حلق الوادي في عيد

الصور للفنانة الكبيرة دليلة يعقوبي

خلف منحوتة الحوت تبدو خرجة المادونا إيذانا بإنتهاء الصيف.. و يأتيها المؤمنون حفاة من تونس ويسيرون هكذا في الموكب

تحملك إليها أجنحة النوارس البيضاء المحلقة في سمائها .. أو قصيدة حركت مهجة محمود بيرم التونسي فأصبحت لحنا وأغنية يصدح بها فريد الأطرش ، أو تشق إليها البحيرة و البحر وكأنك تحمل عصا موسى حسب تعبير الأديب المصري الكبير أشرف أبو اليزيد في إحدى تجلياته ، فتونس الخضراء التي تحرق الأكباد شوقا و شغفا بربوعها لديها نبالها التي لا تخطئ القلوب فترديك صريع العشق و في مقدمتها ضاحية حلق الوادي لتؤكد صدق فريد الأطرش و هو يتدله قائلا في عشق تونس مغنيا ” غزلان في المرسى ولا في حلق الواد ” ..
أنها ” حلق الوادي ” بوابة ضاحية تونس الشمالية التي تبدأ من هناك لتمر بعد ذلك إلى الكرم و خير الدين و صلامبو و قرطاج مرورا بسيدي بوسعيد الساحرة وصولا إلى المرسى الفاتنة و قمرت طاغية الحسن ..
وليس غريبا أن تختار إليسار ديدون إبنة صور هذه البقعة لتؤسس ملكها الواسع التليد الذي عرف أفذاذا مثل حنبعل و صدر بعل ..

داخل الكاتدرائية

حلق الوادي مدينة تختزل تونس الجميلة الساحرة التعددية المتسامحة التي تحتضن كافة البشر دون تمييز بينهم في الدين أو اللون أو الجنس ، تلك المدينة التونسية بنكهة إيطالية إحتوت الأعراق من سكان أصليين و وافدين أهمهم الإيطاليون الذين طغت نكهة عاداتهم و تقاليدهم و مأكولاتهم على جزء هام من الضاحيه الجميلة التي عرفت أيضا معنى الأثنية النبيل حيث تجاور أبناء الوطن الواحد من أبناء الديانات اليهودية و الإسلامية مع من توطنوا من المسيحيين الكاثوليك ، حيث تألفت العادات و التقاليد و الطقوس الخاصة بتلك الديانات الإبراهيمية مع بعضها البعض .. و من خرجة ” سيدي الشريف ” الصوفية الأسلامية .. إلى خرجة ” المادونا .. السيدة العذراء ” من الكاتدرائية الكاثوليكية يوم 15 أوت “أغسطس” مؤذنة بإنتهاء موسم الصيف عند شاطئ البحر حيث تحمل منحوتتها الشهيرة إلى هناك .. و بين هذه الخرجة و نظيرتها الإحتفالات اليهودية ..حيث يتشارك أبناء الوطن الواحد في الفرحة و يتقاسمون خبز المحبة و العشرة الطيبة التي تجمعهم منذ زمن طويل مجسدة مثالا يحتذى لتونس الطيبة المتسامحة..

حلق الوادي ..سكان من كل لون و ملة و جنس متجاورين

الإيمان و الإنسانية .. لا تفرق بين أبيض و أسود

حلق الوادي .. ربما الإسم يعكس سمات المنطقة إذ يتدفق ماء المتوسط عبر القناة ” القنال ” الوادعة ليغمر بحيرة تونس الجميلة ، و كما عرفت حلق الوادي التنوع في في كل مفرداتها الحضارية .. عرفت أيضا التنوع في أنواع أسماكها نظرا للتفاوت بين طبيعة البحر و البحيرة ، و شواطئ حلق الوادي الرملية و نظيرتها الصخرية ، و لا يقل ميناء الصيد في حلق الوادي شهرة عن ميناء الركاب و البضائع هناك

إستعدادات المطاعم و سوق الحوت

و ربما كانت أسماك حلق الوادي المشهورة بجودتها و الموقع الفريد لتلك الضاحية هو الذي دفع الكثيرين من أبناء الجاليات الأجنبية خاصة الإيطالية لإفتتاح مطاعم مختصة في الأسماك و المأكولات البحرية منذ فترة ما قبل الإستقلال ، و يمكنك ملاحظة الطابع المتوسطي الفريد لتلك المطاعم خاصة التي تقع في شارعي روزفلت و كورنيش حلق الوادي ، و في تلك المطاعم لا يمكن أن تخلو طاولة من تفاصيل تميز المدن المتوسطية بصفة عامة أهمها الزيتون بأنواعه و زيته المبارك الذي تشتهر تونس بأجود أنواعه .. فماذا و أنت في ضاحية تونسية يقطنها إلى جانب التونسيين جاليات إيطالية و إسبانية و مالطية زيت الزيتون جزء لا يتجزء من ثقافة الطعام لديهم ..

إحتفالات حلق الوادي

حلق الوادي أيضا إحدى أهم و أقدم مناطق الترفيه و الإصطياف في تونس العاصمة ، و حتى في الشتاء لا تخلو من هذا الطابع الترفيهي خاصة في العطلات و من ثم أصبح سكان المنطقة دائما ما يميلون لترويج المنطقة بالمهرجانات و الإحتفالات المستمرة فإلى جانب الإحتفالات ذات الطابع الديني مثل خرجة سيدي الشريف ، و خرجة المادونا و الإحتفالات اليهودية .. كان تفكير سكان الضاحية دائم التجديد و الإبتكار من أجل إزدهار المنطقة ، و بالفعل أضيفت لتلك الإحتفالات مهرجانات فنية و مسرحية بما فيها مسوح الطفل أيضا في ” حصن الكراكة ” أحد أهم معالم حلق الوادي ..، و لايفوتنا الإشارة للدور الهام الذي لعبه الصديق الطيب المرحوم ” أحمد عامر ” الصحفي و المؤلف المسرحي في تأسيس تلك المهرجانات البهيجة ، ” أحمد عامر ” أبن الجريد و تحديدا مدينة ” نفطة ” الفريدة بالجنوب التونسي مثلما كان وفيا لمسقط رأسه في واحات تونس الجميلة .. كان مخلصا أيضا لمسكنه و مسقط رأس أولاده في الضاحية البحرية الفريدة حلق الوادي ، و مثلما وقف ضمن من تصدوا لتأسيس المهرجانات الفنية و الثقافية .. كان ممن فكروا في تأسيس مهرجان للسمك ” الحوت ” و هو أبن الواحات الذي تجاوز خياله الإبداعي بيئته الأصلية و كذا يفعل المبدعون في كافة المجالات..

شواء الحوت على الفحم في حلق الوادي

كان التفكير في مهرجان السمك أو بالأحرى ” عيد الحوت ” الذي يمكن تلخيصه في كونه أياما إحتفالية في ضاحية حلق الوادي تقدم خلالها المطاعم وجبات السمك ” الحوت” متكاملة بسعر موحد تبلغ قيمته ربع أو ثلث السعر في سائر أوقات العام ليكون تتويجا لإنتهاء موسم الصيف الحافل و موافقا لإحتفال ” خرجة المادونا” تقريبا..
وفي دورة 2018 من مهرجان عيد الحوت و الذي تشكلت من أجله ” جمعية عيد الحوت ” .. يبدأ المهرجان ب ” خرجة مادونا ” يوم 15 أوت ” أغسطس” ، ثم يوم الخميس 16 أوت ” أغسطس ” كرنفال للدمى العملاقة إنطلاقا من منطقة ” العوينة” و البحيرة 2 التابعتين لبلدية حلق الوادي ، يليها إستقبال الضيوف في ساحة النصر بحلق الوادي و إنطلاق فعاليات و نشاطات من المهرجان تحت إشراف معالي د/ محمد زين العابدين .. وزير الشئون الثقافية ، السيد/ الشاذلي بوعلاق .. والي تونس ، السيد/ فتحي الحكيمي .. معتمد حلق الوادي ، السيدة / آمال الإمام .. رئيسة بلدية حلق الوادي ..
و يتضمن برنامج المهرحان .. ورشات عمل ، و زيارة نقطة بيع الأسماك ، زيارة المطاعم المشاركة في المهرجان بنهج روزفلت ، و عروض تنشيطية بالمطاعم ، معرضا للصور و الرسوم و اللوحات الزيتية تحت عنوان ” ذاكرة حلق الوادي ” ، و في المساء عرضا فنيا و موسيقيا بساحة النصر لضيف شرف المهرجان الفنان ” سفيان صفطة ” .. ، و منوعة ركحية لأولاد حلق الوادي ..

مدينة حلق الوادي ليلا

فسقية الميدان الرئيس بحلق الوادي

و في السهرة عرض الموسيقى و الإنشاد الصوفي لحضرة رجال تونس بقيادة الشيخ ” توفيق دغمان ” بحصن الكراكة .. ، يليها تكريم السيد / محمد علي الصفاقسي .. و تكريم و تقديم أعضاء المجلس البلدي الجديد بحلق الوادي..
يوم الجمعة 17 أوت ” أغسطس ” .. تتواصل ورشات العمل و الإحتفالات و تنشيط المنطقة بالتعاون مع أصحاب المطاعم بنهج روزفلت ، مسابقة أبرز و أقدم اللوحات و الرسوم لمدينة حلق الوادي من خلال صفحة مهرجان عيد الحوت على موقع التواصل الإجتماعي Facebook ، ثم مسابقة أحسن تقرير صحفي ، يليها إنطلاق المقهى الثقافي بحصن الكراكة ، و في المساء عرض لموسيقى الراب بساحة النصر .. للرابور/ عبد الرحمن قارورة ، و في السهرة الختامية للمهرجان عرض مدعوم من وزارة الشئون الثقافية للفنانين .. عبد الوهاب الحناشي و شكري عمر الحناشي ..

مسجد سيدي الشريف

– و لعل أبناء حلق الوادي يفكرون في مهرجان أو تظاهرة في المقهى الثقافي بالكراكة ذلك الحصن و السجن الذي كان قديما فبدله خيال الراحل طيب الذكر / أحمد عامر .. إلى مركز إشعاع ثقافي يحتفي فيه بأسمه و أسم مثقفين كبار عاشوا في تلك الضاحية الجميلة من أبرزهم الرحالة و الأديب و الكاتب و الصحفي و المترجم و اللغوي الكبير ” أحمد فارس الشدياق .. أحد رواد النهضة العربية الذي عمل مع ” محمد علي باشا ” و ” رفاعة الطهطاوي ” في مصر ، الذي سكن حلق الوادي ثلاث مرات إذ زار تونس خلال النصف الأول و الثاني من القرن 19 بين 1841 : 1859 .. قبل أن يرحل إلي الأسيتانة ، و كان قد إستدعاه في إحدى زياراته لتونس و أظنها زيارته الثانية ” خير الدين باشا التونسي ” أحد رواد النهضة في تونس للإستعانة به في تأسيس ” الرائد التونسي ” ، و قد عمل إبنه ” سليم ” في الخارجية التونسية قبل أن يرحل ليلحق بوالده في الأسيتانة .. تلك أيضا صفحة هامة من تاريخ حلق الوادي الحافل و المشرف الذي يجب أن يعاد إكتشافه و يعتنى به .. و هذا لا يمنع من الإحتفال أيضا بحوت حلق الوادي اللذيذ و عيده في مهرجان يتجدد كل عام لزوار الضاحية الشمالية أما عشاقها فيترددون إليها بالروح و القلب و الجسد في سائر العام ..

—