لا شَفاعةَ في العِشق

05:02 صباحًا السبت 15 سبتمبر 2018
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

إذا أردت أن يدوم عشقك ، فلا تستلب حرية من تحب ، وتعتبرها ملكًا شخصيًّا لك ، تركه لك أبوك ضمن الإرث الذي استحققته ، ولا تجعلها دولةً أنت طاغيتها المستبد ، أو عبدة تحت إمرتك ، ولا تقرِّر عليها الكتاب الصيني الشهير ” محظورات النساء ” ، ولا تسرق نجاحها ، ولا تكُن حائطًا يسد شمسها وهي تشرق ، لأنك إن فعلت ذلك ستأفل ، وتغرب شمسها ، ولن تسطع ثانيةً إلا مع أحد غيرك .

3D62ABE9-E5EC-4EE5-8E66-07BABB72DA6E

لا تنظر إليها على أنها وِعاء إنجابٍ ، تستعمله وقت ما تشاء ، أو مكان تفرغ فيه رغبتك الجنسية .
فالمرأة التي تعشق هي لك المُتَّجَه ، والمقصد ، هي للعاشق كَعْبَة القاصد ، بعد معرفةٍ وإدراكٍ ، واعلم أن الهوى ليس هوانًا ، وقديمًا قال أبو الطيب المتنبي (303 – 354هـجرية / 915 – 965ميلادية ):
( أَنا كَعْبَةٌ … الَّتِي خُلِقتْ لَهُ
فَتَلَقَّ مِنَّي حَيْثُ شِئْتَ وَكبِّرِ ) .

والعشق – الذي هو اصطفاءٌ إلهيٌّ مقدَّس ، يتسم بالديمُومة – لا يعرف التوقف أو الراحة أو البطالة أو العطالة ، إنما هو دائمًا سيرٌ وسعيٌ نحو الكمال والتمام ، لأنه اتصال إنساني بالأساس ، ولا حُجة لصمته أو سكوته ، لأن السُّكوت سكونٌ ، والسكون ركُودٌ ورقُودٌ ، والرقود موتٌ مؤجَّلٌ أو مُحتملٌ ، ووردة العشق أبدية لا موسم لها للتفتُّح والإشراق ، ولذا هي لا تذبل أبدًا .

لذا على من يثمل عشقًا ، ويصير مخمورًا من فرط اللذة ألا يكسر الكأس التي اعتاد الشُّرب منها ؛ لأن من يحطمن الكأس ، هو – بالفعل – يغلق بابًا لن يُفتَح له ثانيةً – وإن فُتح مع آخر – فهو بابٌ وهميٌّ ، تراه مفتوحًا ، لكنه في الحقيقة محض حائطٍ صلدٍ منحوتا في جدار أو مرسومًا ، يخايل العينين ويوهمها ، ولنا في إرث أبواب المصريين القدماء عظةٌ وعبرةٌ ، ومثالا نادرًا في تاريخ الإنسانية ، وإن كان المصري القديم قد أوجد الباب الوهمي لتعرُجَ الرُّوح عبرَهُ إلى العالم الآخر ، فإن العاشق في زماننا ليس أمامه بابٌ ولا عالم آخر يمكن للروح أن تطير إليه أو تقر .

فمن يغلق باب عشقٍ كان له ممرًّا وعتبة إلى رُوح من يعشق ، فلا أمل أمامه لأن يدخل ويخرج من الباب الوهمي الذي ارتآه في تصوره الخاطئ ، ولن يفلح في تقديم قرابين للعودة ثانيةً ، وحتى حين يذهب إلى العالم الآخر ، فلن يحُوز جائزة الدفن في قبرٍ واحدٍ ( بيت الأبدية ) مع من أغلق بابه قبلا ، ولن يستطيع الوصول إلى البئر المخفية عندما يُبْعث ، وسيعيش في عالمه الآخر عطشانَ لا يرتوي أبدا .

إن نور العشق فى سفرٍ دائمٍ إلى كل الاتجاهات , و لكن سفره يتوقف بتوقف إغلاق باب العشق ، وينكسر النور ، ولا يعود قادرًا على العودة من جديد ، في محاولته لإدراك مرآة الكون .

فالرُّوح التي لم تتهيَّأ لاستقبال العشق ، لا تعرف للسموات بابًا ، ولا إلى الإله طريقًا ، والنفوس الحاملة للعشق ليست خاملةً ، وذكرها دائمًا ساطعٌ ، واسمها أبدًا ذائعٌ ، ومعرُوفها في الزمان شائعٌ ؛ فإن لم يكُن للعاشق ذِكْرٌ أو سجل ؛ فالعشق يذكُره ، ويكتبه في دفتره الخالد .

إذْ العشق مُعجِزٌ ؛ لأن ما تراه غامضًا ومُلغزًا ومُستعصيًا ومستحيلا على الشرح ، ومسجُونًا في إطاره ، يجلِّيه العشق ويفسِّره ؛ لأن الله خلق عباده ، وجعلهم في توقٍ غريزي دائمٍ إلى العشق – الذي هو ” ميلُ الطبع إلى الشئ المُلِذ ” ، وتعلقٌ وإسرافٌ في الحب وشغفٌ – وحبب إليهم الغزل والنساء ، ولن أجد أبرز من النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثالا أو أنموذجًا في محبَّة النساء : ( حبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرّة عيني في الصلاة ) ، ولقد أتى حُب النساء في المرتبة الأولى قبل الطِيب والصلاة ، والإنسان بطبعه وفطرته لا يصير عن النساء ، ” إذا نظر إلى النساء لم يصبر” ، لكن في زماننا نرى كثرةً من الناس تنكر ما ليس بمُنكَر ، وتعتبر العشق تهتُّكًا ومرضًا ، وسوء أدبٍ ، ومن ثم ينبغي تجنُّبه أو الوقاية منه ، كأنهم لا يدركون أن العشق سلوكٌ إنسانيٌّ كونيٌّ عرفته الأمم جميعًا منذ اجتماع آدم بحوائه ، ولا شئ على هذه الأرض أو في السَّماء أو في البحار والمحيطات والأنهار يسعى ويتكوَّن ويتشكَّل إلا بماء العشق ووقوده ؛ فالعشق رسالة يحملها الإنسان أينما وجد ، ومهما تكن ديانته أو لغته أو ثقافته أو سلوكه ؛ لأن النفس الشفيفة النقية خلقت بفطرتها مهيأة للعشق .

وقديمًا قال محمد بن سيرين ” 653 – 729 ميلادية ” ، : ( كانوا يعشقون من غير ريبةٍ ) ، و حكى الحافظ مُغُلْطاي الحنفي (689 – 762 هـجرية ) في كتابه ” الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين ” عن الإجماع على جواز العشق ، حيث قال : ( وقد أجمع العلماء: أن الحب ليس بمستنكرٍ في التنزيل ، ولا بمحظورٍ في الشرع ) ، والحُب الذي أعني هنا وفي كل ما أكتب وسأكتب يتسم بالواحدية وعدم الإشراك ، أي لا يتوجَّه العاشق سوى لامرأةٍ واحدةٍ ، وتلك سمة من سمات العذريين في الثقافة العربية ، وتحديدًا في تراث الشعر العربي .

ولستُ أبالغ إذا قلتُ إن ” المحبُوب مسبُوب ” في تقاليدنا وأعرافنا الثقافية والاجتماعية ، لكن في المقابل سنرى شهداء وشهيدات في العشق ، وهم كرام أهل الهوى الذي هو داء قلوبهم حين يموتون :
” أَنَا إِنْ مُتُّ فَالْهَوَى داءُ قلبي
فَبِدَاءِ الْهَوَى يَمُوتُ الْكِرَامُ ” . وهذا البيت الشعري كانت قد نقشته صاحبته فوق خاتمها في زمنٍ قديمٍ مضى .
والتشبيب بالنساء – كما يرى ابن قتيبة الدينوري (213 – 276 هـجرية /828 – 889 ميلادية ) في كتابه العُمدة ” الشِّعر والشعراء – ” قريبٌ من النفوس، لائطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل ، وإلف النساء ، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسببٍ، وضاربًا فيه بسهمٍ، حلالٍ أو حرامٍ “.
لا أمرَ في العشق ، ولا قرارَ ، ولا التماسَ ، ولا توسُّلَ ، ولا وساطةَ ، ولا حتى هناك شفاعة تنفع ، حتى ولو كان الشفيع محمد بن عبد الله ، ولعل قصة بريرة – التي بلغ قلبها حنجرتها – مع زوجها مغيث خير مثالٍ للتدليل على أن الآمر هو القلب ، وليس سواه ، حتى ولو كان نبيًّا مُرسلا من عند الله ، ففي صحيح البخاري: من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ، قال: ‏إنَّ زَوْجَ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏ ‏كَانَ عَبْدًا ، يُقَالُ لَهُ ‏ ‏مُغِيثٌ ‏ . ‏كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏لِعبَّاسٍ:‏ ‏يَا ‏‏عَبَّاسُ ‏، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ ‏ ‏مُغِيثٍ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏، ‏وَمِنْ بُغْضِ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏ ‏مُغِيثًا ‏. ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏لبريرة:( ‏لَوْ رَاجَعْتِهِ ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ ، قَالَتْ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ ‏) ، بمعنى أن الشفيع وحده هو الحب ، وليس سواه من شفيع ” صَيَّرتُ حُبَّكَ شافِعي
وَمِنَ الشَفيعِ تُرى أُتيتُ ” كما يقول القاضي الفاضل (526- 596هـجرية ) ، كأنها تستذكر قول الشَّاعر : ( فلا خيرَ في وُدٍّ يكونُ بشافعِ ) .

المقال الأسبوعي المنشور يومالجمعة في جريدة المصري اليوم

أحـمـد الـشـَّهـاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات