الشاعر الكوري (كو أون) يهدي العالم ألف حياة وحياة

09:46 صباحًا الجمعة 28 ديسمبر 2012
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أسعد بتقديم النص الكامل لديوان (ألف حياة وحياة) الذي قدمت فيه للشاعر الكوري الكبير كو أون، واخترت 60 قصيدة لأترجمها ـ عن الإنجليزية ـ في كتاب صدر ضمن سلسلة (دبي الثقافية)، والجميل أن نسخ هذا الكتاب، كما ترون في الصور المنشورة، كان يوقعها الشاعر في حفل أعد له ناشر (آسيا إن) الإعلامي لي سانج كي، وحضره الأصدقاء الذين دشنوا للطبعة العربية من شبكة أخبار المستقبل. هنا أضع مقدمتي، ومقدمة للشاعر كو أون، والمختارات، بينما بقيت في الكتاب المطبوع ببليوجرافيا الشاعر الكبير التي تستعرض لأكثر من 150 عملا قدمها في شتى صنوف الأدب.

كو أون يوقع إحدى نسخ ديوانه باللغة العربية: ألف حياة وحياة

مقدمة

لا يُذكرُ الشعر الكوري المعاصر، إلا ويُذكر أميرُه “كو أون”. وإذا زرتَ كوريا الجنوبية مرة أو مرَّاتٍ، وعشت فيها أيَّامًا أو سنواتٍ، فصعدت جبالها الخضراء والثلجية، وشممت هواءها البارد المحمل بعبير المروج، وعطور الحدائق، وعبق الشاي، أو تنسمت نسيمها الدافئ الممزوج بروائح الفاكهة والبهارات والطعام، ودخلت معابدها فسكنت لحظة في رحاب بوذا، وتأملت لحظات في طقوس الرهبان، وراقبت طيور الغابات، وأزهار البساتين، وتعرفت إلى الناس في الجنوب والشمال وإلى كائناتها الأخرى في البر والبحر والنهر والجُزر، تكون قد قرأت أشعار “كو أون”. لأن ذلك الشاعر حيٌّ في هذا كله.

 خلال سني القرن العشرين، كان المشهدُ الأدبي في كوريا يسيطرُ عليه كتابٌ ونقادٌ سعوا إلى تحميل الأدب مهمة وحيدة تتلخص في التعبير عن آلام المجتمع، وخاصة معاناة الشعب خلال الحقبة الاستعمارية التي احتلت فيها اليابان الأراضي الكورية. كان الهاجس والهدف معًا أن يتم استدعاء هذه الحرب من خلال الأدب، أما ما حدث بعد ذلك من تغيير في المشهد السياسي، الذي أصبح سلطويا، فلم يجد من يعبر عن تلك الحقبة بتبدلاتها القاسية. ونتيجة لذلك اهتم النقاد ومؤرخو الأدب بالإبداع الذي يسلط الضوء على هذه التحولات، ويوثق لها.

 كان من نتيجة ذلك، أن النقد الأدبي في كوريا لم يُعر إلا الاهتمام القليل للمبدعين ممن اتهموا بتجاهل الأبعاد المجتمعية. ولم يجد مسعى الإبداع الجمالي من مساندين له، بل وعدُّوا ذلك المسعى خيانة من المبدع لمسئولياته، السياسية والأخلاقية! بل أكثر من ذلك، أن شعراء كوريين ـ بسبب هذا ـ كانوا موضع شك من تلك الأقلام الناقدة، فقد كان المحتوى أهم في مقابل الأسلوب. ولم يكن “كو أون” سوى ذلك المزيج المدهش، من شاعر وروائي، يهتم بالأسلوب، دون أن يهمل مسئولياته المجتمعية.

 لذلك حين قرأتُ ديوان “كو أون” الأول، تطلعت بشوق للقاء ديوانه الثاني، وما بعده، لألتهمها جميعًا ببصري وبصيرتي، وبات هاجسي أن أعثر على الترجمات (الإنجليزية) التي قدَّمت هذا الشاعر العظيم للعالم. وأسعفتني الإنترنت بقراءة مئاتٍ من قصائده التي كتبها، وتصفح عدد من رواياته، ومطالعة كثير من حواراته التي أجراها، ومعرفة الكثير من الجوائز التي نالها، والتقرب إلى عالم طوله ثلاثة أرباع القرن من العطاء لأشهر مبدعي كوريا، والمرشح لنيل جائزة نوبل في الآداب.

 ولد “كو أون” سنة 1933 في جونسان، بمقاطعة تشولا الشمالية، لعائلة من الفلاحين، وقد عانى أثناء الحرب الكورية، سواء ضد الاحتلال، أو خلال الانفصال، مما دعاه ليصبح كاهنًا بوذيًّا من طائفة الزن. نشر “كو أون” أول قصائده عام 1958، وبعدها بسنوات قليلة عاد إلى العالم مجددا، ليصدر أول كتبه سنة 1960 فيصبح صوت الصراع من أجل الحرية والديمقراطية في السبعينيات والثمانينيات، وهو صراع أوقعه في براثن السجن مرارًا.

نشر “كو أون” أكثر من 150 كتابًا، بينها دواوين قصائده، ومقالات نقده، ورواياته، وسيرته الذاتية، وترجماته لأعلام الشعر الكوري، وكتبه للأطفال، وكثيرًا ما ترى رسومًا أولية لها بجانب الأشعار. كما ترجمت مؤخرًا مختارات من أعماله إلى 14 لغة، وقد وضعتُ ثبتًا بالمؤلفات والتراجم في نهاية هذا الكتاب. وقد دعي “كو أون” ليحاضر وليقرأ بعض أعماله في مهرجانات شعرية و أدبية في بلاد عديدة .

كتب “كو أون” قصائده في أشكال مختلفة ولمواضيع متعددة. فقصائده الأولى كانت معظمها على هيئة عبارات قصيرة ركزت على المفردات الموحية، وغالبا ما كان “كو أون” يستوحى قصائده من مشهد طبيعي رآه، أو من شخص لاقاه، أو من ذكريات صادفها.

إذا تحدثنا عن أحد أنواع القصائد التي يكتبها “كو أون” فسنتعرف إلى قصيدة (الزن) التي تعد تعبيرًا عن لحظة تنوير للعقل، وتتكون من حفنة كلمات، تخفي تحتها لحظة من التأمل، وهو شعْرٌ يساعد رهبان زن البوذيين على ممارسة طقوسهم، وقد ازدهرت تلك القصائد في البلدان التي عاش فيها هؤلاء.

عدا ذلك يكتب “كو أون” قصائد مطولات أو مختصرة ، لكنها عفوية، تهتم باللغة، ولقد كتب “كو أون” ملحمة من 7 أجزاءعن الصراع الكوري للاستقلال عن اليابان. وعلى عكس البعض، لم تكن السياسة جزءا من أعماله المنشورة، على الرغم من قراءته لبعض قصائد الاحتجاج في السبعينيات والثمانينيات.

إذا عدنا إلى طفولة “كو أون” نجده قد استطاع إتقان الكلاسيكيات الصينية بسرعة فائقة نبهت إلى موهبته المبكرة. وفى سني مراهقته الأخيرة، وبفضل خبرته خلال الحرب الكورية ، تم تقليده العديد من المناصب. و بعد عشر سنين من حياة التكهن، اعتزلها وعاد إلى العالم. لكن سلوك “كو أون” كان قد أصابه تغيير شديد وحاد، مما أدى إلى محاولته الانتحار سنة 1970، كما ساعد الطلاب والفنانين في ثوراتهم في 1972. وكان بين من اعتقلوا أثناء حادث شون دو هوان في مايو  1980.

استمر “كو أون”  في دعم الكتاب المتصدين للديكتاتورية خلال الثمانينيات، فاعتقل أكثر من مرة، إلى أن تزوج ـ في عمر الخمسين ـ سنة 1982 من سانج ـ وا لي، أستاذة الأدب الإنجليزي، وانتقل إلى أنسونج ليعيش فيها، جنوب سيئول. وبعد عامين أنجبا ابنتهما، ولم تكن وحدها ثمرة ذلك الزواج، إذ أن هذا الرباط قدم مرحلة من أزهى مراحل الإنتاج الإبداعي غير المسبوق في تاريخ الأدب الكوري. حتى يمكن أن يطلق عليها اسم مرحلة “الانفجار الشعري”، وهي تسمية ضمن مسميات أخرى كالبركان الإبداعي التي وصفت نتاج “كون أون”، وبدأ شريان شهرته يسري في جسد العالم، سواء في أوربا أو أستراليا، أو الولايات المتحدة.

انتخب “كو أون” رئيسا لاتحاد كتاب الأدب الوطني، وكرِّم باختياره أستاذًا متقاعدًا في جامعة كونج ـ جي ، وأستاذا زائرًا بجامعات هارفارد وكاليفورنيا وبيركلي، فضلا عن عشرات الجوائز في كوريا والعالم.

يقول “كو أون”، في مقدمته التي نترجمها في تمهيدٍ لهذه المختارات الشعرية:

“في ليلة مقمرة، كان العالم على اتساع مئات الأميال من حولنا يشكل بيتًا. في ليلة مقمرة كتلك، قد تُنشدُ قصيدة، ثم تعزف على الناي، فيتوقف القمرُ في مداره السماوي، ويسكنُ هنيهات مطولاتٍ ينصتُ إلى قصائد الأرض. أيكون ما حدث شأنا سماويًّا؟ كيف يكون ذلك شأن السماء، والشمس، والقمر، والنجوم وحسب؟ اعتادت القصائدُ أن تضفِّرَ العوارض الخشبية في البيوت الكورية، وأن تتردد أصداؤها بعيدة وعالية. في البدء كان الشِّعرُ في السماء، ثم هبط إلى الأرض. وكذلك الشاعر، الذي حطَّ من، أو نفي عن السماء، ليلتقي مع قدره الأرضي”.

هكذا يؤمن “كو أون” بسماوية الشعر، وتساميه، في آن واحد. وهو يؤمن كذلك بأنه عاش فيما قبل، وأن أحلامه قد تكون مستلهمة من حيوات سابقة عليه ـ لسواه أو له هو نفسه ـ وقد تكون كذلك إلهامًا لحيوات قادمة، له أو لسواه. هذا التناسخ لروح الشعر، عبر الحلم والحياة، هو جوهر الكتابة عند الشاعر “كو أون”. وهذه الحيوات ـ السابقة واللاحقة على روح الشاعر وحلمه ووجوده ـ هي التي ألهمتني عنوان المختارات ليكون: “ألف حياة وحياة”، وأدين بنصوصها الإنجليزية لمجموعة كبيرة من المترجمين الذين نقلوها من اللغة الكورية مباشرة. لقد كانت قسوة الحياة، والفقر، والحرب، هي أدوات المحراث، والمذراة، والمنجل؛ التي مهدت التربة لينمو شعر “كو أون”. كان في طفولته كثير التطلع إلى السماء، فيرى المجرات وأذنابها تضيء الليل، فيتخيل أنها فاكهة يريد يقطفها ليأكلها. وينادي: “اقطفوا النجوم وأعطوها لي!” كنتُ أظن أن باستطاعتنا أكل النجوم. وكان ذلك قبل وقت طويل من بلوغه عتبة الشعر، يغني للنجوم، في أحلامه، بعد أن عاشت معه في الواقع. وليصبح بعد ذلك يكتبُ الشعر كما يتنفس.

هذه القصائد، القصير منها والمطول، هي جزءٌ من “كو أون”، فلستُ أزعم أنني في هذه المختارات أقدمه بشمول، حسبي أن تكون هذه هي مجموعته الأولى في اللغة العربية. ولم يشجعني على هذه التجربة إلا أنني لم أجد نفسي غريبًا عن عالمه، ففي مجموعاتي الشعرية القصيرة كان هناك ذلك الاحتفال بالإنسان وعالمه. ولذلك لم أجد صعوبة في أن أعيش قصائده، وأن أستعيد في سطورها المشاهد التي لا تزال تسكنني من رحلاتي الخمسة إلى كوريا الجنوبية. وأرى أن هذه القصائد تقدِّم رحلتين، أولى إلى الأدب الكوري عامة، والشعر الكوري على وجه الخصوص، ورحلة ثانية إلى الأرض التي أنجبت “كو أون” وقصائده.

تعذر لقاؤنا يومًا، وكانت الطبعة الكورية من روايتي (شماوس) قد صدرت، فأرسلتها له مهداة مع صديقتنا المشتركة الشاعرة والمترجمةالإيرانية “بونه ندائي”، فقبَّل “كو أون” الرواية، ووضعها على قلبه. وأنا ترجمتُ هذه القصائد لتكون قبلة لأشعار “كو أون” التي أضعها في قلبي.

 

كو أون يطالع، ولي سانج كي يراقب

 حلم الشَّاعِــر

كو أون

مقدمة الشاعر لديوانه

أزهارُ اللحظة

 

لستُ أدري ما السبب، لكن الليلة ساكنة، راكنة تمامًا.

سكونٌ محيطٌ وكأني أكادُ أسمعُ رمالا تذروها الرِّيحُ تغني على مدارج جبل “مينجشا” الزَّلقة في “دون هوانج”، بعيدًا على طريق الحرير، تخترقُ كل تلك المسافات.

آلاف الأميال الصامتة!

هل يكونُ ذلك صوت فراغ ينادي على فراغ، أم صدى أسماء تستدعي أسماءً؟

هذا الصوت الساكن لشخص ما، يشق الطريق التي تقبع وراء الخير والشر، صوت بلا صوت، كما لو كان ينادي على النيرفانا. صوت الدَّائرة المفرَّغة، لما وراء البهي والقبيح، لما خلف الطيب والشرس، بل هو صوت يتجاوز كل ما على شاكلة ذلك، ربما ليصل إلى الحالة التي قد يختفي فيها ذلك الصوت.

هاأنا ذا أتجرَّأ لأحرِّك هذا السكون.

ربما كان سؤال العالم الأول، “ما هي القصيدة؟” ولعل ذلك كان السببُ ـ خلال العصور المتوالية، وعند لحظات حرجة ـ لا يزال هذا السؤال “ما هي القصيدة؟” يطرحُ نفسه، دون كلل، أو ملل، أو فشل.

منذ ستين ألف سنة مضت، كانت شعوب “الناندرثال” تحرقُ موتاها، وتزين نعوشهم بغصون خضراء، وسنابل أرجوانية، وأقحوان ذهبي متوّج، وعراقيب مقدسة، وسواها، ثم يضعون الجسد فوقها. هذا ما اكتُشِف في كهوف بالعراق. وكان جسد صبي من العصر الحجري، قبل عشرين ألف عام، قد اكْتُشِف في كهف بكوريا بمقاطعة تشونجي هونج، وعلى حاجبيه أقحوان متحجر. الأمر نفسه في مصر، حين عثروا على أكاليل زهور على رأس الفرعون الصبي توت عنخ آمون، الذي مات قبل ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة خلت.

أنا على اقتناع تام، بأن طقس تقديم هذه الزهور هو لبُّ الشعر. فالشعرية، ونظريات الشعر التي نشأت في الشرق والغرب، منذ العصور الكلاسيكية، تتشابه في كونها مرت بتطورات جمَّة. ومنذ الأزل، كان الناس يتلون صلواتهم، بقلوب ملؤها الشعر، على موتاهم، لكي يبعثوا في العالم الآخر، عالمًا من الأزهار، حيث تمثل تلك الجنانُ الأسى الناشئَ بين الحضور والغياب.

وكما انحاز الشعرُ للإنسانية على مدى عشرات الآلاف من السنين، فقد أصبح، بمرور الزمن، أصدقَ ما يعبِّرُ عن كنه ذلك الزمن. إن بيتا واحدًا من الشِّعْر، بل وربما كلمة واحدة منه، قد تبعثُ فيَّ عشرة آلاف زهرة!

الشعر، دون شك، عهدٌ نقطعُه على أنفسنا للمستقبل.  لذا يعلن عن لبِّ خلوده كما لو كان حلمًا. وبعدد البشر، تتعدد الأحلام.

اكتشفتُ أنني مفتون بآثار الخطى الرُّوحانية، تلك التي تركها الشعراء السابقون عليَّ. أحلام هؤلاء الشعراء لا تزال تضيء. تبدأ نبوءات بعض الشعراء في أحلامهم.

يقالُ أن شاعرًا استعار من حلمه خمسة ريشات للكتابة، كل منها ذات لون مختلف، وكتب بها قصائده. ثم أنه، أعاد الريشات لأصحابها خلال الحلم، فلم يأتهِ إلهامُها أبدًا! وحين وجد نفسه بلا قصيدة، لم يجد سببًا لتستمر حياته، فرحل عن عالمنا.

شاعرٌ آخر بدأ ـ بالمثل ـ بالأحلام. في أحدها وجد نفسه يتقيَّأ عنقاء لها ذيلان؛ طارت وحلقت عاليا، وفي اليوم التالي وما بعده، انهمرت القصائد المجنحَّة من تلقاء نفسها.

شاعرٌ آخر، بدأ، أيضا، حياته عبر الأحلام. ذات مرة، تفتح برعمُ زهرة “الفاوانيا” على طرف غصن في ذلك الحلم، غير أنه بين الرؤيا واليقظة، كتبَ عشرة آلاف قصيدة تجعلُ كل الأرواح ـ في السماء وتحتها ـ تبكي. لم يكن الأمرُ متعلقا بالقصائد وحسب، لأنه احتسى أيضا عشرة آلاف كأس من الخمر، أثناء كتابته لتلك القصائد. في حياته كان هو العالَم، وفي مماته تجسدت الأكوان فيه.

ثم أن شاعرًا سواهم بدأ كذلك بحلم. كان يمضي على طريق برية، زلقة، وصخرية، إلى حيث ينبت العشب في الأعالي. كان هناك راع قد وصل قمة الجبل مع قطيع أغنامه. وحين نظر إلى العالم من عل، فغلبه سلطانُ النَّوم.

جاءته في الحلم تسع حوريات. فاستيقظ. فإذا به في الواقع حوله الحوريات التسعة. وفي صوت رائق، كما لو كان صوت حجر كريم  يرن في الهواء الشاف، تحدثت إحداهن: “منذ الآن، ستكون شاعرًا. شاعرٌ يغني الحقيقة كلها للعالم”.

آنئذ، كان الرّاعي الأمي، الذي كان يجهل ما معنى القصيدة، قد بدأ حياته كشاعر. وانطلقت من بين شفتيه نافورة لا تتوقف من القصائد. وعلى الرغم من تدوين تلك القصائد، فإنها لم تكن مصطنعة، بل وهبت ذاتها حياتها.

أتكون كل هذه الأحلام، لكل أولئك الشعراء، ملكًا لي، فأكون حلمتُ بها أيضًا، في هذا العالم، وسواه؟

إن عددًا من قصائدي ـ دون شك ـ كانت الأحلام أجنّتها. في الليلة الماضية وحسب نهضت قصيدة في أحلامي ـ هي من بنات أفكاري، بالقدر الذي قد تكون قصيدة سواي. هذا الشخص المجهول ربما يكون كذلك هو أنا في حيوات سابقة. وربما يكون شخصا سأصبحُه في عالم مستقبل.

هاهي القصيدة:

قدِّمي حياتك كلَّها قربانا للظلمة،

أيُّتها الرقطاء،

أيتها الموجات المتسارعة،

الساحقة الماحقة النافِذة،

الضاربة لمنحدرات الصخر في الظلام.

فسيولدُ الضوء. وسيأتي الفجرُ.

حين تذكرت القصيدة بعد استيقاظي، وجدتها استثنائية. بعض قصائد الأحلام طويلة، وتختفي تمامًا لحظة الاستيقاظ، لكنها على الأغلب تكون مثل تلك القصيدة، ليست طويلة. تنبت جذور قصائدي الموجزة في حلمي.

تخيل أن شاعرًا يكتب قصائده وهو على ظهر حمار. إنه حين يسعل، فإن بصاقه سيكون قصيدة. بعض الشعراء يقولون أنهم يشربون الشعر. أحدهم قال مرة إنه يتنفسُ الشعر.

توقفت في طريقها سحابة تجرها الريح.

في ليلة مقمرة، كان العالم على اتساع مئات الأميال من حولنا يشكل بيتًا. في ليلة مقمرة كتلك، قد تُنشدُ قصيدة، ثم تعزف على الناي، فيتوقف القمرُ في مداره السماوي، ويسكنُ هنيهات مطولاتٍ ينصتُ إلى قصائد الأرض.

أيكون ما حدث شأنا سماويًّا؟ كيف يكون ذلك شأن السماء، والشمس، والقمر، والنجوم وحسب؟ اعتادت القصائدُ أن تضفِّرَ العوارض الخشبية في البيوت الكورية، وأن تتردد أصداؤها بعيدة وعالية. في البدء كان الشِّعرُ في السماء، ثم هبط إلى الأرض. وكذلك الشاعر، الذي حطَّ من، أو نفي عن السماء، ليلتقي مع قدره الأرضي.

ولا يكون ذلك ـ بالطبع ـ دون صراع داخلي أليم، حين تواجهنا أسئلة من قبيل: “ما ذا يعني الشعرُ في مواجهة العدوان، والقهر، والفقر؟” و”ماذا يعني الشعر في عالم ملؤه الجشع، والجهلُ، والمرض؟” حتى مع مواجهة التحدي في السؤال عما إذا كانت كتابة الشعر ممكنة بعد التطهير العرقي، حين يفقد الشعر جلاله. لقد بدأت كتابة أولى قصائدي كما لو كانت فسائل عشب، تنمو من بين الأنقاض التي خلفتها الحربُ الكورية، التي خلفت وراءها زهاء أربعة ملايين فقيد.

لقد مزج الرَّاهب البوذي الكوري القديم “وونهيو” بين الحقيقة التي تعتمد على الكلمات، مع الحقيقة الصامتة. هنا تبدأ إمكانية دخول الشعر إلى حالة من المفازات الغامضة تتجاوز حدود الحكي.

وفي علاج الوساطة الروحانية للبوذي شيون، هناك إنكارٌ تام للكلمات والكتابات. رغم ذلك، وبعد تمام الهدف، فإن أزهار الكلام تتفتح من براعمها على نحو مماثل.

لقد كتبتُ قصائد مطولاتٍ، جدًّا، وسطرت عدة ملاحم. لكن قصائد “أزهار اللحظة” هذه تأتي عكس ذلك.

سِر في طريقِك.

أنت الأول، والآتي بعد الأول.

فامض، وامض.

حيث ستبدو في المرآة،

خطواتك السريعة.

أنت لسان صغير لنرجس الربيع وسط عاصفة ثلجية.

الأديب العُماني محمد سيف الرحبي، ولقطة باسمة مع كو أون، والديوان

ألفُ حياةٍ وحياةٍ

أزهار اللحظة

1

 

أمنية:

أن أصبحَ ذئبًا حين يكتملُ القمر بدرًا.

 

*

2

 

أمضيتُ اليوم بطوله أتحدث مرَّاتٍ ومرَّاتٍ عن الآخرين،

وكانت الأشجارُ تراقبني،

وأنا أعود للبيت.

 

*

3

 

تَعَبًا.

كانتْ الأمُّ تغطُّ في نومِها،

بينما يصغي طفلها ـ وحيدًا ـ

إلى صوتِ قطار الليل.

 

*

4

 

ذات يوم ربيعي ممطر،

نظرتُ إلى الخارج مرة، أو مرَّتين؛

أتساءلُ إن كان أحدٌ سوف يأتي.

5

 

تمزق جناحان في أحد الجانبين،

فزحفت الذبابة القهقرى.

 

لقد انتهى اليوم.

 

*

6

 

ندف ثلج الشتاء المقدَّسة تتباطأ.

أشجارُ الصنوبر الجبلية

عارية من أوراقها،

تقف متردداتٍ

لكنها لا تكذب أبدًا، ولا في كلمةٍ واحدة.

 

مضيتُ قدمًا في طريق، لأجتاز ذلك المكان.

 

*

7

 

في جيل كاريوانج، في تشونج صن، بمقاطعة كانج وون،

كانت الشلالات تتدفق بغزارة،

لكن الأكثر ازدحامًا كانت

أسرابُ سمكات المنوات الصغيرة، التي تسبح صاعدة.

ضد التيار.

*

8

 

لو استسلمتُ للرقاد، سأكونُ

مثل حيوان مريض،

يتوقُ إلى

الوقوف طيلة اليوم.

 

تلك كانت ـ يا عزيزي ـ أيامي في هذا العالم.

 

*

9

 

الزرافة الأم

تقدمُ حليبها مشاركة

لترضِع أطفال الأمهات الأخر.

 

تحدِّقُ أمُّ الصغيرة “صن تشول” في الفضاء

كما لو كانت تهب صدرها البارد إلى الشقيق الأصغر لليتيم “هونجيل”.

 

*

10

 

طائرُ الليل يغني بكل ما فيه من عنفوان،

بينما النجوم تضيء بكل ما مُنِحَتْ من قوة.

في عالم كهذا، أستلقي بثقة،

داعيا النوم ليأتي.

مع الإذاعية التونسية سعيدة الزغبي سليمان

11

 

التاسع عشر من أبريل

ولِدَتْ أولُ حيات الرَّبيع

وماتت!

 

لقد عشتُ أطولَ مما يجبُ!

 

*

12

 

لم يكنُ أبدًا حزينًا.

لم تطرق أبدًا أبوابَه المتاعبُ.

أمِن أجل هذا

تولد ابتسامة؟

 

إنه وجه طفل وليدٍ سابح في نومِهِ.

 

*

13

 

كنتُ أجدِّف بمجدافٍ وحيدٍ

حتى فقدته.

 

ولأول مرة تلفتت حولي وأنا في متاهة المياه الشاسعة.

 

*

14

 

على الطاولةِ المجاورةِ لطاولتي

كان هناك حوار حول مبلغ ما كسبا اليوم

في بيع هذا أو ذاك.

 

هذان الشابان

اللذان يشربان الـ “سوجو”

زوجان، وأبوان.

 

*

15

 

خارج الكهف كانت الرياح تعوي، والمطر

وبداخله

كان حديث صامت بين الخفافيش التي تملأ السقف.

 

*

16

 

الثلاثون من شهر أبريل

انظر إلى ذلك اللون الأخضر الشاحب على جبل سوـ أون

 

في يوم كهذا

ماذا يعني الحب

وماذا تعني الكراهية.

*

17

 

في إجازة الصيف ـ تكونُ غرف المدرسة الابتدائية هادئة

في إحدى الغرف

تسكن آلة هارمونيكا

ماتت على سلمها درجة الفا

في ذلك الفصل الدراسي

يوجدُ داخل إطار

علم الوطن معلق منذ اثنتين وأربعين سنة خلت

وفي ذلك الفصل

بقي الرسم ومضى الزمن.

 

كيم أوك ـ جا يا صاحب الغفلة الكبرى” (مثلٌ شعبي)

 

*

18

 

شحَّاذان

يتشاركان وجبة طعام منحت لهما

 

يطلعُ القمر الجديد باهر الضوء.

 

*

 

الكاتبة والمدونة، رضوى أشرف، مدير تحرير آسيا إن، مع الشاعر الكبير والنسخة العربية من : ألف حياة وحياة.

 

19

 

في منتصف الطريق تمامًا

كان هناك كلبان يتواصلان

سلكتُ طريقا أخرى.

 

*

20

 

أمام نافذة محل للتصوير

كانت هناك امرأة عاقر

تحدِّق مبتسمة في صورة طفل عمره عام.

 

*

21

 

سوِّ هندامك!

في أتون لامع

فهناك إناءٌ في قلب النار.

 

*

22

 

“لقد جئتُ، يا عزيزتي،

وقد انقضى الآن الشتاءُ القارس البرد”

 

ضحكت في هدوءٍ مقبرة زوجته.

23

 

يقول البعض إنهم يستطيعون أن يستدعوا للذاكرة ألف عام

وآخرون يقولون أنهم قد زاروا الألف سنة القادمة

وفي يوم كثير الرِّياح

لا أزال أنتظر الحافلة.

 

*

 

24

 

ماذا تظنين أنك فاعلة بهبوطك هكذا

على ظهر يدي وأنا أكتبُ رسالة لابنتي؟

أنت أول زائرة في ربيع هذا العام

أيتها الفراشة الصفراء.

 

25

 

ذهبنا إلى معسكرات التطهير

وشاهدنا متاريس من زجاج

ورأينا أكداسًا من الأحذية

وفي طريق عودتنا

كان كلانا ينظر من نافذتين مختلفتين.

*

26

كانت هناك حشرة يعسوب تجسم فوق أطراف عشب الماء

وكان العالم كله من حولها، يراقبها

27

 

تحت مرأى السماوات، بسُحبها الشذرات

يقبع الحمقى، هنا وهناك.

 

*

 

28

 

بقرون الاستشعار لديك

بسيقانك ذوات الفك

بسيقانك ذوات الشعر

بسيقانك ذوات الخزانات

وسيقانك ذوات المعدة

وبكل ما فيك

 

*

29

 

بعد كل ما قيل، وتم

لا تزال البحيرة

حيث كانت

بعد وداع أحدهم.

 

*

 

 

كو أون مع الشاعر والمترجم التركي متين فندقجي

30

 

في فناء بيت عائلة فقيرة

يطلعُ القمرُ بهيًّا حتى يفوق بياضه كعكة الأرز.

 

*

31

 

أنادي عليك. يا خنفساء شهر مايو

وأنت تهزين جناحيكِ

حتى أنك تغنين طربًا.

 

*

 

32

من مثل زهرة “الهند باء” البرية

تطفو مع النسيم

 

لتكن مثل بذرة قصب تأتي ملتحية في أواخر الخريف.

 

*

33

 

انظر، لتلك “الهند باء” وقد بللها رذاذ الماء

ليبرز أجمل ما فيها، ويزم شفتيها

 

فلتقفي ثابتة، أيتها الفتاة الصغيرة.

قصائد مختارات

34 : طمي

 

هلت أكثر أيام الشتاء برودة،

وذهبت. لقد اقترب الربيع.

أما آخر آثار الصقيع

فتمددت بائسة في خنادقها.

 

لو أنك إنسان، إنسان

أو حيوان، فأنت بالتأكيد مخلوق من طمي.

فاسمع جيِّدًا. هل تسمع

خفق النبضات داخل الطمي؟

 

مرة كل شهر على الأقل، يجب أن تتمدد

على الأرض وتستمع جيدًا.

تسمع صوت جدِّك يدق مثل جرس

داخل الطمي.

 

*

 

35 : في شارع ما

 

هل كنت يوما

شخصًا آخر؟

هل كنت يوما

شخصًا آخر؟ اليوم

ليس لدي سوى الأسئلة.

 

فلو أنك قلت أنك لم تكن أبدًا شخصًا آخر

منذ يوم ولدتَ،فكيف ستجرؤ

أن تتنفس الريح في هذا العالم

وتلمس شعرك؟

 

*

 

36: رسمُ خرائط

 

مرة أخرى كنتُ أرسم الخرائط اليوم.

رسمتُ بحر الشمال بين إنجلترا والترويج

وشواطئ خليج بوهاي في الشرق،

ثم مزقت كل خرائطي. لم يكن ذلك

ما كنتُ أشعرُ به.

حقيقة لم يكن ذلك ما شعرتُ به. حينئذ

تحدثت الريح، وهي تطرق على نافذتي. حاولت أن أتجاهل

صوت معدتي وهي تقرقر، وبدأت

أرسم خرائطي مرة أخرى.

ليس كالمرة السابقة،

لكنني كنتُ أرسم خرائط الغد،

خرائط بدون قارة أمريكا، .. أو قارة آسيا ..

 

 

*

 

 

37 : سهام

 

بعد أن أصبحنا سهامًا

دعنا ننطلق؛ جسدًا وروحًا!

نخترق الهواء

دعنا ننطلق؛ جسدًا وروحًا،

وليست لدينا طريق للعودة،

لنرشق طعنتنا هناك،

يبلينا ألمٌ من الارتطام بالبيت،

وألا نعود أبدًا.

 

نفس أخير! الآن، دعنا نودع وتر القوس،

وأن نرمي بعيدًا، مثل أسمال بالية،

كلَّ ما اقتنيناه طوال العقود،

وكل ما استمتعنا به طيلة أحقاب،

وكلَّ ما كدسناه خلال دهور،

السعادة،

والكثير.

بعد أن أصبحنا سهامًا

دعنا ننطلق؛ جسدًا وروحًا!

 

الهواء يصيحُ! دعنا نخترق الهواء

دعنا ننطلق؛ جسدًا وروحًا!

ففي ضوء النهار الداكن يبدو الهدف يتقدم نحونا.

وأخيرًا، بينما يسقط الهدف

في حمام الدم،

دعنا مرة ـ ونحن نعيش كسهام ـ

ننزف.

 

وألا نعود أبدًا!

ألا نعود أبدًا!

 

مرحى، للسهام، سهام أمتنا!

مرحى للمحاربين! ولأرواحهم التي سقطت!

 

*

 

38 : في البهو الرئيسي لمعيد

 

فليهبط بوذا!

فلينزل بوذا، الأنيق الشبعان!

ماذا يفعل في الأعالي بلحيته البديعة ذات الخصلة الواحدة؟

 

بعد ذلك، فلتتهدم  العوارض برسومها الموشاة وفتياتها الراقصات!

ورأس التنين؟ ما فائدة رأس التنين؟

فليتهدم ذلك المعبد، وليطرد رهبانه،

وليصبح ركامًا ويرقات!

 

لن يبقى شيء لبوذا، وهذا هو بوذا الحقيقي!

إن امرأة سوقية كريهة الفم في أحد شوارع سيئول

هي بوذا الحقيقي!

نحن كلنا بوذا. بوذا. بوذا. الحقيقيون!

هل بوذا لا يزال حيًّا؟ سيجارة واحدة، الآن

هناك بوذا مقدس حقيقي ولطيف.

 

لا، ولا هذا كذلك،

حتى لو اعتقدنا أن هذا العالم قطعة كعكٍ،

يحيا فيه الجميع على أفضل ما يكونون،

يقودون سيارات فارهة ويرتدون ملابس بهية، مع بضائع جمة

بفضل تحالف التقنيات الأمريكية الكورية،

وأن كلا منا يستطيع أن يعيش حرًّا، لا يغبن حقنا أحدٌ،

وكأنه الفردوس،

وكأنه الفردوس!

هي جنة عدن المطلقة التي لا توازيها جنانٌ، مزركشة بالحلي،

ورغم ذلك، سيظل الناس يغيرون العالم يومًا فيومًا.

لماذا، بالطبع، لأنه في كل الحالات،

يجب أن ينقلب هذا العالم رأسًا على عقب

وأن يتجدد، ليصبح زهرة لوتس يتفتح برعمها.

وهذا هو بوذا.

 

فلتسقط بالتأكيد هذه السنوات الألف وخمسمائة

وأن تطوى، معًا،

وليسبح الزمان في نومه، مثل مياه راكدةٍ تزداد نتانتها يومًا بعد يوم.

 

*

 

39: ضوء الشمس

 

لا شكَّ أنه أمرٌ حتميٌّ!

فلتأخذ نفسًا عميقًا وحسب

وتقبل تلك المحنة.

لكن انظر!

يبدو أن زائرًا مميزًا يتلطف بالقدوم

إنها زنزانتي الضيقة التي تواجه الشمال.

لا، إنه ليس الرئيس يمر في دوريته،

لكنه شعاع شمس مودِّع جاء عند هبوط المساء،

ومضة لا أكثر، ليست أكبر من طابع بريد مبروم،

لكنها ومضة تكفي أن تجعل المرء يُجنُّ.

هاهي تستقر فوق راحة اليد،

تبعثُ الدِّفءَ في أطراف أصابع قدم عارية وخجول.

ثم جثوت على ركبتيَّ، بورع،

لأقدم لها وجهًا جافا متيبسًا كي تمنحه قبلة،

في اللحظة التي تسللت فيها هاربة ذرة الضوء!

بعد مغادرة الضيف عبر القضبان،

كانت الغرفة أكثر برودة وظلمة بأضعاف ما كانت عليه.

تشبه تلك الزنزانة العسكرية الخاصة

غرفة التحميض المظلمة لمصور فوتوغرافي.

في قلب العتمة كنتُ أضحك كالمعتوه.

ذات يوم كان كفنٌ يضم جثة،

وبيوم آخر كان الاثنان بحرًا.

ما أروع الأمر!

لا يزال هناك ناجون هنا.

 

كونك حيا يعني أنك بحرٌ

لا ترى في أفقه شراعًا واحدًا.

 

*

40 : إندانجسو

 

ما هي أكثر بقاع البلاد عمقًا؟ إندانجسو

وأين وجدوا أكثر أفكار البلاد عمقًا؟

لم تكن لدى طويجي، الفيلسوف البارز،

لكنها لدى فتاة محرومة ذات عزيمة لا تيأس

من مونجكومبو، اسمها سيم ـ تشونج.

تعالي، أيتها السحب، وانطلقي بعنف!

اقرعي عاليا، أيتها الطبول ذات القلوب العميقة!

الموجاتُ الحادة في مونجكومي

تفتت في طريقها الشرائح الصخرية الطليقة!

افتحي عيونك، افتحي عيونك!

وهبي نفسكِ مقابل ستين مكيال من الأرز!

فتاة صغيرةٌ، تقفُ تحافظ على توازنها فوق مقدمة المركب،

أمام قبر مائي التهم سبعين مركبًا،

بعيدًا عن رأس شاطئ تشانج سان:

جسدُكِ هو العالمُ برياحه الثلجية،

جسدك هو الكونُ حين يصعدُ مرة أخرى،

جسدك  هو ـ الآن ـ برعم زهرة لوتس.

اقرعي عاليا، أيتها الطبول ذات القلوب العميقة!

الموجاتُ الحادة في مونجكومي

تفتت في طريقها الشرائح الصخرية الطليقة!

افتحي عيونك، افتحي عيونك!

وهبي نفسكِ مقابل ستين مكيال من الأرز!

 

جسدٌ تتقاذفه الأمواجُ بحرية تامة

ورأسُكِ يغوص في تنورة من اللون الأزرق الدَّاكن،

يقذفك الموج إلى رأس شاطئ تشانج سان:

تستيقظين الآن، والعالم! يستيقظ كل شخص،

كما لو كانت معركة!

احتدمت، بعد أن استخدم شعبنا عدته بمهارة،

لتتحول المعركة إلى رقصة،

ويبتهجون وهم يرقصون معًا!

انظر: هناك عالم جديدٌ!

له عينان مفتوحتان على اتساعهما!

سيم ـ تشونج، سيم ـ تشونج، يا عزيزتي!

 

تقول إحدى أشهر الحكايات التقليدية في كوريا، أن فتاة صغيرة اسمها سيم ـ تشونج، قدمت نفسها قربانا بالقفز إلى البحر في بقعة عميقة من المياه اسمها إندانجسو، بواسطة الصيادين، أملا في مساعدة أبيها الأعمى ليستعيد بصره. تحت الماء تؤخذ سيم ـ تشونج إلى قصر  الملك التنين، ليطلق سراحها بعد ذلك، وليجدها الصيادون، تطفو فوق برعمة زهرة لوتس. في نهاية الأمر، يستعيد الأب بصره بفضل ابنته.

 

 

أشرف أبو اليزيد وكو أون وبينهما لي سانج كي

*

41 : عند النَّافِذة

 

ما الأمنية التالية التي أستطيع أن أتمناها؟

هناك مكانٌ بعيدٌ

ومكانٌ في اليد قريب.

 

*

 

 

42: الشاعر

 

كان شاعرًا لأمدٍ طويل.

الأطفالُ

ينادونه باسم الشَّاعر

وكذلك تناديه النساءُ.

بالتأكيد كان شاعرًا

أكثر من أي شخص عرفتُه

حتى أنَّ الخنازير، الأليفة والبرية

تدمدم باسمه شاعرًا.

 

لكنه مات في طريق عودته من أرض بعيدة.

ولم يجدوا في كوخه كلمة شعر واحدة.

أيكون شاعرًا من لم يكتب؟

لذا كتب شاعرٌ قصيدة باسمه

وحين كُتبت القصيدة

أرسلتها الرِّياحُ بعيدًا.

 

واجتمعت كل قصائد الشرق والغرب، القديم منها والجديد،

وحلقت بعيدًا، تهِسُّ، وترفُّ، وتحِفُّ، 

في أسراب متشابهات.

 

*

 

 

 

 

43 : بدون ألقاب

 

كان هناك مُعَلِّم عمره أكثر من ثمانين عامًا.

خلال مسيرته التعليمية عبر الأنهار تسعًا وأربعين عامًا

فوق أراض من تراب، بقدمين عاريتين.

يتحدث لغوًا

حيثما ذهب.

وحين اقتربت النهاية

دفع ببراءته ضد لغو الماضي.

أكان ذلك قبل ألفي وخمسمائة عام؟

 

وكان هناك رجل أصم لم يستطع سماع

آخر كلمات المعلم.

ناهيك عن أن درجة الحرارة كانت مائة وسبع درجات

وكان صقرٌ جارحٌ معلقا في السماء

لا يتحرك منذ أمدٍ طويل

جائعًا يتفرّسُ

في فريسته العجوز.

 

*

 

 

 

 

 

 

 

44 : وحيدًا ذات يوم

 

أثلجت اليوم، ثم توقف الصقيع

كانت الكلابُ تمرَحُ.

متى أتوقف عن

عشق هذا البلد؟

ما أتوق إليه

ليس البلد ولكن

أن أتحرر من ذلك الحب.

يسقط الثلج مرة أخرى.

وأنا

لا أريدُ خمرًا؛

ولا أريدُ كتبًا.

*

45 : ترنيمة ـ تهويدة

 

يوسِّطُ بكاءه في الفضاء الفارغ

كسهم مخترق

أطلق من جانب  

نحو الجانب الآخر.

ماذا يعني الفرح!

عند قدميَّ

يسقطُ البكاء

ومعه ألف ميل معًا.

 

طفلي، طفلي، نم؛

هيَّا استغرق في النَّوم.

46 : صورة ذاتية

 

الأغنية التي أنشدتُها

والأغنية التي لم أستطع غناءها

التقتا فاصطدمتا فوقي.

 

هل هذا أنا؟

ـ أهرول حاملا ضوء مصباح؟

هل هذا أنا؟

ـ أم هذا هو الأسف المضيء؟

 

*

47 : مارًّا بقرية جبلية

 

وأنا أمرُّ

كانت هناك قرية جبلية

تمنيت لو أنني ولدْتُ بها

عشب مروج تلك القرية

لصمتها العميق سحرٌ

لكنني دخلتُ إلى نفق، فقفزت من بين يديَّ.

 

نعم، نذرتُ أن أشغل نفسي مرة أخرى

حتى باقتفاء السحاب في السماء.

 

*

 

 

48 : عائد للوطن

 

عدتُ

حيث تزدهر القمامة

كما تنبتُ الأزهار.

ـ هذا هو العالمُ الذي أتوقُ إليه.

 

عدتُ

حيث تنمو الكراهية

كما يتكوّم الرَّوث.

ـ هذا هو العالمُ الذي أتوقُ إليه.

 

حيث  أبصقُ وأسبُّ

سماء رمادية

حيث يشق الطريق بخشونة

الكناسُّون وقطاع الطرق،

وهم يصرخون الليل بطوله.

 

عدتُ

حيث ترتفع ضحكات البنات

وهن يبعن أجسادهن الرَّثة

الخضراء كجذور اللفت

حيث لا يعرف أحدٌ كيف

يرفعُ أحدٌ علمًا فوق الصاري

ـ هذا هو العالمُ الذي أتوقُ إليه.

*

 

49 : لكن

 

مر وقتٌ طويلٌ

أريدُ أن أكتُب مقالا

يبدأ بكلمة “لكن”.

 

متعتي الصغيرة

انطلقت كسهم

فشقت طريقها كما يُفْتَحُ السَّحَّاب

نحو المجهول.

 

بأي أرض حطَّ السَّهمُ؟

هناك حيث أريد

أن أكتبَ مقالا يبدأ بكلمة “لكن”.

 

*

50 : يدان فارغتان

 

في قلب عاصفة ثلجية

كنت أخطو فوق هضبة صغيرة

مع زوجتي، وابنتي بجانبي

في ساعات البكور الصباحية في أول أيام العام الجديد.

كنت أريدُ أشياء كثيرة آنذاك.

 

الآن أعرف نعيم الأيدي الخالية

التي تشبه ملابس جديدة

وتجعلني أحلِّق.

51 : نسيانٌ

 

الجميع ينسون شيئًا ما.

 

تتكوم من الماضي

الأشياء المنسية

لتملأ القلب

مثل غبار

يهب من سلسلة جبلية.

 

*

 

52 : صعود هضبة السَّاري

 

أنظرُ إلى قمم الجبال ذات الفوهات العارية الضيقة

بشقِّ الأنفس، تتحاشى بيوت القرية الانهيار.

وهي تميل على هضبة الساري في موتشو بمقاطعة تشولا الشمالية،

فيما تستحث شمس الشتاء الطريق نحو الظلام.

 

في الحافلة المحلية،

كانت هناك حفنة من الركاب الصامتين.

ومثل شمعة ذاب نصفُها،

كانت امرأة شابة

منهكة تمسك بطفلها القلق.

 

أكان ذلك عند تخوم كومسان

أم كان ذلك في الحدود الشمالية للبلاد؟

كانت تملأ الحافلة صرخاتُ الطفل الباكية،

لم يكن يجدي مسعى الأم لتهدئة الطفل.

 

أي أمر قد يفيض

بالحزن والمعاناة لطفل صغير كهذا؟

إنها أضواء موتشو الباردة في هذا العالم،

حيث لا يوجد عالم سواها.

 

*

 

53 : أوهام

 

شعاعٌ غيرُ مرئي

من ضوء فوق بنفسجي

خلاله

أرى أوهامك الكبرى تضيء

لتصبح زهرة تدعو فراشة.

 

الأوهامُ! إنها رحمُ الإزهار.

 

*

 

 

 

 

 

54 : بدرُ العام الجديد

 

يومٌ شتائيٌّ قارس، إنه أول بدر في العام الجديد،

يوم مميز.

مشغولة ربة البيت، منذ الصباح الباكر،

تعرف أن الشحاذين سيمرُّون،

تضع إناء حبوب الأرز الخمسة عطفا منها

فوق البلاطة الحجرية خارج الدار

التي تقف بجوار البوابة الخشبية المحاطة بالغصون،

بطبق مسطح وحيد فيه فروع نبات الحمل.

عمَّا قريب، سيأتي شحاذ عجوز يتجمَّدُ من البرد،

هيَّأ نفسه ليدور داخل الجُرن، لكنه في النهاية

يضع الأرز بجيبيه ويمضي في طريقه.

ليت لنا ثلاثمائة وستون يومًا في العام مثل هذا اليوم!

ستنتفخ حقيبته عمَّا قريب.

وحين يغادرُ القرية، بعد أن أكمل دورته،

يهرول إلى شحَّاذٍ آخر:

مصادفة سعيدة!

“لم يعد لك مكان تذهب إليه هناك، فقد انتهيتُ منهم جميعًا!

دعنا نحتفل بتمام البدر أيضا”!

التقطا الغصون الجافة، وأشعلا نارًا

ليرسلا الدفءَ في بدنيهما، وبعد ذلك

يأخذون حفنات الأرز التي جُمعت من هذا البيت وذاك،

حتى كادا يختنقان وهما يضحكان بفمين ملؤهما الطعام،

حتى وصلت الأخبار إلى سرب من الغربان

فحلقوا حولهما بأجنحة تصفق الهواء.

*

55 : قمرٌ

 

في كل مرَّةٍ يطلعُ القمرُ، كانت تصلي.

حتى أنجبت أم وول ـ نام في النهاية ابنًا.

كانت في أحلامها قبل أن تحمل،

تبتلعُ القمر.

وبعد مولدِ طفلها، كادت أمُّ وول ـ نام

أن تفقدَ عقلها

دون انقطاع

في كل مرة كان يطلعُ فيها القمرُ.

في نهاية ليلة ما، كانت تغسل الأطباق،

فإذا بها تحطم زبدية فخارية،

وإذا بالقمر يختفي في سحابة،

ويكف بصر العالم.

 

*

56 : ربيع صغير

 

بدون ربيعها الصغير،

ما الذي يجعلُ من قرية يونجتون، قرية؟

ندف الثلج تتساقط، دون توقف،

في قلب مياه الربيع الداكنة،

وتذوب.

 

ماذا يعني سكون السكون،

وزوجة يانج ـ سول،

تلتحف الثلج، وتذهب لسحب الماء،

تنزل دلوها الصَّغير

حتى يصل إلى قاع البئر ولكن تنسى أن تسحب الماء،

وهي تشاهد ندف الثلج تموت:

هذا هو سكون السكون.

 

*

 

57 : وقتٌ مع الشعراء الميتين

 

نحنُ في منطقة واحدة من الكون،

أحيانا ما تكونُ برية عديمة الرَّحمة،

وأحيانا تكون رحم الرَّحمة.

 

هنا، كلٌّ منا

ليس مجرد شاعر حي وحيد.

هنا، نحن الشعراء الأحياء، تبدل حالنا

أصبحنا شيئا آخر، تحولنا إلى وطن غريب.

لا صوت يمر وراء تخوم الانقراض.

تئن أجسادنا حين تحت الثقل،

وأحينا تكون أخف من قلوبنا.

 

أرواح الشعراء الموتى

دخلت جسد كل منا،

وهي تطوي أجنحتها، وتتخذ منا سكنًا، فنصبحُ أكثر وزنًا.

أنا أكثرُ من نفسي،

وأنتم أكبر من ذواتكم.

نحنُ نُغنِّي بلسان العالم،

 بلغة جديدة ابتكرها الشعراء الميتون.

بدأنا وحدنا

ثم أصبحنا معًا. فخفَّ متاعُنا.

 

مثل موجاتٍ تنفجر عاليًا على هيئة أعمدة عملاقة، كدوَّامةٍ مجنونةٍ،

ثم، في الصباح التالي، نهدأ مرة أخرى،

كنوارس خرجت من مخابئها بعد أنتهى الفزع،

فلم تعد ترتعش،

ومضت تحلق عاليا، ترسم أجمل الدوائر وأكملها،

مات واحد.

مات شاعرٌ، همس أحدُهم.

 

في أزمنة، كان النهارُ طويلا كما لو كان أمعاء تنمو ببطء؛

في أزمنة سواها، كان النهارُ قصيرًا كما لو كان جناح طائر نورس صغير،

ولأن ما تبقى من حياة الشعراء الميتين تم تقريره

ففي قلب كل حياة منا تولد أسطورة.

 

في فراغ فوق السهل على ارتفاع خمسة آلاف متر

كان هناك طائر نورس ذابلٌ ونحيل يحلق.

منذ زمن بعيدٍ، سحيق،

اقتربت على نحو سريع قارة، فاصطدمت.

ومن ثم أضحى ما كان ذات يوم بحرٌ يفورُ

جبال الهيمالايا.

فقدت النوارسُ محيطَها.

فصرخت عاليًا.

لا بد أن هذه النوارس جيل ثان، أو ثاني عشر، إن لم تكن الثاني بعد ألف وثلاثمائة،.. ويأتي زمن آخر، يأتي زمنٌ آخر.

لتصبح صيحاتها في النهاية أغنيات، وتغدو قصائد.

 

من ثم، فإن كلا منا،

هو شاعرٌ حيٌّ.

لسنا مجرد شعراء أحياء وحيدين

لكن شعراء ثلاثة، سبعة شعراء، أحد عشر شاعرًا، في هذا العالم، والعالم الذي يليه.

نحن ذوو الحساسية الأشد،

في كل زمن مررنا به.

الآن زمن التذكارات التي نتركها للأرواح الأخرى،

تذكارات ينسبها أحدٌ لكل منا.

إن لقاءنا هنا سيترك لا محالة مشاهد من رحيل متعدد وموت متجدد

في أماكن شتى، وليس هنا فحسب.

 

هاهنا!

في وطننا بحيرة. مدهشة.

على سطح مياهها، تطفو

بين إغماض عين وفتحها،

زهرة ليلك بيضاء.

ما أبأس شاعر لم يكتب مرثاة.

 

يجب أن نحمل على عاتقنا أحيانا بأس ذلك البؤس

لنكتب مرثاة جديدة،

إنها اسم آخر لأغنية حب. لزهرة.

نعم! نحن بحاجة للحزن.

فلا تزال البحيرة تذكرُ بحرها القديم.

 

*

 

58 : جَدِّي من جهة الأم

 

تشو وي هونج ـ كوان، جدُّنا من جهة الأم،

كان طويلا لدرجة أنه يكاد يصل بيديه للإفريز العالي،

فينظف عش عصافير الدوري تحت السقف.

دائمًا ما كان يضحكُ.

لو منح شحَّاذًا لقمة يأكلها،

يكون أول المسرورين.

لو أن جدتنا يومًا تكلمت بحدة إليه،

سيضحك، ولا يولي لكلماتها اهتمامًا.

ذات مرة، حين كنتُ صغيرًا، أخبرني:

“انظر، لو كنست الفناء جيِّدًا

فسوف يبتسمُ الفناء،

وسيضحكُ معه السياجُ.

حتى أن براعم الصباح على السياج

سوف تضحك”.

 

*

 

 

 

 

59 : ثاني شقيقات أبي، كي ـ تشانج

 

تزوَّجتْ.

ثم هجرتنا وعادتْ.

داست زهور البلسم فهرستها حتى ماتت بين أظافرها.

وصبغت أظافر أصابع يديها العشرة،

ولم تقل شيئًا،

حتى حين كانت تطالعُ أفق السماء البعيد.

 

*

 

60 : أصغر أبناء العجوز جائي دونج

 

تتساءلُ في عجب كيف لمثل هذا الصغير أن يغني بتلك البراعة.

حتى أنه يغني نسخة أبيه الوحيدة من أغنية يوكي جاباثجي الفلكلورية.

يغني أبرع مما يفعل الأب نفسه.

ويحلق عاليا، عاليا، مثلما يطير سرب اليعسوب في آخر الصيف.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات