إذا أردت أن يدوم عشقك ، فلا تستلب حرية من تحب ، وتعتبرها ملكًا شخصيًّا لك ، تركه لك أبوك ضمن الإرث الذي استحققته ، ولا تجعلها دولةً أنت طاغيتها المستبد ، أو عبدة تحت إمرتك ، ولا تقرِّر عليها الكتاب الصيني الشهير ” محظورات النساء ” ، ولا تسرق نجاحها ، ولا تكُن حائطًا يسد شمسها وهي تشرق ، لأنك إن فعلت ذلك ستأفل ، وتغرب شمسها ، ولن تسطع ثانيةً إلا مع أحد غيرك .
لا تنظر إليها على أنها وِعاء إنجابٍ ، تستعمله وقت ما تشاء ، أو مكان تفرغ فيه رغبتك الجنسية .
فالمرأة التي تعشق هي لك المُتَّجَه ، والمقصد ، هي للعاشق كَعْبَة القاصد ، بعد معرفةٍ وإدراكٍ ، واعلم أن الهوى ليس هوانًا ، وقديمًا قال أبو الطيب المتنبي (303 – 354هـجرية / 915 – 965ميلادية ):
( أَنا كَعْبَةٌ … الَّتِي خُلِقتْ لَهُ
فَتَلَقَّ مِنَّي حَيْثُ شِئْتَ وَكبِّرِ ) .
والعشق – الذي هو اصطفاءٌ إلهيٌّ مقدَّس ، يتسم بالديمُومة – لا يعرف التوقف أو الراحة أو البطالة أو العطالة ، إنما هو دائمًا سيرٌ وسعيٌ نحو الكمال والتمام ، لأنه اتصال إنساني بالأساس ، ولا حُجة لصمته أو سكوته ، لأن السُّكوت سكونٌ ، والسكون ركُودٌ ورقُودٌ ، والرقود موتٌ مؤجَّلٌ أو مُحتملٌ ، ووردة العشق أبدية لا موسم لها للتفتُّح والإشراق ، ولذا هي لا تذبل أبدًا .
لذا على من يثمل عشقًا ، ويصير مخمورًا من فرط اللذة ألا يكسر الكأس التي اعتاد الشُّرب منها ؛ لأن من يحطمن الكأس ، هو – بالفعل – يغلق بابًا لن يُفتَح له ثانيةً – وإن فُتح مع آخر – فهو بابٌ وهميٌّ ، تراه مفتوحًا ، لكنه في الحقيقة محض حائطٍ صلدٍ منحوتا في جدار أو مرسومًا ، يخايل العينين ويوهمها ، ولنا في إرث أبواب المصريين القدماء عظةٌ وعبرةٌ ، ومثالا نادرًا في تاريخ الإنسانية ، وإن كان المصري القديم قد أوجد الباب الوهمي لتعرُجَ الرُّوح عبرَهُ إلى العالم الآخر ، فإن العاشق في زماننا ليس أمامه بابٌ ولا عالم آخر يمكن للروح أن تطير إليه أو تقر .
فمن يغلق باب عشقٍ كان له ممرًّا وعتبة إلى رُوح من يعشق ، فلا أمل أمامه لأن يدخل ويخرج من الباب الوهمي الذي ارتآه في تصوره الخاطئ ، ولن يفلح في تقديم قرابين للعودة ثانيةً ، وحتى حين يذهب إلى العالم الآخر ، فلن يحُوز جائزة الدفن في قبرٍ واحدٍ ( بيت الأبدية ) مع من أغلق بابه قبلا ، ولن يستطيع الوصول إلى البئر المخفية عندما يُبْعث ، وسيعيش في عالمه الآخر عطشانَ لا يرتوي أبدا .
إن نور العشق فى سفرٍ دائمٍ إلى كل الاتجاهات , و لكن سفره يتوقف بتوقف إغلاق باب العشق ، وينكسر النور ، ولا يعود قادرًا على العودة من جديد ، في محاولته لإدراك مرآة الكون .
فالرُّوح التي لم تتهيَّأ لاستقبال العشق ، لا تعرف للسموات بابًا ، ولا إلى الإله طريقًا ، والنفوس الحاملة للعشق ليست خاملةً ، وذكرها دائمًا ساطعٌ ، واسمها أبدًا ذائعٌ ، ومعرُوفها في الزمان شائعٌ ؛ فإن لم يكُن للعاشق ذِكْرٌ أو سجل ؛ فالعشق يذكُره ، ويكتبه في دفتره الخالد .
إذْ العشق مُعجِزٌ ؛ لأن ما تراه غامضًا ومُلغزًا ومُستعصيًا ومستحيلا على الشرح ، ومسجُونًا في إطاره ، يجلِّيه العشق ويفسِّره ؛ لأن الله خلق عباده ، وجعلهم في توقٍ غريزي دائمٍ إلى العشق – الذي هو ” ميلُ الطبع إلى الشئ المُلِذ ” ، وتعلقٌ وإسرافٌ في الحب وشغفٌ – وحبب إليهم الغزل والنساء ، ولن أجد أبرز من النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثالا أو أنموذجًا في محبَّة النساء : ( حبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرّة عيني في الصلاة ) ، ولقد أتى حُب النساء في المرتبة الأولى قبل الطِيب والصلاة ، والإنسان بطبعه وفطرته لا يصير عن النساء ، ” إذا نظر إلى النساء لم يصبر” ، لكن في زماننا نرى كثرةً من الناس تنكر ما ليس بمُنكَر ، وتعتبر العشق تهتُّكًا ومرضًا ، وسوء أدبٍ ، ومن ثم ينبغي تجنُّبه أو الوقاية منه ، كأنهم لا يدركون أن العشق سلوكٌ إنسانيٌّ كونيٌّ عرفته الأمم جميعًا منذ اجتماع آدم بحوائه ، ولا شئ على هذه الأرض أو في السَّماء أو في البحار والمحيطات والأنهار يسعى ويتكوَّن ويتشكَّل إلا بماء العشق ووقوده ؛ فالعشق رسالة يحملها الإنسان أينما وجد ، ومهما تكن ديانته أو لغته أو ثقافته أو سلوكه ؛ لأن النفس الشفيفة النقية خلقت بفطرتها مهيأة للعشق .
وقديمًا قال محمد بن سيرين ” 653 – 729 ميلادية ” ، : ( كانوا يعشقون من غير ريبةٍ ) ، و حكى الحافظ مُغُلْطاي الحنفي (689 – 762 هـجرية ) في كتابه ” الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين ” عن الإجماع على جواز العشق ، حيث قال : ( وقد أجمع العلماء: أن الحب ليس بمستنكرٍ في التنزيل ، ولا بمحظورٍ في الشرع ) ، والحُب الذي أعني هنا وفي كل ما أكتب وسأكتب يتسم بالواحدية وعدم الإشراك ، أي لا يتوجَّه العاشق سوى لامرأةٍ واحدةٍ ، وتلك سمة من سمات العذريين في الثقافة العربية ، وتحديدًا في تراث الشعر العربي .
ولستُ أبالغ إذا قلتُ إن ” المحبُوب مسبُوب ” في تقاليدنا وأعرافنا الثقافية والاجتماعية ، لكن في المقابل سنرى شهداء وشهيدات في العشق ، وهم كرام أهل الهوى الذي هو داء قلوبهم حين يموتون :
” أَنَا إِنْ مُتُّ فَالْهَوَى داءُ قلبي
فَبِدَاءِ الْهَوَى يَمُوتُ الْكِرَامُ ” . وهذا البيت الشعري كانت قد نقشته صاحبته فوق خاتمها في زمنٍ قديمٍ مضى .
والتشبيب بالنساء – كما يرى ابن قتيبة الدينوري (213 – 276 هـجرية /828 – 889 ميلادية ) في كتابه العُمدة ” الشِّعر والشعراء – ” قريبٌ من النفوس، لائطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل ، وإلف النساء ، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسببٍ، وضاربًا فيه بسهمٍ، حلالٍ أو حرامٍ “.
لا أمرَ في العشق ، ولا قرارَ ، ولا التماسَ ، ولا توسُّلَ ، ولا وساطةَ ، ولا حتى هناك شفاعة تنفع ، حتى ولو كان الشفيع محمد بن عبد الله ، ولعل قصة بريرة – التي بلغ قلبها حنجرتها – مع زوجها مغيث خير مثالٍ للتدليل على أن الآمر هو القلب ، وليس سواه ، حتى ولو كان نبيًّا مُرسلا من عند الله ، ففي صحيح البخاري: من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ، قال: إنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا ، يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ . كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبَّاسٍ: يَا عَبَّاسُ ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبريرة:( لَوْ رَاجَعْتِهِ ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ ، قَالَتْ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ ) ، بمعنى أن الشفيع وحده هو الحب ، وليس سواه من شفيع ” صَيَّرتُ حُبَّكَ شافِعي
وَمِنَ الشَفيعِ تُرى أُتيتُ ” كما يقول القاضي الفاضل (526- 596هـجرية ) ، كأنها تستذكر قول الشَّاعر : ( فلا خيرَ في وُدٍّ يكونُ بشافعِ ) .
المقال الأسبوعي المنشور يومالجمعة في جريدة المصري اليوم
أحـمـد الـشـَّهـاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.