلبت على الساحة تلك المقالات المدبجة بين الأصدقاء، حتى كادت تفسدها، إلا أنني أرى واجبا ألا نلقي النظر إلى هذا الجانب، بل وأدعو الأصدقاء ألا يتقاعسوا عن نقد أعمال المبدعين من جيلهم، ومن صحبهم.

ففي الوقت الذي غاب فيه النقاد (الكبار) عن أداء دورهم في الكشف والاكتشاف، علينا أن نبادر لنسد تلك الفجوة في المسار النقدي، الذي أصبح ينتظر فوز كاتب بجائزة، أو تكليف مؤسسة صحفية حتى يبادر أحدهم بالكتابة، وكأن الإبداع الذي كان ـ وسيظل ـ مبادرة من الكاتب والشاعر والروائي، لا يستحق مبادرة نقدية مماثلة.

ثلاثة عشر مؤلفا تخط مسيرة منار الأدبية؛ بدأتها بالمجموعة القصصية (لعبة التشابه)، 1993، ومجموعتها القصصية الثانية (القطار لا يصل إلى البحر)، 2000، ودراستها عن كنفاني، في 400 صفحة، 2003، وقصص الأطفال (أحلام صغيرة)، 2005، وروايتها القصيرة (ظلال وحيدة، 2013،   وروايتها للناشئة (مملكة الفراشات)، 2014، فضلا عن عدد من الإصدارات المشتركة، وأخيرا الديوان الذي حفزني لكتابة هذه القراءة (رجل وامرأة)، وهو مجموعة نصوص نثرية صدرت العام الماضي.

رجل وامرأة

رجل وامرأة

أول ما يأخذك إلى هذه النصوص تلك الصور المتقابلة، كوردة وظلها، أو كصدر بيت شعري وعجُزه، وربما مثل صوت وصداه، وهي الثنائية التي أخذت الكثير من تأمل الشاعرة وانتباهها، لتقدم لنا رؤيتها للحياة؛ رؤية تحمل دائمًا الأمر ونقيضه؛ كأنفاس مترددة بين شهيق وزفير، حتى تسكن الحياة برمتها:

“الشارعُ الكبير

يلتهم الشارع الصغير

فتهتز فروع الأشجار

وتهرب العصافير

وتفزع القطط

ثم يسود الصمت المريب” (ص 54)

في هذه القصيدة وسواها من النصوص المتناثرة على صفحات الديوان المائة، تستعير دائما منار أمرين وتستعين بهما؛ الحس المسرحي، وكأنها توزع الأصوات والأدوار على خشبة مسرح القصيدة، وكذلك الحس التشكيلي، مثل مايسترو ما يضرب بفرشاتها في زوايا اللوحة العرية حتى تكتمل القصيدة، المشحونة بالأمرين على قِصَر السطور:

“صبّارتان مائلتان

على قضبان القطار

إحداهما تبكي

مودِّعة القطار

يتحول ماؤها إلى أشواك

والأخرى تربّت على كتفها

دون جدوى” (ص 86)

ها هو المسرح الذي توزعت في فضائه أدوار الكائنات التي أَنْسَنَتْها منار، قطار مضى، صبارة تميل وتبكي، ماء يتحول إلى الشوك، نبتة تحنو على أخرى تواسيها، وكأننا أمام مسرحية إغريقية فيها من الألم والأسطورة ما يكفي لبعث الحياة في فصلها القصير.

دائما هناك أنسنة للجمادات، ودائما هناك صوت لكل ما نظنه صامتا أخرس، ودائما هناك حركة مسرحية وإيقاع تشكيلي:

“تراقب السحابة الوحيدة

الحبلى بمياه المطر

حركة الشلالات

كي تدمج مواليدها من القطرات معها

لكن الشلالات تبتعد عنها

وتموت الأجنة في رحم السحابة

يسودّ لونها

تتجمد في مكانها” (ص 86)

 

وعلى عكس ما يبدو من حيادية النصوص، لا تقف الشاعرة مجردة من مشاعرها تجاه كائناتها التي بعثتها من صمتها، فهي دائما منحازة إلى مشاعر الأمومة، وهي دوما راعية لقلب الحياة، كما أنها مخلصة لعناصر الطبيعة، ولذلك تواكب الأنسنة هدفها بتحويل كل ما هو صامت إلى كيان له صوته الخاص والخالص. إنها “المرأة التي تم العثور عليها نصف جثة ملقاة على جانب الطريق نئمة تقرباييل منها خيط دماء رفيع طعنها عاشقها حين حملت. أكتب مذكراتي بخطليس خطي في دفتر يعوي فراؤه الأحمر ولكي أصحو أمنح الأوراق أمرا أنتفق لكنها تتفتت وأنظر في المرآة لأجد جسدي مشنوقا” (87)

لقد كتبتُ هذا النص بدون علامات ترقيم، كما هو في الأصل، وكأن سطوره تلهث، وجعلته مثل فقرة من مشهد روائي، لأنني أجزم أن هذه النصوص القصائد محض مشاهد مستلة من روايات خافية، وأنها مثل قطعة موزاييك تضيء بتركيبتها معا.

روح التشاؤم تنعق مثل طائر أسود ضرير حين  يتعلق الأمر بغياب كل ما هو إنساني، فقصيدتها (يحدث في مصر) تقول فيها:

“(1)

عبرت القطة العطشى الطريق

تبحث عن قطرة ماء

دهستها سيارة مسرعة صاحبها لا يجيد القيادة

لم ينقل أحد جثتها

وظلت السيارات المسرعة تدهسها

حتى سويت جثتها مع الأسفلت

ولم تزل قطرات الدماء تروي الطريق

….

(2)

قرأنا الخبر التالي في الجريدة:

تقتل طفلتها من أجل الزواج من عشيقها

في المساء

استمعنا إلى مواء قطة

تقف عند سلم المنزل

تخشى على رضيعتها

وهي تتمسح بها

وتهم بالانقضاض

على أي عابر يفكر في الاقتراب” (ص 26)

لنتذكر معا، المشهد المسرحي، مفردات التشكيل، الأشخاص الذين تحولوا إلى سيارات قاتلة، والقطة التي استعارت مشاعر الأم من الإنسان وتستعد للدفاع عنها. إنها ليست قسوة النص أو المشهد، وإنما هي قسوة الحياة في جغرافيا أصبحت تمثل نقيض الأشياء، بسبب قسوتها المفرطة.

إن ما ضاع منا كثير، ضاعت الإنسانية وضاع الحلم، إنها كالضفائر المرحة التي اختفت ذات يوم، وكأننا فقدنا تاج الجمال والبراءة، وفقدنا عمرا بأكمله:

“جلستُ أضفّر شعر ابنتي الناعم

هربت مني الضفائر

وجريت نحو الشرفة

جريت خلفها

لكنها كانت تدلت من الشرفة

نحو الأرض البعيدة

ولم أستطع أن أعيدها” (ص 27)

 

 

 

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات